الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٣٤١

بين يدي سورة الانشقاق :

قدم الألوسي لسورة الانشقاق بقوله : (ويقال : سورة انشقت. وهي مكية بلا خلاف. وآيها ثلاث وعشرون آية في البصري والشامي ، وخمس وعشرون في غيرهما. ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل ، وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال : إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين ، وفي المطففين مقر كتبهم ، وفي هذه عرضها في القيامة).

كلمة في سورة الانشقاق ومحورها :

سورة الانشقاق نهاية المجموعة العاشرة ، بدليل ما ذكرناه من قبل من كونها مبدوءة ب (إِذَا) وتتحدث في بدايتها عن اليوم الآخر ، وتأتي بعدها سورة البروج المبدوءة بقسم ، وتلك علامة بداية مجموعة جديدة.

وتأتي سورة الانشقاق لتفصل فيما بعد مقدمة سورة البقرة ، أي : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وما بعدها حتى نهاية قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ..) وسنرى كيف أنها تفصل في هذا المحور أثناء عرض السورة.

تنقسم السورة إلى مقطعين واضحين : المقطع الأول ينتهي بالآية (١٥) والمقطع الثاني ينتهي بنهاية السورة. والمقطع الأول يتألف من فقرتين كما سنرى ، وفي السورة كالعادة معان جديدة لم تتعرض لها سورة أخرى ، فالسورة لها سياقها الخاص ، وصلتها بمحورها ومعانيها الخاصة بها.

والملاحظ أن سورة المطففين تتكلم في نهايتها عن استهزاء المجرمين بالمؤمنين ، وعاقبة المجرمين والمؤمنين. وأن سورة الانشقاق في مقطعها الأول تتحدث عمن يأخذ كتابه بيمينه ، وعمن يأخذ كتابه بشماله ، فالصلة واضحة بين نهاية سورة المطففين ، وبداية سورة الانشقاق. ولنبدأ عرض السورة.

٣٤٢

المقطع الأول

ويمتد من الآية (١) إلى نهاية الآية (١٥) وهذا هو :

الفقرة الأولى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥))

الفقرة الثانية

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

تفسير الفقرة الأولى :

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وذلك يوم القيامة قال الألوسي : (وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله وجهه أنها تنشق من جهة المجرة) قال النسفي : أي : تصدعت وتشققت (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) قال ابن كثير : أي : استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق ، وقال النسفي : (أي : سمعت وأطاعت وأجابت ربها إلى الانشقاق ، ولم تأب ولم تمتنع (وَحُقَّتْ) أي : وحق لها أن تسمع وتطيع لأمر الله إذ هي مصنوعة مربوبة لله عزوجل ، وقال ابن كثير : أي وحق لها أن تطيع أمره ، لأنه

٣٤٣

العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب ، بل قد قهر كل شىء وذل له كل شىء (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) قال النسفي : أي : بسطت وسويت باندكاك جبالها وكل أمت فيها. أقول : وهل تبقى على كرويتها أم لا؟ فإذا كانت تبقى على كرويتها يكون المراد بأنها تصبح كلها على سوية واحدة لا ارتفاع فيها ولا انخفاض ، وإذا كانت لا تبقى على كرويتها فالمراد ـ والله أعلم ـ جعلها كلها كأنها بساط واحد فتسع في ذلك ما لا تسع وهي كروية (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) أي : ورمت ما في جوفها وخلت غاية الخلو. قال ابن كثير : أي : ألقت ما في بطنها من الأموات وتخلت منهم (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي : سمعت له وأطاعت (وَحُقَّتْ) أي : حق لها أن تسمع وتطيع. فإذا كان ذلك فماذا يكون؟ لم تذكر الفقرة الجواب. قال النسفي في تعليل ذلك : وحذف جواب إذا ؛ ليذهب المقدر كل مذهب أو اكتفاء بما علم بمثلها من سورتي التكوير والانفطار ، أو جوابه ، وما دل عليه (فَمُلاقِيهِ) الآتي بعد ذلك ، أي : إذا انشقت لاقى الإنسان كدحه. أقول : يحتمل أن يكون جواب إذا : فماذا أنت مقدم أيها الإنسان لذلك اليوم ، أو فكيف يكون حالك أيها الإنسان ذلك اليوم فاعمل إذن لذلك ، وقدم العبادة والتقوى.

