الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤
١٠١

سورة المزمل

وهي السورة الثالثة والسبعون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الخامسة من المجموعة السادسة من قسم

المفصل ، وهي عشرون آية

وهي مكية

١٠٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

١٠٣

بين يدي سورة المزمل :

قدم الألوسي لسورة المزمل بقوله : (مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة كما ذكر الماوردي : إلا الآيتين منها (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) والتي تليها ، وحكى في البحر عن الجمهور أنها مكية إلا قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) إلى آخرها ، وتعقبه الجلال السيوطي بعد أن نقل الاستثناء عن حكاية ابن الفرس بقوله : ويرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أن ذلك نزل بعد نزول صدر السورة بسنة ، وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك. وآيها : ثماني عشرة آية في المدني الأخير ، وتسع عشرة في البصري ، وعشرون فيما عداهما. ولما ختم سبحانه سورة الجن بذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام افتتح عزوجل هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام ، وهو وجه في المناسبة ، وفي تناسق الدرر لا يخفى اتصال أولها (قُمِ اللَّيْلَ) الخ بقوله تعالى في آخر تلك : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) وبقوله سبحانه : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) الآية).

وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة : (وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد. ويكاد يكون على روي واحد. هو اللام المطلقة الممدودة. وهو إيقاع رخي وقور جليل ؛ يتمشى مع جلال التكليف ، وجدية الأمر ، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق).

(فأما الآية الآخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني ؛ فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطائفة من الذين معه. والله يعده ويعدهم بهذا القيام لما يعدهم له! فنزل التخفيف ، ومعه التطمين بأنه اختار الله لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم ... أما هذه الآية فذات نسق خاص. فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة ، وفيها هدوء واستقرار ، وقافية تناسب هذا الاستقرار وهي الميم وقبلها مد الياء : «غفور رحيم».

والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة. تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم. وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل ، والصلاة ، وترتيل القرآن ، والذكر الخاشع المتبتل. والاتكال على الله وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل

١٠٤

للمكذبين ، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة!.

وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير. والتوجيه للطاعات والقربات ، والتلويح برحمة الله ومغفرته : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وهي تمثل بشطريها صفحة من صفحات ذلك الجهد الكريم النبيل الذي بذله ذلك الرهط المختار من البشرية ـ البشرية الضالة ـ ليردها إلى ربها ، ويصبر على أذاها ، ويجاهد في ضمائرها ؛ وهو متجرد من كل ما في الحياة من عرض يغري ، ولذاذة تلهي ، وراحة ينعم بها الخليون ، ونوم يلتذه الفارغون!).

كلمة في سورة المزمل ومحورها :

بعد مقدمة سورة البقرة مباشرة يأتي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وهي في محلها هناك تشرح الطريق إلى التقوى ، وههنا نجد سورة المزمل تأتي مبتدئة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ...) فهي تفصل في موضوع العبادة كطريق للتقوى ، وتذكر أنواعا من العبادات ينبغي أن تؤدى.

وكنا ذكرنا من قبل أن السورة التي تأتي لتفصل في مثل هذا المقام تفصل بما يخدم المعاني التي ذكرت قبلها في مجموعتها ، ومن ثم فسورة المزمل تدل على الطريق الذي يؤدي إلى القيام بحق المعاني المذكورة في السور الأربع قبلها.

وكنا ذكرنا من قبل أن سورتي المزمل والمدثر تفصلان في محوري سورتي النساء والمائدة ، فسورة المزمل تفصل في محور سورة النساء ، وسورة المدثر تفصل في محور سورة المائدة ، وسنرى برهان ذلك أثناء عرض السورتين.

تتألف سورة المزمل من فقرتين : فقرة طالبت بالحد الأعلى من السير إلى الله عزوجل ، والقيام بحقوق عبوديته ، وفقرة طالبت بالحد الأدنى الذي لا يسع أحدا أن ينقص منه ، والملاحظ أن الحد الأعلى خوطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الحد الأدنى كان ترخيصا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، وفي توجيه الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده

١٠٥

في الفقرة الأولى إشارة إلى أن من يقوم بشأن الدعوة إلى الله عزوجل يطالب بما لا يطالب به غيره ، ويتأكد الطلب في حقه أكثر منه في حق غيره.

