الأساس في التفسير - ج ١٠

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١٠

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

كلمة في السياق :

عرفنا الله عزوجل في الفقرة السابقة على مظهر من مظاهر الطبيعة المنافقة ، وعلى حقيقة بواطنها ، وعلى الخطر الذي يهب منها على الصف الإسلامي ، وعلى الدعوة إلى الله ، وعلى العقوبة التي يعاقبهم الله عزوجل بها ، وهي الطبع على قلوبهم ، فلنر صلة الفقرة بمحور السورة فلننتبه جيدا :

١ ـ بدأ الكلام عن المنافقين في سورة البقرة بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) لاحظ كلمة (يكذبون) في المحور ثم لاحظ أنه في المجموعة التي مرت معنا من السورة عرض الله عزوجل علينا أنهم كذلك يكذبون في ادعائهم أنهم مؤمنون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع حلفهم الأيمان على ذلك ، قال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ).

٢ ـ في مقدمة سورة البقرة وصف الله عزوجل المنافقين بقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) وفي المجموعة التي مرت معنا أرانا الله عزوجل أنهم يكذبون حتى على رسول الله إذا لقوه (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ...).

٣ ـ في مقدمة سورة البقرة قال الله تعالى عن المنافقين : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) أي : عند ما دخلوا في الإسلام (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) فكفروا (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) لاحظ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ثم لاحظ أنه في المجموعة السابقة ورد قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) وهذا يفيد أنهم أصبحوا في غاية الكفر ، فكما ختم الله على قلوب الكافرين (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) طبع على قلوب المنافقين (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) من هذا كله ندرك صلة المجموعة بمحور السورة من سورة البقرة وهذا يوضح لنا أن التفصيل لأي محور فيه مزيد بيان وزيادة معان.

٤ ـ جاء في سورة البقرة حديث عن النفاق في بدايتها ثم جاءت ثلاث آيات

٤٤١

تتحدث عنهم فيما بعد وهي الايات (٢٠٤) ، (٢٠٥) ، (٢٠٦). (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ). لاحظ قوله تعالى : (يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) ثم لاحظ أن المجموعة القادمة من الفقرة الأولى في سورة المنافقين تبدأ بقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) مما يشير إلى أن المجموعة الثانية تفصل في هذا ، وفي ذلك إشارة إلى أن هذه الآيات الموجودة في أعماق سورة البقرة مشدودة إلى ما سبق ذكره عن المنافقين في مقدمة سورة البقرة ، ومن كل ما مر ندرك أن لسورة المنافقون سياقها الخاص في تبيان ملامح المنافقين ، ولها كذلك صلتها بمحورها من سورة البقرة والمعاني المرتبطة بهذا المحور من سورة البقرة كلها.

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى :

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) قال النسفي : (والخطاب في (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لرسول الله ، أو لكل من يخاطب (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) كان ابن أبي رجلا جسيما صبيحا فصيحا ، وقوم من المنافقين في مثل صفته ، فكانوا يحضرون مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ، ويسمعون إلى كلامهم) ، وقال ابن كثير : (أي : وكانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم ، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع والجبن) (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي : إلى حائط. قال النسفي : (شبهوا في استنادهم ـ وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير ـ بالخشب المسندة إلى الحائط ، لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكا غير منتفع به أسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع ، أو لأنهم أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام) (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) قال ابن كثير : أي : كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون ـ لجبنهم ـ أنه نازل بهم ، وقال النسفي : (أي : يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم ، لخيفتهم ورعبهم ، يعني إذا نادى مناد في العسكر ، أو انفلتت دابة ، أو أنشدت ضالة ، ظنوه إيقاعا بهم)

٤٤٢

أقول : المنافق يظن أن كل حديث بين اثنين هو المقصود فيه ، ويظن أنه هدف التآمر ، ومن ثم فإن أي حركة مهما كان نوعها يظنها موجهة ضده (هُمُ الْعَدُوُّ) قال النسفي : أي : هم الكاملون في العداوة ، لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي (فَاحْذَرْهُمْ) ولا تغتر بظاهرهم فإنهم لا يألون الإسلام وأهله خبالا وغدرا إن استطاعوا (قاتَلَهُمُ اللهُ) قال النسفي : دعاء عليهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلال ، وفي النص تعجيب من جهلهم وضلالتهم ، وعدو لهم عن الحق وانصرافهم عنه.

