الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

أي : ههنا وههنا لمن أراد الجلوس عليها. فصار معنى الآية : وبسط عراض فاخرة مبسوطة ، أو مفرقة في المجالس.

كلمة في السياق :

١ ـ وهكذا بين الله عزوجل ، ما لعباده المتقين عنده يوم القيامة من نعمة ورضى وجنات ، وعيون وسرر وأكواب ووسائد وبسط في مقابل عملهم السليم الصحيح في الدنيا.

٢ ـ قلنا إن محور سورة الغاشية قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وقد رأينا في المجموعة الأولى جزاء العباد المنحرفين ، ورأينا في المجموعة الثانية جزاء العباد المتقين ، لاحظ صلة ذلك بارتباطات المحور : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ..).

٣ ـ بعد الفقرة السابقة تأتي المجموعة الأولى من الفقرة الثانية ، وفيها لفت نظر للإنسان إلى بعض مخلوقات الله عزوجل التي تستلزم المعرفة لله عزوجل ، وتستوجب العمل الصالح شكرا. فلنر الفقرة الثانية بمجموعتيها.

الفقرة الثانية

وتمتد من الآية (١٧) إلى نهاية الآية (٢٦) وهذه هي :

المجموعة الأولى

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠))

٤٠١

المجموعة الثانية

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

تفسير المجموعة الأولى :

(أَفَلا يَنْظُرُونَ) أرجع النسفي الضمير إلى الكافرين ، وأرجعه ابن كثير إلى الناس عامة (إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) قال ابن كثير : (فإنها خلق عجيب ، وتركيبها غريب فإنها في غاية القوة والشدة ، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل ، وتنقاد للقائد الضعيف ، وتؤكل وينتفع بوبرها ويشرب لبنها). (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) قال النسفي : رفعا بعيد المدى ثم نجومها تكثر هذه الكثرة فلا تدخل في حساب الخلق. (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) قال النسفي : نصبا ثابتا فهي راسخة .. وقال ابن كثير : أي : جعلت منصوبة فإنها ثابتة راسخة لئلا تميد الأرض بأهلها ، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) قال ابن كثير : (أي : كيف سطحت ومدت ومهدت).

كلمة في السياق :

١ ـ جاءت هذه الآيات بعد ذكر جزاء العاملين الكافرين ، والعاملين المؤمنين ، وقبل المجموعة الآمرة بالتذكير ، ومن السياق ، ندرك المراد من لفت النظر إلى هذه المخلوقات أنه البعث على التوحيد والتمهيد للتذكير. قال النسفي : (ويجوز أن يكون المعنى : أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق ، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول ، ويؤمنوا به ، ويستعدوا للقائه).

٢ ـ محور السورة هو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ

٤٠٢

مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نلاحظ أن المحور علل لوجوب العبادة ، وطالب بالتوحيد بناء على أن الله عزوجل هو خالق الإنسان والأرض والسماء ، ومنزل الماء ، وفي المجموعة التي مرت معنا لفت الله عزوجل النظر بخلق الإبل على ما هي عليه ، وبرفع السماء ، ونصب الجبال ، وبسط الأرض للتدليل على وحدانيته ، وللإنكار على من يشرك به غيره في عبادته ، وفي ذلك دعوة لعباده جميعا أن يعبدوه وحده ولذلك صلاته بمحور السورة.

تفسير المجموعة الثانية :

(فَذَكِّرْ) قال ابن كثير : أي : فذكر يا محمد الناس بما أرسلت إليهم (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) قال النسفي : أي : ليس عليك إلا التبليغ (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) قال ابن كثير : قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : أي : لست عليهم بجبار ، أي : لست تخلق الإيمان في قلوبهم ، وقال ابن زيد : لست بالذي تكرههم على الإيمان (إِلَّا) أي : لكن (مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ). قال ابن كثير : أي : تولى عن العمل بأركانه ، وكفر بالحق بجنانه ولسانه (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو عذاب جهنم ، والمعنى العام : لست بجبار عليهم ، ولكن الله عزوجل هو الذي له القهر فيعذب من تولى وكفر العذاب الأكبر ، وهناك اتجاه آخر تقديره : فذكر إلا من تولى وكفر ، فهذا سيعذبه الله عزوجل ، وليس عليك تذكيره (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي : رجوعهم ، وفائدة تقديم الجار والمجرور التشديد في الوعيد ، وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) قال ابن كثير : أي : نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