تستمر الفقرة الأولى من السورة حتى نهاية الآية (١٩) وتتألف الفقرة الثانية من آية واحدة فلنبدأ عرض السورة.

١٠٦

الفقرة الأولى

وتمتد من الآية (١) حتى نهاية الآية (١٩) وهذه هي :

المجموعة الأولى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

المجموعة الثانية

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ

١٠٧

فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))

قدم ابن كثير لتفسير هذه السورة بقوله : (روى الحافظ أبو بكر البزار عن جابر قال : اجتمعت قريش في دار الندوة ، فقالوا : سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس عنه ، فقالوا : كاهن ، قالوا : ليس بكاهن ، فقالوا : مجنون ، قالوا : ليس بمجنون ، قالوا : ساحر ، قالوا : ليس بساحر ، فتفرق المشركون على ذلك ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فتزمل في ثيابه وتدثر فيهما فنزل جبريل عليه‌السلام فقال : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قال البزار : معلى بن عبد الرحمن ـ وهو من رجال سند الحديث ـ قد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه لكن تفرد بأحاديث لا يتابع عليها). أقول : من هذه الرواية يفهم أن التآمر العنيف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي أهمه هما أقعده جاءت سورتا المزمل والمدثر لتعالجاه ، وهذا معنى مهم ينبغي أن يفطن له ، فإذا تذكرنا قوله تعالى في سورة الجن : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) ندرك صلة سورتي المزمل والمدثر بما قبلهما من سور مجموعتهما ، ومن ثم فإن ما ورد في هاتين السورتين ينبغي أن يعطيه كل من يشتغل بالدعوة إلى الله عزوجل مداه التطبيقي.

وقد نقل صاحب الظلال الرواية التي ذكرها ابن كثير ، ثم ذكر الرواية الأخرى التي تذكر كسبب نزول ، وعلق عليها وهذا كلامه : (وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك ـ كما سيجىء في عرض سورة المدثر إن شاء الله.

وخلاصتها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتحنث في غار حراء ـ قبل البعثة بثلاث سنوات ـ أي : يتطهر ويتعبد ـ وكان تحنثه ـ عليه الصلاة والسلام ـ شهرا من كل سنة ـ وهو شهر رمضان ـ يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة ، ومعه أهله قريبا منه. فيقيم فيه هذا الشهر ، يطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قدرة مبدعة ... وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة ، وتصوراتها الواهية ، ولكن ليس بين يديه طريق واضح ، ولا منهج محدد ، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.

وكان اختياره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له ليعده لما ينتظره من الأمر

١٠٨

العظيم. ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه ، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة ؛ ويفرغ لموحيات الكون ، ودلائل الإبداع ؛ وتسبح روحه مع روح الوجود ؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال ؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم.

ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى ... لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت ، وانقطاع عن شواغل الأرض ، وضجة الحياة ، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.

لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة. فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له ، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة ، والانعزال عنه ، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر ، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس ، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع!

وهكذا دبر الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل خط التاريخ ... دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات).

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أي : المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه ، أي : تلفف بها ، قال ابن كثير : يأمر تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك التزمل : وهو التغطي في الليل ، وينهض إلى القيام لربه عزوجل ... وقد كان واجبا عليه وحده ... وههنا بين له مقدار ما يقوم (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) أي : من النصف (قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي : على النصف ، قال ابن كثير : أي : أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل ، لا حرج عليك في ذلك (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال ابن كثير : أي : اقرأه على تمهل فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره ، قال النسفي : أي : بين وفصل القرآن تبيانا وتفصيلا ، أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف ، وحفظ الوقوف ، وإشباع الحركات (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) قال ابن كثير : قال الحسن وقتادة : أي : العمل به وقيل : ثقيل وقت نزوله من عظمته ، وقال النسفي : (أي :

