الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

نزول هذه الآية ندرك نقطة رئيسية في القضية التي حيرت الكثير ، وهي ارتباط المشيئة البشرية بالمشيئة الإلهية. والخلاصة في هذا الموضوع : إن كل شىء بمشيئة الله عزوجل ، وهذا لا يتنافى مع اختيار الإنسان ، كما رأينا في أكثر من مكان ، فإذا أضل الله أضل عدلا ، وإذا هدى يهدي فضلا ، ولولا أن كل شىء بمشيئة الله عزوجل لكان الله عزوجل مقهورا بالمعصية ، وهذا لا يكون ، ومن ثم كان كل شىء بمشيئته ، وهذا لا يعني الإجبار ، فقد علم وأراد ، وأبرز بقدرته ، والعلم كاشف لا مجبر ، علم ماذا سيفعل فلان فأراده فأبرزه بقدرته.

كلمة في السياق :

١ ـ هناك صلة بين العبادة ومعرفة أن التوفيق بيد الله عزوجل : ولذلك نقول في كل صلاة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهناك صلة بين العمل والاستقامة وفي الحديث : «قل آمنت بالله ثم استقم» فهناك صلة إذن بين قوله تعالى في المقطع : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ..) وبين قوله تعالى في المحور : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

٢ ـ جاءت في المقطع ثلاثة أقسام (جمع قسم) على قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فالأقسام مؤكدة ، والآية فيها تأكيدان (إن) (واللام) فخمسة مؤكدات تنصب على أن هذا القرآن من عند الله ، وذلك ـ في العادة ـ يكون إذا كان المخاطب عنده شك ، ومن هنا ندرك العلاقة بين هذه الآيات وآيات المحور : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) فالآيات تؤكد أن هذا القرآن من عند الله ، وتلاحق الريب : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ* وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ* وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) وهناك قراءة بالظاء (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي : بمتهم ، فالمقطع بين أن الثقة بهذا القرآن ينبغي ألا يكون لها حدود ، فجبريل الأمين هو الذي نقله عن الله عزوجل لمحمد الأمين ، غير المتهم على الوحي ، وغير البخيل به. فالسورة بمجموعها هيجت على العبادة والتقوى والاستقامة ، ومعرفة الله عزوجل ، والعمل الصالح ، وذكرت الشيئين الأساسيين اللذين ينبثق عنهما هذا كله : مجىء يوم القيامة ، والثقة بهذا القرآن.

٣٠١

الفوائد :

١ ـ ذكر المقطع الأول من سورة التكوير اثني عشر مشهدا من مشاهد يوم القيامة ، فزعم بعضهم أن ستة من هذه المشاهد تكون في الدنيا قبيل يوم القيامة ، وستة تكون بعد يوم القيامة ، ونسبوا هذا القول إلى بعض الأئمة ، وهو قول متهافت ، فكيف يصح أن يكون تكوير الشمس وانكدار النجوم متقدما على يوم القيامة؟ فإما أن السند غير صحيح إلى راويه ، وإما أن يكون عند راويه فهم خاطىء.

٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال ابن كثير : (روى البخاري : عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشمس والقمر يكوران يوم القيامة» انفرد به البخاري ، وهذا لفظه ، وإنما أخرجه في كتاب بدء الخلق).

وقال صاحب الظلال : (إن تكوير الشمس قد يعني برودتها ، وانطفاء شعلتها ، وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء. كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف. واستحالتها من الغارية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ ١٢٠٠٠ درجة ، والتي تحول جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة ... استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمد كقشرة الأرض ، وتكور لا ألسنة له ولا امتداد!.

قد يكون هذا ، وقد يكون غيره .. أما كيف يقع ، والعوامل التي تسبب وقوعه ، فعلم ذلك عند الله.)

أقول : سيكون هذا يوم ينفخ في الصور ، ويجمع الشمس والقمر.

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) قال صاحب الظلال : (وانكدار النجوم قد يكون معناه انتثارها من هذا النظام الذي يربطها ، وانطفاء شعلتها وإظلام ضوئها .. والله أعلم ماهي النجوم التي يصيبها هذا الحادث. وهل هي طائفة من النجوم القريبة منا .. مجموعتنا الشمسية مثلا. أو مجرتنا هذه التي تبلغ مئات الملايين من النجوم .. أم هي النجوم جميعها والتي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله؟. فوراء ما نرى منها بمراصدنا مجرات وفضاءات لها ، لا نعرف لها عددا ولا نهاية ، فهناك نجوم سيصيبها الانكدار كما يقرر هذا الخبر الصادق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله ..)

