الأساس في التفسير - ج ١٠

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١٠

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

ولا التكبر إلا لعظمته (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بعد أن ذكر الله عزوجل ما ذكر من أسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، نزه ذاته عما يصفه به المشركون (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) أي : المقدر لما يوجده (الْبارِئُ) أي : الموجد (الْمُصَوِّرُ) الذي أعطى كل شىء صورته (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الدالة على الصفات العلى (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ختم السورة بما بدأها به.

كلمة في السياق :

رأينا أن السورة في سياقها الرئيسي تركز على التعريف بالله عزوجل ، وتطالب بناء على هذا التعريف بالتقوى ، والعمل للآخرة ، والخشوع لكتاب الله عزوجل ، وقد ذكرت لنا السورة مظاهر من عزة الله وحكمته ، فكانت مجلى لظهور اسمي الله العزيز الحكيم اللذين بدأت بهما السورة وانتهت ، فرأينا حكمة الله في أفعاله وشرعه فيها ، ورأينا عزة الله عزوجل في انتصاره وانتقامه ، ورأينا في السورة تدبير الله عزوجل لرسوله وللمؤمنين ، وفعله بالكافرين والمنافقين ، ورأينا مزيدا من خصائص المؤمنين ، وعرفنا مزيدا من صفات المنافقين والكافرين ، ومن ثم كانت السورة تفصيلا لمقدمة سورة البقرة ، فمقدمة سورة البقرة تتحدث عن المتقين ، ولا تقوى إلا بمعرفة الله عزوجل ، وقد عرفتنا السورة على الله عزوجل ، ومن صفات المتقين الاهتداء بكتاب الله عزوجل (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وقد عرفتنا السورة على عظمة هذا القرآن ، وطالبت بالخشوع له (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ...) ومن صفات المتقين (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وقد دعتنا السورة للعمل للآخرة ، وأرتنا خصائص للمتقين التي تمثلت في رجال مهاجرين وأنصار وتابعين لهم بإحسان ، وحدثتنا السورة عن تعذيب الله للكافرين في الدنيا والآخرة ، وحدثتنا السورة عن المنافقين وصفاتهم من خلال موقفهم من بني النضير ، فكان في ذلك كله تفصيل لمقدمة سورة البقرة.

الفوائد :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) قال ابن كثير : (يعني : يهود بني النضير. قاله ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدا وذمة على أن

٣٤١

لا يقاتلهم ولا يقاتلوه ، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه ، فأحل الله بهم بأسه الذي لا يرد ، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصد ، فأجلاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون ، وظنواهم أنها مانعتهم من بأس الله ، فما أغنى عنهم من الله شيئا ، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم ، وسيرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجلاهم من المدينة ، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام ، وهي أرض المحشر والمنشر ، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر ، وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم ، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي لا يمكن أن تحمل معهم ؛ ولهذا قال تعالى : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)).

٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) قال صاحب الظلال : (أتاهم من داخل أنفسهم! لا من داخل حصونهم! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب ، ففتحوا حصونهم بأيديهم! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم ، ولا يحكمون قلوبهم ، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم. وقد كانوا يحسبون حساب كل شىء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم. فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها. وهكذا حين يشاء الله أمرا. يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر ، وهو يعلم كل شىء ، وهو على كل شىء قدير).

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) قال صاحب الظلال : (ومن ثم فانظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية ، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي ، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه ، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار ، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير. نشأ وحده ، وسار وحده ، وبقي حتى اليوم وحده ، نظاما فريدا متوازن الجوانب ، متعادل الحقوق والواجبات ، متناسقا تناسق الكون كله ، مذ كان صدوره عن خالق الكون ، والكون متناسق موزون!).

