الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

عن النبأ العظيم المختلفين في شأنه؟ ، ثم تهدد وتنذر أنهم سيعلمون قطعا الحق في شأن هذا النبأ العظيم ، فما هو النبأ العظيم؟ ابن كثير يذكر قولين في شأنه : إنه القرآن أو اليوم الآخر. وابن جرير يذكر قولا ثالثا أن النبأ العظيم هو بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا رجعت إلى قوله تعالى في سورة (ص) (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) نجد أن ابن كثير ذكر هناك قولا واحدا فيه أنه القرآن ، والنسفي ذكر قولا واحدا فيه أنه بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي نرجحه أن النبأ العظيم في المقامين واحد ، وأنه القرآن العظيم ، ولعل الشيخ عبد الله دراز أخذ اسم كتابه عن القرآن (النبأ العظيم) من هاتين الآيتين ، مما يشير إلى ترجيحه هذا الرأي ، وهو قول مجاهد رحمه‌الله ، والذي جعلنا نرجح هذا الاتجاه هو قوله تعالى : (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) فالظاهر أن الكلام عن المتسائلين وهم الكافرون ، والكافرون ليسوا مختلفين في شأن اليوم الآخر ، إذ إنهم ينكرونه ولكنهم يختلفون في القرآن ، فمنهم من يسميه شعرا ، ومنهم من يسميه سحرا ، ومنهم من يسميه أساطير الأولين ، ومنهم من يسميه كهانة ، وهو الذي عنه أعرضوا ، كما قص الله علينا شأنهم في سورة (ص) ، وعلى هذا يكون معنى المقدمة على الشكل التالي :

عن أي شىء يتساءل هؤلاء الكافرون ، أيتساءلون عن هذا القرآن الذي يختلفون في شأنه ، فبعضهم يعتبره سحرا ، وبعضهم يعتبره شعرا ، وبعضهم يعتبره أساطير الأولين ، وبعضهم يعتبره كهانة ، وقد رد الله عليهم : أن الأمر لا كما تتصورون ولا كما تزعمون ، بل ستعلمون يقينا أنه حق لا مرية فيه ، وأن ما أخبر عنه كائن وحق ، وذلك يوم تبعثون ، وذلك يوم الفصل ، ولما كانوا يكذبون بيوم الفصل ، فإن الفقرة الأولى في السورة تتحدث عن مظاهر قدرة الله عزوجل ، لتقيم عليهم الحجة ، أن البعث الذي سيرون فيه صدق القرآن كائن ، ثم تأتي الفقرة الثانية لتحدثنا عن اليوم الذي سيعلمون فيه صدق القرآن ، ثم تأتي الخاتمة لتبين لهم أن هذا القرآن الذي أنزله الله عزوجل قد تم به الإنذار بيوم القيامة ، فخاتمة السورة تشير إلى بدايتها فقوله تعالى في الخاتمة : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) يشير إلى القرآن الذي به كان الإنذار ، وذلك يجعلنا نستأنس لصحة ما اتجهنا إليه في أن النبأ العظيم هو القرآن.

قلنا : إن محور السورة هو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ

٢٤١

وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ومقدمة سورة النبأ أرتنا موقفا للكافرين ، وأشعرتنا أنهم لا يؤمنون ، وأفهمتنا أن أمامهم عذابا عظيما (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ).

الفقرة الأولى

وتمتد من الآية (٦) إلى نهاية الآية (١٦) وهذه هي :

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦))

كلمة في السياق :

تأتي الفقرة بعد قوله تعالى : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) إنهم سيعلمون يوم القيامة أن كل ما ذكره القرآن حق ، ومن ثم فإن الفقرة تذكر من مظاهر قدرة الله عزوجل ، ما به يتذكر الإنسان أن الله عزوجل قادر على إنشائه مرة ثانية ، كما تشير إلى الحكمة في صنع الله عزوجل ، وهذا يقتضي أن يكون هناك بعث ، وقد ذكر هاتين النقطتين النسفي مبينا حكمة مجىء هذه الفقرة بعد المقدمة فقال : (لما أنكروا البعث قيل لهم : ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة؟ فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات؟ أو قيل لهم : لم فعل هذه الأشياء؟ ـ والحكيم لا يفعل عبثا ـ ، وإنكار البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل). أقول : إن ذكر هذه الفقرة في هذا السياق يشير إلى أن الله عزوجل الذي خلق هذا كله لا يترك الإنسان بلا هداية ، ولا تكليف ، وهؤلاء الذين يكفرون

