الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

العادُونَ) أي : المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام ، قال النسفي : وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم والاستمناء بالكف ، (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) قال النسفي : وهي تتناول أمانات الشرع وأمانات العباد (وَعَهْدِهِمْ) أي : عهودهم ، قال النسفي : ويدخل فيها عهود الخلق والنذور والأيمان (راعُونَ) أي : حافظون غير خائنين ولا ناقضين ، قال ابن كثير في الآية : أي : إذا اؤتمنوا لم يخونوا ، وإذا عاهدوا لم يغدروا (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) قال النسفي : (أي : يقيمونها عند الحكام بلا ميل إلى قريب وشريف ، وبلا ترجيح للقوي على الضعيف ؛ إظهارا للصلابة في الدين ، ورغبة في إحياء حقوق المسلمين) ، وقال ابن كثير : (أي : محافظون عليها لا يزيدون فيها ولا ينقصون منها ولا يكتمونها) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) قال ابن كثير : أي : على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها ، افتتح الكلام بذكر الصلاة ، واختتمه بذكرها ، فدل على الاعتناء بها ، والتنويه بشرفها. وقال النسفي : (كرر ذكر الصلاة لبيان أنها أهم ، أو لأن إحداهما للفرائض والأخرى للنوافل ، وقيل الدوام عليها : الاستكثار منها ، والمحافظة عليها : أن لا تضيع عن مواقيتها. أو الدوام عليها : أداؤها في أوقاتها ، والمحافظة عليها : حفظ أركانها ، وواجباتها ، وسننها وآدابها) ، (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي : أصحاب هذه الصفات في جنات مكرمون ، قال ابن كثير : أي : مكرمون بأنواع الملاذ والمسار.

كلمة في السياق :

١ ـ جاءت هذه المجموعة في سياق السورة لتبين خصائص الإنسان الذي خرج عن صفة الهلع إلى صفة الصبر ، ومجىء هذه الآيات في سياق قوله تعالى : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) واضح الدلالة ، فالمجموعة تذكر الخصائص التي عنها ينبثق خلق الصبر : الدوام على الصلاة ، والإنفاق ، والإيمان باليوم الآخر ، والإشفاق من عذاب الله ، وإحصان الفروج ، وحفظ الأمانات ، والوفاء بالعهود ، والقيام بالشهادات ، والمحافظة على الصلوات ، هذه الأخلاق هي التي ينبثق عنها خلق الصبر ، ويتحرر بها الإنسان من خلق الهلع ، وذلك درس كبير في التربية ينبغي أن يعرفه حملة الإسلام فيتحققوا به ، يربوا عليه ، وكأن المجموعة تقول : تحقق بهذا كي تصبر على ما تلقاه من أخلاق الكافرين وأقوالهم وأفعالهم.

٤١

٢ ـ ذكرت المجموعة خلقين للكافرين : الهلع ، والجزع ، ومن قبل ذكرت السورة بعض أخلاق الكافرين : استعجال العذاب ، واستبعاد وقوع اليوم الآخر ، والإدبار ، والتولي ، وستذكر أخلاقا أخرى ، وبذلك تعرفنا السورة على أخلاق الكافرين ، ولذلك صلاته بمحور السورة.

تفسير المجموعة الثالثة :

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ) أي : عندك (مُهْطِعِينَ) أي : مسرعين ، قال ابن كثير : أي : فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد مهطعين ، أي : مسرعين نافرين منك (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) أي : عن يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن شماله (عِزِينَ) أي : فرقا شتى. قال ابن كثير : (أي : متفرقين) وعزين واحدها عزة أي : فرقة. قال ابن كثير في الآيتين : (يقول تعالى منكرا على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم مشاهدون له ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات ، ثم هم مع هذا كله فارون منه متفرقون عنه ، شاردون يمينا وشمالا فرقا فرقا ، وشيعا شيعا). وقال قتادة في تفسير عزين : أي : فرقا حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه. أقول : دلت الآيتان على أن الكافرين منهمكون في أعمال الحياة الدنيا ، معرضون عن التلقي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، زاهدون في ذلك. ودلتا على أن أدب المسلم الاطمئنان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والالتفاف حوله (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) مع إعراضهم عن تلقي الهدى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَلَّا) قال ابن كثير : أي : أيطمع هؤلاء ـ والحالة هذه من فرارهم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفارهم عن الحق ـ أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلا ، بل مأواهم جهنم ، ثم قال تعالى مقررا لوقوع المعاد الذي أنكروا كونه ، واستبعدوا وجوده مستدلا عليهم بالبداءة : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي : من المني الضعيف ، أي : إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم ، ومن حكمنا ألا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان ، فلم يطمع أن يدخلها من لا إيمان له! (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) أي : مشارق الشمس ومغاربها (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي : على أن نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم وأطوع لله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي : بعاجزين ، فإذا كان الأمر كذلك فما لهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والرسول خضوعا لله وإخباتا له.

