الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

فاصبر لحكم ربك عليك بتبليغ الرسالة ، واحتمال الأذية ، وتأخير نصرتك ... (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) قال النسفي : أي : من الكفرة للضجر من تأخير الظفر (آثِماً) أي : راكبا لما هو إثم ، داعيا لك إليه (أَوْ كَفُوراً) قال النسفي : أي : (فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه ؛ لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر ، فنهي أن يساعدهم على الأولين دون الثالث) ، وقال ابن كثير : أي : لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صدك عما أنزل إليك ، بل بلغ ما نزل إليك من ربك وتوكل على الله ، فإن الله يعصمك من الناس ، فالآثم هو الفاجر في أفعاله ، والكفور هو الكافر قلبه (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) قال ابن كثير : أي : أول النهار وآخره ، وقال النسفي : (أي : قيل له بكرة : صلاة الفجر ، وأصيلا : صلاة الظهر والعصر) (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) قال النسفي : (أي : وبعض الليل فصل العشائين) (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) قال النسفي : أي : تهجد له هزيعا طويلا من الليل : ثلثيه أو نصفه أو ثلثه ، قال ابن كثير : ثم قال تعالى منكرا على الكفار ومن أشبههم في حب الدنيا والإقبال عليها ، والانصباب إليها ، وترك الدار الآخرة وراء ظهورهم (إِنَّ هؤُلاءِ) الكفرة (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي : يؤثرونها على الآخرة (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) أي : قدامهم أو خلف ظهورهم (يَوْماً ثَقِيلاً) أي : شديدا لا يعبأون به ، وهو يوم القيامة ؛ لأن شدائده تثقل على الكفار ، فإذا كان هؤلاء كذلك ومن ثم لا يعملون فلا ينبغي أن يكون المسلم كذلك (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا) أي : أحكمنا (أَسْرَهُمْ) أي : خلقهم (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) قال النسفي : (أي : إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم ، وبدلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع).

كلمة في السياق :

١ ـ بدأت السورة بقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) لاحظ كلمة (خلقنا) في الآية الثانية ، ونلاحظ أنه قد ورد معنا في آخر آية عرضناها من الفقرة الثانية : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) وهذا يشعرنا أن معاني متعانقة في السورة قد انتهى عرضها لوجود نهاية تشبه البداية ، ولذلك فإن الآية اللاحقة تأتي وكأنها تعليق على ما مر : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ

٢٠١

فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

٢ ـ أمرت المجموعة التي مرت معنا من هذه الفقرة بالصبر على قضاء الله عزوجل ، وترك طاعة الآثمين والكافرين ، وأمرت بالصلوات ، ومن قبل ذكرت السورة بشكل ضمني : بالوفاء بالنذر ، وبإطعام الطعام ، وبالخوف من الله عزوجل ، وبالصبر ، وبالشكر ، وحذرت من الكفر ، وذكرت ما أعد الله للكفار ، وما أعده للأبرار ، وهذه معان تعتبر أمهات في الطريق إلى الله عزوجل ، ومن ثم يأتي الآن مباشرة قوله تعالى عن السورة : (إِنَّ هذِهِ) أي : السورة (تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

٣ ـ لنتذكر الآن محور السورة من سورة البقرة : بعد مقدمة سورة البقرة جاءت آيات تأمر بالعبادة للوصول إلى التقوى ، وتذكر بمعان تستوجب الشكر من العبد ، ثم أقامت الحجة على من يرتاب بالقرآن ، وحذرت من النار ، وأمرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبشير الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وقد فصلت سورة الإنسان حتى الآن في هذا كله ، وبعد ذلك يأتي في سورة البقرة قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) والمجموعة الأخيرة من سورة الإنسان تتحدث عن معنى موجود في هذه الآية ، وهو أن الهداية والضلال بمشيئة الله عزوجل ، ولا شىء يخرج عن مشيئته تعالى ، فالكافرون لم يكفروا ولم يضلوا إلا بمشيئته ، وفي ذلك مظهر من مظاهر عزة الله عزوجل ، فليس الكافر يعصي قهرا لله ، بل يفعل ذلك بمشيئة الله ، ولا يجني إلا على نفسه ، هذا مع العلم أن الله عزوجل لا يضل أحدا إلا بسبب ، فكون الإضلال بمشيئة الله لا ينفي اختيار الإنسان ، وهكذا نجد أن سورة الإنسان فصلت في الآيات السبع الآتية بعد مقدمة سورة البقرة ، فلنر المجموعة الثانية من الفقرة الثانية.