١٠٩

سننزل عليك قولا ثقيلا أي : القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي ، التي هي تكاليف شاقة ، ثقيلة على المكلفين ، أو ثقيلا على المنافقين ، أو كلام له وزن ورجحان ، ليس السفساف الخفيف). أقول : إن التخلق بالقرآن والقيام بأوامره وتعليم ذلك للناس ، وتبليغهم إياه ، وتربيتهم عليه ، كل ذلك ثقيل على النفس البشرية ، ولا يخفف عبء هذا الحمل إلا صلة عظيمة بالله عزوجل ، ولذلك جاء قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ، وكأنه تعليل للأمر بقيام الليل ، وترتيل القرآن فيه ، فعلى كل من يتصدر للدعوة إلى الله عزوجل وتربية الخلق أن يكون له حظ من قيام الليل ، ثم قال تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) أي : قيام الليل ، أو العبادة التي تنشأ بالليل ، أي : تحدث أو ساعات الليل ، وأوقاته لأنها تنشأ ساعة فساعة ، قال ابن كثير : وكل ساعة منه تسمى ناشئة ، وهي الآنات (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) أي : أثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي : وأشد مقالا وأثبت قراءة لهدوء الأصوات ، وانقطاع الحركات ، قال ابن كثير : أي : أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار ، لأنه وقت انتشار الناس ، ولغط الأصوات ، وأوقات المعاش ، وقال : والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة. أقول : في الآية تعليل ثان للأمر بقيام الليل ، وهو ثقله على النفس ، وكونه أجمع للقلب على الله عزوجل ، وبالتالي فهو أكثر تأثيرا وتقويما للنفس ، ثم قال تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي : فراغا طويلا لنومك وراحتك ، أو تصرفا وتقلبا في مهماتك وشواغلك ، ففرغ نفسك في الليل لعبادة ربك ، أقول : في هذه الآية تعليل ثالث للأمر بقيام الليل ، وحض على هذا القيام ، فالنهار كاف لقضاء الحاجات ، وهو محلها العادي ، فاجعله لقضاء حاجتك ولراحتك ، وخل الليل الله (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) قال النسفي : (أي : ودم على ذكره في الليل والنهار) وذكر الله يتناول التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة وتلاوة القرآن ودراسة العلم ، وقال ابن كثير : (أي : أكثر من ذكره ، وانقطع إليه ، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك ، وما تحتاج إليه من أمور دنياك).

أقول : أي : اجمع بين قيام الليل والاشتغال بذكر اسم الله عزوجل ، ثم قال تعالى : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) قال النسفي : (انقطع إلى عبادته عن كل شىء ، والتبتل : الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره ، وقيل رفض الدنيا وما فيها ، والتماس ما عند الله ، وما ذكره ابن كثير في تفسير التبتل يدور بين الإخلاص

١١٠

والانقطاع لعبادة الله ، والاجتهاد فيها ، فصار معنى الآية : اذكر اسم ربك ، وانقطع إلى الله عزوجل انقطاعا ، وهذا يفيد أن رجل الدعوة عليه أن يكرس ليله لقيام الليل ، وأن يجتمع له في ليله ونهاره ذكر ، وأن يكون له انقطاع إلى الله عزوجل ، ويعطي لأمور الدنيا بالقدر الذي لا بد منه ، ثم قال تعالى معللا للأمر بالذكر والانقطاع إلى الله عزوجل : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) قال النسفي : (أي : وليا وكفيلا بما وعدك من النصر ، وإذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب ، وأن لا إله إلا هو فاتخذه كافيا لأمورك ، وفائدة الفاء ، أن لا تتلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار) ، وقال ابن كثير : (أي : هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب ، الذي لا إله إلا هو ، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل ، فاتخذه وكيلا). أقول : بعد الأمر بقيام الليل ، والذكر والانقطاع إلى الله ، ذكر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بربوبيته للمشرق والمغرب ، وبوحدانيته ليبني على ذلك الأمر بالتوكل ، فصار مجموع الأوامر في هذه الفقرة خمسة : قيام الليل ، وترتيل القرآن ، والذكر ، والانقطاع إلى الله عزوجل ، والتوكل عليه.

