الأساس في التفسير - ج ١٠

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١٠

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

اختلفوا داخل هذا الاتجاه ، ولما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبق ممن على دين المسيح الصحيح إلا قليل ، يدل على ذلك قصة سلمان الفارسي كما نقلناها في كتابنا (الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، ولا شك أن بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تأييدا للمؤمنين الحقيقيين بعيسى عليه‌السلام ، إلا أن الآية تشير إلى التأييد الأول داخل بني إسرائيل ، حيث أيد الحواريون بالخوارق الكثيرة مما كان لهم به الغلبة على الكافرين بعيسى من بني إسرائيل ، وما يعتمده النصارى من كتب العهد الجديد ، يشير إلى مثل هذا ، وإن كان كل ما يذكر في كتب العهد الجديد يمثل مدرسة بولس المحرف لدين المسيح عليه‌السلام.

كلمة في السياق :

١ ـ بدأت السورة بتبيان ضرورة موافقة العمل للقول ، وتقرير أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، ثم ذكرت السورة مبررات القتال وأسبابه ، وبشرت المؤمنين بالظهور ، ثم حضت على الإيمان بالله والرسول والجهاد في سبيل الله ، مبينة ثواب ذلك ، ثم جاء وعد الله للمجاهدين المؤمنين بالنصر والفتح ، ثم جاءت الفقرة الأخيرة تحض على نصرة الله ، والتأسي بأصحاب عيسى في ذلك ، وبيان ما أعطى الله أصحاب عيسى من التأييد الذي أمر الله رسوله أن يبشر به من جاهد ، والذي وعد الله به هذا الدين بقوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ، ولم تزل هذه الأمة مؤيدة منصورة إذا جاهدت ، ولم يزل حملة دين الله وأنصاره يكرمهم الله عزوجل بأنواع التأييدات الربانية بالخوارق والكرامات ، وقبول القلوب لهديهم ، ومع صعوبة الظروف التي يعيشها المسلمون في عصرنا بسبب سيطرة الكفر وأهله على سياسة العالم ، فإن الإسلام يزحف وينتشر ، ومع أنه لا يقاتل اليوم إلا نادرا تحت راية (لا إله إلا الله) فإن التأييدات الربانية تظهر بمظاهر متعددة. وعند ما يفىء المسلمون إلى دينهم ويبدأون عملية الجهاد شاملة ، فإن خارطة العالم كله ستتغير لصالحهم ، ذلك وعد الله الذي لا يتخلف.

٢ ـ في مقدمة سورة البقرة وصف للمتقين الذين من صفاتهم أنهم يؤمنون بالغيب ، وفي الفقرة الأخيرة نداء لهؤلاء المؤمنين أن ينصروا الله عزوجل ، ووعد ضمني لهم بالتأييد من خلال الكلام عن أسوتهم في ذلك.

٣ ـ فصلت سورة الصف في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) من

٤٠١

مقدمة سورة البقرة ، وفصلت في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وفصلت في قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وفصلت فيما يقابل ذلك من أخلاق الكفر والنفاق ، وسنرى أن سورة الجمعة ستفصل في مقدمة سورة البقرة ، ولكن في معان أخرى ، ولننقل الآن بعض الفوائد المتعلقة ببعض الآيات.

فوائد :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قال ابن كثير : (إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا لا يفي به ، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا ، سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا ، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف ، وإذا حدث كذب ، إذا اؤتمن خان». وفي الحديث الآخر في الصحيح : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها» فذكر منهن إخلاف الوعد ، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ). وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا صبي فذهبت لأخرج لألعب فقالت أمي : يا عبد الله تعال أعطك ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما أردت أن تعطيه؟» قالت : تمرا ، فقال : «أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة» وذهب الإمام مالك رحمه‌الله تعالى إلى أنه إذا تعلق بالوعد عزم على الموعود وجب الوفاء به ، كما لو قال لغيره : تزوج ولك علي كل يوم كذا ، فتزوج وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك ؛ لأنه تعلق به حق آدمي وهو مبني على المضايقة ، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب).

٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) قال ابن كثير : (فهذا إخبار من الله تعالى بمحبته عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى يقاتلون ـ في سبيل الله ـ من كفر بالله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان. روى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يضحك الله إليهم : الرجل يقوم من الليل ، والقوم إذا صفوا للصلاة ، والقوم إذا صفوا

٤٠٢

للقتال» ورواه ابن ماجه. وروى ابن أبي حاتم ... قال مطرف كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه فلقيته فقلت : يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك ، فقال : لله أبوك فقد لقيت فهات فقلت كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدثكم أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة ، قال : أجل فلا إخالني أكذب على خليلي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : فمن هؤلاء الثلاثة الذي يحبهم الله عزوجل؟ قال : رجل غزا في سبيل الله خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل ، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ثم قرأ : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) وذكر الحديث).

وبمناسبة هذه الآية قال صاحب الظلال : (فليس مجرد القتال. ولكنه هو القتال في سبيله. والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف. والقتال في ثبات وصمود (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).

فهو تكليف فردي في ذاته ، ولكنه فردي في صورة جماعية. في جماعة ذات نظام ؛ ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية ، ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة ؛ فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفا. صفا سويا منتظما ، وصفا متينا راسخا ؛ ذلك إلى أن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن أن يهيمن على جماعة ، وأن ينشىء مجتمعا متماسكا. متناسقا. فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده ، ويجاهد وحده ، ويعيش وحده ، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين ، وعن مقتضياته في حالة الجهاد ، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة.

وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم ، وتوضح لهم معالم الطريق ، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع : (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) ... بنيان تتعاون لبناته وتتضام وتتماسك ، وتؤدي كل لبنة دورها ، وتسد ثغرتها ، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها. تقدمت أو تأخرت سواء. وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء ... إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام. التعبير المصور لطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة. ارتباط الشعور ، وارتباط الحركة ، داخل النظام المرسوم ، المتجه إلى هدف مرسوم).

٤٠٣

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى على لسان المسيح : (مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) قال ابن كثير : (أي : وأنا مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى عليه‌السلام وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل وقد أقام في ملإ بني إسرائيل مبشرا بمحمد ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الذي روى ... عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس تحت قدمي ، وأنا العاقب» ورواه مسلم من حديث الزهري به نحوه.

وروى أبو داود الطيالسي عن أبي موسى قال : سمى لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه أسماء منها ما حفظنا فقال : «أنا محمد ، وأنا أحمد ، والحاشر ، والمقفي ونبي الرحمة والتوبة والملحمة» ورواه مسلم من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة به ، وقد قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) الآية ، وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه ، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه. وروى محمد ابن إسحاق ... عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال : «دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» وهذا إسناد جيد وروى له شواهد من وجوه أخر).

أقول : إن الترجمات العربية الأولى للأناجيل كانت تتحدث عن (الفارقليط) وهي كلمة يونانية لم يترجمها المترجمون وقتذاك ، وقد تتبعها المسلمون فتبين لهم أنها تعني أحمد ، فلما انتشر ذلك ترجمها المترجمون في الطبقات اللاحقة باسم المعزي ، أو المخلص. قال الألوسي : (والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد ، وتعين إرادته صلى الله تعالى عليه وسلم من كلامه عليه‌السلام مما لا غبار عليه لمن كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه ، وقد فسره بعض النصارى بالحماد ، وبعضهم بالحامد فيكون في

٤٠٤

مدلوله إشارة إلى اسمه عليه الصلاة والسلام أحمد ، وفسره بعضهم بالمخلص لقول عيسى : فالله يرسل مخلصا آخر فلا يكون ما ذكر بشارة به صلى الله تعالى عليه وسلم ، بعنوان الحمد لكنه بشارة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان التخليص فيستدل به على ثبوت رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن لم يستدل به على ما في الآية هنا).

وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب النجار قصة جرت له مع مستشرق إيطالي سماه في كتابه (قصص الأنبياء) وكيف أن المستشرق أقر له بأن كلمة الفارقليط مشتقة من الحمد ، وقد توسعنا في هذا الموضوع في كتابنا (الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فليراجع.