٣٠٢

أقول : النجوم ههنا جنسها ، فالنجوم كلها في مجرات هذا الكون تنكدر يوم القيامة فيجمع بعضها إلى بعضه كما قال تعالى (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) فكما كان الكون كله نقطة واحدة ثم تمدد فإنه يعود كذلك والله أعلم.

٤ ـ وبمناسبة قوله تعالى (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قال صاحب الظلال : (وأما تسجير البحار فقد يكون ملؤها بالمياه .. وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال تعالى في موضع آخر : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) فتفجير عناصرها ، وانفصال الأيدروجين عن الأكسوجين فيها ، أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة ، ـ وهو أشد هولا ـ أو على أي نحو آخر. وحين يقع هذا فإن نيرانا هائلة لا يتصور مداها ، تنطلق من البحار. فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الأيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا ؛ فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر ، فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول!).

أقول : الاتجاهات كثيرة في تفسير قوله تعالى (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) ، وهل التسجير هنا هو التفجير الوارد في سورة الانفطار؟ والذي أذهب إليه أن التفجير يسبق التسجير ، فالبحار ينفتح ماؤها على بعضه في مرحلة ثم يحدث شىء آخر هو التسجير الذي هو الملء والله أعلم.

٥ ـ فسر بعضهم (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) بأن البحر هو الذي يكون جهنم ، وهذا في رأيي خطأ ، لأن الأحاديث تذكر أن الناس وهم في الموقف يؤتى بنار جهنم لها سبعون ألف زمام يجرها .. مما يشير إلى أن النار هذا السجن الضخم الهائل موجود حاليا في مكان ما ، ويؤتى بها إلى المحشر ، فالذي نرجحه أن تسجير البحار يكون واحدا مما يحدث حتى تكون الأرض كلها كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد كما ورد في الحديث ، وذلك كأن تمتلىء بلابة باطن الأرض.

٦ ـ بمناسبة قوله تعالى (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) ذكر الألوسي تحقيقا طويلا حول مآل الأطفال يوم القيامة ، وختم كلامه بقوله : (والذي أختاره : القول بأن الأطفال مطلقا ، وكذا فرخ الزنا ، ومن جن قبل البلوغ في الجنة ، فهو الأخلق بكرم الله تعالى وواسع رحمته عزوجل ، والأوفق للحكمة بحسب الظاهر ، والأكثر تأييدا بالآيات ، ولا بعد في ترجح الأخبار الدالة على ذلك بما ذكر على الأخبار الدالة على

٣٠٣

خلافه ، والقول بأن ما تضمنته هاتيك الأخبار كان منه عليه الصلاة والسلام ـ قبل علمه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن الأطفال في الجنة ـ بعيد عندي ، نعم جوز أن يكون قد أخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بأنهم من أهل النار ، بناء على إخبار الوحي به ، كإخباره بالوعيدات التي يعفو الله تعالى عنها من حيث إنه مقيد بشرط ، كأن لم يشملهم الفضل مثلا لكنه لم يذكر معه كما لم يذكر معها لحكمة ، ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأنهم من أهل الجنة ؛ بناء على إخبار الوحي به أيضا ، ويكون متضمنا للإخبار بأن شرط كونهم من أهل النار لا يتحقق ، فضلا من الله تعالى وكرما ، ويكون ذلك كالعفو عما يقتضيه الوعيد ، ومثل ذلك إخباره بما ذكر بناء على مشاهدة كونهم في الجنة عند إبراهيم عليه‌السلام فتأمل).

٧ ـ هناك قراءتان في قوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) القراءة الأولى بالضاد والثانية بالظاء أي : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي : بمتهم وقد فرق عامة المفسرين بين كلمتي (الضنين) و (الظنين) كما رأينا ، وقال سفيان بن عيينة : ظنين وضنين سواء ، وعلى هذا القول فهناك صلة بين البخل والتهمة ، فلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم متهما في أمر البلاغ ، ولا بخيلا به.

٨ ـ بمناسبة قوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) قال ابن كثير : (كما قال الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين وأمرهم فتلوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة الكذاب ـ الذي هو في غاية الهذيان والركاكة ـ فقال : ويحكم أين تذهب عقولكم؟ والله إن هذا الكلام لم يخرج من إل أي : من إله).