تفسير المجموعة الثانية.

(إِنَّ هذِهِ) أي : السورة (تَذْكِرَةٌ) أي : عظة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) قال النسفي : بالتقرب إليه بالطاعة له واتباع رسوله ، وقال ابن كثير : أي : طريقا ومسلكا ، أي : من شاء اهتدى بالقرآن (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)

٢٠٢

قال ابن كثير : أي : لا يقدر أحد أن يهدي نفسه ، ولا يدخل في الإيمان ، ولا يجر لنفسه منفعا (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) قال النسفي : أي : إلا وقت مشيئة الله وإنما يشاء الله ذلك ممن علم منه اختياره ذلك ، وقيل هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان ، والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) قال ابن كثير : أي : عليم بمن يستحق الهداية فييسر له ، ويقيض له أسبابها ، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي : جنته لأنها برحمته تنال (وَالظَّالِمِينَ) أي : الكافرين ، وسموا بذلك لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) جزاء عدلا على ظلمهم ، وهكذا أكد الله عزوجل أن الهداية بمشيئته ، والضلال بمشيئته ، ولكنه يهدي فضلا ، ويضل عدلا ، وعموم المشيئة لا ينافي اختيار الإنسان ، فالاختيار قائم والمشيئة عامة ، وعموم المشيئة مظهر العزة والعظمة ، وإلا يكون عصيانه مراغمة له سبحانه ، ويكون نيل رضوانه بغير توفيق منه ، ومن لا يعرف الله عزوجل حق المعرفة تخرج منه الأعاجيب.

كلمة في السياق :

رأينا أثناء عرض السورة سياق السورة الخاص ، وصلتها بمحورها من سورة البقرة ، وواضح أنها فصلت في الطريق ، فهي سورة تهيج على السير إلى الله عزوجل فلنأخذ حظنا من العمل منها ، ومن ثم فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرؤها مع سورة (الم تنزيل السجدة) في صلاة الصبح يوم الجمعة كما سنرى في الفوائد.

الفوائد :

١ ـ قدم ابن كثير لتفسير سورة الإنسان بما يلي : (قد تقدم في صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (الم تَنْزِيلُ) السجدة ، و (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) وقال عبد الله ابن وهب : أخبرنا ابن زيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه السورة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ)).

٢ ـ في مقال نشرته مجلة الأمان في عددها (٥٩) تحدث الدكتور الطبيب محمد علي البار عن النطفة الأمشاج ، حاول فيه الدكتور أن يبين أبعاد قوله تعالى : (إِنَّا

٢٠٣

خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) وكيف أن فيه معجزة علمية يدركها من عرف تدرج النظريات في شأن نشأة الجنين ومن كلامه في هذا المقال نقتطف ما يلي :

(لم تكن البشرية تعرف شيئا عن النطفة الأمشاج ... فقد كان الاعتقاد السائد لدى الفلاسفة أن الجنين الإنساني إنما يتكون نتيجة ماء الرجل ... وأن رحم المرأة ليس إلا محضنا لنمو ذلك الجنين ، وشبهوا ذلك بالذرة ترمى في الأرض فتأخذ منها الغذاء فتخرج منها شجرة يانعة ... فليس للمرأة دور في الجنين سوى رعايته وتغذيته ... أما أن يكون الولد نتيجة مشج ماء الرجل وماء المرأة فأمر لم تعرفه الإنسانية إلا على لسان أنبياء ... وكما قال ذلك اليهودي الذي استشهدت به قريش : كذلك كان يقول من كان قبلك من الأنبياء. أما خارج نطاق النبوة فقد ظلت الإنسانية في عمى كامل حتى العصور الحديثة.

