الأساس في التفسير - ج ١٠

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١٠

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

١
٢

القسم الرابع من أقسام القرآن

قسم المفصل

ويتضمن السور من بداية سورة الذاريات إلى نهاية المصحف

٣
٤

كلمة في قسم المفصل :

(عن مروان بن الحكم قال : قال لي زيد بن ثابت : مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فيها بطولى الطوليين» رواه البخاري وأحمد والنسائي. بمناسبة هذا الحديث قال الشوكاني في تفسير المفصل : قال في الضياء : (هو من سورة محمد إلى آخر القرآن ، وذكر في القاموس أقوالا عشرة من الحجرات إلى آخره ، أو من الجاثية ، أو القتال ، أو قاف ، أو الصافات ، أو الصف ، أو تبارك ، أو إنا فتحنا لك ، أو سبح اسم ربك الأعلى ، أو الضحى ، ونسب بعض هذه الأقوال إلى من قال بها ، قال : وسمي مفصلا لكثرة الفصول بين سورة أو لقلة المنسوخ).

وطولى الطوليين الواردة في الأثر : الأعراف ، والثانية : الأنعام. قال في الفتح : الطوليين الأعراف والأنعام في قول ، وتسميتهما بالطوليين إنما هو لعرف فيهما ، لا أنهما أطول من غيرهما ... وبمناسبة الحديث الشريف : «وعن سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال : ما رأيت رجلا أشبه صلاة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فلان لإمام كان في المدينة ، قال سليمان : فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الآخرتين ، ويخفف العصر ، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل ، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل ، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل» رواه أحمد والنسائي.

بمناسبة هذا الحديث قال الشوكاني : (ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل) قد تقدم في حديث معاذ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره بالقراءة بسبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى ، وهذه السور من أوساط المفصل ، وزاد مسلم أنه أمره بقراءة اقرأ باسم ربك الذي خلق ، وزاد عبد الرزاق الضحى ، وفي رواية للحميدي بزيادة والسماء ذات البروج ، والسماء والطارق ، وقد عرفت أن قصة معاذ كانت في صلاة العشاء ، وثبت أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة العشاء بالشمس وضحاها ونحوها من السور. أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه من حديث بريدة وأنه قرأ فيها ب (والتين والزيتون) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي من حديث البراء ، وأنه قرأ ب (إذا السماء انشقت) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة) اه. كلام الشوكاني في تفسير وسط المفصل وقال الشرنبلالي في مراقي الفلاح : (والمفصل هو السبع السابع (أي : من القرآن) قيل أوله ـ عند الأكثرين ـ من سورة الحجرات ، وقيل من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من الفتح ، أو من (ق) ، فالطوال من مبدئه إلى

٥

البروج ، وأوساطه منها إلى (لم يكن) ، وقصاره منها إلى آخره ، وقيل طواله من الحجرات إلى عبس ، وأوساطه من كورت إلى الضحى ، والباقي قصاره).

وقال الشرنبلالي : (وسمي المفصل به لكثرة فصوله ، وقيل لقلة المنسوخ فيه).

وفسر الطحاوي كثرة الفصول بقوله : (أي : لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة) وقال في تفسير قلة المنسوخ فيه بقوله : (فهو من التفصيل بمعنى الإحكام وعدم التغيير).

مما نقلناه ندرك أن اسم المفصل للسبع السابع من القرآن متعارف عليه بين الصحابة وبين الفقهاء خلال العصور ، كما ندرك أن تحديده قضية خلافية ، وقد رأينا في بداية تفسيرنا لسورة (ق) أن ابن كثير يرجح أن ابتداءه من سورة (ق). وقلنا هناك : إننا نرجح أن يكون ابتداؤه من سورة الذاريات ، وذكرنا لماذا رجحنا ذلك ، ولا حظنا مما نقلناه هنا أن هناك اتفاقا بين المؤلفين على أنه سمي مفصلا لأحد سببين : إما لكثرة فصوله ، أو لقلة المنسوخ فيه ، ورأينا أن الطحاوي ضعف القول الثاني إذ قال قبله : (وقيل لقلة المنسوخ فيه) وإنما تستعمل كلمة (قبل) للتدليل على ضعف القول ، فيبقى القول الأول هو القول المرجح عند الطحاوي من أنه سمي مفصلا لكثرة فصوله ، وفسر كثرة الفصول بكثرة الفصل بين سوره بالبسملة.

