الأساس في التفسير - ج ١٠

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١٠

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

وابن ماجه من حديث سفيان وهو الثوري به. وقال محمد بن إسحاق : جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : أسر ابني عوف فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» وكانوا قد شدوه بالقد ، فسقط القد عنه ، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها وأقبل ، فإذا بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه ، فصاح بهم ، فاتبع أولها آخرها فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب فقال أبوه : عوف ورب الكعبة ، فقالت أمه : واسوأتاه وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد ، فاستبقا الباب والخادم ، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا ، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل ، فقال أبوه : قفا حتى آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسأله عنها ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اصنع بها ما أحببت ، وما كنت صانعا بمالك» ونزل (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) رواه ابن أبي حاتم.

وروى ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله إليها».

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا غلام إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف» وقد رواه الترمذي وقال : حسن صحيح ، وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنا أن لا تسهل حاجته ، ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل»).

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) قال ابن كثير : (روى البخاري عن يحيى قال : أخبرني أبو سلمة قال : جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة ،

٥٠١

فقال ابن عباس : آخر الأجلين قلت أنا : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) قال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي ـ يعني أبا سلمة ـ فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها فقالت : قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أبو السنابل فيمن خطبها ، هكذا أورد البخاري هذا الحديث ههنا مختصرا وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولا من وجوه أخر ، وروى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حامل ، فلم تمكث إلا ليالي حتى وضعت ، فلما تعلت من نفاسها خطبت ، فاستأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النكاح فأذن لها أن تنكح فنكحت ، ورواه البخاري في صحيحه ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عنها كما روى مسلم بن الحجاج عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها ، وعما قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين استفتته ، فكتب عمر بن عبد الله يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة ، وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها : مالي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح ، إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر ، قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي. هذا لفظ مسلم ورواه البخاري مختصرا).

٦ ـ بمناسبة قوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) قال ابن كثير : (روى ابن جرير عن أبي سنان قال سأل عمر ابن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل : إنه يلبس الغليظ من الثياب ، ويأكل أخشن الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها؟ فما لبث أن لبس اللين من الثياب ، وأكل أطيب الطعام ، فجاءه الرسول فأخبره فقال : رحمه‌الله تعالى تأول هذه الآية (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ)).

٧ ـ بمناسبة قوله تعالى : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) قال ابن كثير :

٥٠٢

(وقد روى الإمام أحمد حديثا يحسن أن نذكره ههنا فروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدرون على شىء ، فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعا قد أصابته مسبغة شديدة ، فقال لامرأته : عندك شىء؟ قالت : نعم أبشر أتانا رزق الله ، فاستحثها فقال : ويحك ابتغي إن كان عندك شىء ، قالت : نعم ، هنيهة ، ترجو رحمة الله ، حتى إذا طال عليه الطول ، قال : ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شىء فائتني به ؛ فإني قد بلغت وجهدت ، فقالت : نعم ، الآن نفتح التنور فلا تعجل ، فلما أن سكت عنها ساعة ، وتحينت أن يقول لها قالت : من عند نفسها لو قمت فنظرت إلى تنوري ، فقامت فنظرت إلى تنورها ملآن من جنوب الغنم ، ورحييها تطحنان ، فقامت إلى الرحى فنفضتها ، واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم ، قال أبو هريرة : فو الذي نفس أبي القاسم بيده هو قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة».

وروى في موضع آخر ... عن أبي هريرة قال : دخل رجل على أهله فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية ، فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها ، وإلى التنور فسجرته ، ثم قالت : اللهم ارزقنا ، فنظرت ، فإذا الجفنة قد امتلأت ، قال : وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئا ، قال فرجع الزوج فقال : أصبتم بعدي شيئا؟ قالت امرأته : نعم من ربنا ، فأم إلى الرحى فذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة»).