كلمة في السياق :

١ ـ بعد أن بين الله عزوجل عاقبة المشركين ، وعاقبة المؤمنين ، وأقام الحجة على الكافرين ، أمر الله عزوجل رسوله بالتذكير ، وبين له أن الله عزوجل سيتولى الحساب والعقاب.

٢ ـ في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) بيان لموقف بعض الناس من الأمر بالعبادة والتقوى إذ يتولون ويكفرون ، ولذلك صلته بمحور السورة.

٤٠٣

الفوائد :

١ ـ في تفسير قوله تعالى : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) ذكرنا قولا واحدا إلا أن للمفسرين اتجاهات أخرى. قال النسفي : (أي : تعمل في النار عملا تتعب فيه ، وهو جرها السلاسل والأغلال ، وخوضها في النار ، كما تخوض الإبل في الوحل وارتقاؤها دائبة في صعود من نار ، وهبوطها في حدور منها ، وقيل : عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت ، فهي في نصب منها في الآخرة ، وقيل : هم أصحاب الصوامع ومعناه : إنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب).

٢ ـ عند قوله تعالى : (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) قال ابن كثير : ونذكر ههنا هذا الحديث الذي رواه أبو بكر بن أبي داود عن كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا هل من مشمر للجنة فإن الجنة لا حصر لها ، هي ورب الكعبة نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة وحبرة ، ونعمة ، في محلة عالية بهية؟» قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال «قولوا إن شاء الله» قال القوم : إن شاء الله ، ورواه ابن ماجه).

٣ ـ عند قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) قال ابن كثير : وكان شريح القاضي يقول : اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت.

أقول : وفي هذا لفتة عظيمة من القاضي الكريم أن يعطي كل خطاب قرآني مدلوله العملي كان شيخنا محمد الحامد رحمه‌الله يتأمل الفاكهة ويقول : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) وبمناسبة هذه الآيات قال ابن كثير : (وهكذا أقسم ضمام في سؤاله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه الإمام أحمد حيث روى عن أنس قال : كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شىء ، فكان يعجبنا أن يجىء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ، فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد إنه أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ، قال : «صدق» قال : فمن خلق السماء؟ قال : «الله» قال : من خلق الأرض؟ قال : «الله» قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال : «الله»

٤٠٤

قال : فبالذي خلق السماء والأرض ، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال : «نعم» قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال : «صدق» قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال : «نعم» قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا ، قال : «صدق» قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال : «نعم» قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال : «صدق» قال : ثم ولى فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهم شيئا ولا أنقص منهن شيئا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن صدق ليدخلن الجنة» وقد رواه مسلم).

وبمناسبة هذه الآيات قال النسفي : (وتخصيص هذه الأربعة باعتبار أن هذا خطاب للعرب ، وحث لهم على الاستدلال ، والمرء إنما يستدل بما تكثر مشاهدته له ، والعرب تكون في البوادي ، ونظرهم فيها إلى السماء والأرض والجبال والإبل ، فهي أعز أموالهم ، وهم لها أكثر استعمالا منهم لسائر الحيوانات ، ولأنها تجمع جميع المآرب المطلوبة من الحيوان : وهي النسل ، والدر ، والحمل ، والركوب ، والأكل بخلاف غيرها ، ولأن خلقها أعجب من غيرها فإنه سخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعارض ضعيفا ولا تمانع صغيرا ، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار ، وجعلها بحيث تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ، ثم تنهض بما حملت وتجرها إلى البلاد الشاحطة ، وصبرها على احتمال العطش حتى إن ظمأها ليرتفع إلى العشر فصاعدا ، وجعلها ترعى كل نابت في البراري مما لا يرعاه سائر البهائم).