ولقد ظلت النظرية السائدة ـ والقائلة بأن الجنين الإنساني ليس إلا نتيجة للحيوان المنوي فحسب ـ ظلت هذه النظرية مسيطرة على الفكر البشري حتى بعد أن قام العالمان : هام ، وليفن هوك عام ١٦٧٧ باكتشاف الحيوان المنوي ، وبعد أن قام جراف باكتشاف البويضة عام ١٦٧٢. ومن ذلك التاريخ ظهرت نظرية أخرى تقول بأن البويضة تحتوى على الجنين الإنساني كاملا ... وأن دور الحيوان المنوي هو فقط في تنشيط البويضة. ولكن ليس له أي دور في تكوين الجنين. وظلت هاتان النظريتان تتصارعان حتى عام ١٧٤٥ م عندما اكتشف العالم بونيه بأن بويضات بعض الحشرات تنمو إلى أجنة كاملة دون الحاجة مطلقا إلى الذكر (الولادة بدون ذكر أو أب). وعندئذ بدا أن أصحاب البويضة قد حققوا انتصارا دامغا على خصمائهم من أصحاب النظرية الأخرى التي تنسب الجنين إلى الحيوان المنوي فقط.

واستمرت مع ذلك هذه المعارك حتى ظهر سبالانزي الذي عاش ما بين ١٧٢٧ ـ ١٧٩٩ ، ووولف الذي عاش في الفترة ما بين ١٧٣٣ إلى ١٧٩٤ ، اللذان أظهرا بالتجارب أن كلا من البويضة والحيوان المنوي يساهمان في تكوين الجنين ... وقدم وولف نظريته القائلة بأن البويضة الملقحة تتكاثر وتنقسم لتكون الجنين طورا بعد طور ، ومرحلة بعد مرحلة ... وقد كانت النظرية السائدة حتى ذلك الحين بأن الجنين موجود بصورة مصغرة في الحيوان المنوي كما يقول أصحاب نظرية الحيوان المنوي ، أو موجود بصورة مصغرة في البويضة كما يقول أصحاب نظرية البويضة ... وأنه ليس هناك إلا النمو

٢٠٤

لهذا الجنين المصغر ... ورغم وجاهة نظرية وولف وقربها من الحقيقة إلا أنها أهملت لمدة نصف قرن من الزمان ... ولم ينفض عنها الغبار إلا بعد أن اكتشف شيلون وشوال أسس تركيب الجسم الحيواني المكون من مجموعة من الخلايا ... وأن الخلية الحية هي وحدة بناء الجسم الحي ... وذلك في عام ١٨٣٩.

وقد مهدت هذه المعلومات الطريق لمعرفة أن تكوين الجنين إنما يتم بالتزاوج والاختلاط بين خلية الذكر (الحيوان المنوي) وخلية الأنثى (البويضة) ... وقد تأكدت هذه المعلومات وأصبحت ضمن الحقائق العلمية في أواخر القرن التاسع عشر ، وأوائل القرن العشرين.

أطوار الجنين : لقد ظلت النظرية السائدة أن الجنين البشري موجود بصورة كاملة ومصغرة في البويضة ، أو في الحيوان المنوي ، حتى أظهر وولف في أواخر القرن الثامن عشر نظريته القائلة بأن البويضة الملقحة تنقسم وتتكاثر وتمر بعدة أطوار قبل أن تشبه الطور الإنساني.