٤٢

كلمة في السياق :

دلت المجموعة الأخيرة على أن الكافرين مستغرقون في شؤونهم استغراقا شغلهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنهم مستغرقون في باطلهم استغراقا جعلهم لا يلتفون حوله ، ولذلك صلته بمحور السورة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ،) ثم تأتي الفقرة الأخيرة من السورة ، آمرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن هؤلاء الكافرين (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ...) وصلة ذلك بمحور السورة واضحة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فلنر الفقرة الأخيرة في السورة وهي تبني على كل ما تقدم عليها.

الفقرة الثانية

وتمتد من الآية (٤٢) إلى نهاية السورة أي : إلى نهاية الآية (٤٤) وهذه هي :

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

التفسير :

(فَذَرْهُمْ) أي : فدع هؤلاء الكافرين يا محمد (يَخُوضُوا) أي : في باطلهم (وَيَلْعَبُوا) متمتعين في دنياهم ، قال ابن كثير : أي : دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) به العذاب أي : فسيعلمون غير ذلك ويذوقون وبال أمرهم ، ثم فسر هذا اليوم بقوله : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي : من القبور (سِراعاً) أي : مسرعين إلى الداعي (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) النصب : كل ما نصب وعبد من دون الله ، أي : إلى أوثانهم وأصنامهم

٤٣

(يُوفِضُونَ) أي : يسرعون أي : إن إسراعهم إلى الموقف يشبه إسراعهم إلى آلهتهم في الدنيا ؛ إذ كانوا يبتدرون إليها أيهم يستلمها أولا ، قال ابن كثير : أي : يقومون من القبور إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ينهضون سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي : خاضعة ذليلة ، قال النسفي : يعني لا يرفعونها لذلتهم (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي : يغشاهم هوان ، قال ابن كثير : أي : في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في الدنيا ، وهم يكذبون به.

كلمة في السياق :

١ ـ يلاحظ أن الفقرة الأولى بدأت بالأمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) ثم جاءت الفقرة الثانية مبدوءة بالأمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) وما بين الأمرين كان تفصيل لما يكون في اليوم الآخر ، وتبيان لطريق التحقق بالصبر ، وما بعد الأمر الثاني كان تفصيل لما يكون في اليوم الآخر كذلك ، ومن هذا ومما ذكرناه من قبل يتضح السياق الخاص للسورة ؛ فالكافرون يستعجلون بالعذاب لأنهم يستبعدون مجيئه ، وفي مقابل ذلك فعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصبر على أذاهم وأن يتركهم.

٢ ـ رأينا ما هو محور السورة فلنر كيف فصلت السورة في هذا المحور :

أ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وقد رأينا في السورة مظاهر من هذا الكفر الذي لا فائدة من معالجته ، ورأينا ما أمر الله به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقابل هذا الكفر ، وما هي الأخلاق التي ينبغي أن يتحقق بها ليقوم بهذا الأمر.

ب ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقد رأينا في السورة تفصيلات عن هذا العذاب العظيم الذي سيصيبهم ، والذي يستبعدون مجيئه ووجوده. وهكذا رأينا أن للسورة سياقها الخاص ، كما لها صلتها بمحورها.