قال صاحب الظلال : (وتجمع هذه الآيات الأربعة القصار ، أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أول مرة. كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله. حين تتضمن السماء والأرض والجبال والجمال (ممثلة لسائر الحيوان) على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامة وفي قيمتها للعربي بصفة خاصة.

إن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان .. السماء والأرض والجبال والحيوان .. وأيا كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه. موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها.

إن المشهد الكلي يضم مشهد السماء المرفوعة والأرض المبسوطة. وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال «منصوبة» السنان لا راسية ولا ملقاة ، وتبرز الجمال منصوبة السنام .. خطان أفقيان وخطان رأسيان في المشهد الهائل في المساحة الشاسعة. ولكنها

٤٠٥

لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات! على طريقة القرآن في عرض المشاهد ، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال).

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزوجل» ثم قرأ : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) وهكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان ، والترمذي ، والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما من حديث سفيان بن سعيد الثوري به بهذه الزيادة. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من رواية أبي هريرة بدون ذكر هذه الآية).

وبمناسبة هذه الآية قال صاحب الظلال : ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) .. فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئا. حتى تقهرها وتقسرها على الإيمان. فالقلوب بين أصابع الرحمن ، لا يقدر عليها إنسان.

فأما الجهاد الذي كتب بعد ذلك فلم يكن لحمل الناس على الإيمان. إنما كان لإزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس. فلا يمنعوا من سماعها. ولا يفتنوا عن دينهم إذا سمعوها. كان لإزالة العقبات من طريق التذكير. الدور الوحيد الذي يملكه الرسول.

وهذا الإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شىء إلا التذكير والبلاغ يتكرر في القرآن لأسباب شتى. في أولها إعفاء أعصاب الرسول من حمل هم الدعوة بعد البلاغ ، وتركها لقدر الله يفعل بها ما يشاء. فإلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناس لهذا الخير ، إلحاح عنيف جدا يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسه ولرغائبه هذه من مجال الدعوة ، كي ينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة ، وكائنة ما كانت العاقبة. فلا يعني نفسه بهم من آمن وهم من كفر. ولا يشغل باله بهذا الهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة ، وتقل الاستجابة ، ويكثر المعرضون والمخاصمون).

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ* فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن علي بن خالد أن أبا أمامة الباهلي مر على خالد بن

٤٠٦

يزيد بن معاوية فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله» تفرد بإخراجه الإمام أحمد).

٦ ـ ونختتم هذه الفوائد بالتذكير بأن قوله تعالى : (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) لا ينفي كروية الأرض إذ إن كروية الأرض مقررة في أكثر من مكان في كتاب الله فتسطيح الأرض لا ينفي كرويتها فهي ممدودة مبسوطة ، وهي فراش للإنسان وهي كروية مع هذا كله.

كلمة أخيرة في سورة الغاشية ومجموعتها الحادية عشرة :

سورة الغاشية حذرت من العبادة الخاطئة مع الكفر ، وهيجت على العبادة الصالحة مع الإيمان ، ولفتت النظر إلى ما يستوجب الإيمان ، وأمرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتذكير مع الاعتقاد بأن الله عزوجل سيتولى تعذيب الكافرين ، وتأتي سورة الغاشية بعد سورة الأعلى التي أمرت بنوع من العبادة المؤدية إلى تزكية النفس ، وجاءت سورة الأعلى بعد سورتين تحدثتا عن قضية الإيمان والعمل الصالح ، وما يستتبع ذلك من مواقف إيمانية أو مواقف كافرة ، ومن هذا العرض السريع ندرك تكامل المجموعة مع بعضها ..

