الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

المسألة ، أعتق النسمة وفك الرقبة» فقال : يا رسول الله أو ليستا بواحدة؟ قال : «لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في عتقها ، والمنحة الوكوف ، والفىء على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع ، واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير».

٦ ـ بمناسبة قوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) قال ابن كثير : (كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن سلمان بن عامر قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان ، صدقة وصلة» وقد رواه الترمذي والنسائي وهذا إسناد صحيح).

٧ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) قال ابن كثير : (كما جاء في الحديث : «الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وفي الحديث الآخر : «لا يرحم الله من لا يرحم الناس». وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو يرويه قال : «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا»).

وبمناسبة هذه الآية قال صاحب الظلال : (والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة ، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة. والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته درجة تماسك الجماعة المؤمنة. وتواصيها على معنى الصبر ، وتعاونها على تكاليف الإيمان. فهي أعضاء متجاوبة الحس تشعر جميعا شعورا واحدا بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه ، فيوصي بعضها بعضا بالصبر على العبء المشترك ، ويثبت بعضها بعضا فلا تتخاذل ، ويقوي بعضها بعضا فلا تنهزم. وهذا أمر غير الصبر الفردي. وإن يكن قائما على الصبر الفردي. وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة. وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت ، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام ، ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة.

وكذلك التواصي بالمرحمة. فهو أمر زائد على المرحمة. إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به ، والتحاض عليه ، واتخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ، ويتعاون عليه الجميع.

فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه. وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه

٤٤١

أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأهميته في تحقيق حقيقة هذا الدين. فهو دين جماعة ، ومنهج أمة ، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا ..).

٨ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ* عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) كما قال ابن كثير : (وقال قتادة : (مؤصدة) مطبقة فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد ، وقال أبو عمران الجوني : إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من كان يخاف الناس في الدنيا شره فأوثقوه بالحديد ، ثم أمر بهم إلى جهنم ، ثم أوصدوها عليهم أي : أطبقوها قال : فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدا ، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبدا ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدا ، ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدا. رواه ابن أبي حاتم.

ولننتقل إلى سورة والشمس وضحاها.

٤٤٢
٤٤٣

سورة الشمس

وهي السورة الحادية والتسعون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الثالثة من المجموعة الثانية عشرة من

قسم المفصل ، وهي خمس عشرة آية

وهي مكية

٤٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٤٤٥

بين يدي سورة الشمس :

قدم ابن كثير لسورة الشمس وضحاها بقوله : (نقدم حديث جابر الذي في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : «هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى؟).

وقال الألوسي في تقديمه لهذه السورة : (ولما ختم سبحانه السورة المتقدمة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، أعاد جل شأنه في هذه السورة الفريقين على سبيل الفذلكة بقوله سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) وفي هذه (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) وهو كالبيان لقوله تعالى في الأولى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) على أول التفسيرين ، وختم سبحانه الأولى بشىء من أحوال الكفرة في الآخرة وختم جل وعلا هذه بشىء من أحوالهم في الدنيا).

وقال صاحب الظلال : (هذه السورة القصيرة ذات القافية الواحدة ، والإيقاع الموسيقي الموحد ، تتضمن عدة لمسات وجدانية تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ السورة والتي تظهر كأنها إطار للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة. حقيقة النفس الإنسانية ، واستعداداتها الفطرية ، ودور الإنسان في شأن نفسه ، وتبعته في مصيرها .. هذه الحقيقة التي يربطها سياق السورة بحقائق الكون ومشاهده الثابتة.

كذلك تتضمن قصة ثمود ، وتكذيبها بإنذار رسولها ، وعقرها للناقة ، ومصرعها بعد ذلك وزوالها. وهي نموذج من الخيبة التي تصيب من لا يزكي نفسه ، فيدعها للفجور ، ولا يلزمها تقواها : كما جاء في الفقرة الأولى في السورة : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) ..).