٢٤٢

بالقرآن لا يدركون هذا ، فالله الذي خلق هذا هو الذي أنزل هذا القرآن ، ذلك مقتضى حكمته وعظمته ، فكيف يكفرون بهذا القرآن ، وآثار قدرة الله عزوجل تشير إلى حكمته ، وحكمته تقتضي هداية خلقه ، وذلك يقتضي وحيا وبعثة رسول وهم ينكرون ذلك ، ويتساءلون عنه ، ويختلفون فيه ، فالفقرة تؤدي مجموعة أهداف بآن واحد فلنر تفسيرها.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) قال النسفي : (أي : فراشا فرشناها لكم حتى سكنتموها) أقول : أي : ممهدة للخلائق ذلولا لهم (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) قال النسفي : (أي : للأرض لئلا تميد بكم) أقول : في الآية معجزة علمية سنراها (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) قال ابن كثير : يعني : ذكرا وأنثى يتمتع كل منهما بالآخر ، ويحصل التناسل بذلك (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) قال النسفي : (أي : قطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم. والسبت : القطع) وقال ابن كثير : أي : قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) قال النسفي : أي : سترا يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه ، وقال ابن كثير : أي : يغشى الناس ظلامه وسواده ، وقال قتادة : أي : سكنا (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) قال ابن كثير : أي : جعلناه مشرقا نيرا مضيئا ؛ ليتمكن الناس من التصرف فيه ، والذهاب والمجىء للمعاش والكسب والتجارات وغير ذلك. وقال النسفي : أي : وقت معاش تتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) أي : سبع سموات شديدة ، أي : محكمة قوية ، وقال ابن كثير : يعني : السموات السبع في اتساعها وارتفاعها وإحكامها ، وإتقانها وتزيينها ... (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) قال النسفي : أي : مضيئا وقادا ، أي : جامعا للنور والحرارة والمراد الشمس ، وقال ابن كثير : يعني : الشمس المنيرة التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) قال النسفي : أي : السحائب إذا أعصرت أي : شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر ، قال ابن كثير : والأظهر أن المراد بالمعصرات السحاب (ماءً ثَجَّاجاً) أي : منصبا بكثرة ، (لِنُخْرِجَ بِهِ) أي : بالماء (حَبًّا) كالبر والشعير (وَنَباتاً) قال ابن كثير : أي : خضرا يؤكل رطبا (وَجَنَّاتٍ) أي : بساتين (أَلْفافاً) أي : ملتفة الأشجار أو مجتمعتها ، قال ابن كثير : أي : بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة وألوان مختلفة الطعوم وروائح متفاوتة ، وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعا. وبهذا انتهت الفقرة.

٢٤٣

وقد علق صاحب الظلال على مضمون هذه الفقرة بقوله : (وهذا التناسق في تصميم الكون ، لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه ، وحكمة تقدره ، وإرادة تدبره. يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه ، فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب. وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولا تافها لا يستحق المناقشة. كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون ، مجرد تعنت لا يستحق الاحترام!

إن لهذا الكون خالقا ، وإن وراء هذا الكون تدبيرا وتقديرا وتنسيقا. وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو : من جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا. وخلق الناس أزواجا. وجعل نومهم سباتا (بعد الحركة والوعي والنشاط) مع جعل الليل لباسا للستر والانزواء ، وجعل النهار معاشا للوعي والنشاط. ثم بناء السبع الشداد. وجعل السراج الوهاج. وإنزال الماء الثجاج من المعصرات. لإنبات الحب والنبات والجنات ... توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق ، ويشي بالتدبير والتقدير ، ويشعر بالخالق الحكيم القدير. ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية ... ومن هنا يلتقي السياق بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون!).