٨ ـ بمناسبة قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) قال صاحب الظلال : (وبين هذه السماوات السبع والأرض أو الأرضين السبع يتنزل أمر الله ـ ومنه هذا الأمر الذي هم بصدده في هذا السياق. فهو أمر هائل إذن ، حتى بمقاييس البشر وتصوراتهم في المكان والزمان بقدر ما يطيقون التصور. والمخالفة عنه مخالفة عن أمر تتجاوب به أقطار السماوات والأرضين ، ويتسامع به الملأ الأعلى وخلق الله الآخرون في السماوات والأرضين. فهي مخالفة بلقاء شنعاء ، لا يقدم عليها ذو عقل مؤمن ، جاءه رسول يتلو عليه آيات الله مبينات ، ويبين له هذا الأمر ، ليخرجه من الظلمات إلى النور).

٥٠٣

كلمة أخيرة في سورة الطلاق :

إن الشىء الذي نلفت إليه النظر في هذه الكلمة عن سورة الطلاق هو ما نجده في هذه السورة من إعجاز واضح ، فالسورة تحدثت عن أحكام شرعية غزيرة ، وعبرت عنها بما رأيناه ، فليتأمل المتأملون هل بإمكان بشر أن يصوغ هذه المعاني كلها بمثل هذه الصياغة الدقيقة الجامعة الواسعة المعاني ، وبهذا الأسلوب ، وبهذه السلاسة ، وبهذا الجرس ، وبهذا التسلسل ، وبهذا البيان ، وبما يتفق مع روح القرآن كله ، وبما يؤدي دوره ضمن الوحدة القرآنية ، هل بإمكان بشر ـ كائنا من كان ـ أن يفعل هذا؟ أغنى الصباح عن المصباح ، متى احتاج النهار إلى دليل. ولننتقل إلى سورة التحريم.

٥٠٤

سورة التحريم

وهي السورة السادسة والستون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الثالثة من المجموعة الخامسة من قسم

المفصل ، وهي اثنتا عشرة آية

وهي مدنية

٥٠٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٥٠٦

بين يدي سورة التحريم :

قدم الألوسي لسورة التحريم بقوله : (ويقال لها : سورة المتحرم ، وسورة (لم تحرم) ، وسورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن ابن الزبير : سورة النساء. والمشهور أنها مدنية ، وعن قتادة أن المدني منها إلى رأس العشر ، والباقي مكي ، وآيها اثنتا عشرة آية بالاتفاق ، وهي متواخية مع التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتلك مشتملة على طلاق النساء ، وهذه على تحريم الإماء ، وبينهما من الملابسة ما لا يخفى ، ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ، ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم إعظاما لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة ، فأفردن بسورة خاصة ، ولذا ختمت بذكر زوجيه صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنة آسية امرأة فرعون. ومريم بنت عمران قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة).

ومن تقديم صاحب الظلال لهذه السورة نقتطف ما يلي : (وهذه السورة تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض ، وبينهن وبينه! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك ... ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه).

(وهذا الحادث الذي نزل بشأنه صدر هذه السورة هو واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حياة أزواجه. وقد وردت بشأنه روايات متعددة ومختلفة سنعرض لها عند استعراض النصوص القرآنية في السورة.

بمناسبة هذا الحادث وما ورد فيه من توجيهات. وبخاصة دعوة الزوجتين المتآمرتين فيه إلى التوبة. أعقبه في السورة دعوة إلى التوبة وإلى قيام أصحاب البيوت على بيوتهم بالتربية ، ووقاية أنفسهم وأهليهم من النار. كما ورد مشهد الكافرين في هذه النار. واختتمت السورة بالحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط ، كمثل للكفر في بيت مؤمن. وعن امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر ، وكذلك عن مريم ابنة عمران التي تطهرت فتلقت النفخة من روح الله ، وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين).

٥٠٧

كلمة في سورة التحريم ومحورها :

قلنا إن محور سورة التحريم هو محور سورة المائدة أي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لاحظ أن سورة المائدة يرد فيها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ... لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) وهذه سورة التحريم تبدأ بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وتأمر سورة التحريم بالتوبة النصوح ، وجهاد الكافرين والمنافقين ، وصلة ذلك بنقض الميثاق ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ، والإفساد في الأرض واضحة ، والملاحظ أن آيتي سورة البقرة اللتين قلنا إنهما محور سورة التحريم تبدآن بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) وأن سورة التحريم يرد فيها قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) وههنا نحب أن نسجل ملاحظة.