الفوائد :

١ ـ في سبب نزول قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ) قال ابن كثير : (روى

٤٤

النسائي ... عن ابن عباس في قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) قال : النضر بن الحارث بن كلدة ، وقال العوفي عن ابن عباس (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) قال : ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله ، وهو واقع بهم ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى (سَأَلَ سائِلٌ :) دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة قال : وهو قولهم (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ)).

٢ ـ هناك أكثر من قول في تفسير كلمة (المعارج) من قوله تعالى (ذِي الْمَعارِجِ) قال ابن كثير : (روى الثوري ... عن ابن عباس في قوله تعالى (ذِي الْمَعارِجِ) قال : ذو الدرجات ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (ذي المعارج) يعني : العلو والفواضل ، وقال مجاهد : (ذي المعارج) : معارج السماء ، وقال قتادة : ذو الفواضل والنعم).

٣ ـ في قوله تعالى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال ابن كثير : (فيه أربعة أقوال : (أحدها) : أن المراد بذلك : مسافة ما بين العرش إلى أسفل السافلين ، وهو قرار الأرض السابعة ، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة ـ هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة ـ وكذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة. (القول الثاني) : أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة. روى ابن أبي حاتم ... عن مجاهد في قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : الدنيا عمرها خمسون ألف سنة ، وذلك عمرها يوم سماها الله عزوجل يوما. (القول الثالث) : أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة ، وهو قول غريب جدا. روى ابن أبي حاتم ... عن محمد بن كعب : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة. (القول الرابع) : أن المراد بذلك يوم القيامة. روى ابن أبي حاتم ... عن عكرمة عن ابن عباس : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : يوم القيامة ، وإسناده صحيح ، ورواه الثوري عن سماك بن حرب عن عكرمة (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ :) يوم القيامة ، وكذا قال الضحاك وابن زيد. وقال علي بن أبي طلحة

٤٥

عن ابن عباس في قوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : هو يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، وقد وردت أحاديث في معنى ذلك ، وروى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ما أطول هذا اليوم! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» ورواه ابن جرير ... عن دراج به ـ إلا أن دراجا وشيخه أبا الهيثم ضعيفان ـ والله أعلم ، وروى الإمام أحمد ... عن أبي عمر العداني قال : كنت عند أبي هريرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة فقيل له : هذا أكثر عامري مالا ، فقال أبو هريرة : ردوه إلي فردوه ، فقال : نبئت أنك ذو مال كثير ، فقال العامري : إي والله ؛ إن لي لمائة حمراء أو مائة أدماء ، حتى عد من ألوان الإبل وأفنان الرقيق ورباط الخيل ، فقال أبو هريرة : إياك وأخفاف الإبل ، وأظلاف الغنم ـ يردد ذلك عليه ـ حتى جعل لون العامري يتغير فقال : ما ذاك يا أبا هريرة؟ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كانت له إبل لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها» قلنا : يا رسول الله ما نجدتها ورسلها؟ قال : «في عسرها ويسرها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ، حتى يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأخفافها ، فإذا جاوزته أخراها أعيدت أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله ، وإذا كانت له بقر لا يعطيها حقها في نجدتها ورسلها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ، ثم يبطح لها بقاع قرقر ، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها ، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ، ليس فيها عقصاء ولا عضباء ، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله ، وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره ، حتى يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها ، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ، ليس فيها عقصاء ولا عضباء ، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله» قال العامري : وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال : أن تعطي الكريمة ، وتمنح الغزيرة ، وتفقر الظهر ، وتسقي الإبل ، وتطرق الفحل ، وقد رواه أبو داود من حديث شعبة ، والنسائي من حديث سعيد ابن أبي عروبة كلاهما عن قتادة به.

٤٦

(طريق أخرى لهذا الحديث) روى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره ، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم وفيه «الخيل الثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر» إلى آخره ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردا به دون البخاري من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة من كتاب الأحكام ، والغرض من إيراده ههنا قوله حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة).

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) قال ابن كثير : (وقد ورد في الحديث : «ولا توع فيوعي الله عليك» وكان عبد الله بن عكيم لا يربط له كيسا ، ويقول : سمعت الله يقول : (وَجَمَعَ فَأَوْعى). وقال الحسن البصري : يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا ، وقال قتادة في قوله : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) قال : كان جموعا نموما للحديث).