قال صاحب الظلال : (وبشارة المسيح بأحمد ثابتة بهذا النص ، سواء تضمنت الأناجيل المتداولة هذه البشارة أم لم تتضمنها. فثابت أن الطريقة التي كتبت بها هذه الأناجيل والظروف التي أحاطت بها لا تجعلها هي المرجع في هذا الشأن.

وقد قرىء القرآن على اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وفيه : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي) (التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ... وأقر بعض المخلصين من علمائهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام بهذه الحقيقة ، التي كانوا يتواصون بتكتمها!

كما أنه ثابت من الروايات التاريخية أن اليهود كانوا ينتظرون مبعث نبي قد أظلهم زمانه ، وكذلك بعض الموحدين المنعزلين من أحبار النصارى في الجزيرة العربية. ولكن اليهود كانوا يريدونه منهم. فلما شاء الله أن يكون من الفرع الآخر من ذرية إبراهيم ، كرهوا هذا وحاربوه!

وعلى أية حال فالنص القرآني بذاته هو الفيصل في مثل هذه الأخبار. وهو القول الأخير).

كلمة أخيرة في سورة الصف :

رأينا وحدة سياق سورة الصف ، كما رأينا صلة السورة بمحورها من سورة البقرة وكيف أن السورة شدت إلى محورها آيات موجودة في أعماق سورة البقرة ، وفصلت في الجميع مما يشير إلى ارتباط وثيق بين معاني مقدمة سورة البقرة ومعاني تلك الآيات ، مما يؤكد أن السور التي تأتي بعد سورة البقرة تفصل في محاور من سورة البقرة وفي ارتباطات هذه المحاور ، وامتدادات معانيها ، وقد رأينا هذا الموضوع من قبل وسنراه كثيرا ، وفي سورة الجمعة نموذج واضح على ذلك.

٤٠٥
٤٠٦

سورة الجمعة

وهي السورة الثانية والستون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الثانية من المجموعة الرابعة من قسم

المفصل ، وهي إحدى عشرة آية

وهي مدنية

٤٠٧

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٤٠٨

بين يدي سورة الجمعة :

قدم الألوسي لسورة الجمعة بقوله : (مدنية كما روي عن ابن عباس ، وابن الزبير ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وإليه ذهب الجمهور ، وقال ابن يسار : هي مكية ، وحكي ذلك عن ابن عباس ، ومجاهد ، والأول هو الصحيح لما في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة الحديث ، وإسلامه رضي الله تعالى عنه بعد الهجرة بمدة بالاتفاق ، ولأن أمر الانفضاض الذي تضمنه آخر السورة وكذا أمر اليهود المشار إليه بقوله سبحانه : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ) الخ ـ لم يكن إلا بالمدينة ـ وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف ، ووجه اتصالها بما قبلها : أنه تعالى لما ذكر فيما قبل حال موسى عليه‌السلام مع قومه وأذاهم له ناعيا عليهم ذلك ذكر في هذه السورة حال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفضل أمته تشريفا لهم لينظر فضل ما بين الأمتين ، ولذا تعرض فيها لذكر اليهود ، وأيضا لما حكى هناك قول عيسى عليه‌السلام : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) قال سبحانه هنا : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى ، وأيضا لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه (تجارة) ختم هذه بالأمر بالجمعة وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية. وأيضا في كلتا السورتين إشارة إلى اصطفاف في عبادة ، أما في الأولى فظاهر ، وأما في هذه فلأن فيها الأمر بالجمعة ، وهي يشترط فيها الجماعة التي تستلزم الاصطفاف إلى غير ذلك ، وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كما أخرج مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه عن ابن عباس ـ يقرأ في الجمعة بسورتها و (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ).

وأخرج ابن حبان ، والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة أنه قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة ليلة الجمعة سورة الجمعة ، والمنافقون ـ وفي ذلك دلالة على مزيد شرف هذه السورة).