كلمة في السياق :

١ ـ تحدثت الفقرة عن يوم القيامة ، وبعض ما يكون فيه ، وذكرت طاعة السماء والأرض لله ، وفي ذلك تهييج للإنسان على أن يطيع الله عزوجل ، وصلة ذلك بمحور السورة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) واضحة.

٢ ـ بعد الآية التي نقلناها من محور السورة في سورة البقرة يأتي قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً ..) والملاحظ أن الفقرة التي مرت معنا من سورة الانشقاق تتحدث عما يحدث للأرض والسماء ذلك اليوم.

٣ ـ تحدثت الفقرة الأولى عما يكون يوم القيامة ، فكان ذلك مقدمة واعظة توصل إلى الفقرة الثانية التي تخاطب الإنسان خطابا مباشرا ، واعظة له وداعية له أن يكون من أهل اليمين ، وألا يكون من أهل الشمال فلنر الفقرة الثانية.

٣٤٤

تفسير الفقرة الثانية من المقطع الأول :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) الخطاب عام لكل إنسان (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) قال ابن كثير : أي : إنك ساع إلى ربك سعيا ، وعامل عملا ، وقال النسفي : أي : (إنك جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت وما بعده من الحال المتمثلة باللقاء (فَمُلاقِيهِ) أي : فملاق عملك وكدحك. أو فملاق ربك فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قال النسفي : أي : سهلا هينا وهو أن يجازى على الحسنات ويتجاوز عن السيئات (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي : فرحا ، قال النسفي : أي : وينقلب إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين ، أو إلى فريق المؤمنين أو إلى أهله في الجنة من الحور العين مسرورا (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) قال ابن كثير : أي : بشماله من وراء ظهره تثنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك ، وقال النسفي : قيل : تغل يمناه إلى عنقه ، وتجعل شماله وراء ظهره ، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أي : خسارا وهلاكا ، أي : يقول يا ثبوراه أي : يا هلاكاه ، ولا يأتيه الهلاك (وَيَصْلى سَعِيراً) أي : ويدخل جهنم (إِنَّهُ كانَ) في الدنيا (فِي أَهْلِهِ) أي : معهم (مَسْرُوراً) قال النسفي : أي : بالكفر يضحك ممن آمن بالبعث. قيل : أي : في تفسيرها : كان لنفسه متابعا ، وفي مراتع هواه راتعا ، وقال ابن كثير : أي : مزحا لا يفكر في العواقب ، ولا يخاف مما أمامه ، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي : يرجع إلى ربه تكذيبا بالبعث. أقول : وهذا سر سروره في أهله ، سرورا جعله لا يبالي بقيد ولا عمل. (بَلى) أي : ليرجعن (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) فسيجازيه على كل عمل وتصرف واعتقاد. قال ابن كثير. يعني : بلى سيعيده كما بدأه ، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها بأنه كان له بصيرا أي : عليما خبيرا.

كلمة في السياق :

١ ـ بعد أن ذكر الله عزوجل في الفقرة الأولى ما يكون من أمر السماء والأرض يوم القيامة ، خاطب الإنسان في الفقرة الثانية مبينا أنه كادح للوصول إلى ذلك اليوم ، ويومذاك إما أن يكون من أصحاب اليمين ، وإما أن يكون من أصحاب الشمال ، وفي ذلك دعوة للإنسان كي يكدح من أجل أن يكون من أصحاب اليمين ، وذلك لا يكون إلا بالعبادة والتقوى ، وهذا مظهر من مظاهر صلة الفقرة بمحور السورة.

٣٤٥

٢ ـ رأينا أن محور السورة يبدأ بقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ورأينا أن الفقرة الثانية. تبدأ بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) والصلة واضحة بين الخطابين ، ومن هذه الصلة ندرك معنى جديدا ومضمونه : إنك أيها الإنسان كادح في كل حال للوصول إلى الله عزوجل ، فليكن كدحك في عبادة مولاك وتقواه لتنال مرضاته ، ولو كان هذا على حساب سرورك الدنيوي في أهلك من أجل أن تنال السرور الأبدي مع أهلك في الآخرة ، ولا يكن كدحك فيما يخالف العبادة والتقوى ، فإنه وإن أدى هذا إلى سرورك في أهلك في الدنيا فإن عاقبة ذلك الحزن الطويل في الآخرة ، ومن ثم قال قتادة في الآية : إن كدحك يا ابن آدام لضعيف ، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل.