فسورة البروج بينت أن الإيمان والعمل الصالح يرافقهما ابتلاء يصل إلى حد القتل والتحريق ، وسورة الطارق بينت جدية الكلمة القرآنية ، وجاءت سورة الأعلى تأمر بالتسبيح ، والتذكير وتزكية النفس ، وكلها معان تساعد على تحمل المحنة وتحمل ثقل الوحي ، وجاءت سورة الغاشية لتبين أن العمل غير المقيد بقيود الوحي وغير المنبثق عن الإيمان الصحيح لا ينجي صاحبه ، فلا بد من إيمان صحيح وعمل صحيح للنجاة ، وهذا كله يرينا تكامل المجموعة مع بعضها ، كما يرينا كيف أن المجموعة تضيف صرحا جديدا في بناء التصورات الإسلامية الصحيحة ، وفي بناء التقوى ، وفي التحرير من الكفر وأخلاقه.

والملاحظ أن سورتي الأعلى والغاشية كلاهما تذكر في الطريق ، وكل منهما أمرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتذكير الذي فيه دلالة على الطريق (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) فكونك تذكر بالطريق فكأنك أخذت باليد إلى الإسلام كله ، وذلك من مظاهر التكامل في المجموعة. فلو أنك تأملت الأمر بالتذكير في كل من

٤٠٧

السورتين الأخيرتين لرأيت أن كلا من الأمرين يكمل الآخر.

هذا وقد رأينا أن في كل سورة جديدا ، وأن ما بين كل سورة وما قبلها وما بعدها صلات ، وأن لكل سورة سياقها الخاص ، وأن لكل سورة صلة بمحورها ضمن السياق القرآني العام.

ولننتقل إلى المجموعة الثانية عشرة.

٤٠٨
٤٠٩

المجموعة الثانية عشرة

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سور :

الفجر ، والبلد ، والشمس ،

والليل ، والضحى ،

والشرح

٤١٠

كلمة في المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل

تتألف المجموعة الثانية عشرة من ست سور خمس منها مبدوءة بقسم ، والأخيرة مبدوءة بقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ) ويأتي بعدها سورة مبدوءة بقسم ، وهذا الذي دلنا على البداية والنهاية.

تتصل بداية السورة الأولى من المجموعة الثانية عشرة بنهاية السورة التي قبلها بصلة واضحة ، فنهاية سورة الغاشية : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ* إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ* إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ..). وبداية سورة الفجر : (وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ* هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ* أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) لاحظ انتهاء سورة الغاشية بخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابتداء سورة الفجر بخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولاحظ قوله تعالى في سورة الغاشية : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ* إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وقوله تعالى في سورة الفجر : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).

مرت معنا من قبل مجموعة الذاريات ، وقد رأينا أن فيها ثلاث سور متواليات كلها مبدوءة بقسم ، وهذه المجموعة التي بين أيدينا مجموعة الفجر فيها خمس سور متواليات كلها مبدوءة بقسم ، وهذا يجعلنا نستأنس بأن محور السور الخمس هو مقدمة سورة البقرة ، كما كانت المقدمة هي محور السور الثلاث من مجموعة الذاريات ومحور كل سورة مبدوءة بقسم ..

وإذا كانت السور الخمس المبدوءة بقسم تفصل في مقدمة سورة البقرة فإن سورة (أَلَمْ نَشْرَحْ) تفصل فيما بعد المقدمة مباشرة أي : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ..) ومن ثم نجد فيها (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ* وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ).

فالسور الخمس حددت معالم في الخير وسورة (أَلَمْ نَشْرَحْ) ذكرت الطريق للتحقق فيها. ولنبدأ عرض المجموعة ..