أقول : وهو وجه مما تحتمله كلمة كثرة الفصول ، إذ ما قبل المفصل يوجد خمسون سورة بما في ذلك سورة الفاتحة ، بينما توجد من الذاريات حتى نهاية القرآن أربعة وستون سورة ، إلا أنني أحتمل أن يكون الشارح الذي شرح المفصل بكثرة الفصول أراد (الفصل) بالمعنى الاصطلاحي عند العلماء ؛ فإنه المتبادر إلى الذهن عندما يقال الفصول ، إذ هي جمع فصل والفصل في اصطلاح العلماء قديما وحديثا هو : ما دون الباب في تقسيمات المؤلفين ، فقد اصطلحوا على أن الكتاب أعم من الباب ، والباب أعم من الفصل ، والذي أرجحه أن الشارح الأول إنما أراد بالفصل ما اصطلحوا عليه ، والذي يرجح هذا أن المتأمل للمفصل يحس بشكل واضح بتعدد فصوله من خلال تعدد أنواع البدايات للسور ، ومن خلال التشابه بين بداية وبداية ، ومن ثم فإنني أفهم بأن المراد بالفصل هو ما أسميته في هذا التفسير باسم المجموعة ، وإن لم يكن واضحا عند السابقين هذا التحديد الدقيق لمعنى الفصل في المفصل ، فالذي أراه

٦

في هذا الموضوع أن تسمية المفصل تسمية مأثورة ، وقد فسر السابقون الكلمة بكثرة الفصول لمعنى غامض أحسوه في هذا القسم ، هذا المعنى الغامض هو الذي تفسره هذه الطريقة التي اعتمدتها في تقسيم القرآن إلى أقسام ، وكل قسم يضم مجموعات ، كل مجموعة تشكل فصلا من فصول هذا القرآن ، وسمي هذا القسم الرابع من القرآن (بالمفصل) لكثرة هذه المجموعات فيه ، وكما قلنا من قبل فإن ما مر معنا قبل المفصل كان سورة البقرة وتسع مجموعات ، بينما نجد أن المفصل وحده كما سنرى خمس عشرة مجموعة ، يضم سور كل مجموعة إلى بعضها أنها تفصل في البقرة من بدايتها إلى نقطة فيها ، ثم تأتي المجموعة الثانية والثالثة وهكذا لتفصل كل منها تفصيلا جديدا.

وعندما نعرض مجموعات المفصل سنذكر عند كل مجموعة الأسباب التي حملتنا على اعتبارها مجموعة ، وقد رأينا فيما مر طريقتنا في التدليل على القسم وعلى المجموعات ، ولا شك أن ما مر معنا من قبل يشكل بالنسبة للمرحلة القادمة من التفسير نقاط علام ، فقد رأينا مثلا أن السور المبدوءة بقسم تشكل بداية مجموعة ، وسنرى بدايات جديدة لمجموعات في هذا القسم ، والذي نحب أن نذكر به بهذه المناسبة هو :

إنك تلاحظ أن سورا كثيرة في هذا القسم مبدوءة بقسم ، ثم يأتي بعد القسم أو الأقسام سورة أو سور ، ثم يظهر القسم مرة ثانية ، وأحيانا تجد بعد القسم سورا تتشابه بداياتها ، وأحيانا تجد بداية تتكرر ، ولكن فيما بين البداية والبداية سور ليست مبدوءة بهذه البداية ، كما ترى ذلك في زمرة المسبحات ، إن ذلك كله يلفت النظر للبحث عن قاعدة كلية تنتظم هذه الدورة ، وإننا نتصور أن ما اتجهنا إليه في هذا التفسير كان هو التفسير لهذه الظاهرة وأمثالها ، والمعاني مع بعض نقاط العلام التي نستأنس بها هي التي تقدم الدليل على صحة السير.