٣ ـ رأينا صلة المقطع الأول ببعضه بعضا ، ورأينا صلة المقطع بمحور السورة ، ثم يأتي المقطع الثاني وهو يخاطب الناس جميعا ، وفي ذلك مظهر من مظاهر اتصال السورة بالمحور المبدوء بقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ ...) وسنرى الصلة الوثيقة بين المقطعين الأول والثاني ، فبعد أن بين الله عزوجل ماذا ينتظر الإنسان ، خاطب الناس مؤكدا لهم أنهم واصلون إلى ما ذكره ، وأنبهم على عدم سلوك الطريق فلننتقل إلى المقطع الثاني والأخير من السورة.

المقطع الثاني

ويمتد من الآية (١٦) إلى نهاية الآية (٢٥) وهذا هو :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

٣٤٦

التفسير :

(فَلا أُقْسِمُ) أي : فأقسم (بِالشَّفَقِ) الشفق : الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة ، قال عكرمة : الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي : جمع وضم (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال النسفي : أي : اجتمع وتم بدرا (لَتَرْكَبُنَ) قال النسفي : أيها الناس (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال النسفي : أي حالا بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول. أقول : وقد قال بعض الملاحدة في هذه الآية : إنها تدل على ثناسخ في الأرواح ، وهو فهم عجيب مبتور لا يصدر عمن له أدنى بصر ، أو إدراك أو تأمل في هذا القرآن ، ولنا عودة على هذه الآية ، وعلى ما قالوه في الفوائد. (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والأمر كذلك. قال ابن كثير : أي : فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) قال النسفي : أي : لا يخضعون. قال ابن كثير : وما لهم إذا قرئت عليهم آيات الله وكلامه ـ وهو هذا القرآن ـ لا يسجدون إعظاما وإكراما واحتراما. أقول : وههنا سجدة كما سنرى في الفوائد. والمعنى العام : إذا كان الأمر كذلك من كون الإنسان سيركب طبقا بعد طبق أي : حالا بعد حال ؛ حتى يصل إلى الكبير المتعال ، فمال هؤلاء الكافرين لا يؤمنون ، وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون؟ أي إن الأمر مادام كذلك فإن هذا يقتضي منهم إيمانا وخضوعا للقرآن ، ولكنهم بدلا من أن يفعلوا ذلك يكذبون (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) قال النسفي : أي : بالبعث والقرآن ، وقال ابن كثير : أي : من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) فلا يخفى على الله أمرهم ، ومعنى الآية : والله أعلم بما يكتمون في صدورهم ، قال تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قال ابن كثير : أي : فأخبرهم يا محمد بأن الله عزوجل قد أعد لهم عذابا أليما (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : لكن الذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بجوارحهم (لَهُمْ أَجْرٌ) في الآخرة. (غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال النسفي : أي : غير مقطوع ، أو غير منقوص ، وقد ختم صاحب الظلال الكلام عن هذه السورة بقوله : (وكل هذه الجولات والمشاهد والإيحاءات واللمسات في سورة قصيرة لا تتجاوز عدة أسطر. وهو ما لا يعهد إلا في الكتاب العجيب! فإن هذه الأغراض يتعذر الوفاء بها في الحيز الكبير ولا تؤدى بهذه القوة ، وبهذا التأثير .. ولكنه القرآن ميسر للذكر ؛ يخاطب القلوب

٣٤٧

مباشرة من منافذها القريبة .. تنزيل العليم الخبير).

كلمة في السياق :

١ ـ وضح أثناء عرض الآيات صلة آيات المقطع الثاني بالمقطع الأول ، وكما هيج المقطع الأول على الكدح في طريق الخير للوصول إلى رضوان الله عزوجل ، فإن المقطع الثاني هيج على الإيمان والسجود لقراءة القرآن ، والإيمان والعمل الصالح ، وصلة ذلك بالعبادة والتقوى من محور السورة واضحة.