كلمة في سورة الشمس :

في مقدمة سورة البقرة يختتم الكلام عن المتقين بقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وفي سورة الشمس تأتي أقسام جوابها : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) فتحدد سورة الشمس طريق الفلاح ، وطريق الخسران ، فبالتقوى يكون الفلاح ، وبتزكية النفس يكون الفلاح ، فالمقامان واحد ، ثم تحدثنا سورة الشمس عن أمة كذبت فعوقبت في الدنيا ، ولذلك صلته كذلك بمحور

٤٤٦

السورة من سورة البقرة ، ومن هذا ندرك أن سورة الشمس المبدوءة بقسم تفصل في مقدمة سورة البقرة. ككل سورة مبدوءة بقسم ، وهو معنى سنبرزه بالتفصيل أثناء عرض السورة.

في سورة البلد ورد قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) وفي سورة الشمس يأتي قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) وفي سورة البلد دعوة إلى اقتحام العقبة ، وهي عقبة نفسية ينبغي أن تقتحم بالعمل الصالح ، وفي سورة الشمس دعوة لتزكية النفس : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) فالمقامان متكاملان.

وفي سورة الفجر يرد قوله تعالى : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) وفي سورة الشمس يأتي قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها* إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها* ..) فهنا تشرح سورة الشمس مظهرا من مظاهر طغيان ثمود وإفسادها. فالسورة إذن تكمل المعاني الواردة في مجموعتها.

فسورة الفجر تهيء لسلوك الطريق ، وسورة البلد تحدد معالم في الطريق ، وسورة الشمس تبين صلة الطريق بتزكية النفس ، وأن الفلاح معلق على ذلك ، وهكذا نجد سور المجموعة كل منها تكمل الأخرى ، وكل منها لها سياقها الخاص. وسيتضح لنا هذا بشكل أوسع كلما خطونا خطوة في العرض ، وسنعرض سورة الشمس على مرحلتين ، كل مرحلة نعرض فيها فقرة منها ؛ لأنها تتألف من فقرتين واضحتي المعالم مترابطتين ، الفقرة الأولى تنتهي بنهاية الآية (١٠). والفقرة الثانية تنتهي بنهاية الآية (١٥) أي : بنهاية السورة.

٤٤٧

الفقرة الأولى

وتمتد من بداية السورة حتى نهاية الآية (١٠) وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))

التفسير :

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) للشمس دائما ضحى. ففي أي لحظة من اللحظات يكون على وجه الأرض ضحى للشمس ، وقد أقسم الله عزوجل في هذه الآية بالشمس وضحاها الدائم ، وفي ذلك معجزة من معجزات هذا القرآن (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي : إذا جاء بعد الشمس مباشرة ، وذلك يكون عندما يكون القمر بدرا فإنه يأتي بعد الشمس مباشرة (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أي : إذا جلا الشمس. قال النسفي : أي : جلا الشمس وأظهرها للرائين. أقول : وفي ذلك معجزة كونية أخرى ، إذ الطاهر. أن الشمس هي التي تجلي النهار ، وذلك يكون لو كانت الأرض ثابتة ، أما والأرض تدور حول محورها فإن النهار هو الذي يجلي الشمس ويظهرها ، فدورة الأرض هي التي تخفي الشمس أو تبديها : ولغياب هذا المعنى عن المفسرين قديما اضطرب كلامهم في تفسير الآية. فتأول بعضهم الآية وصرف بعضهم الضمير عن الشمس. قال النسفي : وقيل الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر. أقول : وما قاله النسفي في عود الضمير إلى الظلمة قريب. (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) قال ابن كثير : يعني : إذا يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق ، وقال النسفي : أي : يستر الشمس فتظلم الآفاق.