ولكن نظرية وولف هذه قوبلت بالإهمال لمدة نصف قرن من الزمان ، ولم يكتب لها الظهور إلا بعد اكتشافات شوال وشيلدن حول الخلية الحية ، وأنها لبنة البناء لجميع أنسجة الكائن الحي ... وذلك عام ١٨٣٩ ... ثم توالت الاكتشافات العلمية التي تؤيد نظرية وولف حتى أصبحت حقيقة في أواخر القرن التاسع عشر ، وأوائل القرن العشرين.

وقد تحدث القرآن الكريم عن أطوار الجنين في مواضع متعددة ... وكذلك فصلت في ذلك السنة المطهرة. قال تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) قال ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد : معناه من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة إلى آخر أطوار الإنسان.

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً).

وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي

٢٠٥

قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً* فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً* فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً* فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً* ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ* فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ).

والقرآن الكريم والسنة المطهرة يكشفان عن الحقيقة العلمية قبل اكتشافها بألف وثلاثمائة عام.

النطفة والأمشاج :

الآيات : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الإنسان : ١ ، ٢).

قال ابن جرير الطبري في تفسيره : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) : إنا خلقنا ذرية آدم من نطفة ، يعني : من ماء الرجل وماء المرأة. والنطفة كل ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة أو غير ذلك. وقوله أمشاج يعني : أخلاط واحدها مشج ومشيج ، يقال فيه : إذا مشجت هذا بهذا خلطته ، وهو ممشوج به ، ومشيج أي مخلوطه ... وهو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.

وروى بسنده عن عكرمة قوله (أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) قال : ماء الرجل مع ماء المرأة يمشج أحدهما الآخر ، وروي عنه أيضا قوله : ماء الرجل وماء المرأة يختلطان. وروى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ماء المرأة وماء الرجل يختلطان ، وقال الربيع ابن أنس : إذا اجتمع ماء المرأة وماء الرجل.

وقال الحسن البصري : مشج (خلط) ماء المرأة مع ماء الرجل.

قال مجاهد : خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة ، وقد قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى).

وذكر ابن جرير أقوالا أخرى مثل قول قتادة : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) أي : أطوار الخلق طورا نطفة ، وطورا علقة ، وطورا مضغة ، وطورا عظاما ، ثم كسا الله العظام لحما ، ثم أنشأناه خلقا آخر ... وروى عنه أيضا : الأمشاج اختلاط الماء والدم بالنطفة ، ثم كان علقة ثم كان مضغة ... وانتهى ابن جرير إلى ترجيح القول الأول وهو : أن النطفة الأمشاج هي اختلاط ماء الرجل بماء المرأة قال : وأشبه

٢٠٦

هذه الأقوال بالصواب قول من قال معنى ذلك من نطفة أمشاج : نطفة الرجل ونطفة المرأة ، لأن الله تعالى وصف النطفة بأنها أمشاج ... وهي إذا انتقلت فصارت علقة فقد استحالت عن معنى النطفة ، فكيف تكون نطفة أمشاجا وهي علقة.

تفسير ابن كثير للآية : يقول تعالى مخبرا عن الإنسان أنه وجد بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، لضعفه وحقارته ، فقال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ثم بين ذلك فقال جل جلاله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) أي : أخلاط ، والمشج والمشيج الشىء المختلط بعضه على بعض.

وقال ابن عباس في قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) يعني : ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا ، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور ، ومن حال إلى حال ، ومن لون إلى لون ، وهكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن البصري والربيع بن أنس : الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.

الأحاديث : أخرج الإمام أحمد في مسنده : أن يهوديا مر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يحدث أصحابه فقالت قريش : يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي فقال : لأسألنه عن شىء لا يعلمه إلا نبي فقال : يا محمد مم يخلق الإنسان؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا يهودي ، من كل يخلق ، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة» فقال اليهودي : هكذا كان يقول من قبلك (أي : من الأنبياء).