٢ ـ في محور السورة من سورة البقرة يأتي قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ). والمقطع الثاني من السورة بين أن الإنسان سينتقل من حال إلى حال ، وهذا يقتضي منه إيمانا وخضوعا لهذا القرآن ، ولكن الكافرين لا يفعلون ، ولذلك أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبشرهم بالعذاب ، ثم بشر الله المؤمنين الذين يعملون الصالحات بمالهم عنده من الثواب المستمر ، ولو تأملت لوجدت صلة بين هذه المعاني والآيات الثلاث المذكورة من المحور وهكذا ذكرت السورة بما يفصل في معاني المحور من سورة البقرة. ولكن بأسلوب جديد ، وأداء جديد ، وزيادات تتفرد بها السورة عن كل سورة ، فالسورة الوحيدة في القرآن التي يذكر فيها أن أخذ أصحاب الشمال صحائفهم يكون من وراء ظهورهم هي هذه السورة ، وفيها معان أخرى أبرزت فيها إبرازا جديدا ، وهكذا نجد سياق السورة الخاص سائرا في إطار السياق العام للقرآن ، مع تأدية السورة لمعان جديدة ، وهكذا دأب سور القرآن كلها فما أكثر ما في هذا القرآن من إعجاز ودلالات ، تدل على أنه من عند الله (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ).

الفوائد :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) قال ابن كثير : (روى ابن جرير عن علي بن الحسين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم

٣٤٨

حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين الرحمن ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي فيقول الله عزوجل : صدق ، ثم أشفع فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال : وهو المقام المحمود»).

٢ ـ وبمناسبة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) قال ابن كثير : (أي : إنك ساع إلى ربك سعيا وعامل عملا (فَمُلاقِيهِ) ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر. ويشهد لذلك ما رواه أبو داود الطيالسي عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال جبريل : يا محمد عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» ومن الناس من يعيد الضمير على قوله ربك أي : فملاق ربك ومعناه : فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك ، وعلى هذا فكلا القولين متلازم).

وقال صاحب الظلال بمناسبة هذه الآية : ((يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) .. الذي خلقه ربه بإحسان ، والذي ميزه بهذه (الإنسانية) التي تفرده في هذا الكون بخصائص كان من شأنها أن يكون أعرف بربه ، وأطوع لأمره من الأرض والسماء. وقد نفخ فيه من روحه ، وأودعه القدرة على الاتصال به ، وتلقي قبس من نوره ، والفرح باستقبال فيوضاته ، والتطهر بها ، أو الارتفاع إلى غير حد ، حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه ، وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة!

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) .. يا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كدحا ، تحمل عبئك ، وتجهد جهدك ، وتشق طريقك .. لتصل في النهاية إلى ربك. فإليه المرجع وإليه المآب. بعد الكد والكدح والجهاد ..

يا أيها الإنسان .. إنك كادح حتى في متاعك .. فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد. إن لم يكن جهد بدن وكد عمل ، فهو جهد تفكير وكد مشاعر. الواجد والمحروم سواء. إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء. وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان .. ثم النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء.

يا أيها الإنسان .. إنك لا تجد الراحة في الأرض أبدا. إنما الراحة هناك. لمن يقدم لها

٣٤٩

الطاعة والاستسلام .. التعب واحد في الأرض والكدح واحد ـ وإن اختلف لونه وطعمه ـ أما العاقبة مختلفة عندما تصل إلى ربك .. فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض .. وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكن كدح ولا كد ..

يا أيها الإنسان .. الذي امتاز بخصائص (الْإِنْسانُ). ألا فاختر لنفسك ما يليق بهذا الامتياز الذي خصك به الله ، اختر لنفسك الراحة من الكدح عندما تلقاه.

ولهذه اللمسة الكامنة في هذا النداء ، فإنه يصل بها مصائر الكادحين عندما يصلون إلى نهاية الطريق ، ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء :

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً* وَيَصْلى سَعِيراً* إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً* إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ* بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) ..).

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قال ابن كثير : (أي : سهلا بلا تعسير أي : لا يحقق عليه جميع دقائق أعماله فإن من حوسب كذلك هلك لا محالة. وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نوقش الحساب عذب» قالت : فقلت : أفليس قال الله تعالى : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قال : «ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب» وهكذا رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث أيوب السختياني به. وروى أحمد عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في بعض صلاته : «اللهم حاسبني حسابا يسيرا» فلما انصرف ، قلت : يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال : «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» صحيح على شرط مسلم).