٩ ـ بمناسبة قوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) قال صاحب الظلال : (وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى ، التي يرجع إليها كل أمر. فإعطاؤهم حرية الاختيار ، ويسر الاهتداء ، إنما يرجع إلى تلك المشيئة. المحيطة بكل شىء كان أو يكون.

وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق ، يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة : حقيقة أن كل شىء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله. وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير. شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون ، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون. فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس

٣٠٤

القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان ..

ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين ، ليدركوا ما هو الحق لذاته. وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى ، يطلبون عندها العون والتوفيق ، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق!).

كلمة أخيرة في سورة التكوير :

انتهت سورة عبس بقوله تعالى (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ..) وبدأت سورة التكوير بقوله تعالى (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ...) فالصلة واضحة بين نهاية سورة عبس ، وبداية سورة التكوير ، ونلاحظ أن سورة التكوير انتهت بقوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ...) وأن في بداية سورة الانفطار : (... يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ...) والصلة بين التهييج على الاستقامة والمعاتبة على ترك الاستقامة واضحة ، فكل سورة تصل بسبب إلى ما بعدها فلننتقل إلى سورة الانفطار.

٣٠٥

سورة الانفطار

وهي السورة الثانية والثمانون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الرابعة والأخيرة من المجموعة التاسعة من

قسم المفصل ، وهي تسع عشرة آية

وهي مكية

٣٠٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٣٠٧

بين يدي سورة الانفطار :

قدم الألوسي لسورة الانفطار بقوله : (وتسمى سورة انفطرت ، وسورة المنفطرة. ولا خلاف في أنها مكية. ولا في أنها تسع عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها معلومة).

وقدم صاحب الظلال لهذه السورة بقوله : (تتحدث هذه السورة القصيرة عن الانقلاب الكوني الذي تتحدث عنه سورة التكوير ، ولكنها تتخذ لها شخصية أخرى ، وسمتا خاصا بها ، وتتجه إلى مجالات خاصة بها تطوف بالقلب البشري فيها ؛ وإلى لمسات وإيقاعات من لون جديد. هادىء عميق. لمسات كأنها عتاب. وإن كان في طياته وعيد!.

ومن ثم فإنها تختصر في مشاهد الانقلاب ، فلا تكون هي طابع السورة الغالب ـ كما هو الشأن في سورة التكوير ـ لأن جو العتاب أهدأ ، وإيقاع العتاب أبطأ. وكذلك إيقاع السورة الموسيقي. فهو يحمل هذا الطابع. فيتم التناسق في شخصية السورة والتوافق!

إنها تتحدث في المقطع الأول منها عن انفطار السماء وانتشار الكواكب ، وتفجير البحار وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدمت وأخرت ، في ذلك اليوم الخطير ..

وفي المقطع الثاني تبدأ لمسة العتاب المبطنة بالوعيد ، لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة في ذاته وخلقه ، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها. ولا يعرف لربه قدره ، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ).

وفى المقطع الثالث يقرر علة هذا الجحود والإنكار. فهي التكذيب بالدين ـ أي : بالحساب ـ وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود. ومن ثم يؤكد هذا الحساب توكيدا ، ويؤكد عاقبته وجزاءه المحتوم : (كَلَّا. بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ* وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ* إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ* وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) ..

فأما المقطع الأخير ، فيصور ضخامة يوم الحساب وهوله ، وتجرد النفوس من كل

٣٠٨

حول فيه ، وتفرد الله سبحانه بأمره الجليل : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟ * ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً* وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ..

كلمة في سورة الانفطار ومحورها :

سورة الانفطار تفصل في نفس محور سورة التكوير أي : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ...) ومن ثم تصب مقدمتها في قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) فبدايتها تشبه بداية سورة التكوير ، وتصب في معنى شبيه بالمعنى الذي صب فيه المقطع الأول من سورة التكوير ، ففي سورة التكوير أجري الحديث ل (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) كما قال عمر رضي الله عنه ، وههنا أجرى الحديث في مقدمة السورة ل. (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) وكما رأينا صلة ذلك في سورة التكوير بمحور السورة فالأمر ههنا كذلك ، بعد ذلك يأتي في سورة الانفطار قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ...) وصلة ذلك بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...) واضحة.