٤ ـ وبمناسبة قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) قال ابن كثير : (وروى الإمام أحمد عن عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ رضي الله عنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ،

٣٤٢

المغيرات خلق الله عزوجل ، قال : فبلغ امرأة من بني أسد في البيت يقال لها أم يعقوب ، فجاءت إليه فقالت : بلغني أنك قلت كيت وكيت ، قال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي كتاب الله تعالى ، فقالت إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته ، فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت : بلى قال : فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عنه ، قالت : إني لأظن أهلك يفعلونه ، قال : اذهبي فانظري ، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا ، فجاءت فقالت ما رأيت شيئا قال : لو كان كذا لم تجامعنا. أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري ، وقد ثبت في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»).

وقال صاحب الظلال : (فأما القاعدة ـ قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ... فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية. فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرآنا أو سنة ... والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول. فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان ، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان ... وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية ، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات ، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء ، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان. فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها والإمام نائب عن الأمة في هذا وفي هذا تنحصر حقوق الأمة. فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع).

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد ... عن أنس رضي الله عنه قال : قال المهاجرون : يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ، ولا أحسن بذلا في كثير ، لقد كفونا المؤنة ، وأشر كونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله قال : «لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم» لم أره في الكتب من هذا الوجه. وروى البخاري عن يحيى بن سعيد أنه سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين قالوا : لا إلا أن تقطع

٣٤٣

لإخواننا من المهاجرين مثلها قال : «أما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة» تفرد به البخاري من هذا الوجه. وروى البخاري ... عن أبي هريرة قال : «قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال : لا ، فقالوا : أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة قالوا : سمعنا وأطعنا» تفرد به دون مسلم).

٦ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) قال ابن كثير : (قال الحسن البصري (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) يعني : الحسد (مِمَّا أُوتُوا) قال قتادة : يعني فيما أعطي إخوانهم. وكذا قال ابن زيد : ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث روى عن أنس رضي الله عنه قال : كنا جلوسا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلع رجل من الأنصار ، تنطف لحيته من وضوئه ، قد علق نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى ، فلما كان في اليوم الثالث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل مقالته أيضا ، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى ، فلما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال : «نعم» قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا ، غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر ، قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا ، فلما مضت الليالي الثلاث ، وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ، ولكن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لك ثلاث مرات : «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلعت أنت الثلاث المرات ، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به ، فلم أرك تعمل كبير عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! قال : ما هو إلا ما رأيت ، فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله : فهذه التي بلغت بك ، وهي التي لا تطاق ، ورواه النسائي في اليوم والليلة بإسناد صحيح على شرط الصحيحين).

٧ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قال ابن كثير : (وروى الأعمش وشعبة ... عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال

٣٤٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» ورواه أحمد وأبو داود والنسائي. وروى الليث عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا». وروى ابن أبي حاتم عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فقال له عبد الله : وما ذاك؟ قال : سمعت الله يقول : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا ، فقال عبد الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذاك البخل وبئس الشىء البخل. وروى سفيان الثوري عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له فقال : إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. رواه ابن جرير. وروى ابن جرير عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة».

٨ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) قال ابن كثير : (هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفىء وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة ، وأوصافهم الجميلة ، الداعون لهم في السر والعلانية ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ) أي : قائلين (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه‌الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفىء نصيب ، لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي : بغضا وحسدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). وروى ابن أبي حاتم عن

٣٤٥

عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) الآية. وروى إسماعيل بن علية عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسببتموهم : سمعت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها» رواه البغوي وروى أبو داود عن الزهري قال : قال عمر رضي الله عنه : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) قال الزهري : قال عمر رضي الله عنه : هذه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرى عرينة وكذا وكذا ، مما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل ، وللفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم ، والذين جاؤوا من بعدهم فاستوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق. قال أيوب أو قال حظ إلا بعض من تملكون من أرقائكم ، وكذا رواه أبو داود وفيه انقطاع. وروى ابن جرير عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) حتى بلغ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثم قال : هذه لهؤلاء ثم قرأ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) الآية ثم قال : هذه لهؤلاء ثم قرأ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) حتى بلغ (لِلْفُقَراءِ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة ، فليس أحد إلا وله فيها حق ثم قال. لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرد حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه.).