٤٠٩

ومن تقديم صاحب الظلال للسورة نقتطف ما يلي : (نزلت هذه السورة بعد سورة (الصف) السابقة. وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف ، ولكن من جانب آخر ، وبأسلوب آخر ، وبمؤثرات جديدة.

إنها تعالج أن تقر في أخلاد الجماعة المسلمة في المدينة أنها هي المختارة أخيرا لحمل أمانة العقيدة الإيمانية ؛ وأن هذا فضل من الله عليها ؛ وأن بعثة الرسول الأخير في الأميين ـ وهم العرب ـ منة كبرى تستحق الالتفات والشكر ، وتقتضي كذلك تكاليف تنهض بها المجموعة التي استجابت للرسول ، واحتملت الأمانة ؛ وأنها موصولة على الزمان غير مقطوعة ولا منبتة ، فقد قدر الله أن تنمو هذه البذرة وتمتد. بعد ما نكل بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء ؛ وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفارا ، ولا وظيفة له في إدراكها ، ولا مشاركة له في أمرها!

تلك هي الحقيقة الرئيسية التي تعالج السورة إقرارها في قلوب المسلمين. من كان منهم في المدينة يومذاك على وجه الخصوص ، وهم الذين ناط الله بهم تحقيق المنهج الإسلامي في صورة واقعة. ومن يأتي بعدهم ممن أشارت إليهم السورة ، وضمتهم إلى السلسلة الممتدة على الزمان.

وفي الوقت ذاته تعالج السورة بعض الحالات الواقعة في تلك الجماعة الأولى ، في أثناء عملية البناء النفسي العسيرة المتطاولة الدقيقة. وتخلصها من الجواذب المعوقة من الحرص والرغبة العاجلة في الربح ، وموروثات البيئة والعرف. وبخاصة حب المال وأسبابه الملهية عن الأمانة الكبرى ، والاستعداد النفسي لها. وتشير إلى حادث معين. حيث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية ؛ فما إن أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به ـ على عادة الجاهلية ـ من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة! وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما. فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون! كما تذكر الروايات).

كلمة في سورة الجمعة ومحورها :

١ ـ تبدأ سورة الجمعة بما بدأت به المسبحات ، مع فارق أن فعل التسبيح فيها جاء بصيغة المضارع ، وأن اسمين آخرين للذات الإلهية قد ذكرا في الآية الأولى منها وهما

٤١٠

(الملك والقدوس) وبهذا يكون قد جاء في الآية الأولى منها أربعة أسماء لله عزوجل ، وهذا يشير إلى أن السورة مجلى لهذه الأسماء كلها.

٢ ـ بعد الآية الأولى من السورة يأتي قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) ويأتي في سياق السورة قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) ثم يأتي في سياق السورة قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) ولذلك كله علاقته بمقدمة سورة البقرة : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ...).

٣ ـ وسورة الجمعة تتحدث عن بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ولذلك صلة بقوله تعالى في سورة البقرة : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) كما تتحدث عن كراهية اليهود للموت : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ... وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ولهذا صلة بما جاء في سورة البقرة عن اليهود : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ... وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ ...). وتعليل هذا أن من امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة هذه الآيات ، فجاءت سورة الجمعة تفصل في مقدمة سورة البقرة وامتدادات معانيها.

٤ ـ تتألف سورة الجمعة من مقدمة وثلاث فقرات واضحة التمايز ، واضحة الترابط ، أما المقدمة فآية واحدة ، وأما الفقرة الأولى فثلاث آيات ، وأما الفقرة الثانية فأربع آيات ، وأما الفقرة الثالثة فثلاث آيات ، ولنبدأ عرض السورة.