كلمة في السياق :

١ ـ قلنا إن محور السورة من سورة البقرة هو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) والملاحظ أن المجموعة التي مرت معنا طالبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنواع من العبادة ، وفي ذلك تحديد لسلوك الطريق إلى الله عزوجل ، فمن ليس له قيام ليل ، وترتيل قرآن ، وذكر وانقطاع إلى الله عزوجل ، وتوكل عليه ، فإنه لا حظ له من السلوك الكامل إلى الله عزوجل ، وإنما يتفاوت السالكون بقدر حظوظهم من هذه المعاني.

٢ ـ رأينا أن الأمر بقيام الليل كانت إحدى حكمه أن الله سينزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولا ثقيلا ، ورأينا في سورة الجن كيف تألب الجن والإنس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأينا أن سورة المزمل أنزلت بمناسبة التآمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن ثم تأتي المجموعة الثانية في هذه الفقرة لتوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر هؤلاء بعد أن وجهته إلى ما ينبغي فعله ليقوم بحمل عبء الدعوة.

١١١

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى :

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) قال النسفي : (أي : في من الصاحبة والولد ، وفيك من الساحر والشاعر) (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) قال النسفي : (أي : جانبهم بقلبك وخالفهم مع حسن المحافظة وترك المكافأة) قال ابن كثير : (يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه ، وأن يهجرهم هجرا جميلا ، وهو الذي لا عتاب معه (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) قال ابن كثير : أي : دعني والمكذبين المترفين أصحاب الأموال ، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم ، وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم) وقال النسفي : أي : كلهم إلي فأنا كافيهم (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي : ومهلهم إمهالا قليلا ، ثم علل لهذين الأمرين بقوله : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) أي : قيودا ثقالا للكافرين في الآخرة (وَجَحِيماً) أي : نارا محرقة (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) قال النسفي : أي : الذي ينشب في الحلوق فلا ينساغ ، قال ابن كثير : قال ابن عباس : ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج (وَعَذاباً أَلِيماً) أي : شديد الألم ، ثم بين متى يكون ذلك كله فقال (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي : تتحرك حركة شديدة أي : تتزلزل (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً) أي : رملا مجتمعا (مَهِيلاً) أي : سائلا بعد اجتماعه ، قال ابن كثير : أي : تصير ككثبان الرمال بعدما كانت حجارة صماء ، ثم إنها تنسف نسفا ، فلا يبقى منها شىء إلا ذهب حتى تصير الأرض (قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا) أي : واديا (ولا أمتا) أي : رابية ومعناها : لا شىء منخفض ، ولا شىء يرتفع ، ثم خاطب الله عزوجل سائر الناس ، ومجىء هذا الخطاب في هذا السياق بمثابة التعليل لاستحقاق الكافرين العذاب ، (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) يعني : محمدا عليه الصلاة والسلام (شاهِداً عَلَيْكُمْ) قال ابن كثير : أي : بأعمالكم ، وقال النسفي : (أي : يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم) (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) يعني : موسى عليه‌السلام (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) أي : موسى عليه‌السلام (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) أي : شديدا غليظا ، قال ابن كثير : (أي : فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون ، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ... وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم ؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران) (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) من شدة أهواله وزلازله

١١٢

وبلابله ، أي : كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم ، أو كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه ، أو كيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة ، والجزاء ؛ لأن تقوى الله أثر عن خوف عقابه ، ثم وصف الله عزوجل هول ذلك اليوم فقال : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال النسفي : أي : السماء على عظمها وإحكامها تتفطر به ، أي : تنشق فما ظنك بغيرها من الخلائق ... يعني أنها تتفطر لشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشىء بما يفطر به (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي : كان وعد هذا اليوم مفعولا ، أو كان وعد الله عزوجل بهذا اليوم مفعولا ، قال ابن كثير : أي : واقعا لا محالة ، وكائنا لا محيد عنه ، ثم ختم الله عزوجل هذه الفقرة بقوله (إِنَّ هذِهِ) قال ابن كثير : أي : السورة (تَذْكِرَةٌ) أي : موعظة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) قال النسفي : أي : فمن شاء اتعظ بها ، واتخذ سبيلا إلى الله بالتقوى والخشية.