٩ ـ بمناسبة قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) قال ابن كثير : (وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل ، لا أنها المرادة وحدها بالمثل ، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها ، روى ابن جرير عن أبي إسحاق سمعت عبد الله بن نهيك قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول : إن راهبا تعبد ستين سنة ، وإن الشيطان أراده فأعياه ، فعمد إلى امرأة فأجنها ولها إخوة فقال لإخوتها : عليكم بهذا القس فيداويها ، قال : فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده ، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت ، فعمد إليها فقتلها ، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب أنا صاحبك إنك أعييتني ،

٣٤٦

أنا صنعت هذا بك ، فأطعني أنجك مما صنعت بك ، فاسجد لي سجدة ، فسجد له فلما سجد قال : إني برىء منك إني أخاف الله رب العالمين ، فذلك قوله (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)).

١٠ ـ بمناسبة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدر النهار ، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء ، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر ، فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، قال : فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة ، فصلى ثم خطب فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) إلى آخر الآية وقرأ الآية التي في الحشر (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره ـ حتى قال ـ ولو بشق تمرة» قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شىء» انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبة بإسناده مثله).

١١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) قال ابن كثير : (روى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن نعيم بن نمحة قال : كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله عزوجل فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عزوجل ، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عزوجل أن تكونوا أمثالهم (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم ، وخلوا بالشقوة والسعادة ، وأين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه ، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، واستضيئوا

٣٤٧

بسنانه وبيانه ، إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) لا خير في قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله علمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم. هذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقاة ، وشيخ جرير بن عثمان وهو نعيم بن نمحة لا أعرفه بنفي ولا إثبات ، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ جرير كلهم ثقاة وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر والله أعلم).

١٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) قال ابن كثير : (وقد ثبت في الحديث المتواتر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عمل له المنبر وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد ، فلما وضع المنبر أول ما وضع جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر ، فعند ذلك حن الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكت لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده ، ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجذع ، وهكذا هذه الآية الكريمة إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته ، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) الآية وقد تقدم أن معنى ذلك أي لكان هذا القرآن ، وقد قال تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)).

١٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) قال ابن كثير : (ونذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» وتقدم سياق الترمذي وابن ماجه له عن أبي هريرة أيضا وزاد بعد قوله : وهو وتر يحب الوتر. واللفظ للترمذي : هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ،

٣٤٨

اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدىء ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور» وسياق ابن ماجه بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير).

١٤ ـ بمناسبة الآيات الأخيرة من سورة الحشر قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن معقل بن يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ؛ ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» ورواه الترمذي ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه).

كلمة أخيرة في سورة الحشر :

جاءت سورة الحشر بعد سورة المجادلة فكانت نموذجا للموضوع الرئيسي في سورة المجادلة ، وهو استحقاق الذين يحادون الله ورسوله الكبت والذلة ، إذ عرضت لنا ما أصاب بني النضير من خزي وإذلال بسبب مشاقتهم لله وللرسول ، وقد ذكر الله عزوجل في هذه السورة موقف المنافقين وتوليهم للكافرين ، وسنرى أن سورة الممتحنة ستأتي لتبدأ بالنهي عن تولي أعداء الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ...) وهكذا تتعانق نهايات السور ببدايات ما بعدها بشكل عجيب ، ولقد رأينا في السورة بعض ملامح الحكمة في توزيع آيات الأحكام على القرآن كله ، فقد عرضت السورة التشريع الذي له علاقة بالفىء في سياق يستخرج التسليم المطلق من المؤمن ، إذ وضعت هذه الأحكام في سياق التذكير بخصائص الإيثار واحتياجات المحتاجين ، وفعل الله عزوجل ، وغير ذلك مما رأيناه بحيث لا يسع الإنسان إلا أن يسلم بالفىء لأهله ، وهكذا فعل الله عزوجل في كل ما أمر به

٣٤٩

ونهى عنه إذ جاء في سياق يحمل على التطبيق والالتزام ، وسورة الحشر مع سورة الممتحنة مجموعة برأسها ، ولذلك فإن سورة الحشر تؤلف مع سورة الممتحنة كلا متكاملا يظهر ذلك في أن سورة الحشر تحدثت عن الكافرين وموالاتهم ، وها هي ذي سورة الممتحنة تنهى المؤمنين عن سلوك هذا الطريق.