٤١١

المقدمة والفقرة الأولى

وهما من الآية (١) إلى نهاية الآية (٤) وآياتهما هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))

التفسير :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قال ابن كثير : (يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات وما في الأرض ، أي : من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها) قال النسفي : (هذا التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة ، يعني : إذا نظرت إلى كل شىء دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن الأشباه ، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شىء ما يعرف به الله تعالى وينزهه ، ألا ترى إلى قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفة له بذلك) (الْمَلِكِ) أي : المالك للسموات والأرض ، المتصرف فيهما بحكمه (الْقُدُّوسِ) أي : المنزه عن النقائص ، الموصوف بصفات الكمال (الْعَزِيزِ) الذي لا يمانع ولا يغالب (الْحَكِيمِ) في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، ومعنى الآية : يسبح لله الملك القدوس العزيز الحكيم ما في السموات وما في الأرض ، هذا الإله العظيم المتصف بالمالكية والقدوسية والعزة والحكمة (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) أي : العرب (رَسُولاً مِنْهُمْ) أي : من العرب الأميين ،

٤١٢

أي : من أنفسهم ، وسمى العرب أميين لأنهم لم ينزل عليهم كتاب سابق. قال ابن كثير : (وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر) (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي : يقرأ عليهم القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ) أي : ويطهرهم من لوثات الشرك وخبائث الجاهلية وسيئات الأخلاق (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي : القرآن والسنة ، وهذا يفيد أن تلاوة الآيات شىء وتعليمها شىء آخر ، وأن التزكية شىء زائد على مجرد التلاوة والتعلم ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو ويعلم ويزكي ، فالتلاوة قراءة وعرض ، والتعليم معنى زائد يراد به تفهيم الكتاب والسنة ، والتزكية معنى زائد على كليهما (وَإِنْ كانُوا) أي : وإن كان هؤلاء العرب (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : في كفر وجهالة ، قال النسفي : أي : كانوا في ضلال لا ترى ضلالا أعظم منه (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) أي : بعثه في آخرين من الأميين (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال النسفي : أي : لم يلحقوا بهم بعد ، وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم ، أو هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم الدين ، والمعنى : أن الله بعثه في الأميين الذين على عهده ، وفي الأميين الذين سيأتون من بعدهم ، وهذا يفيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى العرب إلى قيام الساعة ، وكما قال ابن كثير : وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال النسفي : أي : في تمكينه رجلا أميا من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده له ، واختياره إياه من بين كافة البشر (ذلِكَ) قال ابن كثير : يعني : ما أعطاه الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النبوة العظيمة ، وما خص به أمته من بعثه عليه الصلاة والسلام إليهم ، وقال النسفي : (أي : الفضل الذي أعطاه محمدا وهو أن يكون نبي أبناء عهده ، ونبي أبناء العصور الغوابر) أقول : والعصور البواقي (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) إعطاءه وتقتضيه حكمته (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي عم فضله الجميع وفاضل بهذا الفضل من شاء بما شاء.

كلمة في السياق :

١ ـ التقديم للسورة بذكر أسماء الله عزوجل الملك القدوس العزيز الحكيم وأن يعقب ذلك الحديث عن بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأميين يفيد أن اختصاص الله عزوجل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختصاص العرب بهذا الفضل هو أثر مالكيته ، وأنه ليس في ذلك الاختيار نقص ، لأن الله عزوجل منزه عن النقائص فهو القدوس ، وأن ذلك أثر عزته

٤١٣

ومظهر حكمته ، فمن اعترض على ذلك فإنه لا يعرف جلال الله. فلا يعترض على ذلك إلا جاهل.

٢ ـ يلاحظ أن سورة البقرة ذكرت في الآية (١٢٩) على لسان إبراهيم عليه‌السلام : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وأن سورة البقرة ذكرت في الآية (١٥١) قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) وقد رأينا أثناء الكلام عن سورة الصف قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن عند ما قال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك ، قال : «دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» هذا كله يفيد المنة ببعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما بعثه الله عزوجل به ، ومن ذلك تلاوة القرآن ، وتعليمه مع الحكمة ، وتزكية الأنفس على ذلك ، ولذلك صلته بمقدمة سورة البقرة : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

٣ ـ إن ما ذكرناه في النقطة السابقة فيه نموذج على ما ذكرناه من قبل من كون الفقرة السابقة تعرضت لموضوع في أعماق سورة البقرة ، فعرضته في سورة تفصل في مقدمة سورة البقرة للإشارة إلى أن هذا الموضوع مشدود بسبب إلى تلك المقدمة.