٤ ـ يستدل بعض طوائف الملاحدة القائلين بالتناسخ ، على هذا التناسخ الملعون بقوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) وهو استدلال أحمق ؛ لأن القول بالتناسخ يلغي ما تذكره السورة أصلا من حشر الإنسان وحسابه ، وهذه طريقة الملاحدة يأتون إلى نص يحتمل معاني فيعطونه معنى لا يحتمله ، ويلغون به القرآن كله ، ويقولون هذا هو حكم القرآن ، وإنما ينطلي خداعهم على جاهل أحمق ، إن هذا التناسخ الملعون عقيدة هندوسية تسربت إلى طوائف من ملاحدة المسلمين على تناقضها وتهافتها.

إن القول بأن الروح تنتقل من مخلوق إلى مخلوق آخر بحسب عمل المخلوق الأول

٣٥٠

مردود لمئات الوجوه منها.

أ ـ إن هذا القول لا يعطي تفسيرا ولا تعليلا لتكاثر البشر إذ القائلون بهذه العقيدة على فرض أنها حق ، هم وحدهم إذا أحسنوا العمل يستحقون أن يكونوا بشرا لكنا نرى البشر يتكاثرون وهم بالنسبة لمجموع البشر لا يعدلون إلا رقما صغيرا من عدد كبير.

ب ـ إن القول بالتناسخ يقتضي أن يكون للمخلوقات كلها درجة من الوعي والفهم والإدراك واحدة ، وهذا لا يقوله عاقل.

ج ـ إن القول بالتناسخ يقتضي أن يكون عدد الأحياء واحدا في كل عصر ، ولكنا نجد أن الأحياء تتكاثر كلها أو تتناقص ، فلا تحافظ على عدد محدود.

د ـ إن القول بالتناسخ يلغي موضوع اليوم الآخر ، وموضوع محاسبة كل إنسان عن عمله فيه ، ويعطل النصوص التي تتحدث عن ذهاب كل روح إلى عالمها في البرزخ ، هذا وقد نقلنا نقاش الأستاذ المودودي لهذه العقيدة الفاسدة في كتابنا الإسلام الجزء الرابع فليراجع.

وقال ابن كثير في قوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) .. (روى البخاري عن مجاهد قال : قال ابن عباس (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) : حالا بعد حال قال هذا نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ ، وقال السدي (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أعمال من قبلكم منزلا بعد منزل (قلت :) كأنه أراد معنى الحديث الصحيح : «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا : يا رسول الله : اليهود والنصارى قال : «فمن؟» وهذا محتمل).

٥ ـ هناك قراءتان أخريان في قوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قراءة بضم تاء (لتركبن) وقراءة بفتحها وبفتح الباء ، فعلى القراءة الأولى يكون الخطاب في الكلمة لمجموع البشرية ، وعلى القراءة الثانية يكون الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد فسر بعضهم الطبق في القراءة التي تخاطب رسول الله بأنه السماء قال ابن كثير : (وروى ابن أبي حاتم عن الشعبي (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال : لتركبن يا محمد سماء بعد سماء ، وهكذا روي عن ابن مسعود ومسروق وأبي العالية (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) سماء بعد سماء. قلت : يعنون ليلة الإسراء؟).

أقول : ليس هناك من مانع أن يفسر الطبق بالسماء على القراءة التي نقرؤها في قراءة

٣٥١

حفص ، وعندئذ تكون في الآية معجزة غيبية ، يدركها أبناء عصرنا الذين انتقلوا من حال إلى حال في تدرجهم في مسالك السماء بالمعنى اللغوي ، وعلى هذا يكون السياق على الشكل التالي : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ* وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ* وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَ) يا معشر البشر (طَبَقاً) أي : سماء (عَنْ طَبَقٍ) أي : عن سماء ، فكل موقع يوصلكم إلى ما بعده (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والقرآن يخبرهم عن مثل هذا (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) والقرآن يخاطبهم بمثل هذا.

٦ ـ بمناسبة قوله تعالى : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أقول : هذه إحدى مواطن سجدات القرآن الأربعة عشر التي يجب بسببها عند الحنفية السجود لله إذا تليت أو سمعت ، والسجود عندهم واجب على التراخي : «روى مالك عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها» رواه مسلم والنسائي من طريق مالك به. وروى البخاري عن أبي رافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد فقلت : له ، فقال : سجدت خلف أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه ، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ، وزاد النسائي وسفيان الثوري عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)).