كلمة في السياق :

في هذه المجموعة أعطانا الله عزوجل مزيدا من الإيضاحات عن الطبيعة المنافقة في كونها تحسن الكلام في الدنيا ، وفي كونها لا حياة فيها ، لأنه لا عمل صالحا لها ، وفي كونها كثيرة الجبن شديدة الشك ، وفي كون المنافقين أشد الناس عداوة للإسلام وأهله ، وفي كونهم مصروفين صرفا تاما عن الخير ، فالمجموعة الثانية تزيدنا إبصارا في شأن المنافقين ، ومن قبل رأينا صلة هذه المجموعة بقوله تعالى من سورة البقرة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) وقد جاء في هذه المجموعة قوله تعالى : (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) وورد (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) وفي سورة البقرة إيضاح لكيفية ظهور عدائهم (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) وفي هذه المجموعة أمر بالحذر منهم فلا يعطون فرصة ، وما أقل الحذر من المنافقين في عصرنا ، وما أكثر الذين يعطونهم فرصا. ثم تأتي المجموعة الثالثة لتزيدنا بيانا في شأن المنافقين.

تفسير المجموعة الثالثة من الفقرة الأولى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي : عطفوها وأمالوها إعراضا عن ذلك واستكبارا (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي : يعرضون (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الاعتذار والاستغفار ، قال ابن كثير : أي : صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكبارا عن ذلك ، واحتقارا لما قيل لهم ... ثم جازاهم الله على ذلك فقال : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي : سواء عليهم

٤٤٣

الاستغفار وعدمه ، لأنهم لا يلتفتون إليه ، ولا يعتدون به لكفرهم ، أو لأن الله لا يغفر لهم (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي : ما داموا على النفاق (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) بسبب نقضهم لمواثيقهم مع الله ، وبسبب قطعهم لما أمر الله به أن يوصل ، وبسبب إفسادهم في الأرض ، وهي مظاهر الفسوق كما رأيناها في سورة البقرة.

كلمة في السياق :

زادتنا هذه المجموعة عن المنافقين وضوحا فعرفنا من خلالها أنهم فاسقون ، أي : تظهر فيهم علامات الفسوق كلها كما عرضتها سورة البقرة ، كما عرفنا أنهم متصفون بالكبر والصدود عن أي دعوة خيرة لصالحهم الأخروي ، وعرفنا الله عزوجل أنه لا ينفعهم استغفار الآخرين لهم حتى ولو كان المستغفر لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما صلة المجموعة بمحور السورة من سورة البقرة ، فالملاحظ أن الآيات التي نقلناها من أعماق سورة البقرة تنتهي بقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) وههنا ورد قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ...) والصلة بين الموقفين واضحة ، وكلها تعبر عن كبرهم ، وقد حدثنا الله عزوجل في سورة البقرة عن مظهر من مظاهر هذا الكبر ، وههنا يحدثنا عن مظهر آخر ، وهكذا نرى كيف أن سورة المنافقون تفصل في محورها ، وفيما هو امتداد لمحورها في سورة البقرة بشكل دقيق واضح ، وبعد ذلك تأتي مجموعة رابعة تحدثنا عن نماذج من عداء المنافقين ، وعن كيدهم للإسلام وأهله ، فهي تكاد تكون تبيانا لقوله تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ) فيما مر معنا من السورة وتبيانا لقوله تعالى في سورة البقرة : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) فلنر المجموعة الرابعة ، مع ملاحظة أنها تعرض لنا نموذجين على عداء المنافقين ، وسنذكر ذلك في الفوائد.

تفسير المجموعة الرابعة من الفقرة الأولى :

النموذج الأول :

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي :

٤٤٤

حتى يتفرقوا (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : وله الأرزاق والقسم فهو الرزاق لجميع خلقه ، أفلا يرزق المسلمين (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أي : لا يعلمون الحقائق ، ومن ثم فهم يهذون بما يزين لهم الشيطان.