٤ ـ وبعد أن ذكر الله عزوجل في الفقرة السابقة ما ذكر من بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأميين ليعلمهم الكتاب والسنة ويزكيهم ، تأتي فقرة تحدثنا عن تقصير بني إسرائيل في حملهم الكتاب الذي أنزل عليهم ، وفي ذلك درس للعرب ألا يكونوا مثلهم ، كما تتحدث عن دعاوى بني إسرائيل مع الله ، وتفنيدها ، وفي ذلك درس للمدعين من هذه الأمة الذين لا يحملون القرآن حق الحمل ، ويزعمون أنهم من الله عزوجل في المقام الأعلى ، فلنر الفقرة الثانية بعد أن عرضنا صلتها بما قبلها.

٤١٤

الفقرة الثانية

وتمتد من الآية (٥) إلى نهاية الآية (٨) وهذه هي :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

التفسير :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) قال النسفي : (أي مثل الذين كلفوا علمها والعمل بما فيها ثم لم يعملوا بها فكأنهم لم يحملوها) (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) السفر : هو الكتاب الكبير ، قال ابن كثير : (يقول تعالى ذاما اليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ثم لم يعملوا بها ، مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا ، أي : كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها ، فهو يحملها حملا حسيا ولا يدري ما عليه ، وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه ، حفظوه لفظا ولم يتفهموه ، ولا عملوا بمقتضاه ، بل أولوه وحرفوه وبدلوه ، فهم أسوأ حالا من الحمير ؛ لأن الحمار لا فهم له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها). وقال النسفي : (شبه اليهود ـ في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بآياتها ، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبشارة به فلم يؤمنوا به ـ بالحمار حمل كبارا من كتب العلم فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهو مثله). (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا

٤١٥

بِآياتِ اللهِ) وهم اليهود (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بسبب اختيارهم الظلم ، دل هذا على أن عدم حمل التوراة حق الحمل تكذيب بها ، وظلم يستحق به صاحبه الإضلال ، وفي ذلك درس لهذه الأمة التي حملت القرآن ألا تكون كتلك الأمة المكذبة الظالمة ، ثم أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخاطب اليهود خطابا ، ويتحداهم تحديا ، ويذكر حقيقتهم ويؤنبهم في موضوع يدل على أن اليهود مع حملهم السىء للتوراة كانوا يدعون الدعاوى العريضة مع الله عزوجل ، كحال كثير من هذه الأمة الآن ، لا يعرفون القرآن أصلا ، ويحاربونه عمليا ، ويزعمون أنهم من الله في المقام الأعلى فلنر الخطاب : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أي : يا أيها المتهودون ، أي : يا أيها اليهود (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال النسفي : أي : إن كان قولكم حقا وكنتم على ثقة من كلامكم فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعا إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه ، أقول : دل ذلك على أن ميزان الولاية لله استعداد الإنسان للقاء الله ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الأمة أن تتمنى الموت ، ومن ثم قلنا إن ميزان ولاية الله أن يكون عند ولي الله استعداد للقاء الله ، فهو في كل لحظة على استعداد لهذا اللقاء ، ولما كان اليهود أبعد الناس عن هذه الولاية بسبب معرفتهم اليقينية أنهم ليسوا كذلك ، ولعلم الله المحيط بهم ، قال تعالى : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : بسبب ما قدموا من الكفر والظلم والفجور (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ولعلمه بهؤلاء اليهود أخبر تعالى عن حالهم هذا ، وفي ذلك معجزة لهذا القرآن ، إذ يخبر عن أمر يتصل بموقف شعب كامل في أمر مستقبل ، ثم لا تجد فردا من أفراد هذا الشعب يخرج عن هذا الإخبار. ولكن هل هذا الإخبار عمن كان يواجههم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط ، فالمعجزة في رفضهم وحدهم ، أم أن هذا الإخبار عنهم قائم إلى قيام الساعة؟ ظاهر كلام المفسرين الأول ، فهي معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عصره. ثم قال تعالى مؤنبا لهم على فرارهم من الموت ، وإنذارا لهم بالموت كي يرجعوا عما هم فيه من الضلال : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) لا محالة (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب.