٧ ـ عند قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال ابن كثير : (قال ابن عباس : غير منقوص ، وقال مجاهد والضحاك : غير محسوب ، وحاصل قولهما أنه غير مقطوع كما قال تعالى (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وقال السدي قال بعضهم : غير ممنون غير منقوص. ، وقال بعضهم : غير ممنون عليهم ، وهذا القول الأخير عن بعضهم قد أنكره غير واحد ؛ فإن الله عزوجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة ، وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم ، فله عليهم المنة دائما سرمدا ، والحمد لله وحده أبدا ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس ، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).

كلمة أخيرة في المجموعة العاشرة من قسم المفصل :

سورة المطففين تحدثت عن الفجار والأبرار ، وجاءت سورة الانشقاق ، فبينت

٣٥٢

للإنسان أنه كادح كل الكدح لملاقاة الله عزوجل ، ومن ثم طالبت السورة من خلال عرض ما لأهل اليمين ولأهل الشمال ، بالعمل الصالح ، وبينت سورة الانشقاق أن الإنسان منتقل من حال إلى حال في الدنيا ، وفي الآخرة ، ومن ثم فهذا يقتضي منه إيمانا وعملا صالحا. وأنذرت السورة من لم يؤمن ويعمل صالحا ، وهكذا دعت سورة الانشقاق من خلال تبيان كدح الإنسان وانتقاله من حال إلى حال إلى السير في طريق البر والتخلي عن طريق الفجور ، فالسورتان تتكاملان لتؤديا دورا واحدا في قضية الأساس والطريق.

وقد رأينا أن لكل سورة سياقها الخاص ، وصلتها بمحورها ، وأن كل سورة فيها جديد ، ورأينا صلة نهاية السورة الأولى ببداية الثانية ، وهكذا نجد أن السياق القرآني العام يذكر هذه النفس البشرية مرة ومرة ومرة ، بمعنى ومعنى ومعنى ، وهكذا تأخذ النفس البشرية خطها من التذكير المحيط الشامل ، ومن ثم ندبت السنة إلى قراءة القرآن في الشهر مرة ؛ لتأخذ النفس البشرية حظها من هذا التذكير الشامل في كل شهر ، ويا حسرة على أولئك المحرومين من هذه النعمة فكيف بالمحرومين أصلا من نعمة الإيمان بهذا القرآن.

٣٥٣

المجموعة الحادية عشرة

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سور :

البروج ، والطارق ، والأعلى ،

والغاشية

٣٥٤

كلمة في المجموعة الحادية عشرة من قسم المفصل

تعرضت سورة المطففين في آخرها لاستهزاء المجرمين بالمؤمنين ، وأبرزت هذا المعنى (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) وجاءت سورة الانشقاق لتبين عقوبة هؤلاء المجرمين المنقلبين إلى أهليهم فكهين فقالت (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً* وَيَصْلى سَعِيراً* إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً* إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) لاحظ إبراز سرور الكافر في أهله في نهاية سورة المطففين ، وأوائل سورة الانشقاق مع إبراز ما للكافرين وللمؤمنين في السورتين. وتأتي سورة البروج بعد ذلك لترينا نموذجا من فعل الكافرين بالمؤمنين وفتنتهم إياهم ، وما يستحقونه نتيجة لذلك. كما تحدثنا عن المؤمنين العاملين وما لهم. وتحدثنا عما يستحقه المكذبون من بطش الله. فسورة البروج تأتي لتكمل سياق ما قبلها ، وتتصل بالمجموعة العاشرة بأكثر من وشيجة. وسنرى فيما بعد صلة كل سورة من سور المجموعة الحادية عشرة ببعضها.

لقد رأينا أن سور : الذاريات والطور والنجم كلها مبدوءة بقسم ، وآتية في مجموعة واحدة ، وأنها كلها فصلت في مقدمة سورة البقرة ، وفي هذه المجموعة نرى سورتين كلا منهما مبدوءة بقسم ، وفي المجموعة اللاحقة نجد خمس سور في مجموعة واحدة ، تبدأ كل منها بقسم ، وكلها تفصل في مقدمة سورة البقرة ، ومن مثل هذا نستأنس أن سورتي البروج والطارق تفصلان في مقدمة سورة البقرة.