كلمة في السياق :

جاءت هذه الفقرة بعد قوله تعالى : (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وقبل قوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) ومجيئها في هذا المقام يحوي ردا على تساؤلات الكافرين الواردة في المقدمة ، وردا على اختلافهم في شأن النبأ العظيم ، وتدليلا على اليوم الآخر الذي سيعلمون فيه أن ما قاله القرآن حق ، وذلك من خلال التذكير بظاهرة العناية ، وظاهرة الحكمة ، ومن خلال عرض مظاهر القدرة الإلهية حتى إذا اتضح هذا كله تأتي الفقرة الثانية ، وفيها كلام عما سيلقونه يوم القيامة ، وعما سيلقاه المتقون فيها ، أي : فيها كلام عن اليوم الذي سيعلمون فيه الحق فيما أخبرهم به القرآن فالسياق يقول (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) فإذا سأل سائل متى هذا؟ كان الجواب : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ...) وجاءت الفقرة الأولى فيما بين ذلك لتخدم ما قبلها وما بعدها بأن ترد على مواقف الكافرين المذكورة قبلها وتؤسس للكلام الذي يأتي بعدها فلنر الفقرة الثانية.

٢٤٤

الفقرة الثانية

وتمتد من الآية (١٧) إلى نهاية الآية (٣٩) وهذه هي :

المجموعة الأولى

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

المجموعة الثانية

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩))

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) بين أهل الكفر والإيمان ، بين المحسن والمسىء ، والمحق

٢٤٥

والمبطل ، (كانَ مِيقاتاً) قال النسفي : (أي : وقتا محدودا ومنتهى معلوما لوقوع الجزاء أو ميعادا للثواب والعقاب) وقال ابن كثير : يقول تعالى مخبرا عن يوم الفصل وهو يوم القيامة أنه مؤقت بأجل معدود ، لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، ولا يعلم وقته على اليقين إلا الله عزوجل ، ثم بين الله عزوجل هذا اليوم فقال : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) قال النسفي : أي : جماعات مختلفة ، أو أمما كل أمة مع رسولها (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) أي : وشقت السماء فكانت طرقا ومسالك لنزول الملائكة (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) قال ابن كثير : أي : يخيل إلى الناظر أنها شىء وليست بشىء ، وبعد هذا تذهب بالكلية ، فلا عين ولا أثر ، (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) قال ابن كثير : أي : مرصدة معدة (لِلطَّاغِينَ) وهم المردة العصاة المخالفون للرسل (مَآباً) أي : مرجعا ومنقلبا ومصيرا ونزلا (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) قال ابن كثير : أي : ماكثين فيها أحقابا ، وهو جمع حقب وهو المدة من الزمان. قال النسفي : وهو الدهر ، ولم يرد به عدد محصور ، بل الأبد ، كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يستعمل الحقب والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) أي : روحا ينفس عنهم حر النار (وَلا شَراباً) يسكن عطشهم (إِلَّا حَمِيماً) قال النسفي : أي : ماء حارا يحرق ما يأتي عليه (وَغَسَّاقاً) قال النسفي : أي : ماء السيل من صديدهم ، قال ابن كثير : فأما الحميم : فهو الماء الذي قد انتهى حره وحموه ، والغساق هو : ما اجتمع من صديد أهل النار ، وعرقهم ، ودموعهم وجروحهم ، فهو بارد لا يستطاع من برده ، ولا يواجه من نتنه. وفي الآيات الثلاث الأخيرة قال ابن كثير نقلا عن ابن جرير : ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) متعلقا بقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ، ونوع آخر ، وبعد أن عرض النسفي هذا القول قال : فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذبوا فيها بمنع البرد والشراب ، بدلوا بأحقاب أخر ، فيها عذاب آخر ، وهي أحقاب بعد أحقاب ، لا انقطاع لها. أقول : وعلى كل حال فلا يجوز أن نفهم بشكل من الأشكال أن عذاب الكافرين في النار إلى نهاية ، بل ذلك هو الكفر كائنا من كان صاحبه ، لأن الخلود الأبدي للكفار في النار من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة (جَزاءً وِفاقاً) أي : جوزوا جزاء موافقا لأعمالهم ، أو ذا وفاق لأعمالهم ، أي : هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في

٢٤٦

الدنيا ، ثم علل تعالى لاستحقاقهم ذلك بقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي : لا يخافون محاسبة الله إياهم ، أو لم يؤمنوا بالبعث فيرجوا حسابا ، قال ابن كثير : أي : لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارا يجازون فيها ، ويحاسبون (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : بالقرآن (كِذَّاباً) أي : تكذيبا ، قال ابن كثير : أي : وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله صلى الله عليهم وسلم فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) أي : مكتوبا في اللوح أو المعنى : كتبناه كتابة ، قال ابن كثير : أي : وقد علمنا أعمال العباد كلهم وكتبناها عليهم ، وسنجزيهم على ذلك إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قال ابن كثير : أي : يقال لأهل النار ذوقوا ما أنتم فيه فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه ، وآخر من شكله أزواج.