كلمة في السياق :

١ ـ أمرت المجموعة الأخيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أقوال الكافرين ، وهجرهم وتركهم الله ينتقم منهم ، ثم أنذرت المجموعة الكافرين العاصين بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وختمت المجموعة بتبيان أن هذه السورة تذكرة ، وحثت على السير في سبيل الله ، مما يشير إلى أن هذه السورة حددت السبيل إلى الله ، وقد ذكرت الفقرة الأولى من هذا السبيل : قيام الليل ، ترتيل القرآن ، ذكر الله ، الانقطاع إلى الله ، التوكل عليه ، الصبر على أقوال الكافرين ، هجر هؤلاء الكافرين ، تركهم لله ينتقم منهم.

٢ ـ ذكر في نهاية المجموعة الأولى قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) وصلة ذلك بقوله تعالى في المحور : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) واضحة.

٣ ـ ورد في المجموعة الثانية قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً* فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً* فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً* السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) ولذلك صلته بقوله تعالى في محور السورة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ

١١٣

لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فالسورة تبين الطريق ، وتنذر من انحرف عنه.

٤ ـ إنهاء الفقرة الأولى من هذه السورة بقوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) يوحي بأن ما ذكر في السورة حتى هذه الآية هو الطريق الكامل الخالص ، وستأتي الفقرة الثانية في السورة وفيها تخفيف عن رسول الله وعن أصحابه ، مما يشير إلى أن الأوامر السابقة كما طولب بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطالب بها المسلمون بالتبع ، والفقرة الثانية مع أنها تخفف بعض الأحكام فإنها تذكر بعض المعاني التي تكمل شرح الطريق.

١١٤

الفقرة الثانية من السورة

وهي آية واحدة وهذه هي :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

التفسير :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى) أي : أقل (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي : ويقوم ذلك المقدار جماعة من أصحابك ، قال ابن كثير : أي : تارة هكذا وتارة هكذا ، وذلك كله من غير قصد منكم ، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل لأنه يشق عليكم (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) قال ابن كثير : أي : تارة يعتدلان ، وتارة يأخذ هذا من هذا ، وهذا من هذا (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) قال النسفي : (أي : لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة وفي ذلك حرج) (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي : فخفف عليكم ، وأسقط عنكم فرض قيام الليل (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) قال ابن كثير : أي : من غير تحديد لوقت ، ولكن قوموا من الليل ما تيسر ، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما في سورة سبحان (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي : بقراءتك (وَلا تُخافِتْ بِها) ثم بين

