الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤
٥٠١

سورة العلق

وهي السورة السادسة والتسعون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الثانية من المجموعة الثالثة عشرة من

قسم المفصل ، وهي تسع عشرة آية

وهي مكية

٥٠٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٥٠٣

كلمة في سورة العلق ومحورها :

بعد مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وبعد سورة التين تأتي سورة العلق مبدوءة بقوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) لاحظ قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) وصلته بقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وصلة : (اقْرَأْ) بقوله : (اعْبُدُوا) فالقراءة عبادة عندما تكون تحقيقا لأمر الله عزوجل ، ونجد في السورة قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) وصلة ذلك بكلمة التقوى الواردة في آية المحور واضحة ، ثم إن السورة تختم بقوله تعالى : (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) ذلك واضح الصلة بقوله تعالى : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) وسنرى صلة السورة بمحورها بالتفصيل أثناء عرضها.

رأينا أن سورة التين تنتهي بقوله تعالى : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) ورأينا أن أحد الاتجاهين في تفسيرها أن الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقديره : فمن يكذبك بعد هذا البيان يا محمد في أمر اليوم الآخر والجزاء والحساب؟ وأن الاتجاه الآخر في الآية : فما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالحساب؟ وتأتي سورة العلق بعد ذلك لتخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فإن القراءة المأمور بها هي الدليل على أن يوم الدين آت فللسورة صلتها الواضحة بما قبلها.

وسورة التين فصلت في مقدمة سورة البقرة. وكما أن الآية التي جاءت بعد مقدمة سورة البقرة فصلت في الطريق للتحقق بالتقوى ، والتحرر من الكفر والنفاق ، فإن سورة العلق تأتي لتحقق بما دعت إليه سورة التين ، ولتحرر مما أنذرت منه سورة التين ، ومن المعلوم أن سورة العلق ـ وخاصة بدايتها ـ كانت أول ما نزل من القرآن ، فأن نراها في محلها تتفق مع ترتيب هذا القرآن ، وبما ينسجم مع نظامه ، فذلك دليل على أن القرآن ترتيبه توفيفي ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ليس للصنعة البشرية فيه نصيب.

٥٠٤

لقد رأينا في سورة التين كلاما عن الإنسان وعن خلقه في أحسن تقويم ، وعن الصوارف التي تصرفه عن القيام بالتكليف ، ونلاحظ أن سورة العلق تكمل الحديث (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى). وهكذا تتكامل سور المجموعة الثالثة عشرة مع بعضها. فلنبدأ عرض السورة.

السورة

وتتألف من تسع عشرة آية وهذه هي :

الفقرة الأولى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))

الفقرة الثانية

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى

٥٠٥

(١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

تفسير الفقرة الأولى :

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أي : خلق كل شىء ، ثم خصص من بين المخلوقات في الذكر الإنسان فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) أي : من علقة ، أي : من حيوان منوي ، أو المراد بذلك المرحلة الأولى للجنين بعد التقاء الحيوان المنوي بالبويضة ، والسؤال : ماذا يقرأ؟ فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي وجه له الخطاب أول مرة لا يقرأ. أقول : يفهم من السياق ، أن المراد بالقراءة قراءة المخلوقات بالتفكر والتأمل فيكون المعنى ـ والله أعلم ـ : اقرأ هذا الكون وهذا الإنسان باسم الله عزوجل ، ملاحظا أنه الخالق ، وهو معنى أخذه بعضهم وأعطاه مضمونا عمليا ، وجعله أساسا في السير إلى الله عزوجل ، ونقطة انطلاق (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي : الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم ، أقول : هذا وعد من الله عزوجل لمن قرأ الكون والمخلوقات باسمه تعالى أن يكرمه بالإكرام العظيم ، حيث يفتح عليه من العلوم ما لم يفتحه على غيره ، فما من إنسان يقرأ الكون باسم الله عزوجل ، إلا ويعطيه الله عزوجل من العلوم دقيقها وجليلها (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي : علم الكتابة بالقلم ، أو علم العلوم الكثيرة المتولد بعضها من بعض بواسطة القلم (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ). قال ابن كثير : وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة. أقول : لعل معنى الآية أن الله عزوجل هو الذي علم الإنسان العلوم الكثيرة التي ما كان للإنسان أن يعلمها لو لا توفيق الله عزوجل وعطاؤه ، فصار المعنى العام للآيات الثلاث : اقرأ الكون والإنسان باسم الله عزوجل ، فإنك إن قرأت فإن الله عزوجل الذي علم الإنسان بالقلم ، الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، سيتكرم عليك بالعلوم الكثيرة العظيمة ، وهكذا أكدت هذه الآيات ما ورد في الآيتين الأوليين من الأمر بالقراءة ، ووعدت القارىء بالإكرام ، وهذا معنى فطن له بعضهم ، وأعطوه حقه ، فأكرم الله صالحيهم بإكرامات خاصة ؛ ولأن هذه الآيات الخمس هي أول ما نزل من القرآن فلنقف عندها.