في هذه المجموعة وردت سورتان مبدوءتان ب (يا أيها) ، وفي المجموعة القادمة سترد سورتان مبدوءتان ب (يا أيها) سورتا المزمل والمدثر ، وفي القسم الأول من أقسام القرآن وردت سورتان مبدوءتان بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا) هما سورتا النساء والمائدة ، وقلنا إن محور السورة الأولى من كل هذه السور هو (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ...) وقلنا إن محور السورة الثانية من كل هذه السور هو (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) والملاحظ أن سورة التحريم يرد فيها ذكر المثل بقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ...) وأن سورة المدثر يرد فيها قوله تعالى : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) لاحظ ذكر المثل ولاحظ المطابقة الحرفية بين قوله تعالى في سورة البقرة عن المثل : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) أليس في وجود مثل هذه المعاني دليل على صحة ما اتجهنا إليه في فهم السياق الكلي للقرآن والوحدة القرآنية ، ولنعد إلى الكلام عن سورة التحريم.

٥٠٨

إن لسورة التحريم سياقها الخاص ككل سورة ، كما أنها تفصل في محورها ، وسنرى ذلك كله بالتفصيل أثناء عرضها.

تنقسم السورة إلى فقرتين واضحتين : تبدأ الفقرة الأولى ب (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) وتنتهي ب (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) وتبدأ الفقرة الثانية بقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً). تنتهي الفقرة الأولى بنهاية الآية (٩) ، وتنتهي الفقرة الثانية بنهاية السورة.

٥٠٩

الفقرة الأولى

وتستمر من الآية (١) حتى نهاية الآية (٩) وهذه هي.

المجموعة الأولى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

المجموعة الثانية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ

٥١٠

آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))

ملاحظة :

لفهم السورة فهما دقيقا يحسن أن نذكر رواية في أسباب النزول تعين على الفهم : قال ابن كثير : (روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قلت لعمر بن الخطاب : من المرأتان؟ قال : عائشة وحفصة ، وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم مارية ، أصابها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت حفصة في نوبتها فوجدت حفصة فقالت : يا نبي الله لقد جئت إلي شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري وعلى فراشي قال : «ألا ترضين أحرمها فلا أقربها» قالت : بلى ، فحرمها وقال لها : «لا تذكري ذلك لأحد» فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) الآيات كلها ، فبلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفر عن يمينه وأصاب جاريته ، وروى الهيثم بن كليب في مسنده عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحفصة : «لا تخبري أحدا وإن أم إبراهيم علي حرام» فقالت : أتحرم ما أحل الله لك؟ قال : «فو الله لا أقربها» قال : فلم يقربها حتى أخبرت عائشة قال : فأنزل الله تعالى (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وقد اختاره الضياء المقدسي في كتابه المستخرج) ، وسنرى في الفوائد روايات أخرى في سبب النزول يفيد بعضها أن الذي حرمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه هو شربه العسل عند زينب بنت جحش زوجته رضي الله عنها.

٥١١

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) من ملك اليمين على حسب الرواية التي نقلناها ، أو من شرب العسل عند زينب بنت جحش زوجته عليه الصلاة والسلام (تَبْتَغِي) بالتحريم (مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) وفي هذا ما فيه ، قال النسفي : لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله (وَاللهُ غَفُورٌ) أي : قد غفر لك فعلتك (رَحِيمٌ) أي : قد رحمك فلم يؤاخذك به (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) قال النسفي : أي : قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة ، أو قد شرع لكم تحليلها بالكفارة (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي : سيدكم ومتولي أموركم. قال النسفي : وقيل : مولاكم أولى بكم من أنفسكم ، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم أنفسكم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم فيشرعه لكم (الْحَكِيمُ) فيما أحل وحرم (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) وهي حفصة (حَدِيثاً) هو تحريمه مارية ، أو تحريمه شرب العسل على نفسه عند زينب رضي الله عنها (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي : فحين أخبرت به ، والتي أخبرتها به هي عائشة رضي الله عنها (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي : وأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إفشائها الحديث على لسان جبريل (عَرَّفَ بَعْضَهُ) أي : أعلم ببعض الحديث (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) فلم يخبر تكرما ، قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي : فلما نبأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة بما أفشت من السر إلى عائشة (قالَتْ) حفصة (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ) بالسرائر (الْخَبِيرُ) بالضمائر (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) قال النسفي : خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي : إن تتوبا إلى الله فقد استمعت قلوبكما لأمر الله استماع قبول (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي : وإن تتعاونا عليه بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره أو في الاستمرار على حاليكما في صنع ما لا يحبه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي : وليه وناصره ، وفي ذكر الضمير (هو) إيذان بأنه سبحانه يتولى ذلك بذاته (وَجِبْرِيلُ) أي : أيضا وليه (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أي : كذلك أولياؤه ، وصالح المؤمنين : هو كل من آمن وعمل صالحا (وَالْمَلائِكَةُ) على تكاثر عددهم (بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد نصرة الله وجبريل وصالحي المؤمنين (ظَهِيرٌ) أي : مظاهرين له ، فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) قال النسفي : (فإن قلت