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) قال ابن كثير : (وروى الإمام أحمد ... عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شر ما في رجل : شح هالع ، وجبن خالع» رواه أبو داود ... وليس لعبد العزيز عنده سواه). وقال النسفي : (والهلع : سرعة الجزع عند مس المكروه ، وسرعة المنع عند مس الخير. وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلبا عن الهلع فقال : قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس ، وهذا طبعه وهو مأمور بمخالفة طبعه ، وموافقة شرعه ، والشر : الضر والفقر ، والخير : السعة والغنى أو المرض والصحة).

٦ ـ بمناسبة قوله تعالى واصفا المصلين : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) قال ابن كثير : (أي : إذا اؤتمنوا لم يخونوا ، وإذا عاهدوا لم يغدروا ، وهذه صفات المؤمنين وضدها صفات المنافقين كما ورد في الحديث الصحيح : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» وفي رواية : «إذا

٤٧

حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر»).

٧ ـ بمناسبة قوله تعالى في الكافرين : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ* عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) قال ابن كثير : كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء : فهم مخالفون للكتاب ، مختلفون في الكتاب ، متفقون على مخالفة الكتاب. أقول : فالكافرون معرضون عن الحق ، فارون من الالتفاف حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، متفرقون فيما بينهم فرقا شتى كل فرقة تجتمع على شىء من الباطل.

٨ ـ بمناسبة قوله تعالى : (عِزِينَ) قال ابن كثير : (وقال الثوري وشعبة وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس ومحمد بن فضيل ووكيع ويحيى القطان وأبو معاوية كلهم ... عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج عليهم وهم حلق فقال : «مالي أراكم عزين؟» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير من حديث الأعمش به. وروى ابن جرير ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه وهم حلق حلق فقال : «مالي أراكم عزين؟» وهذا إسناده جيد ، ولم أره في شىء من الكتب الستة من هذا الوجه). أقول : هذا يشير إلى أن الأصل في الإسلام هو الاجتماع.

كلمة أخيرة في سورة المعارج :

تحدثت سورة الحاقة عن القيامة ، وجزاء المكذبين بها ، وحال الناس فيها ، وأكدت أن القرآن حق ، وجاءت سورة المعارج لتبين أن هناك مكذبين باليوم الآخر ، وحددت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموقف من هؤلاء ، وكل ذلك رأيناه ، فصلة سورة المعارج على هذا بسورة الحاقة ـ التي هي مقدمة هذه المجموعة ـ واضحة. والملاحظ أن سورة الحاقة حدثتنا عن عذاب المكذبين باليوم الآخر في الدنيا والآخرة ، وجاءت سورة المعارج لتحدثنا عن عذاب المكذبين باليوم الآخر في الآخرة فقط ، ثم تأتي سورة نوح لتحدثنا عما أصاب أمة مكذبة من عذاب في الدنيا. والملاحظ أن سورة الحاقة والمعارج ونوح ، وكذلك سورة الجن كلها تفصل في مقدمة سورة البقرة كما رأينا وسنرى. فسورة المعارج تأخذ محلها في مجموعتها ، ومحلها من تفصيل مقدمة سورة البقرة ، فلننتقل إلى الكلام عن سورة نوح.

٤٨
٤٩

سورة نوح

وهي السورة الحادية والسيعون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الثالثة من المجموعة السادسة من قسم

المفصل ، وهي ثمان وعشرون آية

وهي مكية

٥٠

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٥١

بين يدي سورة نوح :