كلمة في السياق :

١ ـ لقد علل الله عزوجل لما استحق به الكافرون ما استحقوه بقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً* وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) فهما قضيتان : التكذيب بآيات الله ، وعدم رجاء الحساب ، ومن ههنا نعلم ماهية النبأ العظيم ، فالنبأ العظيم هو القرآن الذي تحدث عن اليوم الآخر ، وهكذا عرفنا من هذه المجموعة ماهية النبأ العظيم ، وعرفنا بماذا تهدد الله عزوجل به الكافرين بقوله : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ...).

٢ ـ بعد أن عرض الله عزوجل ما أعد للكافرين يحدثنا في المجموعة الثانية من الفقرة الثانية عما أعده عزوجل للمتقين ، وفي ذكر ما أعده الله عزوجل للمتقين في هذا السياق إشارة إلى أن ما يعطاه المتقون يوم القيامة نوع عذاب للكافرين ، وزيادة حسرة ، أخذنا ذلك من مجىء هذه المجموعة في سياق السورة التي قالت مقدمتها (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ).

٣ ـ حدثنا محور السورة أن للكافرين عذابا عظيما : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقد فصلت المجموعة التي مرت معنا في ماهية هذا العذاب العظيم.

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي : نجاة من كل مكروه ، وظفرا بكل محبوب ، قال ابن عباس : أي : متنزها (حَدائِقَ) أي : بساتين فيها أنواع الشجر المثمر

٢٤٧

(وَأَعْناباً) قال النسفي : أي : كروما (وَكَواعِبَ) أي : نواهد ، والنواهد هن اللواتي أثداؤهن لم يتدلين (أَتْراباً) أي : في سن واحدة (وَكَأْساً دِهاقاً) قال النسفي : أي : مملوءة (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) قال ابن كثير : أي : ليس فيها كلام لاغ عار عن الفائدة ، ولا إثم كذب ، بل هي دار السلام ، وكل ما فيها سالم من النقص (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) قال النسفي : يعني : كافيا أو على حسب أعمالهم ، وقال ابن كثير : أي : هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به ، وأعطاهموه بفضله ، ومنه وإحسانه ورحمته عطاء حسابا أي : كافيا وافيا سالما كثيرا ، تقول العرب : أعطاني فأحسبني ، أي : كفاني ، ومنه حسبي الله أي : كافي (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) أي : من هذه صفته هو الذي يعطيهم هذا العطاء (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) قال النسفي : أي : لا يملكون الشفاعة من عذابه تعالى إلا بإذنه ، أو لا يقدر أحد أن يخاطبه تعالى خوفا ، قال ابن كثير : أي : لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه. أقول : هذا مع اتصافه بكمال الرحمة جل جلاله (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال النسفي : أي : جبريل عند الجمهور (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) أي : مصطفين (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) أي : في أمر الشفاعة (وَقالَ صَواباً) قال النسفي : حقا بأن قال المشفوع له : لا إله إلا الله في الدنيا ، أو لا يؤذن إلا لمن يتكلم بالصواب في أمر الشفاعة (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) أي : الكائن لا محالة ، أي : الثابت وقوعه (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي : مرجعا وطريقا يهتدي إليه ، ومنهجا يمر به عليه ، وقال النسفي : أي : مرجعا بالعمل الصالح.

كلمة في السياق :

١ ـ بدأت الفقرة الثانية بقوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) وانتهت بقوله تعالى : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) وفي ذلك ما يشير إلى وحدة الفقرة الثانية التي عرضناها على مجموعتين.

