الأساس في التفسير - ج ١٠

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١٠

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

صرخة عظيمة ورنة ، وقال الله عزوجل في سورة هود : (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ...) فالصرة الواردة في سورة الذاريات يفسرها ما ذكر الله عزوجل على لسانها في سورة هود على رأي ابن عباس ومجاهد وعكرمة وكثيرين من المفسرين.

٨ ـ نادرا من الناس من يحسن التفريق بين ماهية الإسلام ، وماهية الإيمان ؛ لأن النصوص الواردة في ذلك متعددة ، ولا يحسن كل إنسان توجيهها ، قال تعالى في سورة الذاريات : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فههنا الإسلام هو الإيمان ، بينما رأينا في سورة الحجرات قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ...) فههنا تفريق بين الإسلام والإيمان ، فكيف يجمع بين ما ورد في سورة الحجرات ، وما ورد في سورة الذاريات؟ أقول : الإسلام الكامل والإيمان الكامل مترادفان ، لأن الإيمان الكامل ما وقر في القلب وصدقه العمل ، والإسلام الكامل إسلام القلب والجوارح لله بدينه وشريعته ، وقد يوجد ـ أحيانا ـ تصديق ولا عمل ، وقد يوجد عمل والإيمان الذوقي غير مستقر ، وقد يوجد عمل ولا إيمان ، ومن ثم يختلف في هذه الصور مفهوم الإيمان عن مفهوم الإسلام ، وقد عبر ابن كثير عما ذكرناه تعبيرا لطيفا فقال بمناسبة آيتي سورة الذاريات : (احتج بهذه من ذهب إلى رأي المعتزلة ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام ، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين ، وهذا الاستدلال ضعيف ، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس ، فاتفق الاسمان ههنا لخصوصية الحال ، ولا يلزم ذلك في كل حال).

٩ ـ بمناسبة الكلام عن عاد وهلاكها بالريح العقيم قال ابن كثير : (وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور»).

١٠ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) نقول : إن من القفزات العلمية الكبيرة في تاريخ العلوم الكونية نظريات أينشتاين اليهودي ، الذي طرح ـ لأول مرة في تاريخ البشرية ـ نظرية عن سعة الكون لم يسبق إليها ، حتى صار بعضهم يطلق كلمة الكون الأينشتايني للتعبير عن الكون الواسع ، ومع كلامه عن سعة الكون كان يقول : إن الكون ثابت الأبعاد ، ثم كان أن صنعت المجاهر الضخمة

٤١

فأكدت سعة الكون بما لم يكن يخطر على قلب بشر من قبل ، ولكن تبين أن الكون في حالة توسع مطرد ، فقد لو حظ من خلال الرصد أن مجرات الكون تنطلق بعيدا عن مركز الكون بسرعة هائلة ، ولقد قالوا : إن النظرية الوحيدة من نظريات أينشتاين التي نقضها العلماء هي نظريته في ثبات الكون (راجع العدد الذي يتحدث عن أينشتاين من سلسلة اقرأ) والملاحظ أن قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) قد استعمل فيه اسم الفاعل (موسع) واسم الفاعل في اللغة العربية يفيد ـ في بعض الحالات ـ الاستمرار ، ومن ثم فإن الآية هنا تشير إلى سعة الكون من ناحية ، كما تشير إلى موضوع تمدد الكون وتوسعه المطرد ، وفي ذلك ما فيه من إعجاز وسع به هذا القرآن الزمان والمكان ، فالذين يريدون أن يعطلوا العمل بهذا القرآن بسبب تقدم العلوم عليهم أن يراجعوا أنفسهم قبل فوات الأوان.

١١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قال ابن كثير : (أي جميع المخلوقات : أزواج ، سماء وأرض ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ، وبر وبحر ، وضياء وظلام ، وإيمان وكفر ، وموت وحياة ، وشقاء وسعادة ، وجنة ونار ، حتى الحيوانات والنباتات ، ولهذا قال تعالى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له).

أقول : في عصرنا اتضح معنى الزوجية بشكل أوسع حتى شمل الحيوان والنبات والجماد والمجرات ، فما من ذرة إلا وعنصر الزوجية فيها موجود ، والآية قالت : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) فكان فيما اكتشفه الإنسان حتى الآن في هذا الموضوع معجزة من معجزات القرآن.