٥١٢

كيف تكون المبدلات خيرا منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟ قلت : إذا طلقهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيرا منهن) (مُسْلِماتٍ) أي : داخلات في الإسلام ، ومتصفات به ، أو مستسلمات لله ورسوله (مُؤْمِناتٍ) أي : مقرات مخلصات (قانِتاتٍ) أي : مطيعات (تائِباتٍ) من الذنوب أو راجعات إلى أمر الله وإلى أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : أصبحت التوبة لهن خلقا (عابِداتٍ) أي : لله بأصناف العبادة من صلاة وذكر (سائِحاتٍ) أي : صائمات ، قال النسفي : (وقيل للصائم سائح لأن السائح لا زاد معه فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجىء وقت إفطاره) أقول : وفي هذه الأوصاف جماع الخيرية في المرأة ، فمن ربى امرأة فليحققها بهذه الأوصاف ، ومن اختار امرأة فليختر من تجمعت بها هذه الأوصاف ؛ فإنها الأوصاف التي حددها الله عزوجل فيمن يختارها لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أي : منهن ثيبات ومنهن أبكار ، وفي ذلك إشارة إلى أن العبرة في الخصائص لا في الثيوبة والبكارة ، هذه الخصائص التي ينبغي أن تفطن لها كل مسلمة فتتحقق بها ، وهي كما قال صاحب الظلال : (الإسلام الذي تدل عليه الطاعة والقيام بأوامر الدين. والإيمان الذي يعمر القلب ، وعنه ينبثق الإسلام حين يصح ويتكامل. والقنوت وهو الطاعة القلبية. والتوبة وهي الندم على ما وقع من معصية والاتجاه إلى الطاعة. والعبادة وهي أداة الاتصال بالله والتعبير عن العبودية له. والسياحة وهي التأمل والتدبر والتفكر في إبداع الله والسياحة بالقلب في ملكوته).

كلمة في السياق :

١ ـ مجىء هذه الآيات بعد سورة الطلاق واضح الدلالة ففي الآيات نموذج على حالة يحسن معها الطلاق حتى من أعظم الناس ، وأكملهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومجىء هذه الآيات في المجموعة التي مقدمتها سورة التغابن ـ السورة التي نصت على قوله تعالى : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) ـ واضح الحكمة ، إذ الآيات هنا تشير إلى مظهر من مظاهر الخطأ ترتكبه حتى أعظم النساء ، وأكرمهن في حق الزوج حتى ولو كان هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ رأينا في الآيات فظاعة أن تفشي المرأة سر زوجها ، مهما كان هذا السر ،

٥١٣

ورأينا تأديب الله عزوجل لمن يفعل ذلك ، ورأينا الخصائص العليا التي ينبغي أن تتحقق بها الزوجة المثلى ، وفي ذلك درس لأزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكن كذلك ، ولفت نظر لكل مسلم أن يربي على هذا ، وأن يختار مثل هؤلاء ، والتسلسل على الشكل التالي : حادثة حدثت رتب عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رتب واستكتم ، فعاتبه الله على ما رتبه ، وعاتب من أفشى سره ، وشدد في العقاب ، وطالب بالتوبة ، ورفع الهمة إلى معان ، كل ذلك مع غيره رأيناه في المجموعة.