قال الألوسي : (مكية بالاتفاق. وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي ، وتسع في البصري والشامي ، وثلاثون فيما عدا ذلك ، ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال السيوطي وأشار إليه غيره أنه سبحانه لما قال في سورة المعارج : (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) عقبه تعالى بقصة قوم نوح عليه‌السلام المشتملة على إغراقهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم في الأرض ديار ، وبدل خيرا منهم ، فوقعت موقع الاستدلال والاستظهار لتلك الدعوى ، كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستظهار لما ختم به تبارك ، هذا مع تواخي مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعد به الكافرون ، ووجه الاتصال على قول من زعم أن السائل هو نوح عليه‌السلام ظاهر ، وفي بعض الآثار ما يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها على قوم نوح عليه‌السلام يوم القيامة ، أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا قال : «إن الله تعالى يدعو نوحا وقومه يوم القيامة أول الناس فيقول : ماذا أجبتم نوحا؟ فيقولون : ما دعانا وما بلغنا ولا نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا ، فيقول نوح عليه‌السلام : دعوتهم يا رب دعاء فاشيا في الأولين والآخرين ، أمة بعد أمة ، حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه ، فيقول الله عزوجل للملائكة عليهم‌السلام : ادعوا أحمد وأمته ، فيدعونهم فيأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته يسعى نورهم بين أيديهم ، فيقول نوح عليه‌السلام لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته : هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة ، واجتهدت لهم النصيحة ، وجهدت أن أستنقذهم من النار سرا وجهارا ، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا؟ فيقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته : فإنا نشهد بما أنشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين ، فيقول قوم نوح عليه‌السلام : وأنى علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنت آخر الأمم؟ فيقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أرسلنا نوحا إلى قومه حتى يختم السورة فإذا ختمها قالت أمته : نشهد إن هذا لهو القصص الحق ، وما من إله إلا الله وأن الله لهو العزيز الحكيم فيقول الله عزوجل عند ذلك : امتازوا اليوم أيها المجرمون»).

وقال صاحب الظلال : (هذه السورة كلها تقص قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ؛ وتصف تجربة من تجارب الدعوة في الأرض ، وتمثل دورة من دورات العلاج

٥٢

الدائم الثابت المتكرر للبشرية ، وشوطا من أشواط المعركة الخالدة بين الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل.

هذه التجربة تكشف عن صورة من صور البشرية العنيدة ، الضالة ، الذاهبة وراء القيادات المضللة ، المستكبرة عن الحق ، المعرضة عن دلائل الهدى وموجبات الإيمان ، المعروضة أمامها في الأنفس والآفاق ، المرقومة في كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون.

وهي في الوقت ذاته تكشف عن صورة من صور الرحمة الإلهية تتجلى في رعاية الله لهذا الكائن الإنساني ، وعنايته بأن يهتدي. تتجلى هذه العناية في إرسال الرسل تترى إلى هذه البشرية العنيدة الضالة الذاهبة وراء القيادات المضللة المستكبرة عن الحق والهدى.

ثم هي بعد هذا وذلك تعرض صورة من صور الجهد المضني ، والعناء المرهق ، والصبر الجميل ، والإصرار الكريم من جانب الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة. وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا أجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية ، ولا مكافأة ولا جعل يحصلونه على حصول الإيمان! كالمكافأة أو النفقة التي تتقاضاها المدارس والجامعات والمعاهد والمعلمون ، في زماننا هذا وفي كل زمان في صورة نفقات للتعليم!).

(ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة وثبات أصولها ، وتأصل جذورها. كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة الله وقدره ، وأحداث الحياة الواقعة وفق قدر الله).

كلمة في سورة نوح ومحورها :

١ ـ أجملت سورة الحاقة الحديث عن تعذيب المكذبين باليوم الآخر في الدنيا ، وذكرت عذاب الكافرين في الآخرة ، وجاءت سورة المعارج لتحدثنا عن عذاب المكذبين باليوم الآخر في الآخرة ، ثم تأتي سورة نوح لتعرض علينا قصة قوم نوح الذين ذكروا في سورة الحاقة ، لترينا كيف عذب هؤلاء في الدنيا ، وكيف أن الله عزوجل لم يهلكهم إلا بعد أن استنفد رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم كافة الوسائل وأقام عليهم الحجة.

٢ ـ تأتي سورة نوح بعد سورة المعارج التي حدثتنا عن موقف كافري هذه الأمة من رسولها لتعرض سورة نوح موقف أمة من رسولها ، وما عاقبها الله في الدنيا ، وفي

٥٣

ذلك تحذير لهذه الأمة.