١٢ ـ إن على الدعاة إلى الله أن يفطنوا إلى دقائق في التربية والدعوة تعرضها علينا نصوص الكتاب والسنة ، لأن التفطن لذلك يختصر لنا الطريق ، فمثلا ختمت سورة (ق) بقوله تعالى (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) فالذي لا يخاف وعيد الله له خطاب آخر ، أما الذي يخاف وعيد الله ، فيكفي أن نذكره بالقرآن ، حتى يثوب ، ومن ثم فعلى المؤمنين أن يذكر بعضهم بعضا بالقرآن إذا رأوا انحرافا من أنفسهم عنه ، وفي قوله تعالى في سورة الذاريات : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) ما يدل على أن التذكير لا بد أن ينتفع به المؤمن ، ومن ثم فلا يصح أن يقول أحد منا : لا فائدة من الكلام فيسكت ، سواء مع إخوانه ، أو مع المسلمين ، فالمسلمون بفضل الله لا زال

٤٢

في قلوبهم إيمان ، والذين قبلوا حمل دعوة الله هم مظنة الخير ، وعلى الواحد منا أن يذكر حيثما وجد فرصة ، فلا بد أن تترك الذكرى أثرها في نفس المؤمن إن لم يكن حالا فمآلا ، إن من أخطر أمراض المسلمين أن ينتشر بينهم الشعور بأنه لا فائدة من التذكير أو العمل.

إن على كل مسلم أن يرث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفة التذكير (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ورسولنا عليه الصلاة والسلام أمرنا بالتبليغ ، والناس أمامنا قسمان : مؤمنون وكافرون ، والكافرون قسمان : قسم ليس لوعيد الله في قلبه محل ، وقسم لا زال لوعيد الله في قلبه محل ، فأما المؤمن فلا شك أن الذكرى تنفعه ، وأما من كان في قلبه محل لوعيد الله فربما انتفع بالتذكير في القرآن ، هذا عمر كان كافرا فأسلم على أثر قراءته لشىء من القرآن ، كما تذكر بعض الروايات ، وأما من ليس في قلبه محل للخوف من وعيد الله ، فهذا نقطة البداية في حقه أن تقيم عليه الحجة بوجود الله ثم تسير.

١٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قال صاحب الظلال : (إن معنى العبادة ـ التي هي غاية الوجود الإنساني ، أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى ـ أوسع وأشمل من مجرد الشعائر ؛ وإن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا. وإن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين :

الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا. عبدا يعبد. وربا يعبد. وأن ليس وراء ذلك شىء ؛ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ؛ وإلا رب واحد والكل له عبيد.

والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير ، وكل حركة في الجوارح ، وكل حركة في الحياة. التوجه بها إلى الله خالصة ، والتجرد من كل شعور آخر ؛ ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.

بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ؛ ويصبح العمل كالشعائر ، والشعائر كعمارة الأرض ، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله ، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله .. كلها عبادة ؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها ؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شىء لله

٤٣

دون سواه) أ. ه. مع تصرف بسيط.

١٤ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن ربه عزوجل ـ : «يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك» ورواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي : حسن غريب. وقد روى الإمام أحمد عن سلام بن شرحبيل سمعت حبة وسوأة ابني خالد يقولان : أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء ـ وقال أبو معاوية يصلح شيئا ـ فأعناه عليه ، فلما فرغ دعا لنا وقال : «لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رءوسكما ، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ، ثم يعطيه الله ويرزقه»).

كلمة أخيرة في سورة الذاريات :

١ ـ في هذا الكون مظاهر من الإبداع والجمال لا تتناهى ؛ لأن الله عزوجل من أسمائه البديع ، فهو بديع السموات والأرض ، وفي هذا القرآن مظاهر من الإبداع لا تتناهى ؛ لأنه كلام الله البديع. إنك لتجد الإبداع في كل شىء في هذا القرآن : في العرض ، والأسلوب ، والتفصيل ، والكلمة ، والآية ، والمعنى ، والجرس ، والسياق ، وتأمل سورة الذاريات لتجد مظاهر الإبداع لا تتناهى ، وذلك شأن القرآن كله.

٢ ـ بدأت السورة بالحديث عن اليوم الآخر ، لتصل إلى الحديث عن آيات الله التي لا يعرفها إلا من أيقن باليوم الآخر ، لتصل إلى ضرورة الفرار إلى الله الذي لا يفعله إلا من عرف آيات الله في الكون والأنفس والتاريخ ، ومن مثل هذا تجد الترابط بين معاني السورة على أشده.