٤٤٨

أقول : فالليل إذن هو الذي يستر الشمس ويحجبها ، وليست هي التي تحتجب ، وذلك مرتبط بموضوع دوران الأرض ؛ فالآية تكمل المعنى السابق ؛ ففيها معجزة كونية مع الإعجاز (وَالسَّماءِ وَما بَناها) قال ابن كثير : يحتمل أن تكون (ما) ههنا مصدرية بمعنى : والسماء وبنائها. وهو قول قتادة ، ويحتمل أن تكون بمعنى (من) يعني : والسماء وبانيها وهو قول مجاهد (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) قال مجاهد : طحاها أي : دحاها. أقول : والدحو فيه معنى الكروية وعامة المفسرين فسر الطحو والدحو بالبسط فقط وهو غفلة عن مجموع ما تستعمل له هاتان الكلمتان في اللغة العربية ، فالأدحية والأدحوة مبيض النعام في الرمال ، ومبيض النعام في الرمال فيه معنى الكروية ، وتقدير الكلام : والأرض وطحوها أو والأرض وطاحيها وهو الله عزوجل. (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) قال ابن كثير : أي : سوية مستقيمة على الفطرة القويمة (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قال النسفي : أي : فأعلمها طاعتها ومعصيتها ، أفهمها أن أحدهما حسن والآخر قبيح ، وقال ابن كثير : أي : فأرشدها إلى فجورها وتقواها أي : بين ذلك لها وهداها إلى ما قدر لها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) هذا جواب القسم ، ومعنى : زكاها طهرها وأصلحها وجعلها زاكية ، ومعنى دساها نقصها وأخفاها بالفجور ، قال ابن كثير في قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) : يحتمل أن يكون المعنى : قد أفلح من زكى نفسه أي : بطاعة الله كما قال قتادة وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل ، ويروى نحوه عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن حبير. أقول : وهو المعنى الذي لا يحتمل غيره وقال ابن كثير في قوله تعالى (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) : أي : دسسها أي : أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي ، وترك طاعة الله عزوجل. أقول : إن ربط الفلاح بالتزكية ، والخسران بالتدسية قضية أخروية دنيوية فلا فلاح في دنيا وأخرى إلا بتزكية النفس ، ولا خسران في الدنيا والأخرى أفظع من تدسيتها ، واستعمال لفظ التزكية والتدسية يشير إلى أن التزكية تنمية للنفس ، بينما التدسية إخفاء لها وكبت فلا تنمو النفس البشرية إلا بالإسلام ، ومتى ترك الإنسان الإسلام فإنه يخسر نفسه ويخنقها في أطر من الحيوانية الرخيصة.

كلمة في السياق :

١ ـ علقت الفقرة السابقة الفلاح بتزكية النفس والخسران بتدسيتها ولكنها لم تفصل في كيفية التزكية والتدسية ، وبالربط بين السورة ومحورها نعرف طريقة التزكية

٤٤٩

والتدسية فمحور السورة يقول : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

فهذا هو طريق التزكية ، والتحقق بهذه المعاني هو التزكية ، ومحور السورة يقول : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

فهذا طريق التدسية : رفض الإنذار ، وعدم الاستفادة منه.

٢ ـ وكما عرفنا ماهية التزكية من خلال الربط بمحور السورة فإننا نعرفه مما قبلها ، ومما بعدها ، ففي سورة البلد ورد قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ* فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ* ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) فهكذا نجد الخير وهو نفسه التقوى ، وفيه زكاة النفس ، وسنرى في سورة الليل : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) مما يشير إلى أن سورة الليل تفصل في موضوع التزكية وهو شىء بديهي ، فما دامت سورة الشمس وسورة الليل تفصلان في محور واحد فلا بد أن يكون التكامل بين المعاني قائما.

٣ ـ مما ذكرنا تتضح صلة السورة بما قبلها وما بعدها من سور مجموعتها ، كما تتضح صلة السورة بمحورها من سورة البقرة.

لاحظ قوله تعالى في السورة : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) وصلته بالكلام عن المتقين والكافرين في أول سورة البقرة. ولاحظ قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) وصلته بالكلام الوارد عن الكافرين والمتقين هناك.

٤ ـ من قوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) نعلم أن التدسية فجور ، وأن التزكية تقوى ، وهناك صلة بين الفجور ورفض الإنذار ، وبين التزكية والاهتداء بكتاب الله والصلاة والزكاة والإيمان ، وهي المعاني التي تعرضت لها مقدمة سورة البقرة.