٤١١

سورة الفجر

وهي السورة التاسعة والثمانون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الأولى من المجموعة الثانية عشرة من

قسم المفصل ، وهي ثلاثون آية

وهي مكية

٤١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٤١٣

بين يدي سورة الفجر :

قال ابن كثير عن سورة الفجر : هي مكية ثم قال : (روى النسائي عن جابر قال :

صلى معاذ صلاة ، فجاء رجل فصلى معه فطول ، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف ، فبلغ ذلك معاذا فقال : منافق ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأل الفتى ، فقال : يا رسول الله جئت أصلي معه فطول علي فانصرفت وصليت في ناحية المسجد ، فعلفت ناقتي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفتان يا معاذ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى ـ والشمس وضحاها ـ والفجر ـ والليل إذا يغشى»).

وقال الألوسي في تقديمه لسورة الفجر : (ولما ذكر سبحانه فيما قبلها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أتبعه تعالى بذكره لطوائف المكذبين من المتجبرين الذين وجوههم خاشعة ، وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله سبحانه فيها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) وأيضا فيها مما يتعلق بأمر الغاشية ما فيها ، وقال الجلال السيوطي : لم يظهر لي في وجه ارتباطها سوى أن أولها كالأقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها ، أو على ما تضمنته من الوعد والوعيد ، هذا مع أن جملة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) مشابهة لجملة (أَفَلا يَنْظُرُونَ) وهما كما ترى).

وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة : (هذه السورة في عمومها حلقة في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر .. ولكنها تتضمن ألوانا شتى من الجولات والإيقاعات والظلال ، ألوانا متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحنا واحدا متعدد النغمات موحد الإيقاع!

في بعض مشاهدها جمال هادىء رفيق ندي النسمات والإيقاعات ، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة ، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد .. (وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ...).

وفي بعض مشاهدها شد وقصف. سواء مناظرها أو موسيقاها كهذا المشهد العنيف المخيف : (كَلَّا. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ* يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى * يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي* فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ* وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ).

وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى وطمأنينة. تتناسق فيها المناظر والأنغام ، كهذا الختام : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي

٤١٤

عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).

وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين ، وإيقاعها بين بين. بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).

وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية ، وقيمه غير الإيمانية. وهي ذات لون خاص في السورة تعبيرا وإيقاعا : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ : رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ : رَبِّي أَهانَنِ ..).

ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات. وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم : (كَلَّا. بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ* وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا* وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) ..

ويلاحظ أن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم. فقد جاء بعده : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ..) الخ .. فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير!

ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة. وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها .. كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي. بحسب تنوع المعاني والمشاهد. فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني. فوق ما فيها عموما من جمال ملحوظ مأنوس!).

كلمة في سورة الفجر ومحورها :

تعظ السورة في ابتدائها وتنذر ، ثم تتحدث عن بعض طبائع الإنسان ، منكرة على هذه الطبائع ، ثم تذكر الإنسان بيوم القيامة ، وتذكر النوعية المرشحة للإكرام في هذا اليوم. والسورة تحذر من بأس الله وعذابه ، وتحذر من الفهم الخاطىء لأفعال الله عزوجل ، وتنكر على عدم إكرام اليتيم ، وعلى عدم الحض على طعام المسكين ، وتنكر على أكل المال إلا حلالا خالصا ، وتنكر على الحب الكثير للمال ، وتذكر بوجوب التقديم

٤١٥

لليوم الآخر ، وتتحدث عن النفس المطمئنة ، فالسورة ضمن سياقها الخاص. تربي على التقوى ، وتحرر مما ينافيها ، ومن ههنا تأتي صلتها بمقدمة سورة البقرة التي تتحدث عن المتقين ، وعن الكافرين ، وعن المنافقين ، إذ السورة تفصل في أخلاق كافرة لتدعو ـ من خلال ذلك ـ إلى أخلاق المتقين ، وكل ذلك ضمن وحدتها الخاصة بها.

تتألف السورة من ثلاث فقرات.

الفقرة الأولى تنتهي بنهاية الآية (١٤).

الفقرة الثانية تنتهي بنهاية الآية (٢٠).