٢ ـ بدأت السورة بالإنكار على تساؤل الكافرين عن النبأ العظيم ، المختلفين في شأنه ، ثم هددتهم بيوم ، ثم ذكرتهم بما يقتضي إيمانهم ، ثم تحدثت عن هذا اليوم الذي هددوا فيه وهو يوم الفصل ، وذكرت بعض ما يكون فيه مما سيعرفهم على أن كفرهم كان في غير محله ، وأن الحق هو ما دل عليه هذا القرآن ، وختمت الفقرة الثانية بما يهيج على السير إلى الله عزوجل ، ثم تأتي الخاتمة لتبين أن الله عزوجل قد أنذر الخلق ـ بهذا

٢٤٨

القرآن ـ ذلك اليوم ، فليس لهم حجة في عدم السير ، ولا في الكفر فلنر خاتمة السورة :

خاتمة السورة

وهي آية واحدة ، وهي الآية الأربعون وهذه هي :

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

التفسير :

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) قال ابن كثير : يعني : يوم القيامة لتأكد وقوعه صار قريبا ، لأن كل ما هو آت آت (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) قال ابن كثير : أي : يعرض عليه جميع أعماله خيرها وشرها ، قديمها وحديثها (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) قال النسفي : أي : في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف ، أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم ، فلم أبعث. قال ابن كثير : (أي : يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا ترابا ، ولم يكن خلق ولا خرج إلى الوجود ، وذلك حين عاين عذاب الله ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سطرت عليه بأيدي الملائكة السفرة الكرام البررة. وقيل : إنما يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات التي كانت في الدنيا فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور ، حتى إنه ليقتص للشاة الجماء من القرناء ، فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها : كوني ترابا ، فتصير ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي : كنت حيوانا فأرجع إلى التراب ، وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهما).

كلمة في السياق :

١ ـ بدأت السورة بالإنكار على من لم يؤمن بالقرآن ، وختمت بذكر مضمون الإنذار ، ولا شك أن وسيلة الإنذار هي القرآن ، وفيما بين المقدمة والخاتمة ذكر الله

٢٤٩

عزوجل ما به تقوم الحجة ، وما يعرف به مضمون ما يحدث في ذلك اليوم الذي أنذروه.

٢ ـ قلنا إن محور السورة هما الآيتان السادسة والسابعة من مقدمة سورة البقرة ، فلنر كل جزء منهما وما فصلت فيه سورة النبأ.

ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). لقد رأينا في السورة نموذجا من مواقف الكافرين ، إذ يتساءلون تساؤل إنكار واستهزاء عن هذا القرآن الذي هو نذير ، وأنزل على النذير ، وفي ذلك بيان عملي لمواقف الكافرين وأنهم يرفضون الإنذار ويختلفون في شأن النذير الذي هو القرآن ، ويتساءلون عنه سؤال استهزاء وإنكار ، وقد ردت السورة عليهم وأقامت الحجة دون أن تخاطبهم خطابا مباشرا (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ ... فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) وذلك أعظم مظهر لصلة السورة بمحورها ، فقد سجل في السورة بشكل غير مباشر أنهم لا يستفيدون من الإنذار مع إقامة الحجة عليهم.

ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) رأينا في السورة تفصيلا للعذاب العظيم الذي سيصيب هؤلاء الكافرين ، وقد رأينا في السورة معاني جديدة لم تذكر في مكان آخر من القرآن ، مما يؤكد ما ذكرناه من قبل أن كل سورة فيها جديد.

الفوائد :

١ ـ قلنا عند قوله تعالى : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) إن في هذه الآية معجزة علمية فمما تحدث عنه الجيولوجيون في عصرنا أن لكل جبل في الأرض جذرا وتديا في باطن الأرض يعدل ضعفي ارتفاعه فوق الأرض ، فالتعبير بكلمة (أوتادا) عن الجبال فيه معجزة في حد ذاته ، لأنه إخبار عن معنى ما عرف العالم دقائقه بما يتفق مع اللفظ القرآني إلا قريبا.

٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) قال صاحب الظلال : (وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتا يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط ؛ ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة ، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور

٢٥٠

الحياة ... وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها ، ولا نصيب لإرادته فيها ؛ ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه. فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم. وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها! وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الحي وأودعه ذلك السر ؛ وجعل حياته متوقفة عليه. فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة. فإذا أجبر إجبارا بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظا فإنه يهلك قطعا.

وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب ... إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف ، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته ـ طائعا أو غير طائع ـ ويستسلم لفترة من السلام الآمن ، السلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب. ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان ، والروح مثقل ، والأعصاب مكدودة ، والنفس منزعجة ، والقلب مروع. وكأنما هذا النعاس ـ وأحيانا لا يزيد على لحظات ـ انقلاب تام في كيان هذا الفرد. وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته ، وكأنما هو كائن حين يصحو جديد ... ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد ، وامتن الله عليهم بها. وهو يقول : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) ... (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) ... كما وقعت للكثيرين في حالات مشابهة!

فهذا السبات : أي : الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي ؛ وسر من أسرار القدرة الخالقة ؛ ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه. وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته ، وإلى اليد التي أودعتها كيانه ، ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر).

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قال ابن كثير : (قال قتادة عن أبي أيوب الأزدي عن عبد الله بن عمرو قال : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قال : فهم في مزيد من العذاب أبدا). أقول : وفي الآية رد على من ذهب إلى أن أهل النار يموتون أو ينتهي عذابهم ، أو يصبحون في وضع يستلذون به العذاب ، نسأل الله أن يميتنا على الفهم الفطري الصافي لكتاب الله الذي يحبه ويرضاه ، ويكرم أهله بكرامة الدارين.

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ

٢٥١

إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) قال النسفي : (اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا ، ما هو؟ على أقوال (أحدها) ما رواه العوفي عن ابن عباس : أنهم أرواح بني آدم. (الثاني) هم بنو آدم قاله الحسن وقتادة ، وقال قتادة : هذا مما كان ابن عباس يكتمه. (الثالث) أنهم خلق من خلق الله على صور بني آدم وليسوا بملائكة ولا ببشر وهم يأكلون ويشربون ، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو صالح والأعمش. (الرابع) هو جبريل ، قاله الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك ، ويستشهد لهذا القول بقوله عزوجل : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). وقال مقاتل بن حيان : الروح هو أشرف الملائكة وأقرب إلى الرب عزوجل وصاحب الوحي. (الخامس) أنه القرآن قاله ابن زيد كقوله (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الآية. (والسادس) أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات. قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال : هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقا). أقول : ما رجحه النسفي هو الذي نرجحه ، وهو أن المراد بالروح جبريل عليه‌السلام ، فالآية تذكر أن جبريل على كرامته على الله ، والملائكة الآخرون على كرامتهم عنده جل جلاله ، هذا أدبهم يوم القيامة.

كلمة أخيرة في سورة النبأ ومجموعتها :

فصلت سورة المرسلات وسورة النبأ في مقدمة سورة البقرة ، فتحدثنا عن المتقين والكافرين ، عن المتقين وما لهم عند الله عزوجل ، وعن الكافرين وما أعد لهم الله عزوجل من عذاب ، وبين السورتين صلات كثيرة ؛ فآخر سورة المرسلات متصل بأول سورة النبأ ، وكل من السورتين ورد فيها : (ألم) في بداية فقرة أو مجموعة ، ففي سورة المرسلات تكررت (ألم) ثلاث مرات ، ووردت مرة واحدة في سورة النبأ ، وفي كل من السورتين وردت في سياق إقامة الحجة ، وورد تعبير (يوم الفصل) في كل من السورتين فبين السورتين تشابه كثير.

والسورتان تفصلان في مقدمة سورة البقرة ، وكل منهما تحدثت عن المتفين والكافرين بآن واحد ، وذلك مضمون مقدمة سورة البقرة ، فالكلام عن المتقين يقتضي الكلام عن الكافرين والعكس ، ومن ثم فلا غرابة أن نجد ذلك في كل من السورتين ، وإن كان المحور الرئيسي لكل منهما هو ما رأيناه.