كلمة في السياق :

رأينا أن الله عزوجل وصف المنافقين بأنهم (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) وقد رأينا في هذه الآية نموذجا على عدائهم ، فلا تكاد تواتيهم فرصة إلا ويهتبلونها للكيد والضرر تحريشا بالمسلمين وتحريضا عليهم ، وهذا والسلطان ليس لهم ، فإذا كان السلطان لهم فكما قال الله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ...) ، والملاحظ أن قولهم (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) داخل في قطع ما أمر الله به أن يوصل وهو إحدى صفات الفاسقين ، كما فصلتها سورة البقرة ، والملاحظ أن ذكر الفاسقين قد ورد قبل الآية السابقة مباشرة ، وعلى هذا فالآية نموذج على تحقق المنافقين بصفات الفاسقين كلها ، كما هي نموذج على عداء المنافقين للإسلام وأهله وذلك مما يوجب حذر المسلمين من المنافقين.

النموذج الثاني :

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) قال هذا عبد الله بن أبي مقفلهم من غزوة بني المصطلق كما سنرى (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) يعنون بالأعز أنفسهم ، وبالأذل رسول الله ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي : ولله الغلبة والقوة ، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وهم الأخصاء بذلك ، كما أن الذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ومن ثم يقولون ما يقولون.

كلمة في السياق :

في هذه الآية نموذج آخر على كيد المنافقين وعدائهم ، فمتى وجدوا متنفسا ، أو أحدا يسمع لهم يبدأون عملية التحريض ضد المسلمين مع السباب لهم ، هذا والسلطان ليس لهم ، فكيف إذا صار السلطان لهم ، ولذلك فإن على المسلمين أن يكونوا دائمي الحذر منهم ، وكما أن في الآية نموذجا على عدائهم ، ففي الآية نموذج على نقضهم المواثيق ، أو قطعهم ما أمر الله به أن يوصل ، وعلى إفسادهم في الأرض ، ففي

٤٤٥

الآية نموذج على موقف تظهر به صفات الفاسقين كلها دفعة واحدة. وبعد أن قص الله علينا نموذجين من مواقف المنافقين المعبرة عن عدائهم ، والتي هي أثر عن فسوقهم ، تأتي الفقرة الثانية في السورة مبدوءة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وفيها تحرير للمؤمن من أخلاق المنافقين ، ودعوة له لمواقف مكافئة لمواقف المنافقين ، وفيها تعريض ضمني بأخلاق أخرى للمنافقين.

٤٤٦

الفقرة الثانية

وتمتد من الآية (٩) إلى نهاية الآية (١١) وهذه هي :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

التفسير :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ) أي : لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ) والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها بالنماء وطلب النتاج (وَلا أَوْلادُكُمْ) وسروركم بهم ، وشفقتكم عليهم ، والقيام بمؤنهم (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) قال النسفي : أي : عن الصلوات الخمس أو القرآن. أقول : ذكر الله منه المفروض وهو كالصلوات الخمس ، ومنه المندوب كالسنن الرواتب وأذكارها ، وقراءة القرآن والاستغفار ، ولا شك أن النهي أول ما ينصب على الانشغال عن الفرائض (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي : ينشغل بالدنيا عن ذكر الله ، قال النسفي : وقيل من يشتغل بتثمير أمواله عن تدبير أحواله ، وبمرضاة أولاده عن إصلاح معاده (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) قال النسفي : (أي : في تجارتهم حيث باعوا الباقي بالفاني) قال ابن كثير في الآية : يقول تعالى آمرا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره ، وناهيا لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك ، ومخبرا لهم بأنه من تلهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خلق له من طاعة ربه وذكره ، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

٤٤٧

كلمة في السياق :

نلاحظ أن الآية ختمت بقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي : يشتغل بالأموال والأولاد عن ذكر الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وأنه ورد في مقدمة سورة البقرة عن المنافقين قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) ويلاحظ أنه بعد آيات في سورة البقرة ورد قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لاحظ كلمة (الخاسرون) هنا وفي الآية التي مرت معنا من سورة المنافقون.