مما تقدم يتضح بجلاء أن ما اكتشفته البشرية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قد تحدث به القرآن الكريم بلا أدنى لبس أو مواربة ، وقد وضحته الأحاديث النبوية الشريفة ... كما أن الصحابة والتابعين من أعلام المفسرين ـ وعلى رأسهم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قد فهموا من الآيات الكريمة ما نفهمه نحن اليوم بعد الاكتشافات العلمية ، وقد نقلنا ذلك عنهم حسب ما رواه شيخ المفسرين ابن جرير الطبري ، والحافظ ابن كثير الدمشقي ، وغيرهم من أعلام التفسير في القديم والحديث ، ولا أظن أحدا سيتهمنا بأننا نعتسف النصوص لنفسر بها الإعجاز العلمي في القرآن الكريم).

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) قال ابن كثير : (وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لكعب

٢٠٧

ابن عجرة : «أعاذك الله من إمارة السفهاء» قال : وما إمارة السفهاء؟ قال : «أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي ، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ، ولا يردون على حوضي ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم ، فأولئك مني وأنا منهم ، وسيردون على حوضي ، يا كعب بن عجرة : الصوم جنة ، والصدقة تطفىء الخطيئة ، والصلاة قربان ـ أو قال : برهان ـ يا كعب بن عجرة : إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت ، النار أولى به ، يا كعب : الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها» ورواه عن غياث بن وهب عن عبد الله بن خثيم به وقد تقدم في سورة الروم عند قوله جل جلاله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) من رواية جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا».

وروى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان : راية بيد ملك ، وراية بيد شيطان فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته ، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته ، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته»).

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) قال ابن كثير : (أي : يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع ، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر. روى الإمام مالك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» رواه البخاري من حديث مالك).

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) قال ابن كثير : (وروى البيهقي من طريق الأعمش عن نافع قال : مرض ابن عمر فاشتهى عنبا أول ما جاء العنب ، فأرسلت صفية ـ يعني : امرأته ـ فاشترت عنقودا بدرهم ، فاتبع الرسول سائل فلما دخل به قال السائل : السائل ، فقال ابن عمر : أعطوه إياه فأعطوه إياه ، فأرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودا ، فاتبع الرسول السائل فلما دخل قال السائل : السائل ، فقال ابن عمر : أعطوه إياه ، فأعطوه إياه ، فأرسلت صفية إلى السائل فقالت : والله إن عدت لا تصيب منه خيرا أبدا ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت

٢٠٨

به ، وفي الصحيح : «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر» أي : في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه).

٦ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) قال ابن كثير : (أما المسكين واليتيم فقد تقدم بيانهما وصفتهما ، وأما الأسير فقال سعيد بن جبير والحسن والضحاك : الأسير من أهل القبلة ، وقال ابن عباس : كان أسراؤهم يومئذ مشركين ، ويشهد لهذا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء ، وقال عكرمة : هم العبيد ، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك ، وهكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة ، وقد وصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث حتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول : «الصلاة وما ملكت أيمانكم» قال مجاهد : هو المحبوس أي : يطعمون الطعام لهؤلاء وهم يشتهونه ويحبونه ، قائلين بلسان الحال : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ)).

٧ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) قال ابن كثير : (وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الداراني قال : قرىء على أبي سليمان الداراني سورة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) فلما بلغ القارىء إلى قوله تعالى (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) قال : بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا ثم أنشد يقول :

كم قتيل لشهوة وأسير

أف من مشته خلاف الجميل

شهوات الإنسان تورثه الذل

وتلقيه في البلاء الطويل)

٨ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) قال ابن كثير : (وقد قدمنا في الحديث المروي من طريق نوير بن أبي فاختة عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ، ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه» فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة فما ظنك بما هو أعلى منزلة وأحظى عنده تعالى).