بعد مقدمة سورة البقرة جاءت دعوة لعبادة الله وتوحيده للوصول إلى التقوى ، وجاءت بشارة لأهل الإيمان والعمل الصالح ، وكل ذلك في الآيات الخمس الأولى من المقطع الأول من القسم الأول ، والملاحظ أن سورة الحشر عرفتنا على الله من خلال أسمائه وأفعاله ، ومعرفة الله هي الأساس الذي تقوم عليه العبادة كما جاء في سورة الحشر قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) وهذا يشير إلى أن سورة الحشر فصلت في مقدمة سورة البقرة والآيات الخمس بعدها.

وقد جاء في الآيات الخمس قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) وجاء في سورة الحشر قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) فهذه الخصيصة للقرآن تنفي الريب عنه.

وبعد مقدمة سورة البقرة ، وهذه الآيات الخمس ، تأتي آيتان ستفصل فيهما سورة الممتحنة.

٣٥٠

سورة الممتحنة

وهي السورة الستون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الثانية والأخيرة من المجموعة الثالثة

من قسم المفصل ، وهي ثلاث عشرة آية

وهي مدنية

٣٥١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٣٥٢

بين يدي سورة الممتحنة :

قدم الألوسي لسورة الممتحنة بقوله : (قال ابن حجر : المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر ؛ فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها ، وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة : الفاضحة ، وفي جمال القراء تسمى أيضا سورة الامتحان. وسورة المودة ، وأطلق ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم القول بمدنيتها ، وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة ، وهي ثلاث عشرة آية بالاتفاق. ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيما قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب ، وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء لئلا يشابهوا المنافقين ، وبسط الكلام فيه أتم بسط. وقيل في ذلك أيضا : إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلح الحديبية ، ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الافتتاح ـ بسبح ـ).

ومن تقديم صاحب الظلال للسورة نقتطف ما يلي : (هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني. حلقة من تلك السلسلة الطويلة ، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة ، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية ، في صورة واقعية عملية ، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة ؛ تبلغ إليه البشرية أحيانا ، وتقصر عنه أحيانا ، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه ؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه ، تحققت يوما في هذه الأرض).

(إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني. رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه ، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله. وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله في رحاب العقيدة وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب. وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان ، عدا عقيدة الإيمان. وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله ، المتضمن كيانه نفحة من روح الله.

ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة ـ كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم ـ عقبات من التعصب للبيت ، والتعصب للعشيرة ، والتعصب للقوم ، والتعصب للجنس ، والتعصب للأرض. كما تقف عقبات أخرى من رغائب

٣٥٣

النفوس وأهواء القلوب ، من الحرص والشح وحب الخير للذات ، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية ... وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور!

وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عمليه واقعة. وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل.

وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم ، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى. وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى من قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة ؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم ، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات!

وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج ، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه. وهو ـ سبحانه ـ يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا ـ وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت ـ فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث ، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن!).

كلمة في سورة الممتحنة ومحورها :

تفصل سورة الممتحنة في محور سورة المائدة ، ومن ثم فلها مثل بدايتها ، فسورة المائدة مبدوءة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وكذلك سورة الممتحنة ، ونجد في سورة المائدة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ونجد فيها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) وسورة الممتحنة مبدوءة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ...) وقد رأينا من قبل أن سورة المجادلة فصلت في محور سورة المائدة نفسه ، وكانت خاتمتها (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ

٣٥٤

حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) وبعد الآيات الخمسة والعشرين الأولى من سورة البقرة والتي تتحدث عن التقوى ، وطريقها ، وأركانها ، ومظاهرها التي فصلت فيها سورة الحشر ، تأتي آيتان هما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) هاتان الآيتان تتحدثان عن الأسباب التي يستحق بها الفاسقون الإضلال (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ ...). وسورة الممتحنة تأتي لتحدد للمؤمنين ما ينبغي فعله ، وما لا ينبغي فعله ليتحرروا من هذا كله ، ومن ثم ستلاحظ أن الآية الأولى من سورة الممتحنة تنهى عن موالاة أعداء الله سرا وعلانية ثم تقول : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ...) لاحظ الصلة بين قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) وبين قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) لتجد من خلال هذه الملاحظة صدق ما ذكرناه.

وتتحدث سورة الممتحنة عمن يجوز وصله ، وعمن لا يجوز ، كما تتحدث عن عقود واجبة البر كبيعة النساء ، وعقود لا تصح أصلا ، كما تتحدث عن مظاهر الإفساد في الأرض ، ولذلك صلاته بمحورها.

وقد يتساءل متسائل ، لماذا هذا التركيز كله على الآيات الأولى من سورة البقرة حتى ليكاد يكون قسم المفصل كله تفصيلا لذلك؟ ، والجواب : إن هذه المعاني التي ذكرتها الآيات الأولى من سورة البقرة عليها مدار الإسلام كله ، فبقدر ما تتعمق معانيها في النفس البشرية وتتضح يكون الإسلام قائما والأمر مستقيما. ولنعرض سورة الممتحنة على أنها فقرات كل فقرة منها مبدوءة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا).

٣٥٥

الفقرة الأولى

وتمتد من الآية (١) إلى الآية (٩) وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ

٣٥٦

وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))

فائدة في سبب النزول :

قال ابن كثير : (كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب ابن أبي بلتعة ، وذلك أن حاطبا هذا كان رجلا من المهاجرين ، وكان من أهل بدر أيضا ، وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم ، بل كان حليفا لعثمان ، فلما عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال : «اللهم عم عليهم خبرنا» فعمد حاطب هذا فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يدا ، فأطلع الله تعالى على ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استجابة لدعائه ، فبعث في أثر المرأة ، فأخذ الكتاب منها ، وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته. روى الإمام أحمد عن عبيد الله بن أبي رافع أنه سمع عليا رضي الله عنه يقول : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة قلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي كتاب ، قلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب ، قال : فأخرجت الكتاب من عقاصها ، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم

٣٥٧

ببعض أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا حاطب ما هذا؟» قال : لا تعجل علي ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه صدقكم» فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه من غير وجه عن سفيان بن عيينة به ، وزاد البخاري في كتاب المغازي فأنزل الله السورة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ).

التفسير :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) قال ابن كثير : (يعني : المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين ، الذين شرع عداوتهم ومصادمتهم ، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء). أقول : وللتولي مظاهر متعددة حاولنا أن نحصيها في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) ومن مظاهرها التي يدل عليها سبب نزول هذه الآيات أن ينقل المسلم للكافرين أسرار المسلمين ، وأن يطلعهم على مخططاتهم (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي : لا تتخذوا الكافرين أولياء ملقين إليهم بالمودة ، دل ذلك على أن إلقاء المودة للكافرين من مظاهر الولاء قال النسفي : والإلقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) أي : لا تتخذوهم أولياء ملقين إليهم بالمودة ، وهذه حالهم أنهم قد كفروا بما جاءكم من الحق الذي هو دين الإسلام والقرآن ، ثم ذكر بمظاهر كفرهم وعتوهم فقال : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي : يخرجونكم من مكة لإيمانكم بالله ربكم ، أي : لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين. قال ابن كثير : (هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد ، وإخلاص العبادة لله وحده) (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي : إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي ومبتغين مرضاتي فلا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. قال