١١٥

الحكمة في التخفيف وهي تعذر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين (عَلِمَ) الله (إِنَ) أي : أنه (سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) فيشق عليهم قيام الليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) أي : يسافرون (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي : من رزقه بالتجارة أو طلب العلم (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فلا يستطيعون الجمع بين مثل ذلك القيام وشؤون القتال (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) قال النسفي : كرر الأمر بالتيسير لشدة احتياطهم. أقول : وفي ذكر حكمة التخفيف ، أنها مراعاة لأحوال هذه الطوائف الثلاث إشعار بأن من لم يكن حاله كذلك ، فإن عليه أن يبذل جهدا في قيام الليل ، فإن سقطت الفرضية فقد بقي الندب ، ثم قال تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي : الواجبة عليكم ، ومجىء هذا الأمر في ختام السورة يشير إلى أن الإكثار من قيام الليل شىء ، وإقامة الصلاة المفروضة شىء آخر (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي : الواجبة ، قال ابن كثير : وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النصب والمخرج لم يتبين إلا في المدنية (وَأَقْرِضُوا اللهَ) بالنوافل (قَرْضاً حَسَناً) قال ابن كثير : يعني من الصدقات ، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره ، وفسر النسفي القرض الحسن لله بأن يكون من الحلال بالإخلاص (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ) أي : تجدوا ثوابه (عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) أي : مما خلفتم وتركتم (وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي : وأجزل ثوابا ، قال ابن كثير : أي : جميع ما تقدمونه بين أيديكم ، فهو لكم حاصل وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا ، ثم ختم الله السورة ـ الدالة على الطريق بقوله : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من السيئات والتقصير في الحسنات (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر على أهل الذنب والتقصير (رَحِيمٌ) يخفف عن أهل الجهد والتوفير ، وقال ابن كثير : أي : أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها فإنه غفور رحيم لمن استغفره.

كلمة في السياق :

هذه السورة رسمت طريق السير إلى الله ، وبينت الطريق إلى التقوى في حده الأدنى وحده الأعلى ، فحده الأدنى صلاة مفروضة ، وزكاة ، واستغفار ، وقيام ما تيسر من الليل ، وحده الأعلى : صلاة ، وإنفاق ، واستغفار ، وقيام من الليل ، وترتيل قرآن ، وذكر ، انقطاع إلى الله عزوجل ، وصبر على أقوال الكافرين ، وهجر لهم ، وانتظار فعل الله فيهم إذا لم يكن جهاد مأمور به ، وصلة ذلك بقضية العبادة والتقوى ـ التي

١١٦

هي محور السورة ـ واضحة المعالم.

الفوائد :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قال الألوسي : (والجمهور على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فقال : زملوني زملوني فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وعلى أثرها نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ، وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه ، فقالوا : كاهن ، قالوا : ليس بكاهن ، قالوا : مجنون ، قالوا : ليس بمجنون ، قالوا : ساحر ، قالوا : ليس بساحر ، قالوا : يفرق بين الحبيب وحبيبه ، فتفرق المشركون على ذلك ، فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : يا أيها المزمل يا أيها المدثر ، ونداؤه عليه الصلاة والسلام بذلك تأنيس له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها ، كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب : قم أبا تراب ، قصدا لرفع الحجاب وطي بساط العتاب وتنشيطا له ليتلقى ما يرد عليه بلا كسل ، وكل ما يفعل المحبوب محبوب).

٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال ابن كثير : (وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه ، قالت عائشة رضي الله عنها : كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كانت مدا ثم قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يمد بسم الله ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم ، وقال ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان يقطع قراءته آية آية (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقال لقارىء القرآن : اقرأ وارق ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سفيان الثوري به وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على

١١٧

استحباب الترتيل ، وتحسين الصوت بالقراءة كما جاء في الحديث : «زينوا القرآن بأصواتكم» و «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» و «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» يعني : أبا موسى ، فقال أبو موسى : لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيرا ، وعن ابن مسعود أنه قال : لا تنثروه نثر الدقل ، ولا تهذوه هذ الشعر قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. رواه البغوي وروى البخاري ... عن أبي وائل قال : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال هذا كهذ الشعر ، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرن بينهن فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في ركعة).

أقول : نزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتلا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤه ويقرئه مرتلا ، وقد توارثت الأمة كيفية ترتيله عليه الصلاة والسلام ، واستخلص القراء قواعد الترتيل ، وألفوا في ذلك الكتب ، واعتبر العلماء علم الترتيل من العلوم المفروضة فرض عين على كل مسلم ، وهذا يستدعي من كل مسلم أن يقرأ رسالة في علم التجويد ، وأن يأخذ القرآن من أهله ، ليسقط فرض عين عن نفسه ، وفرض كفاية عن المسلمين.