وتأتي بعد هاتين السورتين سورة الأعلى وهي مبدوءة بقوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وهذا يشير إلى أنها تفصل في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وتأتي بعد ذلك سورة الغاشية ، وهي مبدوءة بقوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) وهي تشبه سورة الدهر مبدوءة بقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) وهذا يجعلنا نستأنس أن محور سورة الغاشية هو نفسه محور سورة الدهر ، وهي الآيات الآتية بعد مقدمة سورة البقرة وهذا كله سنراه تفصيلا أثناء عرضنا للسور الأربع ـ سور المجموعة الحادية عشرة ـ فلنبدأ عرضها.

٣٥٥

سورة البروج

وهي السورة الخامسة والثمانون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الأولى من المجموعة الحادية عشرة من

قسم المفصل ، وهي اثنتان وعشرون آية

وهي مكية

٣٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٣٥٧

بين يدي سورة البروج :

قدم الألوسي لتفسير سورة البروج بقوله : (لا خلاف في مكيتها. ولا في كونها اثنتين وعشرين آية. ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها ـ كالتي قبل ـ على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين ، مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره ، وفي البحر أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من المكر والخداع ، وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى ، كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ، ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم ، فكانوا يعذبون بالنار ، وأن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم وأن الذين عذبوهم ملعونون ، فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش ، فهذه السورة عظة لقريش ، وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين. انتهى وهو وجه وجيه).

أقول : في السورة عظة للعالمين ، وتثبيت للمؤمنين.

وقدم صاحب الظلال لهذه السورة بقوله : (هذه السورة القصيرة تعرض حقائق العقيدة ، وقواعد التصور الإيماني ... تعرض أمورا عظيمة ، وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى ، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية ـ وأحيانا كل كلمة في الآية ـ أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة ..

والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود .. والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام ـ قيل : إنهم من النصارى الموحدين ـ ابتلوا بأعداء لهم طغاة شريرين ، أرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم ، فأبوا وتمتعوا بعقيدتهم. فشق الطغاة لهم شقا في الأرض ، وأوقدوا فيه النار ، وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقا ، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنة بهذه الطريقة البشعة ، ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق. حريق الآدميين المؤمنين : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)).

٣٥٨

كلمة في سورة البروج ومحورها :

محور سورة البروج ـ كما ذكرنا من قبل ـ هو مقدمة سورة البقرة ، ففي مقدمة سورة البقرة كلام عن الإيمان بالغيب ، وكما ذكرت سورة العنكبوت التي فصلت في مقدمة سورة البقرة أن الإيمان بالغيب يقتضي اختبارا وامتحانا من الله ، ومن ثم يسلط الله عزوجل على المؤمنين من يسلط وتأتي سورة البروج لتتحدث عن عقاب هؤلاء الذين يفتنون المؤمنين ، وتتحدث في المقابل عن عطاء الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، فهي تعرفنا على الله عزوجل ، وجلاله وانتقامه من المكذبين لتخلص إلى الكلام عن القرآن الكريم ، وبالتالي فهي تذكرنا بكثير من المعاني الواردة في مقدمة سورة البقرة (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وسنرى صلة السورة بمحورها أثناء عرضها ..

تتألف سورة البروج من مقطعين يضمهما سياق واحد كالعادة.

المقطع الأول وينتهي بالآية (١١).

المقطع الثاني وينتهي بالآية (٢٢) فلنر السورة.

٣٥٩

المقطع الأول

ويمتد حتى نهاية الآية (١١) وهذا هو :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١))

التفسير :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) قال ابن كثير : يقسم تبارك وتعالى بالسماء وبروجها ، وهي النجوم العظام (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي : يوم القيامة (وَشاهِدٍ) في ذلك اليوم (وَمَشْهُودٍ) أي : فيه ، قال النسفي : والمراد بالشاهد من يشهد فيه من الخلائق كلهم ، وبالمشهود فيه ما في ذلك اليوم من عجائب. قال النسفي : وجواب القسم محذوف يدل عليه (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي : لعن. كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون أي : إن من فعل الأخدود ملعون ، والأخدود : جمع خد وهو الشق العظيم في الأرض ، قال ابن كثير : (أي : لعن أصحاب الأخدود وجمعه

٣٦٠