كلمة في السياق :

١ ـ جاءت هذه الفقرة بعد الفقرة التي ذكر الله عزوجل فيها بعثة رسول الله

٤١٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت هذه الفقرة بعد تلك تأنيبا ودعوة لليهود ، ودرسا لهذه الأمة ألا يكون حملها لكتابها كحمل اليهود ، وألا يكون لها دعاوى كاذبة ، وأن تكون مستعدة للقاء الله عزوجل.

٢ ـ حدد الله عزوجل في أول سورة البقرة صفات المتقين التي من جملتها (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وحصر الفلاح والهداية فيهم فقال : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بينما اليهود يدعون أنهم هم أولياء الله عزوجل ، وقد نقض الله زعمهم ذلك بتحديهم ، وفي ذلك إثبات أن ولايته عزوجل محصورة بهذه الأمة.

٣ ـ في مقدمة سورة البقرة كلام عن الكافرين الذين ختم الله على قلوبهم ، وفي الفقرة التي مرت معنا قال الله عزوجل : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بعد أن ذكر أوصاف هؤلاء الظالمين فعلمنا بذلك بعض هؤلاء الذين يستحقون الختم على قلوبهم بسبب أعمالهم.

٤ ـ في مقدمة سورة البقرة ورد قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وفي الفقرة التي مرت معنا درس لأهل الإيمان في ألا يكون حملهم لكتاب الله كحمل اليهود للتوراة ، ومن ثم ورد قوله تعالى : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ).

٥ ـ يلاحظ أنه قد ورد في سورة البقرة في الآيات (٩٤ ـ ٩٦) ما يلي : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) وهو نفس المعنى الذي تعرضت له سورة الجمعة ، مما يشير إلى أن هذا المعنى في سورة البقرة مشدود إلى مقدمتها بصلة.

٦ ـ وبعد الدرس الذي أعطاه الله عزوجل للمؤمنين في الفقرة الثانية يتجه الآن الخطاب في الفقرة الثالثة إلى المؤمنين في موضوع هو من أخطر المواضيع الحساسة في حياة الأمة الإسلامية ، وهو صلاة الجمعة ، يأتي هذا بعد أن رفع الله عزوجل الاستعداد للتلقي عند المسلم إلى أعلاه بهذا المثل الذي ضربه الله عن اليهود في حملهم السىء للتوراة ، فلنر الفقرة الثالثة.

٤١٧

الفقرة الثالثة

وتمتد من الآية (٩) إلى نهاية السورة ، أي : إلى نهاية الآية (١١) وهذه هي :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

التفسير :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ) بالأذان (لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قال ابن كثير : (إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع ، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه ، في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار ... وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة أي : في وقت الظهر بعد الزوال) (فَاسْعَوْا) أي : فامضوا ، قال الفراء : السعي والمضي والذهاب واحد ، وليس المراد به السرعة في المشي. قال ابن كثير : أي : اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها وليس المراد بالسعي ههنا المشي السريع ، وإنما هو الاهتمام بها (أي : بالصلاة) قال قتادة : يعني أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها (أي : إلى الصلاة) وقال النسفي في قوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي : امضوا إلى الخطبة عند الجمهور ، وبه استدل أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز (وَذَرُوا الْبَيْعَ) قال ابن كثير : أي : اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة ؛ ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني ، واختلفوا هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا على قولين ، وظاهر الآية عدم الصحة ، كما هو مقرر في موضعه ، وقال النسفي في قوله تعالى : (وَذَرُوا