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) قال صاحب الظلال : (هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف ... والقرآن في مبناه ليس ثقيلا فهو ميسر للذكر. ولكنه ثقيل في ميزان الحق ، ثقيل في أثره في القلب : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) فأنزله الله على قلب أثبت من الجبل يتلقاه.

وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل.

وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل.

وإن الاتصال بالملأ الأعلى ... وأرواح الخلائق الحية والجامدة على هذا النحو الذي تهيأ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل.

وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب ، ولا تلفت هنا أو هناك لآراء

١١٨

الهواتف والجواذب والمعوقات لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل.

وإن قيام الليل والناس نيام ، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها ؛ والاتصال بالله ، وتلقي فيضه ونوره ، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه ، وترتيل القرآن والكون ساكن ، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة ؛ واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي ... إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل ، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير للقلب في الطريق الشاق الطويل ، ويعصمه من وسوسة الشيطان ، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير).

أقول : قد رأينا أن من جملة ما فسر به القول الثقيل في قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أن المراد به ثقله وقت نزوله من عظمته ، وهو قول مرجوح ليس بالقوي ، وإن كان ثقل الوحي في حد ذاته كبيرا ولكن ليس هذا هو المعنى المراد بالآية غير أنه بمناسبة ذلك القول ، قال ابن كثير : (كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه أنزل على رسول الله وفخذه على فخذي فكادت ترض فخذي. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد. وفي أول صحيح البخاري ... عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال : «أحيانا يأتي في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقا ، هذا لفظه. وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها. وروى ابن جرير عن هشام ابن عروة عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه ، وهذا مرسل ، الجران : هو باطن العنق ، واختار ابن جرير أنه ثقيل من الوجهين معا كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين).

١١٩

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) قال صاحب الظلال : ((ناشِئَةَ اللَّيْلِ) هي : ما ينشأ منه بعد العشاء ؛ والآية تقول : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) أي : أجهد للبدن ، (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي : أثبت في الخير ـ كما قال مجاهد ـ فإن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش ، بعد كد النهار ، أشد وطأ وأجهد للبدن ؛ ولكنها إعلان لسيطرة الروح ، واستجابة لدعوة الله ، وإيثار للأنس به ؛ ومن ثم فإنها أقوم قيلا ، لأن للذكر فيها حلاوته ، وللصلاة فيها خشوعها ، وللمناجاة فيها شفافيتها. وإنها لتسكب في القلب أنسا وراحة وشفافية ونورا ، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره ... والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره ، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه ، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحا واستعدادا وتهيؤا ، وأي الأسباب أعلق به وأشد تأثيرا فيه).

٥ ـ عند قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) قال ابن كثير : (قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) قال : لحوائجك فأفرغ لدينك الليل ، قال : وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ، ثم إن الله تبارك وتعالى من على عباده فخففها ووضعها وقرأ (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) إلى آخر الآية ثم قرأ (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) حتى بلغ (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) وقال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وهذا الذي قاله كما قاله ، والدليل عليه ما وراه الإمام أحمد في مسنده ... عن سعيد بن هشام أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارا له بها ، ويجعله في الكراع والسلاح ، ثم يجاهد الروم حتى يموت ، فلقي رهطا من قومه فحدثوه أن رهطا من قومه ـ ستة ـ أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أليس لكم في أسوة حسنة؟» فنهاهم عن ذلك ، فأشهدهم على رجعتها ثم رجع إلينا ، فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر ، فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم ، قال : ائت عائشة فسلها ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك ، قال : فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها فقال : ما أنا بقاربها إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا ، فأبت فيهما إلا مضيا ، فأقسمت عليه فجاء معي ، فدخلنا عليها فقالت : حكيم؟ ـ وعرفته ـ قال : نعم ، قالت : من هذا معك؟ قال : سعيد ابن هشام ، قالت : من هشام؟ قال : ابن عامر ، قال : فترحمت عليه ، وقالت : نعم

١٢٠