٣ ـ في مقدمة سورة البقرة كلام عن الكافرين أنهم سواء في حقهم الإنذار وعدمه ، وتأتي سورة نوح لترينا أن رسولا لله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو نوح دعا إلى ما دعا إليه رسولنا من التقوى ، وترينا قصة أمة بذل معها رسولها كل جهد ممكن ، وأقام عليها كل حجة ، ومع ذلك أصرت على الإنكار ورفض الإنذار ، فسورة نوح إذن تقدم نموذجا على نوع من الكفار يتساوى الإنذار وعدمه في حقهم ، ولذلك صلته بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهكذا فسورة نوح تفصل في محورها من مقدمة سورة البقرة ، وتؤدي دورها في مجموعتها ، وكل ذلك ضمن سياقها الخاص.

٤ ـ وفي سورة نوح درس للنذير ، ودروس في الإنذار : كيف يكون ، وما هي وسائله ، وما هو مضمونه ، ولذلك صلته بمحور السورة كذلك.

٥ ـ تتألف السورة من مقدمة وفقرتين :

المقدمة آية واحدة تتحدث عن تكليف نوح بالإنذار.

والفقرة الأولى تستمر حتى نهاية الآية (٢٥) وفيها حديث عما فعل نوح قياما بحق الدعوة.

والفقرة الثانية وتستمر حتى نهاية السورة ، وفيها دعاء نوح على قومه الذين لم يستجيبوا له ودعاؤه لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات.

٥٤

مقدمة السورة

وهي آية واحدة هي الآية الأولى وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١))

التفسير :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) فالمرسل الله عزوجل ، والمرسل نوح عليه‌السلام والمرسل إليهم قوم نوح ، كما أن كل رسول قبل رسولنا عليه‌السلام كان يبعث إلى قومه خاصة ، وهذا يرجح أن الطوفان لم يكن شاملا للأرض كلها ، وإنما كان شاملا للمنطقة التي كان فيها قوم نوح ، هذا مع أن عامة المفسرين يرجحون القول الذي يقول بشمول الطوفان كما سنرى ، وهو أحد اتجاهين عند المفسرين (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) أي : بأن أنذر قومك (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : عذاب الآخرة أو الطوفان ، والظاهر من كلام ابن كثير أن المراد بالعذاب في الآية عذاب الدنيا قبل الآخرة ، قال ابن كثير : (يقول تعالى مخبرا عن نوح عليه‌السلام أنه أرسله إلى قومه آمرا له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم ، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم).

كلمة في السياق :

يلاحظ أن مضمون الرسالة التي أمر الله بها نوحا كان هو الإنذار بعذاب الله ، وهذا يجعلنا ندرك أهمية الإنذار الصحيح السليم الذي تعطينا السورة صورة مفصلة عنه في فقرتها الأولى ، فلنر هذه الفقرة.

٥٥

الفقرة الأولى

وتمتد من الآية (٢) حتى نهاية الآية (٢٥) وهذه هي :

المجموعة الأولى

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

المجموعة الثانية

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً

٥٦

(٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥))

تفسير المجموعة الأولى :

(قالَ يا قَوْمِ) ناداهم هذا النداء بأن أضافهم إلى نفسه إظهارا للشفقة ، وإيذانا بالحرص عليهم ، وهذا أول دروس الإنذار (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) أي : مخوف (مُبِينٌ) أي : أبين لكم رسالة الله بلغة تعرفونها ، قال ابن كثير : أي : بين النذارة ، ظاهر الأمر واضحه. أقول : وهذا ثاني درس في الإنذار أن يعرف الداعية إلى الله على مهمته وطبيعتها فلا يترك مجالا لأحد يعطي الآخرين تصورا خاطئا عنه ، ثم إن نوحا عليه‌السلام حدد مضمون دعوته التي إذا قبلوها فقد حققوا الحكمة من إرساله وإنذاره ، وتجنبوا سخط الله عليهم في الدنيا والآخرة فقال : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : وحدوه (وَاتَّقُوهُ) قال ابن كثير : أي : اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، وهكذا حدد نوح عليه‌السلام مضمون دعوته : العبادة والتقوى والطاعة ، وباجتماعها ينتقل المجتمع من طور إلى طور ، وكثير ممن يشتغلون بالدعوة إلى الله يفرطون في التربية على هذه المعاني الثلاثة مجتمعة ، فينتج عن ذلك قصور في العبادة أو في التقوى ، أو في الطاعة ، والملاحظ أن كثيرين من الدعاة في عصرنا يهملون قضية الطاعة ، فتبقى طاعة المسلم للكافرين يستخدمونها حتى في تهديم الإسلام ، فالدعوة الكاملة ، والدعاة الكاملون ، هم الذين يربون ويدعون للمعاني الثلاثة مجتمعة ، ضمن صيغة قرآنية إسلامية ، تجعل واجب الطاعة من الأدنى إلى الأعلى في المجتمع الإسلامي بديهية ، وهذا درس ثالث في الإنذار ، ثم بين نوح عليه‌السلام ما لهم إن فعلوا ذلك فقال : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي : إذا فعلتم ما آمركم به