يتألف هذا القسم من خمس عشرة مجموعة. وكل مجموعة تفصل في معان من سورة البقرة من بدايتها إلى شىء منها ، وكل سورة في مجموعة لها محورها من سورة البقرة ، فهي تفصل في هذا المحور ، وفي امتداده في سورة البقرة ، وهو شىء قد رأيناه كثيرا ، ورأينا الدليل عليه مرة بعد مرة.

٧

وسنرى أن عامة محاور سور هذه المجموعات تفصل في مقدمة سورة البقرة والمقطعين الأولين من القسم الأول منها ، وهذا يشير إلى أهمية هذه المعاني بالنسبة لمجموع المعاني القرآنية ، حتى اقتضت في كل مجموعة من هذا القسم تفصيلا على كثرة المجموعات ، كما أنها قد فصلت في كل مجموعة من قسم المثاني ، أو قسم المئين ، أو قسم الطوال.

ولنبدأ عرض مجموعات هذا القسم.

٨

المجموعة الأولى

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سور :

الذاريات ، والطور ، والنجم ،

والقمر ، والرحمن ،

والواقعة

٩
١٠

كلمة في المجموعة الأولى من قسم المفصل

تتألف المجموعة الأولى من قسم المفصل من سور ست هي :

الذاريات ، والطور ، والنجم ، والقمر ، والرحمن ، والواقعة. وقد دلنا على بدايتها ونهايتها أنها مبدوءة بسور ثلاث تبدأ بالقسم : (الذاريات ، والطور ، والنجم) وأنها تنتهي بسورة مبدوءة ب (إذا) هي سورة الواقعة (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) وسنرى في هذا القسم أن أكثر من مجموعة تنتهي بسورة بدايتها (إذا). فمثلا سنرى أن سورة (إِذا زُلْزِلَتِ) نهاية مجموعة ؛ بدليل أن ما بعدها سورة مبدوءة بقسم (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) وتلك علامة على بداية مجموعة ، ثم إنه بعد سورة الواقعة تأتي سورة الحديد ، وهي بداية لزمرة المسبحات ، ومن مجىء كلمة (سبح ـ يسبح) في هذه الزمرة ، ومجىء سورة أو سور بعدها ، ثم العودة إليها ، ما يشير إلى أن السور التي تبدأ بكلمة (سبح ـ يسبح) هي بداية مجموعة ، وسنرى ذلك من خلال المعاني.

فمن خلال السور المبدوءة بالقسم ، ومن السورة المبدوءة ب (إذا) ، ومن خلال أن ما بعد سورة الواقعة بداية مجموعة ، عرفنا بداية هذه المجموعة ونهايتها.

وقد مرت معنا من قبل سورة الصافات مبدوءة بقسم ، ورأينا أنها تفصل في مقدمة سورة البقرة ، ورأينا سورة الأنبياء وبدايتها قوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) وهي تفصل في قوله تعالى من مقدمة سورة البقرة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

وفي هذه المجموعة تأتي سور ثلاث مبدوءة بقسم ، ثم تأتي بعدها سورة بدايتها تشبه بداية سورة الأنبياء (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) ومضمونها أن النذر لم تنفع الكافرين ؛ لذلك كانت لازمتها (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ). وهذا يشير إلى أن السور الأربع الأولى في هذه المجموعة تفصل في مقدمة سورة البقرة. وبعد مقدمة سورة البقرة تأتي آيات تدعو إلى توحيد الله وعبادته ؛ شكرا على آلائه ، وتتحدى الكافرين في أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وتذكر ما أعده الله للكافرين من عذاب ، وتبشر المؤمنين ، وتقيم الحجة على الكافرين ، وذلك في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة. وتأتي سورة الرحمن والواقعة فتفصلان في هذا كله ، لذلك كانت لازمة سورة الرحمن : (فَبِأَيِ

١١

آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وصلة ذلك بقوله تعالى : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً ...) لا تخفى ، وتأتي بعد ذلك سورة الواقعة لتفصل في أصناف الناس يوم القيامة ، وتقيم الحجة على الكافرين وصلة ذلك بقوله تعالى (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لا تخفى.