٩ ـ في سورة الإنسان قال تعالى : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) وفي سورة فاطر قال تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) وقد جمع ابن كثير بين

٢٠٩

الآيتين بأن : الفضة للأبرار ، والذهب واللؤلؤ للمقربين ، قال ابن كثير : (وهذه صفة الأبرار ، وأما المقربون فكما قال تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) وأما النسفي فقال في الجمع بين الآيتين : (قال ابن المسيب : لا أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة ، واحدة من فضة ، وأخرى من ذهب ، وأخرى من لؤلؤ) والله أعلم.

كلمة أخيرة في سورة الإنسان ومجموعتها :

رأينا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكرر سورة الإنسان في صلاة الصبح يوم الجمعة ، وما ذلك إلا لما تضمنته من معان يستغرق التبشير منها حيزا كبيرا ، ورسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يبشر المؤمنين ، ولا شك أن من يصلي الصبح في جماعة فذلك مظنة الإيمان ، فأن يسمعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صبيحة كل جمعة سورة الإنسان فذلك تحقيق للأمر بالتبشير ، فالسورة وإن أنذرت إلا أنه يغلب عليها التبشير ، وهي مع ذلك تدل على الطريق إلى الله ، وتذكر بمكارم الأخلاق العليا.

وسورة الإنسان تكمل سورة القيامة ، فسورة القيامة تبرهن على مجىء يوم القيامة ، وسورة الإنسان تتحدث عما يكون يوم القيامة ، وعما أعد الله لنوعي الناس الكفار والأبرار فيه ، كما أنها تذكر الطريق للنجاة يوم القيامة ، وبهذا تتكامل السورتان اللتان تشكلان مجموعة واحدة.

وسورة القيامة ناقشت أخطر قضيتين تبرزان بشكل حاد في الحياة البشرية وهما استبعاد البعث ، وتصور أن الإنسان حر غير مسؤول ، وهاتان القضيتان هما محور أكثر ما يكتب في العالم اليوم ، حتى إنك لو أردت أن تلخص الأفكار المطروحة في سوق الأدب والفكر لوجدتها تتلخص بالعناوين التالية : الإنسان حر غير مسؤول أمام الله ، الهزؤ من التكاليف الدينية ، الإنسان صانع حياته وسلوكه وأفكاره ومجتمعه. كل هذه المعاني يدور حولها بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر التوجيه العام للأنظمة في العالم كله وتنبثق عنها كتب المدارس الفكرية والفلسفية والأدبية والفنية في العالم ، حتى ليندر كتاب فكري لا تجد فيه مثل هذه المعاني ، بل إن أجهزة الإعلام من راديو

٢١٠

وتلفزيون وصحافة موجهة أو صحافة جرة تربي على هذا المعنى ، ومن ثم تجد الإنسان العادي الذي لم تصل إليه التربية الإسلامية هذا شأنه ، وهذا تفكيره ، وهذا سلوكه ، ولذلك تجده بعيد التفكير عن الشعور بمسؤوليته أمام الله عزوجل ، وعندما تحدثه عن هذا الموضوع تجدك تتحدث مع إنسان يبعد عنك آلاف الأميال ، فتحتار كيف تسمعه ما تريد ، وتقرب إليه ما تريد ، ليستشعر أن نقطة البداية في السلوك البشري أن ينطلق الإنسان من كونه مسؤولا أمام الله عزوجل ، وأن عليه أن يصوغ حياته انطلاقا من هذه الحقيقة ، لقد ناقشت سورة القيامة هذا الموضوع ، ومن ثم فإن الوقوف عندها مهم.

وتأتي سورة الإنسان بعدها لتتحدث عن الطريق ، فتكمل المعاني التي جاءت في سورة القيامة ، ومن قبل قلنا : إن سور المجموعة الواحدة تتكامل مع بعضها لتؤدي دورا متكاملا في التوجيه والتفصيل ، فبقدر ما يحدث انصهار بمعاني سورة القيامة ، وبقدر ما يوجد عمل في ما توجه إليه سورة الإنسان ، يكون الابتعاد عن التصورات الإنسانية الخاطئة في باب مسؤولية الإنسان. ولننتقل إلى المجموعة الثامنة.