٥٧

وصدقتم ما أرسلت به إليكم ، غفر الله لكم ذنوبكم ، هذا إذا اعتبرنا (من) في الآية زائدة ، وإذا اعتبرناها بمعنى (عن) كما رجح ذلك ابن كثير يكون المعنى : يصفح لكم عن ذنوبكم ، وإذا اعتبرناها بمعنى (بعض) يكون المعنى : يغفر لكم الذنوب العظيمة التي أوعدكم على ارتكابكم إياها الانتقام (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال النسفي : هو وقت موتكم ، قال ابن كثير : أي : يمد من أعماركم ، ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تجتنبوا ما نهاكم عنه أوقعه بكم (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي : الموت (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قال النسفي : أي : لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم ، وقال ابن كثير في الآية : أي : بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة ، فإنه إذا أمر تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع فإنه العظيم الذي قد قهر كل شىء ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات ، والملاحظ أن نوحا عليه‌السلام وعدهم على قبول دعوته أن يغفر الله لهم ذنوبهم ، وأن يجنبهم عذابه الذي ينزله بالأقوام الفاسقين ، وهذا درس رابع في الدعوة ، أن الداعية إلى الله ليست طريقته كطريقة دعاة الدنيا يغرقون الناس بالوعود الدنيوية فقط ، وبهذا انتهت المجموعة الأولى من الفقرة الأولى.

كلمة في السياق :

بعد أن قص الله علينا ما قاله نوح عليه‌السلام لقومه في المجموعة السابقة ، يقص علينا ربنا عزوجل شكوى نوح إلى الله عزوجل من مواقف قومه ، ومن هذه الشكوى نعلم أن قومه رفضوا نذارته ، ومنها نعرف ماذا فعل نوح عليه‌السلام ، وهذا يستغرق المجموعة الثانية من الفقرة الأولى.

تفسير الجزء الأول من المجموعة الثانية :

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) أي : دائبا بلا فتور في كل الأوقات فلم أترك وقتا إلا ودعوتهم فيه ، قال ابن كثير : أي : لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك ، وفي ذلك درس خامس للدعاة ، وهو ألا يبقوا وقتا إلا ويمارسون فيه الدعوة ، فإن بعض الأوقات أنسب للدعوة لبعض الطبقات من بعض ، كما أنه درس للداعية في الدأب الدائم على الدعوة (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي : عن طاعتك. قال النسفي : (ونسب ذلك ـ أي : الفرار ـ إلى