إذا لاحظت ما مر تدرك أن الانشغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله هو من صفات المنافقين ، فالآية إذن تضيف صفة جديدة من صفات المنافقين إلى معلوماتنا ، وهذا يشبه قوله تعالى في سورة النساء في وصف المنافقين (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) ولكن الآية عرضت هذه الصفة من خلال أمر المؤمنين بعدم الانشغال عن الذكر ، مما يشير إلى أن الطريق الوحيد للخلاص من النفاق هو الإقبال على ذكر الله ، مضافا إلى ذلك الإنفاق الذي تأمر به الآية اللاحقة :

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) يدخل في ذلك الواجب أولا كالزكاة وصدقة الفطر والنفقة المفروضة ، ثم يدخل بعد ذلك المندوب ، و (من) في الآية للتبعيض مما يدل على أن الله لم يكلفنا مالنا كله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) قال النسفي : أي : من قبل أن يرى دلائل الموت ويعاين ما ييئس معه من الإمهال ، ويتعذر عليه الإنفاق (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) أي : هلا أخرت موتي إلى زمان قليل فأتصدق (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، قال ابن كثير : فكل مفرط يندم عند الاحتضار ، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرا ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات ، كان ما كان ، وأتى ما هو آت وكل بحسب تفريطه ... ثم قال تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً) عن الموت (إِذا جاءَ أَجَلُها) المكتوب في اللوح المحفوظ ، قال ابن كثير : أي : لا ينظر أحدا بعد حلول أجله وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقا في قوله وسؤاله ، ممن لو رد لعاد إلى شر مما كان عليه ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قال النسفي : والمعنى : أنكم إذا علمتم أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه ، وأنه هاجم لا محالة ، وأن الله عليم

٤٤٨

بأعمالكم ، فمجاز عليها من منع واجب وغيره ، لم يبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجب ، والاستعداد للقاء الله تعالى.

كلمة في السياق :

وصف الله المتقين في أول سورة البقرة بقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وهذا يعني أن الكافرين والمنافقين لا ينفقون ، وهذا الذي صرح به القرآن في أكثر من مكان كقوله تعالى : (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) و (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) فعند ما يأتي أمر للمؤمنين بالإنفاق في سورة (المنافقون) فذلك يفيد أن عدم الإنفاق من صفات المنافقين ، كما يفيد أن الإنفاق مع الذكر هو الطريق للخلاص من النفاق ، وعلى هذا فالفقرة الأخيرة زادتنا معرفة في أخلاق المنافقين ، ودلتنا على طريق الخلاص من النفاق بما لا يخرج عن التحقق بصفات المتقين.

الفوائد :

١ ـ بمناسبة الكلام عن المنافقين في سورة (المنافقون) ذكر ابن كثير هذا الحديث : (روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إن للمنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة ، وطعامهم نهبة ، وغنيمتهم غلول ، ولا يقربون المساجد إلا هجرا ، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا ، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون ، خشب بالليل صخب بالنهار).

٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال صاحب الظلال رحمه‌الله : (وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع ، ولؤم النحيزة. وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان ، في حرب العقيدة ومناهضة الأديان. ذلك أنهم ـ لخسة مشاعرهم ـ يحسبون لقمة العيش هي كل شىء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين.

إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسلموه للمشركين!

وهي خطة المنافقين كما تحكيها هذه الآية لينفض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه

٤٤٩

تحت وطأة الضيق والجوع!

وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين ، ليموتوا جوعا أو يكفروا بالله ، ويتركوا الصلاة!

وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله ، وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام ، بالحصار والتجويع ، ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق.

وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان ، من قديم الزمان ، إلى هذا الزمان ... ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ)).

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قال ابن كثير : (وروى أبو عيسى الترمذي عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه ، أو تجب عليه فيه زكاة ، فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكافر ، فقال : سأتلوا عليك بذلك قرآنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) إلى قوله (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قال : فما يوجب الزكاة؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعدا ، قال : فما يوجب الحج؟ قال : الزاد والبعير. وروى الترمذي أيضا ... بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ثم قال : وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره عن أبي جناب عن الضحاك عن ابن عباس من قوله وهو أصح وضعف أبو جناب الكلبي. (قلت) ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع والله أعلم. وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ذكرنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزيادة في العمر فقال : «إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له فيلحقه دعاؤهم في قبره»).