٤١٨

الْبَيْعَ) : (أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا ، وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال ؛ فقيل لهم بادروا تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شىء أنفع منه وأربح ، وذروا البيع الذي نفعه يسير) (ذلِكُمْ) أي : السعي إلى ذكر الله (خَيْرٌ لَكُمْ) من البيع والشراء (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كان عندكم علم حقيقي. قال ابن كثير : أي : ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خير لكم ، أي : في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي : فإذا أديت الصلاة ، أي : فإذا فرغ منها (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) قال النسفي : أمر إباحة (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) قال النسفي : (المراد بذلك الرزق ، أو طلب العلم ، أو عيادة المريض ، أو زيارة أخ في الله). قال ابن كثير : لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء ، وأمرهم بالاجتماع ، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) قال النسفي : أي : واشكروه على ما وفقكم لأداء فرضه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : لتفلحوا في دنياكم وأخراكم ، قال ابن كثير في تفسير الأمر بالذكر في هذا المقام : أي : في حال بيعكم وشرائكم ، وأخذكم وإعطائكم اذكروا الله ذكرا كثيرا ، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) خص التجارة بالذكر لأنها كانت أهم عندهم (وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي : على المنبر تخطب ، والآية تعاتب على حادثة وقعت ثم لم يعد المسلمون إلى ذلك بعد هذا الدرس (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : لمن توكل عليه وطلب الرزق في وقته. وقال النسفي : أي : لا يفوتهم رزق الله بترك البيع فهو خير الرازقين ، وهذه الآية عتاب لمن فعل ذلك من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحذير لكل من يفضل لهوا أو تجارة أو عملا على الاستماع لخطبة الجمعة ، ووعد لكل من يفضل خطبة الجمعة على أي : شىء آخر بالأجر والرزق والتعويض.

كلمة في السياق :

١ ـ قدم الله عزوجل للأمر بصلاة الجمعة بشيئين : أولا : تبيان ما بعث به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصلاة الجمعة شرعت لإحيائه والتذكير به ، والحث عليه. ثانيا : موقف بني إسرائيل من التوراة ، وصلاة الجمعة شرعت لتبعد المسلمين عن الإهمال لأمر

٤١٩

الله ، فالصلات بين فقرات السورة قائمة.

٢ ـ إن ذكر تشريع الجمعة وبعض ما يتعلق بها في سياق سورة الجمعة يعطينا دلالات معينة منها : أن صلاة الجمعة وخطبتها ينبغي أن تحقق ما بعث من أجله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن تجنب هذه الأمة ما وقعت فيه بنو إسرائيل ، وفي ذلك درس لخطيب الجمعة وللمستمع ، هذا وقد ذكر في الفقرة الأخيرة كل ما ينهض على أداء الجمعة ، ويبعد عن إهمالها ، كما ذكر مقدمة لذلك كل ما يبعث عليها ، وفي ذلك درس من دروس هذا القرآن إذ يجعل التكليف في إطار يحمل على غاية الالتزام.

٣ ـ رأينا صلة الفقرتين الأوليين بمقدمة سورة البقرة ، وأما صلة الفقرة الأخيرة فمن حيث إن مقدمة سورة البقرة ذكرت أن من صفات المتقين (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) وإقامة صلاة الجمعة من أهم ما يدخل تحت قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) وفي ذلك نوع تفصيل لما يدخل تحت إقامة الصلاة من مقدمة سورة البقرة.

٤ ـ نلاحظ أن صفات المتقين في مقدمة سورة البقرة ختمت بقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، ونلاحظ أن الله عزوجل قال في الفقرة الأخيرة : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) مما يشير إلى أن الفقرة الأخيرة تفصل في طريق الفلاح الذي أجملته الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة ، وهكذا رأينا صلة فقرات سورة الجمعة كلها بمحورها من سورة البقرة ، ورأينا كذلك وحدة سياق السورة ، وصلة فقراتها ببعضها ، ولعل القارىء لا يغيب عنه ذكر اسم الله الملك في ابتداء السورة ، وذكر قوله تعالى : (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) في آخرها مما يؤكد أن السورة مجلى لظهور أسماء الله التي وردت في أولها. ولنكتف الآن بهذا القدر عن سياق السورة ولنذكر بعض الفوائد المتعلقة ببعض آياتها.

الفوائد :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) قال ابن كثير : (الأميون هم العرب كما قال تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر كما قال تعالى

٤٢٠