الفقرة الثالثة تنتهي بنهاية الآية (٣٠).

٤١٦

الفقرة الأولى

وتبدأ من الآية (١) وتنتهي بنهاية الآية (١٤) وهذه هي :

المجموعة الأولى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥))

المجموعة الثانية

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى :

(وَالْفَجْرِ) الفجر هو الصبح ، وهل المراد بالقسم وقت الفجر ، أو صلاته ، أو فجر يوم النحر خاصة من بين الأيام؟ أو المراد به جميع النهار ؛ لأنه جزء منه؟ أقوال للعلماء أقواها الأول (وَلَيالٍ عَشْرٍ) قال ابن كثير : والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال النسفي : شفع كل الأشياء ووترها ، أو شفع هذه الليالي ووترها ، أو شفع الصلاة ووترها ، أو يوم النحر لأنه اليوم العاشر ويوم عرفة لأنه اليوم التاسع ، أو الخلق والخالق. (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي : يجري أي : يمضي. أقول : في إسناد السرى إلى الليل إشارة إلى دوران الأرض(هَلْ فِي ذلِكَ) أي :

٤١٧

المقسم به في الأشياء المذكورة سابقا (قَسَمٌ) أي : مقسم به (لِذِي حِجْرٍ) أي : لذي عقل. قال ابن كثير : وإنما سمي العقل حجرا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي مالا يليق به من الأفعال والأقوال .. ، وهذا القسم هو بأوقات العبادة ، أو بنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها إليه عباده المتقون المطيعون له ، الخائفون منه ، المتواضعون لديه الخاشعون لوجهه الكريم. وقال النسفي في قوله تعالى : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (أي : هل تحقق عنده أن تعظيم هذه الأشياء بالإقسام بها ، أو هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر ، أي : هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه ، أو هل في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لذي عقل ولب ، والمقسم عليه محذوف وهو قوله : ليعذبن ، يدل عليه قوله : (أَلَمْ تَرَ) إلى قوله:(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ)).

كلمة في السياق :

١ ـ رأينا في هذه الآيات أقساما وتعظيما لهذه الأقسام ، ولا نرى جوابا ، ورأينا أن النسفي قدر الجواب أخذا من الآيات التالية ففهم أن الجواب (لتعذبن) ورأينا من كلام ابن كثير أنه لا يقدر جوابا ، وإنما يعتبر أن مجرد عرض الأقسام ، وتعظيم ما يكون فيها ، هو المراد ، ومن ثم فإن ذكر هذه الأقسام ، وتعظيم مضمونها ، هو الذي يريد أن يؤديه السياق لنا ، والذي أراه أن جواب القسم يفهم من الآيات التالية من قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) والذي يدلنا على ذلك أن الفقرة الثانية تبدأ بقوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ ..) مما يشير إلى أن السياق في الفقرة الأولى كان يصب في التعريف على الله عزوجل ، وجلاله وعلى هذا يمكن أن نقدر الجواب : إن ربك لمحاسب ومعاقب.

٢ ـ في ذكر مواسم العبادة ، وبعض أوقاتها ، وفي جواب القسم المقدر ، ذكر لبعض جوانب الغيب الذي يجب الإيمان به ، ولذلك صلته بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة. (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) وهذا أول مظهر من مظاهر صلة السورة بمقدمة سورة البقرة ، فلنر المجموعة الثانية في الفقرة الأولى.