٤٥٠

كلمة أخيرة في سورة (المنافقون) ومجموعتها :

لن نضيف شيئا إلى ما ذكرناه من قبل حول المجموعة الرابعة وسياقها سوى التذكير بإعطاء الذكر والإنفاق والجهاد في سبيل الله مكانهم الصحيح في هذا الدين ومن أنفسنا ، ونخص بالذكر صلاة الجمعة والصلوات المفروضة ، والزكاة وصدقة الفطر ، والعمل المتواصل بكل الوسائل المشروعة لجعل كلمة الله هي العليا. ونضيف أنه بقدر ما نزيد يزيد الله لنا ، وبقدر ما نقيم من فرائض ونوافل تتمحص قلوبنا للإيمان ، وتتحرر من الكفر والنفاق ، فلينتبه الغافلون عن الذكر إلى الذكر ، ولينبه الغافلون عن الإنفاق إلى الإنفاق ، ولينبه الغافلون عن الجهاد إلى الجهاد ، فإن ذلك هو طريق التحقق بالتقوى ، وإذ كان طريق التحقق بالتقوى في سورة البقرة جاء بعد مقدمتها فقد فصلت السور الثلاث وهي تفصل المقدمة بما يحقق بالتقوى ، وبما يبعد عن الكفر والنفاق ، ولننتقل إلى المجموعة الخامسة من قسم المفصل وهي آخر مجموعة من زمرة المسبحات.

٤٥١
٤٥٢

المجموعة الخامسة

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سور :

التغابن ، والطلاق ، والتحريم ،

والملك ، والقلم

٤٥٣
٤٥٤

كلمة في المجموعة الخامسة من قسم المفصل :

هذه المجموعة تفصل بانتظام ما فصلته سور خمس من قسم الطوال ، فسورة التغابن تفصل في محور سورة آل عمران ، وسورة الطلاق تفصل في محور سورة النساء حتى لتسمى سورة النساء الصغرى ، وسورة التحريم تفصل في محور سورة المائدة ، وسورة الملك تفصل في محور سورة الأنعام ، وسورة القلم تفصل في محور سورة الأعراف ، وسنرى أدلة ذلك كله ، ولعل في هذا مقنعا أن في هذا القرآن نوعا من الترتيب خاصا.

وبهذه المجموعة تنتهي زمرة المسبحات ، فآخر سورة في المسبحات هي سورة التغابن ، وعلى هذا فالمسبحات وزعت على أربع مجموعات ، كل منها أكملت الأخرى ، وجاءت المجموعة الأخيرة فأكملت البناء الذي أسست له المجموعات الثلاث من المسبحات ، بل والمجموعة الأولى من قسم المفصل ، إذ لا نجد سورة مبدوءة ب (يا أيها) في كل ما مر معنا من قسم المفصل إلا في هذه المجموعة.

وهكذا نجد في قسم المفصل تفصيلا بعد تفصيل ، وفي كل مرة نجد تذكيرا ومعاني جديدة من خلال الكلمة المفردة والآية المفردة ، والمجموعة والفقرة والمقطع والسورة ، والسياق الخاص والعام ، بشكل لا تنتهي عجائبه ، ولا تنتهي فوائده ، وكل يأخذ من هذه البحار على قدر استعداده ، ومع هذا كله فإن لهذا القرآن خصائص غير هذه ، إنه كلام الله ومجلى صفاته ، ولذلك فقد وصف الله عزوجل هذا القرآن ببعض ما وصف به ذاته ، فوصفه بالعلو والحكمة فقال : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ومن أسماء الله العلي والحكيم ، ووصفه بالعزة فقال : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) والله عزوجل من أسمائه العزيز ، ومن عزة هذا القرآن أنه لا يصل إلى قلب قذر (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) ومن عزته أنه لا يبقى على إهمال ، يقول عليه الصلاة والسلام : «تعاهدوا هذا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها» فكتاب هذا شأنه هل يمكن أن يتصور عاقل أنه بشري المصدر ، إن الذي يتصور أن هذا القرآن من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن إنشائه وتأليفه مع كون هذا القرآن هذا شأنه يعطي محمدا من الخصائص ما يستحيل أن تتجمع في كل البشر.