٣ ـ ما صلة هذه المجموعة بمحور السورة؟ في المجموعة عتاب على تحريم الحلال ، وتبيان للمخرج منه بأن يعتبر يمينا ويكفر عنه ، وفي ذلك إنكار على صيغة من صيغ التوثيق ، وإنكار على أي عملية إرضاء لأي جهة بتحريم ما أحل الله ، وتبيان المخرج بأن تعتبر الصيغة يمينا ، وعلى صاحبها الكفارة ، وصلة ذلك بالمواثيق واضحة ، إذ فيها تبيان أن التكفير عن اليمين ، أو ما له صفة اليمين في موافقة أمر الله لا يعتبر نقضا لميثاق الله. وفي المجموعة عتاب على إفشاء السر ، والسر أمانة ، وصلة ذلك بمحور السورة واضحة ، فخيانة الأمانة نقض للعهد ، وإفساد في الأرض ، وفي المجموعة عتاب على التظاهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتظاهر على رسول الله قطع لما أمر الله به أن يوصل ، ونقض للمواثيق مع الله عزوجل ، وإفساد في الأرض ، فالمجموعة تربي وتقرر وتحرر وتفتح الطريق للأوبة ، وفي المجموعة بيان لخصائص المرأة التي إن تحققت بها فإنها تخرج عن كونها فاسقة ، هذه الخصائص هي الإسلام ، والطاعة ، والإيمان ، والتوبة ، والعبادة ، والصوم ، ولذلك صلاته بمحور السورة من سورة البقرة.

٤ ـ وبعد أن ذكر الله عزوجل الخصائص العليا للمرأة المسلمة في آخر آية من المجموعة الأولى تأتي أول آية في المجموعة الثانية لتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ...) وهذا يشير إلى أن المجموعة الأولى كانت مقدمة للمجموعة الثانية.

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

النداء الأول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) قال النسفي : (أي : قوا

٥١٤

أنفسكم بترك المعاصي ، وفعل الطاعات ، وأهليكم بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم : نارا) وقال علي رضي الله عنه : أي : أدبوهم وعلموهم ، وقال ابن عباس : أي : اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ، وأمروا أهليكم بتقوى الله ، وقال قتادة : تأمرهم بطاعة الله ، وتنهاهم عن معصية الله ، وأن تقوم عليهم بأمر الله ، وتأمرهم به ، وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها ، وزجرتهم عنها ، وهكذا قال الضحاك ومقاتل : حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه. ثم وصف الله عزوجل هذه النار التي أمرنا أن نقي أنفسنا وأهلينا إياها فقال : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) قال النسفي : (أي : نوعا من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة كما يتقد غيرها من النيران بالحطب). قال ابن كثير في تفسير هذه الحجارة : (قيل المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وقال ابن مسعود ومجاهد وأبو جعفر الباقر والسدي : هي حجارة من كبريت ، زاد مجاهد : أنتن من الجيفة) (عَلَيْها) أي : على هذه النار ، أي : يلي أمرها وتعذيب أهلها (مَلائِكَةٌ) قال النسفي : يعني : الزبانية التسعة عشر وأعوانهم (غِلاظٌ شِدادٌ) قال النسفي : (أي : في أجرامهم غلظة وشدة ، أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال) قال ابن كثير : (أي : طباعهم غليظة وقد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله ، تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر) (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) قال النسفي : وليست الجملتان في معنى واحد ، إذ معنى الأولى : أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ، ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه ، ولا يتوانون فيه) ، وقال ابن كثير في الآية : (أي : مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه لا يتأخرون عنه طرفة عين ، وهم قادرون على فعله ، ليس بهم عجز عنه ، وهؤلاء هم الزبانية) ثم أخبر تعالى عما يقال للكافرين عند دخولهم النار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) أي : لأنه لا عذر لهم ، أو لأنه لا ينفعهم الاعتذار (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : في الدنيا فلا ظلم ، قال النسفي : أي : يقال لهم ذلك عند دخولهم النار ، وقال ابن كثير : أي : يقال للكفرة يوم القيامة لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم ، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم.