٤١٨

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى :

(أَلَمْ تَرَ) قال النسفي : أي : ألم تعلم يا محمد علما يوازي العيان في الإيقان؟ وهو استفهام تقرير (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) أي : قوم هود عليه‌السلام ثم فسرها بقوله تعالى : (إِرَمَ) قال النسفي : تسمية لهم باسم جدهم (ذاتِ الْعِمادِ) أي : قبيلة إرم ذات العماد فالمعنى أنهم كانوا بدوا أهل عمد ، قال ابن كثير تعليلا لوصفهم هذا : لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد ، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) قال ابن كثير : أي : القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم. أقول : هذا ما ذهب إليه ابن كثير واختاره ابن جرير. وهو قول قتادة في تفسير هذه الآية. (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا) أي : قطعوا أو خرقوا أو نحتوا أو حفروا (الصَّخْرَ بِالْوادِ) قال النسفي : أي : بوادي القرى أي : قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا. أقول : وآثارهم لا زالت موجودة معروفة في منطقة العلا الحالية من الجزيرة العربية شمالي المدينة المنورة (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) قال النسفي : أي : ذي الجنود الكثيرة ، قال ابن كثير : قال العوفي عن ابن عباس : الأوتاد : الجنود الذين يشدون له أمره ، أقول : وذهب مجاهد إلى أنه وصف كذلك ؛ لأنه كان يوتد الأناس بالأوتاد تعذيبا لهم. أقول : اللفظ يحتمل الإشارة إلى تمكنه أو الإشارة إلى ظلمه ، وعلى الأول يجري كلام ابن عباس ، وإلى الثاني ذهب مجاهد. (الَّذِينَ) أي : عاد وثمود وفرعون (طَغَوْا) أي : تجاوزوا الحد (فِي الْبِلادِ) التي كانت تحت سلطان كل منهم (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) أي : بالكفر والقتل والظلم ، قال ابن كثير : أي : تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) قال النسفي : (هذا مجاز إيقاع العذاب بهم على أبلغ الوجوه إذ الصب يشعر بالدوام والسوط بزيادة الإيلام ، أي : عذبوا عذابا مؤلما دائما) وقال ابن كثير : أي : أنزل عليهم رجزا من السماء ، وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) قال النسفي : (المرصاد هو المكان الذي يترقب فيه الرصد مفعال من رصده ، وهذا مثل لإرصاده العباد وأنهم لا يفوتونه ، وأنه عالم بما يصدر منهم وحافظه ، فيجازيهم عليه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر). وقال ابن كثير : (قال ابن عباس يسمع ويرى يعني : يرصد خلقه فيما يعملون ، ويجازي كلا بسعيه في الدنيا والأخرى وسيعرض الخلائق

٤١٩

كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله ، ويقابل كلا بما يستحقه وهو المنزه عن الظلم والجور).

كلمة في السياق :

١ ـ واضح أن الفقرة بمجموعتيها تريد أن تعرفنا على الله عزوجل وعلى جلاله من خلال الأقسام ، ومن خلال فعله في الأمم المكذبة ، والدليل على ذلك ما جاء بعد الأقسام وما جاء في بداية المجموعة الثانية (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ). وفي التعريف على جلال الله عزوجل من خلال الأقسام وتعظيمها ، ومن خلال فعله تعالى بالطاغين دعوة إلى الخوف منه وإلى خشيته ، ودعوة إلى تعظيم ما به أقسم بالقيام بحقه ، ودعوة إلى ترك الطغيان والفساد ، وذلك كله دعوة ضمنية إلى التقوى وصلة ذلك بقوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ...) في مقدمة سورة البقرة واضحة ، فلا خلاص من الطغيان والفساد إلا بالتقوى التي من أركانها الالتزام بكتاب الله عزوجل ، والاهتداء بهديه ، وذلك لا يكون بلا إيمان وصلاة وإنفاق.

٢ ـ بعد أن عرفنا الله عزوجل على جلاله في الفقرة الأولى ، وعرفنا على فعله بالطاغين المفسدين ، يعرفنا الله عزوجل على الطبيعة البشرية التي لم تهذبها خشية ولا مغفرة ولا تقوى ، وفي ذلك دعوة لتطهير النفس البشرية من هذه المعاني ، ودعوة لها للتحقق بما يقابل ذلك فلنر الفقرة الثانية.

الفقرة الثانية

وتمتد من الآية (١٥) إلى نهاية الآية (٢٠) وهذه هي :

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا

٤٢٠