٣ ـ وقد تحدث محور السورة من سورة البقرة عن المتقين ، وفصلت سورة الذاريات في التقوى وأسبابها ، وعاقبة أهلها ، ودلت على الطريق إليها.

٤ ـ وقد جاءت سورة الذاريات بعد سورة (ق) التي انتهت بذكر التذكير والوعيد ، قال تعالى في سورة (ق) : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) ،

٤٤

وها هي ذي سورة الذاريات تبدأ بالوعيد وتنتهي بالوعيد : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* ... إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) هذه بداية السورة ، وهذه نهايتها : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ، وفي سياق سورة الذاريات جاء قوله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) ، فما بين معانى سورة الذاريات ، وما بين خاتمة سورة (ق) روابط كثيرة.

إنك عند ما تتأمل صلات سورة الذاريات بما قبلها ، وصلاتها بما بعدها ، وصلاتها بمحورها من سورة البقرة ، ثم إذا تأملت سياقها الخاص ، وما حوته من معجزات ، ثم وثم ، فإنك تجد مظاهر من الإبداع والإعجاز لا تتناهى.

٤٥
٤٦

سورة الطور

وهي السورة الثانية والخمسون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الثانية من المجموعة الأولى من قسم المفصل

وآياتها تسع وأربعون آية

وهي مكية

٤٧

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٤٨

بين يدي سورة الطور :

١ ـ قال الألوسي في تقديمه لسورة الطور : ((مكية) كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، ولم نقف على استثناء شىء منها ، وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي ، وثمان وأربعون في البصري ، وسبع وأربعون في الحجازي ، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل على الوعيد ، وقال الجلال السيوطي : وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع ، فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين ، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار ، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك).

٢ ـ وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة : (هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير في القلب البشري. ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبىء هنا وهناك في حناياه. ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان .. حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها ، وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام!

وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة ، والمعنى والمدلول ، والصور والظلال ، والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء. ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف ، وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق ، وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام!).

كلمة في سورة الطور ومحورها :

تبدأ السورة بمقدمة تتحدث عن مجىء يوم القيامة ، وبعض ما يحدث فيه ، وتعرض أنواعا من العذاب الذي ينزل بالمكذبين ، ثم تتحدث عن المتقين وما لهم ، وعما استحقوا بسببه هذا النعيم المقيم ، ثم تأمر السورة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتذكير ، وترد على مطاعن الكافرين وتصوراتهم ، ثم تسير السورة حتى تنتهي بالأمر بالصبر والتسبيح بحمد الله ، وككل سورة من سور القرآن فإن للسورة سياقها الخاص بها ، ثم هي في الوقت نفسه تفصل في محورها من سورة البقرة ، وهو الآيات الأولى منها : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ

٤٩

هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فهي تكمل البناء الذي بدأته سورة الذاريات ، فلئن كانت سورة الذاريات قد أمرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتذكير ، وبينت أن الذكرى تنفع المؤمنين ، فهذه تأمره بالتذكير المطلق ، وتحدد له معالم يناقش بها الكافرين ، وإذا كانت سورة الذاريات قد ذكرت الحكمة من خلق الخلق وهي العبادة ، فهذه السورة تأمر بأنواع من العبادة ، وإذا كانت سورة الذاريات قد وصفت المتقين بأنهم كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ، فهذه السورة تأمر بالتسبيح بحمد الله في قيام الليل ، وعند الأسحار ، وإذا كانت سورة الذاريات أجملت في تفصيل نعيم أهل الجنة ، وبما استحقوا هذا النعيم ، فإن سورة الطور تفصل في ذلك ، كما أنها تفصل في عذاب الكافرين ، وفي ما استحقوه ، وكل ذلك يأتي ضمن سياق السورة الخاص :

فالسورة تبدأ بالقسم على أن عذاب الله آت ، وتبين كيف يعذب الكافرون وينعم المتقون ، وإذا كان أمام الإنسان ما أمامه ، فليذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الإنسان ، وليناقش الكافرين ، وإذا كان الكفار مع وجود الآيات يكفرون ، فليتركهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمصيرهم ، وليصبر ، وليسبح بحمد الله في ليله ونهاره.