٥٠٦

الفوائد :

١ ـ عند قوله تعالى : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) قال النسفي : (وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم .. فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ، وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولو لا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله دليل إلا أمر القلم والخط لكفى).

٢ ـ قال ابن كثير في الآيات الخمس : (روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : أول ما بدىء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الوحي وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه ، فقال : اقرأ ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فقلت ما أنا بقارىء ـ قال ـ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارىء فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارىء ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) حتى بلغ (ما لَمْ يَعْلَمْ) قال : فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال : يا خديجة «مالي؟» وأخبرها الخبر وقال : «قد خشيت على نفسي» فقالت له : كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك؟ فقال ورقة : ابن أخي ، ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو مخرجي هم؟» فقال ورقة : نعم لم

٥٠٧

يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما بلغنا ـ حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل ؛ لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا ، فيسكن بذلك جأشه ، وتقر نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين. فأول شىء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات ، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم ، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية ـ آدم ـ على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي. والرسمي يستلزمهما من غير عكس فلهذا قال : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) وفي الأثر : «قيدوا العلم بالكتابة» وفيه أيضا : «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم»).

قال صاحب الظلال معلقا على حادثة ابتداء الوحي : (وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير ، ثم مررنا به وتركناه ، أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه!.

إنه حادث ضخم. ضخم جدا. ضخم إلى غير حد. ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا.

إنه حادث ضخم بحقيقته ، وضخم بدلالته. وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا. وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد ـ بغير مبالغة ـ هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل. ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟.

حقيقته أن الله جل جلاله ، العظيم الجبار القهار المتكبر ، مالك الملك كله ، قد تكرم ـ في عليائه ـ فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان ، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه : الأرض. وكرم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومستودع حكمته ، ومهبط كلماته ، وممثل قدره الذي يريده ـ سبحانه ـ بهذه الخليقة.

٥٠٨

وهذه حقيقة كبيرة. كبيرة إلى غير حد. تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان ـ قدر طاقته ـ عظمة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية. ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية. ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني ؛ ويتذوق حلاوة هذا الشعور ؛ ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال .. وهو يتصور كلمات الله ، تتجاوب بها جنبات الوجود كله ، منزلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة.

وما دلالة هذا الحادث؟

دلالته ـ في جانب الله سبحانه ـ أنه ذو الفضل الواسع ، والرحمة السابغة ، الكريم الودود المنان. يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة ، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة.

ودلالته ـ في جانب الإنسان ـ أن الله ـ سبحانه ـ قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها ، ولا يملك أن يشكرها. وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا .. هذه .. أن يذكره الله ، ويلتفت إليه ، ويصله به ، ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته. وأن تصبح الأرض .. مسكنه .. مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال.

فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى. بدأت في تحويل خط التاريخ ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني .. منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه .. إنها ليست الأرض وليس الهوى .. إنما هي السماء والوحي الإلهي.

ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة. في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة. عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم. كبيره وصغيره. يحسون ويتحركون تحت عين الله. ويتوقعون أن تمتد يده ـ سبحانه ـ فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة. تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب .. وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم ، ويفصل في مشكلاتهم ، ويقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك!

إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة. الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه

٥٠٩

الأرض وانتهى عهد. والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل. والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به. وسجله الضمير الإنساني. وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها. وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان ..).

كلمة في السياق :

١ ـ قال تعالى في محور السورة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وقد جاءت الآيات الخمس لتأمر بقراءة الكون والإنسان باسم الله عزوجل ، ووعدت على هذه القراءة بالإكرام بالعلم من الله الذي علم الإنسان بواسطة وبغير واسطة ، ومن صلة الفقرة بمحورها نعلم أن قراءة الكون والحياة باسم الله عزوجل عبادة من العبادات الموصلة للتقوى.

٢ ـ ذكر محور السورة خلق الإنسان ، وجعل الأرض فراشا ، والسماء بناء ، وإنزال المطر من السماء ، وإخراج الثمرات به ، وكل ذلك مما ينبغي أن يقرأه الإنسان باسم الله عزوجل ، ولا شك أن هذه القراءة تفضي إلى الشكر والتوحيد والتقوى والعبادة. وفي الآيات الخمس التي مرت معنا في سورة العلق ذكرنا الله عزوجل أنه الخالق ، وأنه الذي خلق الإنسان من علق ، وأنه الأكرم ، وأنه الذي علم بالقلم ، وأنه الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وهي معان تقتضي عبودية واعترافا لله عزوجل بالفضل وقياما بالشكر ، والتزاما بالتقوى ، ولكن الإنسان بدلا من أن يقابل النعم الخاصة والعامة بالعبادة والتقوى ، أي : بالشكر ، فإنه يزداد طغيانا كلما زاد غنى. وهذا الذي سجلته الفقرة الثانية.

تفسير الفقرة الثانية :

(كَلَّا) كلمة يراد بها الردع ، وهي في هذا السياق تفيد أن ناسا لا يقرأون

٥١٠

الكون والحياة باسم الله عزوجل ، ولا يرتبون على ذلك ما ينبغي أن يترتب ، وأن هناك ناسا لا يشكرون نعمة الله عزوجل في التعليم والخلق والعطاء ، ومن ثم قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ) أي : أن رأى نفسه (اسْتَغْنى) بمال أو علم أو جاه ، فبدلا من أن ينسب ذلك إلى الله لا ينسبه ، وبدلا من أن يشكر الله عزوجل بالعبادة والتقوى يكفره. قال ابن كثير : (يخبر تعالى عن الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان ، إذا رأى نفسه واستغنى وكثر ماله) ثم تهدده وتوعده ووعظه فقال : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي : إلى الله المصير والمرجع وسيحاسبك على مالك من أين جمعته وفيم أنفقته؟. وقال النسفي : (هذا تهديد للإنسان من عاقبة الطغيان على طريقة الالتفات .. أي : إن رجوعك إلى ربك ، فيجازيك على طغيانك).

ذكرت الآيات الثلاث طبيعة الإنسان الكافر ، وأنذرته ووصفت هذه الطبيعة بالطغيان كلما رأى نفسه مستغنيا ، ثم يعرض الله عزوجل علينا نموذجا لطغيان الإنسان.

أ ـ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) هذا أول مظهر من مظاهر الطغيان ، أن ينهى إنسان إنسانا عن الصلاة عبادة لله عزوجل ، والخطاب في الآية الأولى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لافتا نظره إلى طغيان هذا الإنسان ، وأنه نموذج على الطغيان كأثر عن رؤية الاستغناء.

ب ـ (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) والخطاب هنا على رأي النسفي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الذي نرجحه ، والذي يراه ابن كثير أن الخطاب لهذا الناهي قال : أي : فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريقة المستقيمة في فعله ، أو أمر بالتقوى بقوله ، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته. أقول : الذي أرجحه أن الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا ترى أن هذا الإنسان لو كان على الهدى أو أمر بالتقوى أليس ذلك أجود له وأحسن بدلا من أن ينهى عن الهدى وعن التقوى بنهيه عن الصلاة ، فدلت الآيتان على أن من مظاهر الطغيان عدم الاهتداء ، وعدم الأمر بالتقوى.