وتختتم السورة بفقرة مبدوءة بقوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ..) ومن المعلوم من سورة البقرة أن التقوى والبر شىء واحد ، يعلم ذلك من آية البر في سورة البقرة (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) فالكلام عن الأبرار والفجار في نهاية السورة مرتبط نوع ارتباط بمحور السورة الذي ذكرناه فإذ يقرر الله عزوجل ما أعد للأبرار والفجار ففي ذلك دعوة إلى البر الذي هو التقوى. وإلى العبادة التي هي طريق التقوى ، ولذلك صلاته بالمحور (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ...).

وقد سجلنا في نهاية الكلام عن سورة التكوير ملاحظة حول صلة نهاية سورة التكوير ببداية سورة الانفطار ، وذكرنا في مقدمة الكلام عن سورة التكوير الحديث

٣٠٩

الذي يجمع ما بين سور التكوير والانفطار والانشقاق على أنها تصور يوم القيامة وكأنه رأي عين ، فالصلات بين سورتي التكوير والانفطار كثيرة.

وكما أن سورة الواقعة المبدوءة بالكلام عن القيامة ، والمبدوءة بقوله تعالى : (إِذا) كانت نهاية مجموعة فإن سورة الانفطار ، وهي مبدوءة بالكلام عن يوم القيامة وب (إِذَا) نهاية مجموعة كما ذكرنا من قبل.

تتألف السورة من أربع فقرات واضحة المعالم ومترابطة :

الفقرة الأولى حتى نهاية الآية (٥).

الفقرة الثانية حتى نهاية الآية (٨).

الفقرة الثالثة حتى نهاية الآية (١٢).

الفقرة الرابعة حتى نهاية السورة أي حتى نهاية الآية (١٩) ولنبدأ عرض السورة.

٣١٠

الفقرة الأولى

وتمتد حتى نهاية الآية (٥) وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥))

التفسير :

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي : انشقت. (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي : تساقطت ، (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) قال النسفي : أي : فتح بعضها إلى بعض ، وصارت البحار بحرا واحدا. قال ابن كثير : وقال الحسن : فجر الله بعضها في بعض فذهب ماؤها. أقول : على قول الحسن فإن هذا يفيد أن تفجير البحار عملية تتم من أعماق الأرض ، يترتب عليها ذهاب البحار ، وامتلاء مكانها بمادة أخرى. والله أعلم. (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) قال النسفي : أي : بعثت وأخرج موتاها (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) أي علمت كل نفس برة وفاجرة ، ما عملت من طاعة وأخرت ، أي : وتركت فلم تعمل ، وهذا هو جواب : إذا السماء ... قال النسفي : إذا كان هذا حصل هذا.

كلمة في السياق :

١ ـ رأينا أن الفقرة الأولى أوصلت إلى قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) وهذا يفيد أن الفقرة تهيج النفس البشرية على أن تقدم خيرا ، وتؤخر شرا ، وخير ما تقدم العبادة والتقوى ، قال تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) فصلة الفقرة الأولى بمحور السورة واضحة ، فمحور السورة يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) والفقرة الأولى تقول للنفس البشرية :

٣١١

إنه إذا جاء يوم القيامة فستعلمين ما قدمت وما أخرت فقدمي واعملي.

٢ ـ بعد أن بين الله عزوجل ما يكون يوم القيامة من علم كل نفس ما قدمته وما أخرته ، يذكر الله عزوجل ما يخاطب به الإنسان يوم القيامة (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ ..) والدليل على أن هذا الخطاب يكون للإنسان يوم القيامة ما ذكره ابن كثير إذ قال : كما جاء في الحديث : يقول الله تعالى يوم القيامة : «يا ابن آدام ما غرك بي ، يا ابن آدم ما ذا أجبت المرسلين» فلنر الفقرة الثانية.