٥٨

دعائه لحصوله عنده ، وإن لم يكن الدعاء سببا للفرار في الحقيقة) وقال ابن كثير : أي : كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فروا منه وحادوا عنه (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإيمان بك وعبادتك وتقواك (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) أي : ليؤمنوا فتغفر لهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي : سدوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي : وتغطوا بثيابهم لئلا يبصروني كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله ، قال ابن عباس : تنكروا له لئلا يعرفهم ، وقال سعيد بن جبير : أي : غطوا رؤوسهم لئلا بسمعوا ما يقول (وَأَصَرُّوا) أي : وأقاموا على كفرهم ، أي : استمروا على ما هم فيه من الشرك والكفر العظيم الفظيع (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي : تعظموا عن إجابتي ، واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أي : مجاهرا ، أي : جهرة بين الناس. قال النسفي : يعني : أظهرت لهم الدعوة في المحافل (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) أي : كلاما ظاهرا بصوت عال (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) قال ابن كثير : أي : فيما بيني وبينهم ، فنوع عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم ، وقال النسفي : (أي : خلطت دعاءهم بالعلانية بدعاء السر فالحاصل أنه دعاهم ليلا ونهارا في السر ، ثم دعاهم جهارا ثم دعاهم في السر والعلن ، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف يبتدىء بالأهون ، ثم بالأشد فالأشد ، فافتتح بالمناصحة في السر ، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان ، و (ثم) تدل على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما). أقول : وفي ذلك كله درس جديد من دروس الدعوة أن يلجأ الداعية إلى كل الوسائل العلنية والسرية لتبليغ دعوته بالمحاضرة والخطاب المنفرد والجهر والسر.

كلمة في السياق :

١ ـ عرض نوح عليه‌السلام في هذا الجزء من المجموعة الثانية مجمل ما فعل وتصرف ، وسيأتي الجزء الثاني من المجموعة ليعرض نوح عليه‌السلام فيه تفصيل ما كان يقوله لهم في دعوته كما سنرى.

٢ ـ نلاحظ أن نوحا لم يترك وسيلة إلا سلكها ، وكانت الحصيلة زيادة العناد والإصرار ، وفي ذلك نموذج على أن الكفر إذا تأصل لا ينفع معه إنذار ، وصلة ذلك بمحور السورة واضحة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فهذه أمة لم يترك رسولها وسيلة لهدايتها إلا سلكها ، ولم ينتج عن ذلك

٥٩

شىء ، ولننتقل إلى الجزء الثاني من المجموعة الثانية لنرى تفصيل ما قاله نوح عليه‌السلام لقومه.

تفسير الجزء الثاني من المجموعة الثانية :

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) قال ابن كثير : أي : ارجعوا إليه ، وارجعوا عما أنتم فيه ، وتوبوا إليه من قريب ؛ فإنه من تاب إليه تاب عليه ، مهما كانت ذنوبه في الكفر والشرك (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ) أي : بالمطر (مِدْراراً) أي : كثيرة الدرور ، قال ابن كثير : أي : متواصلة الأمطار (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي : ويزدكم أموالا وبنين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي : بساتين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) أي : جارية لمزارعكم وبساتينكم ، قال ابن كثير : (أي : إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم ، وأسقاكم من بركات السماء ، وأنبت لكم من بركات الأرض ، وأنبت لكم الزرع ، وأدر لكم الضرع ، وأمدكم بأموال وبنين ، أي : أعطاكم الأموال والأولاد ، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار ، وخللها بالأنهار الجارية بينها ، هذا مقام الدعوة والترغيب ، ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب) فقال : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي : عظمة ، أي : لم لا تعظمون الله حق عظمته ، أي : لا تخافون من بأسه ونقمته (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) قال ابن كثير : قيل : معناه : من نطفة ، ثم علقة ، ثم من مضغة ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة ويحيى بن رافع والسدي وابن زيد ، قال النسفي : (عن الأخفش قال : والرجاء هنا الخوف لأن مع الرجاء طرفا من الخوف ومن اليأس ، والوقار العظمة ، أو لا تأملون له توقيرا أي : تعظيما. والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) في موضع الحال ، أي : ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه ـ وهي حال موجبة للإيمان به ـ لأنه خلقكم أطوارا أي : تارات وكرات ، خلقكم أولا نطفا ، ثم خلقكم علقا ، ثم خلقكم مضغا ، ثم خلقكم عظاما). أقول : وهكذا نجد نوحا عليه‌السلام يركز على نقطتين الاستغفار وتعظيم الله عزوجل ، وفي ذلك درس جديد من دروس الدعوة ، وفي عملية الدعوة إلى تعظيم الله عزوجل لفت نظرهم أولا إلى الأطوار التي مروا عليها بقدرة الله عزوجل ، ثم يتابع لفت أنظارهم إلى معان أخرى ، كلها توصل إلى تعظيم الله عزوجل ، ومن ثم قال : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي : واحدة فوق واحدة ، قال

٦٠