والخلاصة :

إن ما مر معنا من قبل يساعدنا كثيرا على تحديد أن هذه السور الست تشكل مجموعة متكاملة ، فإن السور الثلاث الأولى منها مبدوءة بقسم (وَالذَّارِياتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ) وذلك علامة على أنها تفصل في الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة ، كما فصلت زمرة (الم) العنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والسجدة في هذه المقدمة.

وكما فصلت سورة الأنبياء المبدوءة ب (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فإن سورة القمر مبدوءة ب (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) تفصل في المحور نفسه ، وعلى هذا فالسور الأوائل الأربعة من هذه المجموعة تفصل في مقدمة سورة البقرة.

وتأتي سورة الرحمن والواقعة لتفصلا فيما بعد المقدمة من سورة البقرة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) فسورة الرحمن التي تبدأ بقوله تعالى (الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ ...) تفصل في التعريف على صنع الخالق ، وسورة الواقعة تكمل التفصيل لذات المقطع. وسنرى تفصيلات ذلك وأدلته بشكل موسع أثناء الكلام عن السور ومحاورها.

ونلاحظ أن سورا كثيرة قد تفصل في محور واحد ، ولكنا نجد أن كل سورة تفصل بشكل جديد ، وعلى طريقة عرض جديدة ، وفيها ـ فيما يتعلق بالتفصيل ـ شىء جديد ، ولها جرسها الخاص ، وتأثيرها الخاص ، وذلك بعض مظاهر الإعجاز.

وسنرى في هذه المجموعة بشكل بارز صلة أوائل السورة اللاحقة بأواخر السورة السابقة ، وهو شىء ركز عليه الذين تكلموا عن الوحدة القرآنية من قبل ، فكتب في ذلك

١٢

السيوطي وغيره ، وليس هناك من مجموعة في القرآن تظهر فيها هذه الصلات بوضوح كهذه المجموعة والتي بعدها.

ففي هذه المجموعة نجد مثلا أن سورة الطور تنتهي بقوله تعالى : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) ، وأن سورة النجم بعدها تبدأ بقوله تعالى : (وَالنَّجْمِ) ونجد أن آخر سورة في هذه المجموعة ـ وهي سورة الواقعة ـ تنتهي بقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) وأن سورة الحديد بعدها تبدأ بقوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ولقد رأينا من قبل كيف أن سورة الفاتحة كانت فقرتها الثالثة : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ...) ثم جاء أول سورة البقرة (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ولقد تنبه بعض المفسرين لهذا الضرب من الصلات حتى كتبوا فيه كتبا.

ولنبدأ عرض سور المجموعة الأولى من قسم المفصل.

١٣
١٤

سورة الذاريات

وهي السورة الحادية والخمسون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الأولى من المجموعة الأولى من قسم

المفصل ، وآياتها ستون آية

وهي مكية

١٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

١٦

بين يدي السورة :

١ ـ قدم الألوسي لسورة الذاريات بقوله : (مكية كما روي عن ابن عباس ، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما ـ ولم يحك في ذلك خلاف ـ وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد ، ومناسبتها لسورة (ق) أنها لما ختمت بذكر البعث ، واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق ، وأن الجزاء لواقع ، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال ، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل).

٢ ـ ومن تقديم صاحب الظلال لسورة الذاريات نقتطف ما يلي : (هذه السورة ذات جو خاص. فهي تبدأ بذكر قوى أربعة ... من أمر الله .. في لفظ مبهم الدلالة ، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر. يقسم الله ـ تعالى ـ على أمر : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً* فَالْجارِياتِ يُسْراً* فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً* إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ* وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ).

والذاريات. والحاملات. والجاريات. والمقسمات .. مدلولاتها ليست متعارفة ، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار ، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل. ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة.

وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ). يقسم بها الله تعالى على أمر : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ). لا استقرار له ولا تناسق فيه ، قائم على التخرصات والظنون ، لا على العلم واليقين.