إن فلاح المتقين يظهر في شيئين : في الخلاص من العذاب ، وفي تذوق النعيم ، والسورة تبين هذا وهذا ، ولقد ركزت سورة الذاريات على الصلاة والإنفاق من صفات المتقين ، وتركز سورة الطور على الإيمان من صفات المتقين : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وركزت على الخوف والعبادة كطريقي نجاة : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ* فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ* إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).

وهكذا نجد تفصيلا بشكل ما للآيات الأولى من سورة البقرة : سواء في ذلك قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فسورة الطور تناقش الذين لا يهتدون بكتاب الله : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).

ـ أو قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فسورة الطور تبين عذاب المكذبين ، وتناقشهم ، وتبين أن كل النعيم الذي يناله المتقون هم وذرياتهم بسبب الإيمان.

٥٠

ـ أو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ). فسورة الطور تأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكر ، وهو الذي أنزل عليه القرآن (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ* أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ* قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ* أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ* أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ...) ، وتأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أنزل عليه القرآن أن يقابل مواقف الكافرين والمكذبين : (فَذَرْهُمْ ... وَاصْبِرْ ...).

ـ أو قوله تعالى في مقدمة سورة البقرة : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). فسورة الطور تذكر أن سبب النجاة : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ).

ـ أو قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). فسورة الطور تبين مظاهر فلاحهم ، وأي فلاح أكبر من الفوز بالجنة ، والخلاص من النار. وكما أن سورة الطور تفصل بشكل رئيسي في الآيات الأولى لمقدمة سورة البقرة ، فهي تفصل في ارتباطات هذه الآيات وفي امتداداتها.

فالسور الثلاث : الذاريات ، والطور ، والنجم ، تفصل بشكل رئيسي في الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة ، وسورة القمر بعد ذلك تفصل بشكل رئيسي في الآيتين السادسة والسابعة من مقدمة سورة البقرة ، ولكن كلا من هذه السور تفصل في ارتباطات محورها وفي امتداداته ، ولذلك فإن كلا من السور الأربع تتحدث عن الكافرين والمتقين ، كما أن السور الثلاث فيها أوامر بالعبادة التي هي أحدى المعاني البارزة في المقطع الذي يأتي بعد مقدمة سورة البقرة.

ولقد قلنا من قبل إن السورة وهي تفصل في محورها ، تشد إلى هذا المحور من معاني سورة البقرة ما هو ألصق به ، أو ما هو الألصق بمعنى من معانيه ، فمع رؤيتنا سورا كثيرة تفصل في محور واحد ، ففي كل مرة نجد تفصيلا جديدا ، ونجد ربطا للمحور على طريقة جديدة.

ومع أن لسورة الطور سياقها ، ومع أنها تفصل في محورها ، فإن لها صلاتها بما قبلها وما بعدها ، وخاصة في أواخر السورة التي سبقتها ، فالملاحظ أن سورة

٥١

الذاريات ختمت بقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) بينما نجد سورة الطور مبدوءة بالكلام عن عذاب الله الواقع بالكافرين : (وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ* وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ* إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ* يَوْمَ ...) فنهاية سورة الذاريات تذكر الويل للكافرين من اليوم الموعود ، وبداية سورة الطور فيها قسم على وقوع هذا اليوم ، وهي في الوقت نفسه تذكر الويل : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ* يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً* وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً* فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ* الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ* يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا* هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ* أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) لاحظ قوله تعالى : (أَفَسِحْرٌ هذا) وتذكر أنه في أواخر سورة الذاريات جاء قوله تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) وها هي ذي سورة الطور فيها : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ).

إن هذا المظهر من مظاهر التكامل بين سور القرآن ، وهو مظهر من مظاهر وحدة المجموعة الواحدة من سور القسم ، والأمر أوسع من هذا بكثير ، إنه القرآن الذي لا تنقضي عجائبه. هذا وتتألف سورة الطور من ثلاث مجموعات وسنعرض كل مجموعة على حدة.