ج ـ (أَرَأَيْتَ) يا محمد (إِنْ كَذَّبَ) هذا الناهي عن الصلاة (وَتَوَلَّى) أي : أعرض أي : كذب بالحق وأعرض عنه (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) قال النسفي : أي : ويطلع على أحواله من هداه وضلاله ، فيجازيه على حسب حاله ، وهذا وعيد.

٥١١

وقال ابن كثير : (أي : أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ، ويسمع كلامه ، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء!!).

كلمة في السياق :

١ ـ رأينا أن من مظاهر الطغيان النهي عن الصلاة ، وترك الهدى ، وترك الأمر بالتقوى والتكذيب والإعراض عن دعوة الله عزوجل ، وهذا هو الذي يقابل به أكثر الخلق نعم الله عزوجل ، وقد ذكر الله عزوجل هؤلاء برؤية الله إياهم ليكفوا وينزجروا ، والنموذج الأرذل لهؤلاء هو أبو جهل ، وهو الذي نزلت فيه الآيات ، قال ابن كثير : نزلت في أبي جهل ـ لعنه الله ـ توعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصلاة عند البيت.

٢ ـ دعا الله عزوجل في محور السورة الناس جميعا للعبادة والتقوى ، وفي هذا الجزء من الفقرة الثانية رأينا أن هناك ناسا يقابلون نعم الله عزوجل بالطغيان ، فبدلا من أن يصلوا ويعبدوا ينهون عن الصلاة ، وبدلا من أن يهتدوا ويأمروا بالتقوى يفعلون العكس ، وبدلا من أن يصدقوا ويعملوا يكذبون ويعرضون. ومن هذا الملحظ ندرك صلة ما مر معنا من الفقرة الثانية بمحور السورة.

٣ ـ من قوله تعالى تعقيبا على مواقف هذا الطاغي الناهي : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ندرك أن سبب الطغيان والنهي عن الصلاة ، وسبب عدم الهدى والتقوى ، وسبب التكذيب والتولي ، هو الجهل بالله عزوجل والغفلة عنه ، ولذلك فإن تربية النفس البشرية على مراقبة الله عزوجل ، والسير بها إلى ذلك هو السر الأعظم في تطهير النفس البشرية من كل أمراضها ، وهذا كذلك مما فطن له صالحو الصوفية. فركزوا عليه فوصلوا في علم التربية الإسلامية إلى ما لم يصل إليه غيرهم.

٤ ـ بعد أن عرض الله عزوجل نموذجا على طغيان الطغاة ومن ذلك عرفنا أن الطاغي ينهى عن الصلاة ، فإن جزءا جديدا من الفقرة الثانية يأتي مهددا هذا الإنسان مبينا له عقوبته.

٥١٢

(كَلَّا) ردع لهذا الطاغي الناهي (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) قال النسفي : عما هو فيه. وقال ابن كثير : أي : لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) الناصية : مقدم الرأس قال النسفي : (أي : لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ، والسفع : القبض على الشىء وجذبه بشدة) (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) أي : كاذب صاحبها في مقاله ، خاطىء في أفعاله. (فَلْيَدْعُ) يومئذ (نادِيَهُ) النادي : المجلس الذي يجتمع فيه القوم ، والمراد أهل النادي. قال ابن كثير : أي : قومه وعشيرته ، أي : ليدعهم يستنصر بهم (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) قال ابن كثير : وهم ملائكة العذاب حتى يعلم من يغلب أحزبنا أو حزبه. قال النسفي : (والزبانية لغة : الشرط ، الواحد زبينة من الزبن وهو الدفع ، والمراد ملائكة العذاب).