٤٥٥

هل رأيتم في تاريخ العالم أن أحدا من البشر يخرج على يده شىء من أعظم الأشياء ثم لا ينسبه إلى نفسه ، إن هذا يتنافى مع الطبيعة البشرية أصلا. فأن يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه عن هذا الكتاب أنه من عند الله ، وأنه ليس إلا ناقلا عن الله عزوجل ، وأنه أول الملتزمين بذلك ، فهذا وحده كاف للتدليل على أن هذا القرآن من عند الله ، فكيف إذا كان في هذا القرآن من مجالي صفات الله وأسمائه ما يدل على أنه كتاب الله ، فكيف إذا كان مع ذلك غيره وغيره؟.

٤٥٦

سورة التغابن

وهي السورة الرابعة والستون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الأولى من المجموعة الخامسة من قسم

المفصل ، وهي ثماني عشرة آية

وهي مدنية

٤٥٧

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٤٥٨

بين يدي سورة التغابن :

قدم الألوسي لسورة التغابن بقوله : (مدنية في قول الأكثرين ، وعن ابن عباس. وعطاء بن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) الخ ، وعدد آياتها تسع عشرة آية بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين ، وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن. وكافر ، وأيضا في آخر تلك (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) وفي هذه (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) وهذه الجملة على ما قيل : كالتعليل لتلك ، وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل ، واستنبط بعضهم عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) فإنها رأس ثلاث وستين سورة).

كلمة في سورة التغابن ومحورها :

قلنا من قبل : إن وجود الفعل سبح يسبح بعد انتهاء مجموعة ، علامة على بداية مجموعة جديدة تفصل في أول سورة البقرة ، وهذه سورة التغابن جاءت بعد سورة (المنافقون) ، وهي مبدوءة بقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا أول شىء نستأنس به على أن سورة التغابن تفصل في مقدمة سورة البقرة.

ويلاحظ أن سورة الحديد ركزت على موضوع الإيمان بالله والرسول ، والخضوع للقرآن ، والإنفاق ، وفي سورة التغابن نجد قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ونجد (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ونلاحظ أن سورة الحديد ورد فيها (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وورد فيها قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وأن سورة التغابن يرد فيها قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهذا ثاني شىء نستأنس به على أن سورة التغابن تفصل في مقدمة سورة البقرة.

٤٥٩

ويلاحظ أن سورة آل عمران التي فصلت في مقدمة سورة البقرة قد ورد في أوائلها قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) وأن سورة التغابن قد ورد في أوائلها قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ويلاحظ أنه قد ورد في سورة آل عمران (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وأنه ورد في سورة التغابن قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقد اعتبر بعض العلماء أن هذه الآية مفسرة أو ناسخة لآية آل عمران ، وبهذا كذلك نستأنس على أن سورة التغابن تفصل في محور آل عمران أي : في مقدمة سورة البقرة.

نلاحظ أن مقدمة سورة البقرة تحدثت عن المتقين والكافرين والمنافقين ، وأن سورة التغابن تحدثت عن الكافرين والمؤمنين ، ولا ننسى أن النفاق مظهر من مظاهر الكفر ، وأن مما ختمت به آيات المتقين في سورة البقرة قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وأن سورة التغابن ورد فيها قوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) مما يشير إلى أن الحديث في السورتين متحد المآل ، وهذا كذلك مما نستأنس به على أن سورة التغابن تفصل في مقدمة سورة البقرة.

فإذا أضيف إلى هذا كله ، أن سورة (المنافقون) نهاية مجموعة ، وأن ما بعد سورة التغابن سورة الطلاق المبدوءة ب (يا أيها) والتي تدل على أنها تفصل فيما بعد مقدمة سورة البقرة ، يتأكد لنا ـ نتيجة لهذا كله ـ أن سورة التغابن تفصل في مقدمة سورة البقرة ، وسنرى أثناء عرض السورة أن المعاني نفسها تدلنا على ذلك.

تتألف سورة التغابن من فقرتين واضحتين : الأولى منهما تمتد حتى نهاية الآية (١٣) ، والثانية منهما تمتد حتى نهاية السورة أي : إلى نهاية الآية (١٨) فلنبدأ عرض السورة.

٤٦٠