٥٢

المجموعة الأولى من سورة الطور

وتمتد من الآية (١) إلى نهاية الآية (١٦) وهي مقدمة السورة وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

التفسير :

(وَالطُّورِ) قال ابن كثير : (هو الجبل الذي يكون فيه أشجار مثل الذي كلم الله عليه موسى ... وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طورا ، وإنما يقال له جبل) وهل المراد به هنا جبل بعينه؟ قال النسفي : (هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بمدين). (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) قال ابن كثير : (قيل : هو اللوح المحفوظ ، وقيل الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا ، ولهذا قال تعالى : (فِي رَقٍ) قال النسفي : هو الصحيفة ، أو الجلد الذي يكتب فيه (مَنْشُورٍ) أي : مفتوح لا ختم عليه ، أو لائح لا خفاء فيه ، لأنه لا باطل فيه ، ولا يخشى أن يكتشف فيه الباطل حتى يكتم ، أو يخفى ، فلا ينشر (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) قال النسفي : (وهو بيت في السماء حيال الكعبة ، وعمرانه بكثرة زواره من الملائكة ... وقيل الكعبة لكونها معمورة بالحجاج

٥٣

والعمار) ولنا عودة إلى الموضوع في الفوائد. (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) قال النسفي : أي السماء أو العرش (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي : المملوء ، أو الموقد ، قال ابن كثير : (وقال قتادة : المسجور : المملوء واختاره ابن جرير) ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الفوائد (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) قال ابن كثير : هذا هو المقسم عليه ، أي لواقع بالكافرين ، أي لنازل بهم (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي : لا يمنعه مانع قال ابن كثير : (أي ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك) فصار معنى الآيتين : إن عذاب ربك لواقع غير مدفوع ، ثم بين متى يكون ذلك فقال : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي : تضطرب اضطرابا شديدا. قال النسفي : (أي تدور كالرحى مضطربة) ولنا عودة إلى هذا في الفوائد (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) قال النسفي : (أي في الهواء كالسحاب ؛ لأنها تصير هباء منثورا) وقال ابن كثير : أي تذهب فتصير هباء منبثا ، وتنسف نسفا (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قال ابن كثير : أي ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي : الذين هم في الدنيا يخوضون في الباطل والكذب (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) قال ابن كثير : أي يوقفون ويساقون إلى نار جهنم دفعا ، قال النسفي : والدع الدفع العنيف (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي : في الدنيا ، قال ابن كثير : أي تقول لهم الزبانية ذلك تقريعا وتوبيخا (أَفَسِحْرٌ هذا) كما كنتم تقولون عنه في الدنيا (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه وهو النار ، كما كنتم عميا عن خبر الوحي في الدنيا ، وهذا تقريع وتوبيخ (اصْلَوْها) قال ابن كثير : أي ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي : سواء عليكم الأمران الصبر وعدمه ، قال ابن كثير : (أي سواء صبرتم على عذابها ونكالها ، أم لم تصبروا ، لا محيد لكم عنها ، ولا خلاص لكم منها) وعلل لاستواء الصبر وعدمه بقوله (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قال ابن كثير : أي ولا يظلم الله أحدا ، بل يجازي كلا بعمله ، وعلل النسفي لاستواء الحالين بقوله : (لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ، ولا عاقبة له ، ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع).

كلمة في السياق :

ما مر معنا هو مقدمة السورة التي أنذرت الكافرين المكذبين باليوم الآخر

٥٤

واستعملت لهذا الإنذار أشد أنواع التوكيد ، وذلك لإيجاد الاستعداد للتقوى ، ومن ثم تأتي المجموعة الثانية لتتحدث عن المتقين.

المجموعة الثانية

وتمتد من الآية (١٧) إلى نهاية الآية (٢٨) وهذه هي :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

التفسير :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) وهذا ضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قال ابن كثير : (أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك) وقال