كلمة في السياق :

١ ـ بعد أن عاتب الله عزوجل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك العتاب ، وعاتب زوجيته

٥١٥

ذلك العتاب ، وعرف كل مؤمن أن الأمر جد ، والحساب دقيق ، جاء النداء آمرا كل مؤمن بوقاية نفسه وأهله من عذاب الله.

٢ ـ قبيل آيتي محور سورة التحريم ورد قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) لاحظ قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ، ثم نذكر أن آية المحور الأولى قد ورد فيها (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فبناء على الموقف من القرآن يحكم بالكفر أو بالإيمان ، ويستحق الإنسان الجنة أو النار التي وقودها الناس والحجارة. ومن رؤية معاني سورة البقرة ، وصلة النداء ههنا فيها نستطيع أن نقدر ما يدخل في هذا النداء : يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا بالإيقان بهذا القرآن ، وبأنه منزل من عند الله على رسول الله ، وبالتسليم له ، وبالعلم بأنه الحق من عند الله ، ولا تكونوا كالكافرين في شكهم وارتيابهم واعتراضهم وأخلاقهم التي بسببها أضلهم الله ؛ بما نقضوا من مواثيق ، وبما قطعوا من أرحام ، وبما أفسدوا في الأرض إن الأمر بوقاية النفس والأهلين من النار إنما يكون بالوفاء ، وبالصلة ، وبالإصلاح.

٣ ـ ولما كان الإنسان لا يخلو من ذنب فإن النداء الثاني يأتي مطالبا بالتوبة النصوح كبداية طريق للسير في الوقاية من النار.

النداء الثاني :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) أي : صادقة أو خالصة ، قال النسفي : أي : توبة ترفو خروقك في دينك ، وترم خللك ، ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي : تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها ، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها ، وقال ابن كثير : أي : توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات ، وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفر عما كان يتعاطاه من الدناءات (عَسى رَبُّكُمْ) قال ابن كثير : (وعسى من الله موجبة) ولذا قالوا : لم يزل الملوك والرؤساء والأمراء يجيبون بعسى ، ولعل ، ويقع منهم ذلك ـ عادة ـ موقع القطع والبت ، فكيف لا تكون (عسى) من ملك الملوك موجبة ، ومن ثم فتكفير السيئات بالتوبة النصوح

٥١٦

محقق (أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي : بمحوها (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وذلك إن تبتم توبة نصوحا (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي : يوم لا يذل الله النبي والمؤمنين ، وذلك يوم القيامة ، قال النسفي : فيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر (نُورُهُمْ) أي : نور المؤمنين يوم القيامة (يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) يضىء لهم طريق الوصول إلى الجنة (يَقُولُونَ) إذا انطفأ نور المنافقين يوم القيامة كما ورد في سورة الحديد (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا) يخشون مغبة ذنوبهم في تلك اللحظة الهائلة (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن ذلك قدرتك على إتمام النور ، وغفران الذنب ، وفي ختم الآية بالدعاء بالمغفرة يوم القيامة تذكير للمؤمن أن يتوب في الدنيا ، ويستغفر لينفعه ذلك إذا طلب المغفرة يوم القيامة ، وهكذا تجد بداية الآية ونهايتها تصبان في موضوع واحد ، وهو تهييج المؤمن على التوبة والاستغفار.

كلمة في السياق :

١ ـ بعد أن ذكر الله عزوجل في المجموعة الأولى ما يعلم به أن الأمر جد ، وطالب في النداء الأول من الفقرة الأولى أن يقي الإنسان نفسه وأهله من النار ، دل في النداء الثاني على بداية الطريق للسير الجاد بالخلاص من الذنب كله صغيره وكبيره ، وذلك بالتوبة النصوح ، وصلة ذلك بالنداء الأول واضحة ، وصلة ذلك بالمجموعة الأولى أيضا واضحة ، فالمجموعة الأولى ورد فيها قوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) وههنا بين أن المراد بالتوبة التوبة النصوح ، وكان النداء عاما ليشمل كل المؤمنين ، لأنه ما من مؤمن يخلو من ذنب فإذا كانت أمهات المؤمنين يؤمرن بالتوبة فبقية الخلق أولى.