هذه السورة : بافتتاحها على هذا النحو ، ثم بسياقها كله ، تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله .. ربط القلب البشري بالسماء ؛ وتعليقه بغيب الله المكنون ؛ وتخليصه من أوهاق الأرض ، وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله ، والانطلاق إليه جملة ، والفرار إليه كلية ، استجابة لقوله في السورة : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) .. وتحقيقا لإرادته في عباده : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره ، وتطمين النفس من جهته ، وتعليق

١٧

القلب بالسماء في شأنه ، لا بالأرض وأسبابها القريبة. وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها. إما مباشرة كقوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) .. (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) .. وإما تعريضا ـ كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال ـ : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) .. ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه).

كلمة في سورة الذاريات ومحورها :

إذا كانت سورة القمر تفصل ـ بما لا يقبل الجدل على حسب نظريتنا ـ في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ...) فإن السور الثلاث : الذاريات والطور والنجم تفصل في قوله تعالى من سورة البقرة :(الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

ومن ثم نجد بشكل بارز في السور الثلاث كلاما عن التقوى والمتقين ، ففي سورة الذاريات ـ وهي محل الكلام هنا ـ نجد قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ* كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) وصلة ذلك بقوله تعالى من سورة البقرة : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) واضحة. ونجد في سورة الذاريات : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ...). وصلة ذلك بقوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ...). واضحة.

ذكرنا هذين المثالين لصلتهما الواضحة بمحور السورة الذي حددناه وذكرناه ، وإلا فالسورة كلها تصب في تفصيل المحور كما سنرى.

تتألف سورة الذاريات من مقدمة ، ومقطع واحد ، وخاتمة. المقدمة ست آيات ، والخاتمة خمس آيات ، والمقطع يتألف من فقرتين ، وتتألف الفقرة الثانية من عدة مجموعات.

١٨

مقدمة السورة

وتمتد من الآية (١) إلى نهاية الآية (٦) وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦))

التفسير :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) : فالذاريات هي الرياح سميت كذلك لأنها تذرو التراب وغيره (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) : المراد بالحاملات : السحاب ، وسميت كذلك لأنها تحمل المطر ، والوقر : الثقل (فَالْجارِياتِ يُسْراً) : قال ابن كثير : فأما الجاريات يسرا فالمشهور عن الجمهور أنها السفن تجري يسرا في الماء ، جريا سهلا. (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) : قال النسفي : (الملائكة ؛ لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما ، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك ، أو تتولى تقسيم أمر العباد ...) وفي الآيات الأربع قسم من الله عزوجل على وقوع المعاد (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) أي : لخبر صدق ، أي : لوعد صادق ، والموعود البعث ، ويحتمل أن يكون المراد الوعيد فيكون المعنى : إن وعيد الله صادق ، قال الألوسي : أي : إن الذي توعدونه أو توعدون به ، (وَإِنَّ الدِّينَ) وهو الحساب والجزاء على الأعمال. (لَواقِعٌ) أي : لكائن لا محالة. أقسم تعالى بالرياح ، فبالسحاب الذي تسوقه ، فبالفلك التي تجريها بهبوبها ، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتيارات البحر ومنافعها وغير ذلك على صدق وعده في شأن اليوم الآخر ، وعلى كينونة الحساب والجزاء.

كلمة في السياق :

قلنا إن محور سورة الذاريات هو الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة ، وقد

١٩

ختمت الآيات الخمس الأولى بقوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) في هذا النص مدح وبشارة لأهل الايمان بالفلاح ، وذلك وعد من الله عزوجل لهم ، وقد جاءت مقدمة سورة الذاريات وفيها قسم على أن وعد الله للمؤمنين صادق ، وأن الجزاء على الأعمال كائن ، وصلة ذلك بمحور السورة لا تخفى ، وهذه الآيات تشكل مقدمة السورة ؛ فهي مدخل للمعاني التى ستأتي بعدها ، والتي تفصل في موعود الله عزوجل لأهل التقوى ، وعقاب الله للذين لا يتحققون بالتقوى.

الفقرة الأولى من المقطع

وتمتد من الآية (٧) إلى نهاية الآية (٢٣) وهذه هي :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

٢٠