٣٥٨

ابن كثير : (أي : إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم ، فلا توالوا أعدائي وأعداءكم ، وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقا عليكم وسخطا لدينكم) (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) قال ابن كثير : أي : تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر. قال النسفي : (أي : تفضون إليهم بمودتكم سرا ، أو تسرون إليهم أسرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب المودة) وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم والمعنى : أي طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي وأنا مطلع رسولي على ما تسرون (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أي : ومن يفعل منكم هذا الإسرار (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي : فقد أخطأ طريق الحق والصواب (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي : إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم يكونوا لكم خالصي العداوة ، ولا يكونوا أولياء (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي : بالقتل والشتم. قال ابن كثير : (أي : لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال) (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي : وتمنوا لو ترتدون عن دينكم وما دام الأمر كذلك فموادة أمثالهم خطأ عظيم. قال ابن كثير : (أي : ويحرصون على ألا تنالوا خيرا ، فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهرة ، فكيف توالون مثل هؤلاء؟) وهذا تهييج على عداوتهم أيضا. وقال النسفي شارحا الآية : (يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين ، من قتل الأنفس ، وتمزيق الأعراض ، وردكم كفارا أسبق المضار عندهم وأولها لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم ، لأنكم بذالون لها دونه ، والعدو أهم شىء عنده أن يقصد أهم شىء عند صاحبه). (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) أي : قراباتكم (وَلا أَوْلادُكُمْ) الذين توالون الكفار من أجلهم ، وتتقربون إليهم محاماة عليهم ثم قال : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) أي : وبين أقاربكم وأولادكم ، فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفر منه غدا (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم على أعمالكم. قال ابن كثير : (أي : قراباتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد بكم سوءا ، ونفعهم لا يصل إليكم ، إذا أرضيتموهم بما يسخط الله ، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله ، ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد ، ولو كان قريبا إلى نبي من الأنبياء). ثم قال تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي : وأتباعه الذين آمنوا معه ، أي : قد كانت لكم قدوة حسنة في

٣٥٩

إبراهيم عليه‌السلام ومن معه من المؤمنين (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) أي : تبرأنا منكم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : تبرأنا منكم ومن آلهتكم (كَفَرْنا بِكُمْ) أي : بدينكم وبطريقتكم وبأشخاصكم التي تمثل بها هذا الدين والطريقة (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ) بالأفعال (وَالْبَغْضاءُ) بالقلوب (أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) فحينئذ نترك عداوتكم وبغضكم. قال ابن كثير : (يعني : وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم فنحن أبدا نتبرأ منكم ونبغضكم ...) إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له ، وتخلعون ما تعبدون معه من الأنداد (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) قال النسفي : أي : اقتدوا به (أي : في إبراهيم) في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر ، وقال ابن كثير : أي : لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها ، إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) ثم أتم الله عزوجل قول إبراهيم لأبيه (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : من هداية ومغفرة وتوفيق فكأنه قال له : سأستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار ، ثم قال تعالى مخبرا عن قول إبراهيم عليه‌السلام والذين معه حين فارقوا قومهم ، وتبرؤوا منهم فلجأوا إلى الله عزوجل ، وتضرعوا إليه فقالوا : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) لا على أحد سواك (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي : أقبلنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي : المرجع. قال ابن كثير : أي : توكلنا عليك في جميع الأمور ، وسلمنا أمورنا إليك ، وفوضناها إليك ، وإليك المصير أي : المعاد في الدار الآخرة ، وقالوا (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال النسفي : أي : لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب. وقال ابن كثير : (قال مجاهد : معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا ، وكذا قال الضحاك ، وقال قتادة : لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك ، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه واختاره ابن جرير ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيفتنونا) (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا) أي : واستر ذنوبنا عن غيرنا ، واعف عنها فيما بيننا وبينك (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي : الذي لا يضام من لاذ بجنابك (الْحَكِيمُ) في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك ، ثم كرر الله عزوجل الحث على الاقتداء بإبراهيم عليه‌السلام فقال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) هذا تهييج للتأسي بإبراهيم ومن معه لكل مؤمن بالله والمعاد (وَمَنْ يَتَوَلَ) عما أمر الله به من الاقتداء بإبراهيم ومن معه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن الخلق

٣٦٠