٥٥

النسفي : (أي متلذذين بما آتاهم ربهم) (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) قال ابن كثير : (أي وقد نجاهم من عذاب النار وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها ، مع ما أضيف إليها من دخول الجنة ، التي فيها من السرور ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ويقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : أكلا وشربا هنيئا ، أو طعاما وشرابا هنيئا ، وهو الذي لا تنغيص فيه (مُتَّكِئِينَ) أي : في حال أكلهم وشربهم (عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) قال النسفي : أي موصول بعضها ببعض. قال ابن كثير : أي وجوه بعضهم إلى بعض (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي : وقرناهم بحور عظام الأعين حسانها. قال ابن كثير : (أي وجعلنا لهم قرينات صالحات ، وزوجات حسانا من الحور العين) والحور : جمع حوراء ، والعين : جمع عيناء ، وهي الواسعة العين حسنتها (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) أي : أولادهم (بِإِيمانٍ) هذا شرط ، أما بدون الإيمان فليس إلا النار (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي : يلحق الأولاد بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء ، وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء (وَما أَلَتْناهُمْ) أي : وما نقصناهم (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : من ثواب عملهم من شىء ، قال ابن كثير : (يخبر تعالى عن فضله وكرمه ، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة ، وإن لم يبلغوا عملهم ؛ لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه ، بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك). (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي : مرهون ، فنفس المؤمن مرهونة بعمله وتجازى به ، قال ابن كثير : أي : (مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس سواء كان أبا أو ابنا) ، قال ابن كثير : (لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك ، أخبر عن مقام العدل ، وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد) (وَأَمْدَدْناهُمْ) أي : وزودناهم في وقت بعد وقت (بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) وإن لم يقترحوا ، قال ابن كثير : (أي وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى ، مما يستطاب ويشتهى) (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أي : خمرا أي يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم ، بتناول هذا الكأس من يد هذا ، وهذا من يد هذا (لا لَغْوٌ فِيها) أي : في شربها (وَلا تَأْثِيمٌ) قال ابن كثير : (أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ أي هذيان ولا إثم ، أي فحش ،

٥٦

كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا) ، وقال النسفي : (أي لا يجري بينهم ما يلغي ، يعني : لا يجري بينهم باطل ، ولا ما فيه إثم لو فعله فاعل في دار التكليف ، من الكذب والشتم ونحوهما كشاربي خمر الدنيا ، لأن عقولهم ثابتة فيتكلمون بالحكم والكلام الحسن) (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ) أي : مملوكون (لَهُمْ) أي : مخصوصون بهم (كَأَنَّهُمْ) من بياضهم وصفائهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي : محفوظ في الصدف ؛ لأنه رطب أحسن وأصفى ، أو مخزون ؛ لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة ، قال ابن كثير : (هذا إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة ، كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون في حسنهم وبهائهم ونظافتهم ، وحسن ملابسهم) (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي : يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله ، وما استحق به نيل ما عند الله ، قال ابن كثير : (أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا ، وهذا كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم) (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي : إنا كنا في الدنيا في أهلنا أرقاء القلوب من خشية الله ، أو خائفين من نزع الإيمان ، وفوت الأمان ، أو من رد الحسنات والأخذ بالسيئات ، قال ابن كثير : (أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا ، مشفقين من عذابه وعقابه) (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالمغفرة والرحمة (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) السموم في الأصل : هي الريح الحارة التي تدخل المسام ، فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه ، يعنون في الدنيا (نَدْعُوهُ) قال النسفي : (أي نعبده ولا نعبد غيره) ، وقال ابن كثير : (أي نتضرع إليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤلنا) (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) أي : المحسن (الرَّحِيمُ) أي : العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب ، وإذا سئل أجاب. وبهذا انتهت المجموعة الثانية.

كلمة في السياق :

١ ـ في المجموعة الأولى عرض الله عزوجل علينا حال الكافرين في الدنيا : التكذيب ، والخوض ، واللعب ، وفي المجموعة الثانية عرض الله عزوجل علينا حال المتقين في الدنيا : الإشفاق من عذاب الله ، والعبادة لله ، والدعاء له ، وفي المجموعة الأولى عرض الله ما أعده للكافرين من عذاب ، وفي المجموعة الثانية عرض الله عزوجل ما أعده لأهل التقوى من ثواب وجزاء.

٥٧

٢ ـ نلاحظ أن سورة الذاريات ذكرت من خصائص المتقين الإحسان ، وقيام الليل ، والاستغفار في الأسحار ، والإنفاق في سبيل الله ، وفي سورة الطور عرضت السورة من خصائص المتقين الإشفاق من عذاب الله ، والدعاء. والإشفاق من عذاب الله أثر عن الإيمان بالغيب ، وهكذا نجد سورة الطور تفصل في محور السورة من سورة البقرة بشكل يكمل تفصيل سورة الذاريات.

٣ ـ بعد عرض ما للكافرين من عذاب ، وما للمتقين من ثواب ، وأسباب ذلك ، تأتي الآن مجموعة ثالثة تطالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتذكير والصبر والتسبيح ، وفي المجموعة مناقشة شاملة للكافرين الذين يتنكبون طريق التقوى ، فيكذبون ويخوضون ويلعبون ويرتابون ، فلنر المجموعة الثالثة والأخيرة في السورة.