٢٥٢

وكما أن بين السورتين تشابها كثيرا ، واتصالا كبيرا ، فبينهما تكامل واضح ، فيوم الفصل الذي بدأت الحديث عنه سورة المرسلات أكملت الحديث عنه سورة النبأ ، والكلام عن المكذبين الذي تحدثت عنه سورة المرسلات تحدثت سورة النبأ عن مظاهر منه ، والكلام عن عذاب الكافرين وثواب المتقين ـ الذي رأينا طرفا عنه في سورة المرسلات ـ رأينا طرفا آخر عنه في سورة النبأ ، هذا مع أن لكل سورة محورها وسياقها وجرسها وأسلوبها وطريقة عرضها ونوع خطابها ، ومع هذا كله فإنه في كل من السورتين يظهر لنا كيف أن كل سورة قرآنية تعطينا جديدا ، ولكنها تعرضه ضمن معان قد تكون تكررت من قبل كثيرا أو قليلا ، ولكن الجديد الكثير يبقى كثيرا ، وذلك من حكمة الله عزوجل في هذا القرآن إذ يرفع النفس البشرية في كل سورة إلى مقام جديد ، إن في التصورات ، أو في السلوك بالشكل الذي يحيط بجوانب النفس البشرية ، وذلك كذلك من حكمة هذا القرآن إذ يذكر النفس البشرية بالقضايا التي تنساها كثيرا أو تغفل عنها كثيرا يذكرها بها كثيرا ، ولكن في كل مرة بشكل جديد ، حتى لا تمل هذه النفس ، ومن الجديد في السورتين القرار المكين للنطفة ، والشرر كالقصر ، ووتدية الجبال ، وازدياد العذاب باطراد على أهل النار ، وبقاؤهم في نوع معين من العذاب أحقابا لينتقلوا إلى نوع آخر ، وغير ذلك كثير لمن دقق ، ولننتقل إلى المجموعة التاسعة من قسم المفصل.

٢٥٣

المجموعة التاسعة

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سور :

النازعات ، وعبس ، والتكوير

والانفطار

٢٥٤
٢٥٥

كلمة في المجموعة التاسعة من قسم المفصل ومحاور سورها

تبدأ هذه المجموعة بسورة النازعات ، وهي تفصل في الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة ، ولذلك نجد تشابها بينها وبين سورة (طه) في قصة فرعون وموسى ، ونجد فيها ما يشير إلى الأصل الذي تنبثق عنه التقوى (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى).

وتأتي بعد ذلك سورة عبس ، وتفصل في الآيتين اللاحقتين من سورة البقرة ، ومن ثم تعاتب في ابتدائها النذير في قضية لها علاقة بالإنذار ، وتأتي بعد ذلك سورتا التكوير والانفطار ، وكلاهما تفصل فيما بعد آيات مقدمة سورة البقرة ، ولذلك نجد في الأولى تهييجا على العمل ، والاستقامة ، ونجد في الثانية تأنيبا للإنسان على ترك العمل ، فلنر سور المجموعة.

٢٥٦
٢٥٧

سورة النازعات

وهي السورة التاسعة والسبعون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الأولى من المجموعة التاسعة من قسم

المفصل ، وهي ست وأربعون آية

وهي مكية

٢٥٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٢٥٩

كلمة في سورة النازعات ومحورها :

تبدأ السورة بأقسام يفهم جوابها من سياق السورة ، ثم تحدثنا عن اليوم الآخر ، وموقف الكافرين منه ، ثم تقص علينا من نبأ فرعون وموسى ، فتعطينا دروسا في التقوى ، ثم تخاطب السورة البشر مذكرة إياهم بنعم الله التي تقتضي شكره وتقواه ، ثم يعود الحديث عن اليوم الآخر بما يهيج على التقوى ، ثم تختم السورة باستهجان السؤال عن موعد الساعة ، فالسورة في سياقها العام تربي على التقوى ، وتفصل في الآيات الخمس الأولى من مقدمة سورة البقرة : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

تتألف السورة من مقدمة وفقرتين وخاتمة.

المقدمة وتستمر حتى نهاية الآية (١٤).

الفقرة الأولى وتستمر حتى نهاية الآية (٢٦).

الفقرة الثانية وتستمر حتى نهاية الآية (٤١).

الخاتمة : وتستمر حتى نهاية السورة.

بين يدي سورة النازعات :

قال الألوسي في تقديمه لسورة النازعات : (وتسمى : سورة الساهرة ، والطامة ، وهي مكية بالاتفاق. وعدد آيها ست وأربعون في الكوفي ، وخمس وأربعون في غيره ، وعن ابن عباس أنها نزلت عقب سورة عم. وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر عم ، أو ما تضمنته كلها ، وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة ، أقسم عزوجل في هذه على البعث ذلك اليوم).

٢٦٠