٢ ـ لم يحدد النداء الأول أو الثاني ما به تتحقق وقاية النفس والأهل من النار ، ولا ما ينبغي أن يتاب منه ، ومن المحور نعلم أن ذلك محدد بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) فالوفاء بعهود الله ، ووصل ما أمر به أن يوصل ، والإصلاح في الأرض ، هي طريق الوقاية من النار ، والتوبة واجبة من كل ما يناقض ذلك ، ودليل هذا هو مجىء النداء الثالث آمرا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهاد الكفار والمنافقين ، وقد رأينا من قبل أن قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ

٥١٧

اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ينتظم الكافرين والمنافقين ، فالسياق يتوجه لخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آمرا إياه بمجاهدة الذين يرفضون وقاية أنفسهم وأهليهم من النار ، والذين يرفضون التوبة ، فلنر النداء الثالث الذي تختم به المجموعة الثانية من الفقرة الأولى من سورة التحريم.

النداء الثالث :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) قال النسفي : بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) قال النسفي : بالقول الغليظ والوعد البليغ ، وقيل بإقامة الحدود عليهم ، وقال ابن كثير : يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهاد الكفار والمنافقين ، هؤلاء بالسلاح والقتال ، وهؤلاء بإقامة الحدود عليهم (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي : في الدنيا فيما تجاهدهما به من القتال ، والمحاجة باللسان (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي : في الآخرة (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : المآل جهنم.

كلمة في السياق :

١ ـ اعتدنا كثيرا أن نرى بداية مقطع تشبه نهايته ، وههنا نرى أن الفقرة الأولى من سورة التحريم بدأت بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) وانتهت بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) بدأت المجموعة بعتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تحريمه ما أحل الله ، وانتهت بأمره بمجاهدة الكفار والمنافقين ، مبينة في الوسط أخلاق المؤمنين : أنهم يتوبون إذا أذنبوا ، وأنهم يقون أنفسهم وأهليهم نارا ، وفي الفقرة ورد قوله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) وصلة ذلك بالأمر بالجهاد واضحة. ففي حادثة جزئية يذكر الله عزوجل أنه ينصر رسوله ، فكيف في الصراع الكبير بين الإيمان وبين الكفر والنفاق.

٢ ـ سياق السورة الرئيسي ينصب على معاتبة زوجتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل أن المجموعة الأخيرة تضرب مثلين لامرأتين مسلمتين وامرأتين كافرتين ، وذكر زوجتين كافرتين في المثل ـ في الوقت الذي تظاهرت فيه زوجتان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دليل على أن السياق الرئيسي ينصب على تأديب زوجتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تارة من خلال الخطاب المباشر ، وتارة من خلال الخطاب العام ، ومن كل ذلك يأخذ المسلمون رجالا

٥١٨

ونساء درسا كبيرا في وجوب الوقوف عند الحدود.

٣ ـ إن محور سورة التحريم هو الذي حدد الصفات المشتركة للكافرين والمنافقين. وههنا يأتي الأمر بجهادهم ، فهذا مظهر من مظاهر ارتباط السورة بمحورها ، ولعله اتضح لك بما ذكرناه حتى الآن السياق الخاص للسورة ، وصلة أجزائها ببعضها ، وصلة السورة بمحورها ، ولعل ما سيأتي يزيد هذا كله وضوحا ، فلننتقل الآن إلى عرض الفقرة الثانية في السورة.

٥١٩

الفقرة الثانية

وتستمر من الآية (١٠) إلى نهاية السورة أي : إلى الآية (١٢) وهذه هي :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

ملاحظة على السياق :

لاحظ صلة هذه الآيات بأوائل السورة : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ... ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ...) وهذا يشير ـ كما قلنا ـ إلى أن السياق الرئيسي يصب في تأديب زوجتي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليكون في ذلك درس كبير لكل مؤمن ومؤمنة على مدى العصور ، وسنرى في كلام النسفي ما يشير إلى ما ذكرناه ، فليتأمله القارىء إذا وصل إليه.

التفسير :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال ابن كثير : (أي : في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أن ذلك لا يجدي عنهم شيئا ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم ، ثم ذكر المثل فقال : (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) أي : نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلا ونهارا ، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ، ويعاشرانهما أشد المعاشرة والاختلاط (فَخانَتاهُما) أي : في الإيمان ،

٥٢٠