وبعد أن ذكر الله عزوجل هذا الطاغي الناهي عن الخير ووعظه وأنذره ، تأتي الآية الأخيرة في السورة تنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طاعة هذا الإنسان وتأمره بالسجود والتقرب إلى الله ، وهو خطاب للأمة كلها قال تعالى : (كَلَّا لا تُطِعْهُ) قال النسفي : أي : اثبت على ما أنت عليه من عصيانه (وَاسْجُدْ) أي : ودم على سجودك ، يريد الصلاة (وَاقْتَرِبْ) قال النسفي : أي : وتقرب إلى ربك بالسجود فإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد. وقال ابن كثير : يعني يا محمد لا تطعه فيما ينهاك عنه. عن المداومة على العبادة وكثرتها ، وصل حيث شئت ولا تباله ، فإن الله حافظك وناصرك ، وهو يعصمك من الناس ، واسجد واقترب.

كلمة في السياق :

١ ـ أمر محور السورة من سورة البقرة الناس جميعا بعبادة الله ، وترك الشرك شكرا له عزوجل ، ومن سورة العلق تعلم أن الناس أمام هذا الأمر قسمان : عباد متقون ، وطغاة كافرون ، وذلك من مظاهر صلة السورة بمحورها.

٢ ـ فصلت السورة في محورها فأرتنا بعض مظاهر من العبادة ، وأمرت بمعان تقابل مواقف الذين لا يستجيبون لأمر الله عزوجل ، والخلاصة العملية للسورة أنها تأمر

٥١٣

بقراءة الكون والحياة باسم الله عزوجل ، وتنهى عن طاعة الكافرين ، وتأمر بالسجود والتقرب إلى الله عزوجل.

٣ ـ وقد رأينا أثناء عرضنا للسورة سياقها الخاص ، وصلتها بمحورها وصلتها بما قبلها ، وسنرى صلتها بما بعدها فيما بعد وقد رأينا أن فيها الجديد الكثير.

الفوائد :

١ ـ في وجه المناسبة بين سورتي التين والعلق قال الألوسي : (ولما ذكر سبحانه في سورة التين خلق الإنسان في أحسن تقويم بين عزوجل هنا أنه تعالى خلق الإنسان من علق ، فكان ما تقدم كالبيان للعلة الصورية ، وهذا كالبيان للعلة المادية ، وذكر سبحانه هنا أيضا من أحوال الإنسان في الآخرة ما هو أبسط مما ذكره عزوجل هناك).

٢ ـ عند قوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) قال ابن كثير : (روى البخاري عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لئن فعل لأخذته الملائكة». وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيريهما ، وهكذا رواه ابن جرير بإسناده. وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير وهذا لفظه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال : يا محمد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده فأغلظ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتهره فقال : يا محمد بأي شىء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا فأنزل الله (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) وقال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته. وقال الترمذي : حسن صحيح).

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) قال ابن كثير : (كما ثبت في الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» وتقدم أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسجد في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)).

٤ ـ من الأمراض التي ظهرت في القرنين الأخيرين ـ كأثر عن التقدم العلمي ـ شعور الإنسان باستغنائه عن الله عزوجل ، ولذلك كانت الدعوة إلى ترك العبادة في هذين القرنين على أشدها ، وقد تأثر في ذلك الكثيرون من أبناء المسلمين ، فتركوا الصلاة ، واستهانوا بأمر دينهم ، ومن مثل هذا ندرك سر مجىء قوله تعالى : (كَلَّا

٥١٤

لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) في سياق السورة التي جاء فيها : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) إن في السورة الدواء الناجع لمواجهة دعوات الطغيان في كل العصور ، وإن من أهم ما نداوي به دعوات عصرنا المادية ما ذكرته السورة في بدايتها وفي نهايتها : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) ولذلك كان من المهم جدا أن يكون لكل منا حظه الكبير من قراءة الكون باسم الله ، ومن السجود الكثير لله ، أعرف بعض الناس أصابتهم شكوك وهواجس فدلوا على أن يعطوا لأنفسهم فرص تأمل كثيرة في أجزاء هذا الكون سفليه وعلويه ، وكلما استذكروا جزءا منه ذكروا اسم الله ، وتذكروا أنه الخالق ، وكان لذلك أثره في شفاء قلوبهم وزيادة إيمانهم ويقينهم.