٢١١

المجموعة الثامنة

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سورتي :

(المرسلات ، والنبأ)

٢١٢
٢١٣

كلمة في المجموعة الثامنة من قسم المفصل

دلنا على بداية هذه المجموعة ونهايتها أن سورة المرسلات مبدوءة بقسم كسورة الصافات والذاريات ، وتلك علامة على بداية مجموعة ، إذا لم يكن سبب مانع ، وبعد سورة النبأ تأتي سورة النازعات المبدوءة بقسم ، مما يشير إلى أنها بداية مجموعة جديدة ، فتعين أن سورتي المرسلات والنبأ مجموعة واحدة ، وقد مرت معنا حتى الآن أكثر من مجموعة ثنائية ، فسورتا (الصافات) و (ص) شكلتا مجموعة واحدة ، وسورتا الحشر والممتحنة شكلتا مجموعة واحدة ، وسورتا القيامة والإنسان شكلتا مجموعة واحدة ، وهاتان السورتان تشكلان مجموعة واحدة ، ونحب هنا أن نسجل ملاحظة هي :

إن كلمة يوم الفصل تتكرر أكثر من مرة في سورة المرسلات ، وترد مرة واحدة في سورة النبأ ، وهذه الكلمة نفسها وردت في سورة الصافات من قبل في قوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) والملاحظ أن كلمة النبأ وردت في سورة (ص) في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ،) وأن سورة النبأ تبدأ بقوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ.) مما يوحي بالتشابه بين مجموعة الصافات ومجموعة المرسلات ، ومما يشعرنا بوحدة المحاور ، فالصافات وص فصلتا في مقدمة سورة البقرة ، والظاهر أن سورتي المرسلات والنبأ تفصلان في مقدمة سورة البقرة ، الأولى منهما كالصافات تفصل في الآيات الخمس الأولى التي تتحدث عن المتقين ، والثانية منهما تفصل في الآيتين بعد ذلك على تداخل بينهما وتكامل.

والملاحظ أن سورة الإنسان تحدثت عما أعد الله عزوجل للكافرين ، وعما أعده للأبرار ، وأن سورة المرسلات تبدأ بمجموعة أقسام جوابها (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) ثم تتحدث السورة عما يجري في ذلك اليوم ، فالصلة بين سورتي الإنسان والمرسلات واضحة المعالم ، وسورة الإنسان تنتهي بقوله تعالى : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ،) ولازمة سورة المرسلات هي (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.) فالصلة بين نهاية سورة الإنسان وبين سورة المرسلات واضحة. فلنبدأ عرض سورتي المجموعة.

٢١٤
٢١٥

سورة المرسلات

وهي السورة السابعة والسبعون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الأولى من المجموعة الثامنة من قسم

المفصل ، وهي خمسون آية

وهي مكية

٢١٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله

وأصحابه ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٢١٧

بين يدي سورة المرسلات :

قدم الألوسي لسورة المرسلات بقوله : (وتسمى سورة العرف. وهي مكية. وآيها خمسون آية بلا خلاف. ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) الخ افتتح هذه بالأقسام على ما يدل على تحقيقه ، وذكر وقته وأشراطه ، وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة قبل من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار).

وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة : (هذه السورة حادة الملامح ، عنيفة المشاهد ، شديدة الإيقاع ، كأنها سياط لاذعة من نار. وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة ، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات ، تنفذ إليها كالسهام المسنونة!

وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة ، وحقائق الكون والنفس ، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض. وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ!)

ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة. وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة ، ومشاهدها العنيفة ، وإيقاعها الشديد.

وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة (الرحمن) عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ ...) كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة (القمر) عقب كل حلقة من حلقات العذاب : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟ ...) وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة ، وطعما مميزا ... حادا.

وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة ، متعددة القوافي. كل مقطع بقافية. ويعود السياق أحيانا إلى بعض القوافي مرة بعد مرة. ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص ، وعنفها الخاص. واحدة إثر واحدة. وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر ، بنفس العنف وبنفس الشدة).

وقال صاحب الظلال في ختام السورة : (إن السورة بذاتها ، ببنائها التعبيري ،

٢١٨

وإيقاعها الموسيقي ، ومشاهدها العنيفة ، ولذعها الحاد ... إنها بذاتها حملة لا يثبت لها قلب ، ولا يتماسك لها كيان.

فسبحان الله الذي نزل القرآن ، وأودعه هذا السلطان!).

كلمة في سورة المرسلات ومحورها :

تبدأ سورة المرسلات بمقدمة توصل إلى فقرة ، والفقرة توصل إلى فقرة أخرى ، بتسلسل عجيب يناقش المكذبين وينذرهم ، ليصل إلى الحديث عن المتقين ومآلهم ، والمكذبين وحالهم ، لتكون الحصيلة وصفا ضمنيا للمتقين وذلك يرتبط برباط وثيق بالآيات الأولى من سورة البقرة : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). ومن ثم نجد في السورة قوله تعالى عن القرآن :

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي : بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ).

ونجد قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ).

ونجد قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ).

ونجد قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يتردد كثيرا ، وفيه تهديد للذين لا يؤمنون بالغيب ، والذين لا يؤمنون بما أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين لا يؤمنون بالبعث ، ومن هذه الملاحظات السريعة ندرك صلة السورة بما ذكرناه من الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة.

تتألف السورة من مقدمة هي سبع آيات ، ومن فقرتين :

الفقرة الأولى تستمر حتى الآية (٤٠) ، والفقرة الثانية تستمر حتى نهاية السورة أي : حتى نهاية الآية (٥٠). فلنبدأ عرض السورة.

٢١٩

مقدمة السورة

وتستمر حتى نهاية الآية (٧) وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧))

التفسير :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) أكثر المفسرين على أن المراد بها الملائكة ، والعرف يحتمل أنه المعروف ، ويحتمل أنه عرف الفرس ، فعلى الأول يكون المعنى : والملائكة المرسلات بالإحسان والمعروف ، وفي ذلك إشارة إلى أن الوحي كله معروف لا شر فيه ، إذ به يرسل الله ملائكته إلى رسله ، وعلى المعنى الثاني يكون المعنى : والملائكة المرسلات متتابعات كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضا في مواكب تأتي مع الوحي ، أو تأتي إلى الأرض لتقوم بوظائفها كحضور حلقات الذكر ، وحضور الصلوات.

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) جزم ابن جرير بأن المراد بالعاصفات الرياح ، وهو قول ابن مسعود وعلي بن أبي طالب وكثيرين. قال ابن كثير : (العاصفات هي الرياح ويقال : عصفت الرياح إذا هبت بتصويت). أقول : إن بين ذكر الملائكة المرسلة والرياح العاصفة مناسبة واضحة. فالملائكة تأتي بالخير من وحي وبشارة ونصر وسكينة ، والرياح تأتي بالخصب والمطر ، ففيما بين القسم بالملائكة والقسم بالرياح مناسبة واضحة ، والقسم بالرياح معطوف بالفاء على القسم بالملائكة ، مما يشير إلى أن الخير الذي تأتي به الملائكة مقدم على الخير الذي تأتي به الرياح ، فشتان بين الخير الذي هو غذاء الأرواح والعقول والقلوب ، والخير الذي هو غذاء الأجسام ، وجواب القسم سيأتي فيما بعد ، والمعروف أن حرف القسم الرئيسي هو الواو الذي سيذكر

٢٢٠