٥ ـ بعد أن قرر الله عزوجل أن الفلاح بتزكية النفس ، وأن الخسران بتدسيتها.

٤٥٠

تأتي الفقرة الثانية في السورة لترينا نموذجا على التدسية والفجور ، ونتائجهما من الخسران فهي نموذج على الخسران الذي يصيب أهل التدسية والفجور ، فلنر الفقرة الثانية.

الفقرة الثانية

وتمتد من الآية (١١) إلى نهاية السورة ، أي إلى نهاية الآية (١٥) وهذه هي :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

التفسير :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) قال النسفي : أي : بطغيانها إذ الحامل لهم على التكذيب طغيانهم. وقال ابن كثير : يخبر تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي. أقول : دلت الآية على أنه مما ينبثق عن الطغيان تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وعرفنا من السياق أن الطغيان فجور ، وتدسية للنفس ، وأن التكذيب للرسل فجور وتدسية للنفس (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) أي : أشقى القبيلة قام بأمر ذبح الناقة الذي يمثل ذروة الطغيان والتكذيب أي : التدسية والفجور فالتعبير بالانبعاث لهذا القصد اللعين فيه إشارة إلى التصميم الخبيث المنبثق عن طغيان شديدة بواعثه (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) أي : صالح عليه‌السلام (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) قال ابن كثير : أي : احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء (وَسُقْياها) أي : لا تعتدوا عليها في

٤٥١

سقياها فإن لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم(فَكَذَّبُوهُ) أي : فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا (فَعَقَرُوها) أي : فعقروا الناقة ، والعاقر واحد ولكن لرضاهم به اعتبروا جميعا عاقرين ، وكذلك الأمر في كل من يرضى عن معصية ؛ فإنه يكون شريكا فيها وإن لم يمارسها. قال ابن كثير في الآية : أي : كذبوه فيما جاءهم به فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة عليهم. (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي : فغضب عليهم فأهلكهم هلاك استئصال (بِذَنْبِهِمْ) أي : بسبب ذنبهم وهو تكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة (فَسَوَّاها). قال النسفي : أي : فسوى الدمدمة عليهم ، لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم ، وقال ابن كثير : أي : فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء (وَلا يَخافُ عُقْباها) قال النسفي : أي : ولا يخاف الله عاقبة هذه الفعلة أي : فعل ذلك غير خائف أن تلحقه تبعة من أحد ، كما يخاف من يعاقب من الملوك. وقال ابن كثير : قال ابن عباس : لا يخاف الله من أحد تبعة.

كلمة في السياق :

١ ـ رأينا في هذه الفقرة نموذجا على الفجور وعلى تدسية النفس وعلى خسران أصحاب ذلك ولذلك صلته بسياق السورة الخاص.

٢ ـ عرفنا من الفقرة أن التكذيب أثر الطغيان ، وأن التكذيب ينبثق عنه من الشرور والآثام والفظائع الكبير والكثير فعلة المشكلات طغيان النفس.

٣ ـ في مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

ومن الفقرة الأخيرة عرفنا أن الختم على القلوب هو عقوبة على فعل العبد ، فهؤلاء ثمود وهم نموذج على الكفر الخالص الذي لا ينفع معه إنذار. هؤلاء طغيانهم جرهم إلى التكذيب وتكذيبهم جرهم إلى الاعتداء على ناقة الله ومن ثم ندرك سببا من أسباب ختم الله عزوجل على قلوب الكافرين.

مما مر عرفنا سياق السورة الخاص ، وصلتها بمحورها وصلتها بما قبلها وما بعدها.

٤٥٢

الفوائد :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) قال ابن كثير : (وقال بقية بن الوليد عن صفوان حدثني يزيد بن حماد قال : إذا جاء الليل قال الرب جل جلاله : غشي عبادي خلقي العظيم ، فالليل يهاب والذي خلقه أحق أن يهاب. رواه ابن أبي حاتم).

٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قال ابن كثير : (أي : خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة كما قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» أخرجاه من رواية أبي هريرة وفي صحيح مسلم من رواية عياض بن حمار المجاشعي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله عزوجل : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم».