الفقرة الثانية

وتمتد من الآية (٦) حتى نهاية الآية (٨) وهذه هي :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨))

التفسير :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ). قال النسفي : قيل : الخطاب لمنكري البعث. أقول : هذا خطاب لكل كافر بدليل ما يأتي (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) قال ابن كثير : هذا تهديد وقال النسفي : (أي شىء خدعك حتى ضيعت ما وجب عليك مع كرم ربك ، حيث أنعم عليك بالخلق والتسوية والتعديل؟) وقال ابن كثير : المعنى في هذه الآية : ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم أي : العظيم ، حتى أقدمت على معصيته وقابلته بما لا يليق (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) قال النسفي : (أي : فجعلك مستوي الخلق سالم الأعضاء) (فَعَدَلَكَ) قال النسفي : أي : عدل بعض أعضائك ببعض ، حتى اعتدلت ، فكنت معتدل الخلق ، متناسقا ، وقال ابن كثير في الآية : أي : جعلك سويا مستقيما معتدل القامة ، منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ

٣١٢

رَكَّبَكَ) أي : في صورة اقتضتها مشيئته من الصور المختلفة في الحسن والقبح ، والطول والقصر. أي : عدلك في أي صورة من الصور ركبك فيها. روى ابن أبي حاتم : أن عمر سمع رجلا يقرأ (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) فقال عمر : الجهل. وروى أيضا عن يحيى البكاء قال : سمعت ابن عمر يقرأ هذه الآية (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ويقول : غره والله جهله).

كلمة في السياق :

١ ـ رأينا في الفقرة السابقة هذا الخطاب الشديد للإنسان يوم القيامة ، والذي يفيد أن الإنسان الكافر قد غره شىء ما حتى ترك العمل مع كل ما فعله الله عزوجل له. ورأينا كلمة عمر رضي الله عنه التي تفيد أن الجهل هو السبب في ذلك ، وصلة ذلك بمحور السورة على الشكل التالي : أمر الله عباده في محور السورة بالعبادة والتقوى ، وعلل للأمر بعبادته بخلقه لهذا الإنسان ، وإنعامه عليه ، ولكن كثيرين لا يعبدون الله ولا يتقونه جهلا منهم ، هؤلاء يقرعهم الله عزوجل على ذلك هذا التقريع.

٢ ـ في الفقرة الأولى من السورة هيجت السورة على أن تقدم كل نفس لنفسها ، والفقرة الثانية بينت أن ما يقتضيه إنعام الله على الإنسان بهذا الخلق السوي المستقيم المعتدل. شيئا آخر غير الكفران ، وهو معرفة الله عزوجل وتقواه ، لاحظ صلة قوله تعالى ههنا (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) بقوله تعالى في المحور (الَّذِي خَلَقَكُمْ).

٣ ـ وبعد أن هيجت الفقرتان الأولى والثانية على العمل الصالح والشكر الذي هو عبادة وتقوى ، من خلال عرض مشهدين من مشاهد يوم القيامة ، تأتي الفقرة الثالثة لتبين العلة الحقيقية في الاغترار بالله عزوجل ، هذه العلة هي التكذيب بيوم الدين ، فلنر الفقرة الثالثة.

الفقرة الثالثة

وتمتد من الآية (٩) إلى نهاية الآية (١٢) وهذه هي :

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١)

٣١٣

يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢))

التفسير :

(كَلَّا) ردع عن العمل السىء والتقصير في الواجبات والاغترار (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) قال ابن كثير أي : إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) يحفظون أعمالكم وأقوالكم من الملائكة (كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) فلا يكتبون إلا بعلم ، وهم يعلمون يقينا كل أفعالكم ، وهم كرام ، فقابلوهم بما يستحقون من الإكرام. قال ابن كثير : يعني : وإن عليكم لملائكة حفظة كراما ، فلا تقابلوهم بالقبائح ، فإنهم يكتبون جميع أعمالكم ، قال النسفي في الفقرة كلها : (يعني : إنكم تكذبون بالجزاء ، والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) لا يخفى عليهم شىء من أعمالكم ، وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم لأمر الجزاء ، وأنه عند الله من جلائل الأمور ، وفيه إنذار وتهويل للمجرمين ، ولطف للمتقين ، وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال : ما أشدها من آية على الغافلين).

كلمة في السياق :

١ ـ بينت هذه الفقرة علة العمل السىء ، وعلة الكفران والاغترار بأنها التكذيب باليوم الآخر ، وأن هذا التكذيب الذي ينبع عنه العمل السىء والكفران قائم مع وجود الحفظة الكاتبين الذين يسجلون كل شىء على الإنسان ، فما أكثر جهل الكافر واغتراره وغفلته.

٢ ـ في ذكر الملائكة الكاتبين ، ووصفهم بالكرام ، تهييج على الإيمان والعمل الصالح ، وبعث للنفس على العبادة والتقوى ، أي : على التقديم لليوم الآخر ، والشكر وترك العمل السىء ، والكفران ، كما أن فيه تحذيرا بآن واحد. وصلة ذلك بمحور السورة لا تخفى. فكأن السياق العام يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) فإن عليكم حافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون.