٥١٥

سورة القدر

وهي السورة السابعة والتسعون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الثالثة من المجموعة الثالثة عشرة من

قسم المفصل ، وهي خمس آيات

وهي مكية

٥١٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٥١٧

بين يدي سورة القدر :

قدم صاحب الظلال لسورة القدر بقوله : (الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته ، وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا ، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ).

والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحديث تكاد ترف وتنير. بل هي تفيض بالنور الهادىء الساري الرائق الودود. نور الله المشرق في قرآنه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) .. ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة ، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).

والليلة التي تتحدث عنها السورة وهي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان ، كما ورد في سورة البقرة : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ* هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) .. أي : التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبلغه إلى الناس. وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحنث في غار حراء).

كلمة في سورة القدر ومحورها :

بعد الآيتين اللتين شكلتا محور سورة العلق من سورة البقرة يأتي قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ

٥١٨

أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) لاحظ قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) ثم لاحظ بداية سورة القدر : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فالصلة واضحة بين السورة والمحور وسنرى ذلك بالتفصيل.

بدأت سورة العلق بقوله تعالى : (اقْرَأْ) وانتهت بقوله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فالخطاب متوجه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بداية السورة ، ونهايتها وسورة القدر تتحدث عن القرآن المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا أول مظهر من مظاهر الصلة بين سورتي القدر والعلق ، إلا أن الصلة العظمى تظهر في كون سورة العلق أول ما نزل من القرآن ، وتأتي سورة القدر لتبين أن هذا القرآن الذي ابتدىء بسورة العلق ، أنزله الله في ليلة القدر. فالصلات بين سورة القدر والسورة قبلها متعددة. تلك أمرت بقراءة الكون باسم الله ، وأمرت بالسجود والاقتراب ، وهذه ذكرت ليلة ، العمل فيها يعدل ألف مرة ثواب العمل فيما سواها.

سورة القدر

وتتألف من خمس آيات وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

التفسير :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال النسفي : عظم القرآن حيث أسند إنزاله إليه دون

٥١٩

غيره ، وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للاستغناء بالتنبيه عليه ، ورفع مقدار الوقت الذي أنزل فيه .. ومعنى ليلة القدر : ليلة تقدير الأمور ، وقضائها ، والقدر بمعنى : التقدير أو سميت بذلك لشرفها على سائر الليالي .. قال ابن كثير : (يخبر تعالى أنه أنزل القرآن في ليلة القدر وهي الليلة المباركة التي قال الله عزوجل : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وهي ليلة القدر ، وهي من شهر رمضان كما قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال تعالى معظما لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها). فقال : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) قال النسفي : أي : لم تبلغ درايتك غاية فضلها ، ثم بين ذلك أي : فضلها بقوله : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ليس فيها ليلة القدر. قال النسفي : وسبب ارتفاع فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من تنزل الملائكة والروح ، وفعل كل أمر حكيم ، (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) أي : إلى السماء الدنيا أو إلى الأرض (وَالرُّوحُ) قال النسفي : أي : جبريل أو خلق غير الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة أو الرحمة (فِيها) أي : في هذه الليلة. قال ابن كثير : (أي : يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة ، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ، ويحيطون بحلق الذكر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له ، وأما الروح فقيل : المراد به ههنا جبريل عليه‌السلام ، فيكون من باب عطف الخاص على العام ، وقيل : هم ضرب من الملائكة). والله أعلم ..

(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) قال النسفي : أي : تنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل (سَلامٌ هِيَ) قال النسفي : أي : ما هي إلا سلامة .. أي : لا يقدر الله فيها إلا السلامة والخير ، ويقضي في غيرها بلاء وسلامة ، أو ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون على المؤمنين ، قيل : لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة ، وقد حرم من السلام الذين كفروا (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي إلى وقت طلوع الفجر فهي تمتد من غياب الشمس إلى طلوع الفجر.

كلمة في السياق :

١ ـ عرفنا الله عزوجل على فضل ليلة القدر في هذه السورة ؛ لنعرف بذلك فضيلة

٥٢٠