وبمناسبة قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) قال صاحب الظلال : (وهذه الآيات الأربع ، بالإضافة إلى آية سورة البلد السابقة : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) .. وآية سورة الإنسان : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً). تمثل قاعدة النظرية النفسية للإسلام .. وهي مرتبطة ومكملة للآيات التي تشير إلى ازدواج طبيعة الإنسان كقوله تعالى في سورة (ص) : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) .. كما أنها مرتبطة ومكملة للآيات التي تقرر التبعة الفردية : كقوله تعالى في سورة المدثر : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) .. والآيات التي تقرر أن فعل الله بإنسان له صلة بواقع هذا الإنسان ، كقوله تعالى في سورة الرعد : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بكل معالمها ..

إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة ، مزدوج الاستعداد ، مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه (من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه) مزود باستعدادات متساوية للخير والشر ، والهدى والضلال. فهو قادر

٤٥٣

على التمييز بين ما هو خير وما هو شر ، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء. وأن هذه القدرة كامنة في كيانه ، يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها). ويعبر عنها بالهداية تارة. (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) .. فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد .. والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك. ولكنها لا تخلقها خلقا. لأنها مخلوقة فطرة وكائنة طبعا ، وكامنة إلهاما.

وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان. هي التي تناط بها التبعة. فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها. وتغليبه على استعداد الشر .. فقد أفلح. ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) ..

وهنالك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه. توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء. فهي حرية تقابلها تبعة ، وقدرة يقابلها تكليف ، ومنحة يقابلها واجب.

ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي ، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف. فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة ، وتكشف له عن موجبات الإيمان. ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله ، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة .. وبذلك بتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه. وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان. وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام).

وبمناسبة قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) قال ابن كثير : (وروى الطبراني عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مر بهذه الآية (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) وقف ثم قال : «اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ، وخير من زكاها». وروى الإمام أحمد عن زيد بن أرقم : قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر ، اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ،

٤٥٤

أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، وعلم لا ينفع ، ودعوة لا يستجاب لها» قال زيد : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكموهن. رواه مسلم بسنده عن زيد بن أرقم).

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) قال ابن كثير : (أي : أشقى القبيلة وهو قدار بن سالف عاقر الناقة ، وهو أحيمر ثمود وهو الذي قال الله تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) الآية ، وكان هذا الرجل عزيزا فيهم شريفا في قومه نسيبا رئيسا مطاعا. كما روى الإمام أحمد عن عبد الله بن زمعة قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال : «إذ انبعث أشقاها ، انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة» ورواه البخاري في التفسير ، ومسلم في صفة النار ، والترمذي ، والنسائي في التفسير من سننيهما وكذا ابن جرير وابن أبي حاتم عن طوق عن هشام بن عروة به. وروى ابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «ألا أحدثك بأشقى الناس» قال : بلى قال : «رجلان : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذا ـ يعني قرنه ـ حتى تبتل منه هذه» يعني : لحيته).

ولننتقل إلى سورة الليل.

٤٥٥

سورة الليل

وهي السورة الثانية والتسعون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الرابعة من المجموعة الثانية عشرة من

قسم المفصل ، وهي إحدى عشرة آية

وهي مكية

٤٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٤٥٧

بين يدي سورة الليل :

قدم ابن كثير لسورة الليل بقوله : (تقدم قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ «فهلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى».

وقال الألوسي في تقديمه لهذه السورة :

(ولما ذكر سبحانه فيما قبلها (قَدْ أَفْلَحَ ..) الخ ، ذكر سبحانه فيها من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما يحصل به الخيبة ، ففيها نوع تفصيل لذلك ، لا سيما وقد عقب جل وعلا ذلك بشىء من أنواع الفلاح وأنواع الخيبة والعياذ بالله تعالى).

وقال صاحب الظلال : (في إطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء. ولما كانت هذه الحقيقة منوعة المظاهر : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى* فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) .. وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى* لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى* وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ..).

لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين ، وذات اتجاهين .. كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) .. (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) .. وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني).

كلمة في سورة الليل ومحورها :

تبدأ سورة الليل بقسم (وَاللَّيْلِ) وذلك كما رأينا علامة على أنها تفصل في مقدمة سورة البقرة أي : في شأن المتقين والكافرين في قضية التقوى والكفر ، ومن ثم نجد فيها قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) ونجد فيها : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) ونجد فيها : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى* لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) مما يشير إلى ما ذكرناه.

والسورة تتصل بمجموعتها بكثير من الروابط ، ففي سورة البلد : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) وفي سورة الشمس : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) ونجد في سورة الليل : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى* فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ

٤٥٨

لِلْيُسْرى ..) وفي سورة الشمس ورد قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) وفي سورة الليل نجد قوله تعالى (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) فسورة الليل تكمل المعاني الواردة في سورة مجموعتها وهو شىء عادي مادامت تفصل في نفس المحور.

تتألف السورة من فقرتين : الفقرة الأولى تستمر حتى نهاية الآية (١١) والفقرة الثانية تستمر حتى نهاية السورة أي : إلى نهاية الآية (٢١) ، ولنبدأ عرض السورة.

الفقرة الأولى

وتمتد من بداية السورة حتى نهاية الآية (١١) وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

التفسير :

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) قال ابن كثير : أي : إذا غشى الخليقة بظلامه ، أي : إذا غطاها وواراها بظلامه (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أي : ظهر بزوال ظلمة الليل. قال ابن كثير : أي : بضيائه وإشراقه (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) قال النسفي : أي : والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد ، قال ابن كثير : ولما كان القسم بهذه الأشياء المتضادة كان المقسم عليه أيضا متضادا ، ولهذا قال تعالى : (إِنَ

٤٥٩

سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هذا جواب القسم ، والمعنى : إن عملكم لمختلف. قال ابن كثير : أي : أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة أيضا ، ومتخالفة فمن فاعل خيرا ومن فاعل شرا. قال النسفي : وبيان الاختلاف فيما فصل على أثره (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) أي : حقوق ماله (وَاتَّقى) ربه فاجتنب محارمه ، وأدى ما افترض. قال ابن كثير : أي : أعطى ما أمر بإخراجه واتقى الله في أمره (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) قال النسفي : (أي : بالملة الحسنى. وهي ملة الإسلام ، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، أو بالكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله) (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) قال النسفي : (أي : فسنهيئه للملة اليسرى ، وهي العمل بما يرضاه ربه). قال ابن كثير : قال بعض السلف : من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها. ولهذا قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بماله (وَاسْتَغْنى) عن ربه فلم يتقه ، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) قال ابن كثير : أي : بالجزاء في الدار الآخرة. وقال النسفي : (أي : بالإسلام أو الجنة) (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى). قال النسفي : (أي : للخلة المؤدية إلى النار فتكون الطاعة أعز شىء عليه وأشد ، أو سمى طريقة الخير باليسرى ؛ لأن عاقبتها اليسر ، وطريقة الشر بالعسرى ، لأن عاقبتها العسر أو أراد بها طريقي الجنة والنار) (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي : وما ينفعه ماله إذا هلك أو تردى في القبر أو في جهنم أي : سقط.

كلمة في السياق :

١ ـ عرفنا من الفقرة أن العطاء والتقوى والتصديق بالجنة جزاؤه التيسير للخير والجنة ، وأن البخل والاستغناء عن الله عزوجل ، والتكذيب بالجنة ، جزاؤه التيسير في طريق الشر والنار ، وأن هذا أو هذا هو السبب الأصيل في اختلاف أعمال العباد ، وعلى هذا فبداية السير إلى الله عزوجل الإنفاق والتقوى والإيمان. ولذلك صلته بمحور السورة : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

كما نعلم أن بداية السير في طريق الكفر هو البخل والاستغناء عن الله عزوجل والتكذيب بالجنة ولذلك صلته بمحور السورة من سورة البقرة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى

٤٦٠