٣ ـ ثم تأتي الفقرة الرابعة والأخيرة. وهي تبني على كل ما قبلها من فقرات إذ

٣١٤

تتحدث عن حال الأبرار والفجار يوم القيامة ....

الأبرار الذين قدموا الخير ، والفجار الذين قدموا الشر. الأبرار الذين أخروا الشر ، والفجار الذين أخروا الخير. الأبرار الذين لم يغتروا فشكروا وعبدوا واتقوا ، والفجار الذين اغتروا فكفروا ولم يشكروا ، فلم يعبدوا ، ولم يتقوا ، ولم يبروا. الأبرار الذين لا يكذبون بيوم الدين ، والفجار الذين يكذبون. الأبرار الذين علموا أن الملائكة يسجلون فأكرموهم ، ولم يؤذوهم وعلموا بما يليق بصحبة هؤلاء الملائكة ، والكفار الذين آذوا هؤلاء الملائكة ، ولم يقابلوهم بما يليق من إيمان وحسن صحبة. هؤلاء الفجار مالهم يوم القيامة عندما تتفطر السماء ، وتنتثر الكواكب وتتفجر البحار ، وتتبعثر القبور؟ والأبرار ومالهم في ذلك اليوم؟ هذا الذي نرى عليه الجواب في الفقرة الرابعة.

الفقرة الرابعة

وتمتد من الآية (١٣) حتى نهاية الآية (١٩) أي نهاية السورة وهذه هي :

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

التفسير :

(إِنَّ الْأَبْرارَ) أي : المتقين. (لَفِي نَعِيمٍ) أي : في الجنة. قال ابن كثير : يخبر الله تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم ، وهم الذين أطاعوا الله عزوجل ، ولم يقابلوه بالمعاصي .. ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم. (وَإِنَّ الْفُجَّارَ) أي : الكفار (لَفِي جَحِيمٍ) أي : في النار (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي : يدخلونها

٣١٥

يوم الجزاء ، وهو اليوم الذي كانوا يكذبون فيه (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) قال ابن كثير : أي : لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة ، ولا يخفف عنهم من عذابها ، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة ، ولو يوما واحدا. وقال النسفي : أي : لا يخرجون منها .. ثم عظم شأن يوم القيامة فقال : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) كرره للتأكيد والتعظيم ثم فسره بقوله : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) قال ابن كثير : (أي : لا يقدر أحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه ، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ونذكر ههنا حديث «يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، لا أملك لكم من الله شيئا») وقال النسفي : (أي : لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه ، وإنما تملك الشفاعة بالإذن (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) قال النسفي : أي : لا أمر إلا لله تعالى وحده ، فهو القاضي فيه دون غيره ، وقال ابن كثير : (وقال قتادة : والأمر ـ والله ـ اليوم لله ، لكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد).

كلمة في السياق :

إن الأبرار هم المتقون بدليل آية البر في سورة البقرة ، والفجار هم الذين يقابلون المتقين ، ومن السياق عرفنا بعض خصائص المتقين ، وبعض خصائص الفجار ، فالفقرة الأخيرة صبت فيها السورة كلها ، ومن ثم نلاحظ أنه جاء في الفقرة الأولى قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) وجاء في الفقرة الأخيرة : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً). وجاء في الفقرة الثالثة : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) وجاء في الفقرة الأخيرة ، (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ .. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ...) وكما أن الفقرة الأخيرة كانت مصبا للسورة كلها ، فإنها فصلت في المحور. لقد جاء في المحور قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) وههنا جاء قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) فللسورة سياقها وهي مرتبطة بمحورها في السياق القرآني العام.

الفوائد :

١ ـ بدأ ابن كثير الكلام عن السورة بقوله : (روى النسائي عن جابر قال : قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفتان أنت يا معاذ؟ أين كنت عن

٣١٦

سبح اسم ربك الأعلى ، والضحى ، وإذا السماء انفطرت!» وأصل الحديث مخرج في الصحيحين ولكن ذكر (إذا السماء انفطرت) في أفراد النسائي. وقد تقدم من رواية عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سره أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت»).