المجموعة الثالثة

وتمتد من الآية (٢٩) إلى نهاية الآية (٤٩) أي : إلى نهاية السورة وهذه هي :

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ

٥٨

فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

ملاحظة في السياق :

١ ـ نلاحظ أن المجموعة تتوجه بالخطاب إلى الذي أنزل عليه القرآن ، فتأمره بالتذكير ، وتنفي عنه التهم ، وتناقش الكافرين مناقشة شاملة ، ثم تأمره بعد إقامة الحجة بالصبر ، والتسبيح بحمد الله ، وصلة ذلك بمجموعتي السورة السابقتين واضحة ، فهي مناقشة للمكذبين ، وتثبيت للمتقين.

٢ ـ تبدأ المجموعة بقوله تعالى : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ...) فلننتبه إلى ما يلي : استقر القسم الثالث من أقسام القرآن على قوله تعالى في سورة (ق) (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) وفي سورة الذاريات جاء قوله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) وفي سورة الطور يأتي قوله تعالى : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ...) ثم تأتي المناقشة الشاملة ، ومن هذا التكامل نرى الصلات المتشابكة بين السور المتعاقبة ، فبعد أن بينت سورة (ق) من يستأهل التذكير ، وبينت سورة الذاريات انتفاع المؤمنين به ، تأتي سورة الطور لتأمر بالتذكير ، وتعلم طريق إقامة الحجة ، وذلك يفيد أنه لا بد من إقامة الحجة على الكافرين ، وهذا مظهر من مظاهر التكامل بين سور القرآن.

٣ ـ قلنا إن السور الثلاث (الذاريات ، والطور ، والنجم) تفصل في الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة ، التي مضمونها التقوى ، وقد رأينا كيف أن سورة

٥٩

الذاريات أعطتنا في التقوى تفصيلا ، وجاءت سورة الطور فأعطتنا تفصيلا ، وستأتي سورة النجم لتعطينا تفصيلا ، ومع التفصيل فإن سياق السور الثلاث يربي على التقوى بالمواعظ ، وإقامة الحجة ، ويهدم كل ما يحول دونها.

٤ ـ في سورة الطور عرض الله عزوجل علينا حال الكافرين يوم القيامة فكان في ذلك ترهيب يدفع نحو التقوى ، ثم كان في المجموعة الثانية ترغيب يدفع نحو التقوى ، وتأتي المجموعة الثالثة لتهدم كل تكأة يتكا عليها الكافرون في هروبهم من التقوى ، ولتأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ينبغي فعله للتحقق بالتقوى ، وما ينبغي فعله في مقابل مواقف الكافرين.

٥ ـ في الآيات الخمس الأولى من مقدمة سورة البقرة نجد خطابا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) والملاحظ أن الخطاب في المجموعة الثالثة يتوجه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) ثم يسير السياق ليقول : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) لاحظ الصلة بين الآيات وآية المحور.

التفسير :

(فَذَكِّرْ) قال النسفي : (أي فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم) ، وقال ابن كثير : يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبلغ رسالته إلى عباده ، وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه ، ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي : برحمته إياك وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل (بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) كما زعموا أي لست ـ بحمد الله ـ بكاهن كما يتقول الجهلة من الكفار ، والكاهن : هو الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من جند السماء ، ولا بمجنون : وهو الفاقد العقل. والكهانة والصرع هما التفسيران اللذان يفسر بهما الكافرون ظاهرة الوحي وما يرافقها ، وهو تفسير مردود علميا وعقليا ؛ فالكهانة لا يصدر عنها مثل هذا القرآن ، والصرع ظاهرة مرضية لا يرافقها انبثاق نص كالنص القرآني ، وأنواع المجنون الأخرى وغيبوباتها كلها ظواهر مرضية ، لا ينبثق عنها ما كان يترتب على ظاهرة الوحي من معان من شأن الغيوب ، والهداية ، والعلوم والقرآن ، ولكون ما قالوه ظاهر البطلان فقد نفاه النص القرآني دون أن يتوقف عنده ؛ مما يشير إلى أنه لا يحتاج إلى تدليل. ولما كان التفسير الثالث لظاهرة القرآن عند الكافرين هو أن

٦٠