٢ ـ يقع بعض الناس في خطأ عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) وقد سجل ابن كثير الخطأ والصواب في فهم هذه الآية فقال : (هذا تهديد لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب حيث قال : (الكريم) حتى يقول قائلهم : غره كرمه ، بل المعنى في هذه الآية ما غرك يا ابن آدام بربك الكريم أي : العظيم حتى أقدمت على معصيته ، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث يقول الله تعالى يوم القيامة «يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ما ذا أجبت المرسلين؟».

وقال بعض أهل الإشارة إنما قال : (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) دون سائر أسمائه وصفاته كأنه لقنه الإجابة ، وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل ؛ لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة ، وأعمال الفجور. وقد حكى البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا : نزلت هذه الآية في الأسود بن شريك ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة فأنزل الله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟)).

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن بشر بن جحاش القرشي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصق يوما في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال : قال الله عزوجل «يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت : أتصدق ، وأنى أوان الصدقة؟».

٤ ـ في قوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) اتجاهان : اتجاه يقول ما ذكرناه أي : في أي صورة من الحسن والقبح وغير ذلك يركبك مع كمال الاعتدال ، واتجاه آخر يقول : أي : كان قادرا على أن يركبك في صورة قرد أو غيره ، فكان ينبغي أن تقابل ذلك منه بالشكر ، ولكنك لم تفعل.

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ) قال ابن كثير :

٣١٧

(روى ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند حالتين الجنابة والغائط ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط أو ببعيره أو ليستره أخوه» وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار فوصله بلفظ آخر عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم ، الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات : الغائط والجنابة والغسل ، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره» ثم قال : حفص بن سليمان وهو من رجال السند ـ لين الحديث وقد روي عنه واحتمل حديثه. وروى الحافظ أبو بكر البزار عن الحسن ـ يعني : البصري ـ عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من حافظين يرفعان إلى الله عزوجل ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفار إلا قال الله تعالى : قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة» ثم قال البزار : تفرد به تمام بن نجيح وهو صالح الحديث (قلت) وثقه ابن معين وضعفه البخاري وأبو زرعة وابن أبي حاتم والنسائي وابن عدي ورماه ابن حبان بالوضع ، وقال الإمام أحمد : لا أعرف حقيقة أمره. وروى الحافظ أبو بكر البزار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله ملائكة يعرفون بني آدم ـ وأحسبه قال : ويعرفون أعمالهم ـ فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا أفلح الليلة فلان. نجا الليلة فلان ، وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا : هلك الليلة فلان» ثم قال البزار : سلام هذا ـ وهو من رجال السند ـ أحسبه سلام المدائني وهو لين الحديث).

٦ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) قال ابن كثير : (وقد روى ابن عساكر عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء»).

أقول : هذا جزء البر وعلامة من علاماته والرسول عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يعرف الكل بالجزء ؛ لتبيان أهمية الجزء كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحج عرفة».

كلمة أخيرة في المجموعة التاسعة من قسم المفصل :

رأينا أن المجموعة التاسعة تتألف من أربع سور هي النازعات وعبس والتكوير والانفطار.

٣١٨

سورة النازعات هيجت على الخوف من الله عزوجل ، وعلى نهي النفس عن الهوى وعلى الخشية من اليوم الآخر. وجاءت سورة عبس لتعاتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إقباله على كافر ، وإعراضه عن مؤمن لتحدد مجال الإنذار الرئيسي ، ثم جاءت سورة التكوير لتهيج المؤمنين على العمل الصالح المحدد بكتاب الله عزوجل ، ولتهيج على الاستقامة عليه ، ثم جاءت سورة الانفطار لتحذر من الجهل بالله الذي يؤدي بالإنسان إلى ترك العمل ، وقد رأينا أن السور الأربع فصلت في الأساس والطريق ففصلت سورتا النازعات وعبس في مقدمة سورة البقرة ، وفصلت سورتا التكوير والانفطار في ما بعد ذلك أي : في الطريق.

وقد رأينا كيف أن كل سورة أوصلت إلى ما بعدها ، وقد أوصلت السورة الأخيرة إلى ما بعدها. أي : إلى سورة المطففين. فالملاحظ أن سورة الانفطار تنتهي بفقرة (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وأن سورة المطففين تتحدث بتفصيل أكبر عن الأبرار والفجار (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ... كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ...) فلننتقل إلى سورة المطففين ومجموعتها.

٣١٩

المجموعة العاشرة

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سورتي :

المطففين ، والانشقاق

٣٢٠