الأساس في التفسير - ج ١٠

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١٠

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

وتذكر أن الله عزوجل سينبئهم بما عملوه يوم القيامة ، وفي ذلك من الإنذار للكافرين ، ومن التطمين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل الإيمان ما فيه ، ولما كانت المحادة لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدايتها التناجي الآثم ؛ فإن الفقرة التالية تعالج هذا الموضوع ، وتدل المسلم على أدب التناجي الحق ، وأدب المجالس ، وأدب مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مما يشير إلى أن الله عزوجل إذ يطهر المسلم من أخلاق الفاسقين ، فإنه يحققه في الوقت نفسه بأخلاق المؤمنين ، فالهدم والبناء والتخلية والتحلية كلها تمشي مع بعضها.

تفسير الفقرة الثانية :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) أي : التناجي الخفي الظالم (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) أي : للنجوى الظالمة التي فسر الله مضمونها بقوله : (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ) أي : بالذنب يفعلونه أو يشيعونه أو يتآمرون آثمين (وَالْعُدْوانِ) على الآخرين ، إما على عرض أو مال أو حق (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي : مخالفته والخروج على أوامره وفي ذلك نقض للعهد مع الله ، وقطع لما أمر الله به أن يوصل ، وإفساد في الأرض (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) قال النسفي : يعني أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد ، والسام : الموت ، والله تعالى يقول : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) و (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) وهو موضوع سنرى تفصيلاته في الفوائد (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) قال ابن كثير : (أي : يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام ، وإنما هو شتم في الباطن ، ومع هذا يقولون في أنفسهم لو كان هذا نبيا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن ؛ لأن الله يعلم ما نسره ، فلو كان هذا نبيا حقا لأوشك أن بعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا) فقال الله تعالى : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أي : عذابا ، أي : جهنم كفايتهم في الدار الآخرة (يَصْلَوْنَها) أي : يدخلونها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : فبئس المرجع جهنم ، وقد دلت الآية على أنه إذا لم تنل الكافر أو المنافق عقوبة في الدنيا ؛ فإن عذاب جهنم كاف. قال ابن كثير : ثم قال الله تعالى مؤدبا عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) قال ابن كثير : أي : كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) أي : بالفرائض والطاعات

٣٠١

(وَالتَّقْوى) أي : بترك المعاصي ويحتمل أن يكون المراد بالبر الورع ، وبالتقوى الواجبات من صلاة وزكاة واتباع كتاب (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للحساب فيجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر قال ابن كثير : أي : فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها (إِنَّمَا النَّجْوى) بالإثم والعدوان ومعصية الرسول (مِنَ الشَّيْطانِ) أي : من تزيينه (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ليسوء الشيطان الذين آمنوا عند ما يرون أعداء الله يتآمرون عليهم ، ويتغامزون ، ويشيعون الإشاعات (وَلَيْسَ) ذلك (بِضارِّهِمْ) أي : بضار المؤمنين (شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بعلمه وقضائه وقدره (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فإنه مولاهم فليطمئنوا إلى تدبيره بهم ولهم.

كلمة في السياق :

رأينا في ما مر معنا من الفقرة الثانية نهي الله ـ عزوجل ـ عن التناجي الظالم الفاسق ، وتأديب الله عزوجل عباده المؤمنين على التناجي العادل التقي ؛ ليقابلوا ذلك التناجي الشقي ، وفي هذا السياق يبين الله عزوجل للمسلمين أدبهم في مجالسهم التي يجتمعون فيها ، فاجتماع يقابل اجتماعا ، وتناج يقابل تناجيا ، وللفاسقين طرائقهم ، وللمسلمين آدابهم في كل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) أي : توسعوا فيها (فَافْسَحُوا) أي : فوسعوا لبعضكم بعضا (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) قال ابن كثير : (وذلك أن الجزاء من جنس العمل) وهذا الوعد من الله عزوجل بالإفساح لمن يفسح مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه ، من المكان والرزق والصدر والقبر وغير ذلك قاله النسفي (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) أي : انهضوا من مجلسكم ليجلس غيركم إذا رأى الإمام ذلك لحكمة من الحكم (فَانْشُزُوا) أي : فانهضوا ، ويحتمل أن يكون المراد : وإذا قيل لكم انصرفوا فانصرفوا ، أو انهضوا لأمر من أمور الدين فانهضوا (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بامتثال أوامره وأوامر رسوله ، وخاصة فيما فيه مكروه على النفس (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي : ويرفع العالمين منهم خاصة درجات. قال النسفي : وفي الدرجات قولان : أولهما في الدنيا في المرتبة والشرف ، والآخر في الآخرة. قال ابن كثير : (أي : لا تعتقدوا أنه إذا فسح أحد منكم لأخيه إذا أقبل ،

٣٠٢

أو إذا أمر بالخروج فخرج أن يكون ذلك نقصا في حقه ، بل هو رفعة ورتبة عند الله والله تعالى لا يضيع ذلك بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره ونشر ذكره) (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي : خبير بمن يستحق الرفعة والأجر والمكافأة ومن لا يستحقه.

كلمة في السياق :

وبعد أن أدب الله المسلمين هذا الأدب الرفيع الذي فيه هضم النفس في ذات الله ، وبعد أن علمهم كيف يكون محور حديثهم في مجالسهم ، تأتي الآن آيتان فيهما أدب مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك في مقابل سوء أدب الكافرين والمنافقين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) أي : إذا أردتم مناجاته (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي : قبل نجواكم. قال ابن كثير : يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : يساره فيما بينه وبينه أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ) أي : التقديم (خَيْرٌ لَكُمْ) في دينكم (وَأَطْهَرُ) من الذنوب لأن الصدقة طهرة (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) أي : ما تتصدقون به (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : في ترخيص المناجاة من غير صدقة ، فما أمر بها إلا من قدر عليها ، ثم قال تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي : أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه. قال ابن كثير : أي : أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به وشق عليكم (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي : خفف عنكم وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب منه (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فهذا الذي لا ينبغي التساهل فيه في كل حال. قال النسفي : أي : فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قال النسفي : وهذا وعد ووعيد ، وبهذا انتهت الفقرة الثانية.

٣٠٣

كلمة في السياق :

بدأ المقطع الأول بالكلام عن عقوبة الذين يحادون الله ورسوله ، ثم في الفقرة الأولى أكد على موضوع علم الله بكل شىء ، ومن ذلك حديث الناس ، وفي الفقرة الثانية كان الحديث عن المناجاة الظالمة بين أعداء الله عزوجل ، وفي سياق ذلك علم الله المسلمين أدب المناجاة ، وأدب المجالس ، وأدب خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم تأتي الفقرة الثالثة وفيها كلام عن تولي الكافرين الذي هو قطع لما أمر الله به أن يوصل من موالاة أهل الإيمان ، وبهذا يكون المقطع قد حدثنا عن أهم مظهرين من مظاهر محادة الله ورسوله ، التناجي الظالم ، والموالاة للكافرين فلنر الفقرة الثالثة.

تفسير الفقرة الثالثة :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قال النسفي : (كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم ...) (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أي : ما هم منكم يا مسلمون ولا هم من اليهود ، قال ابن كثير : (أي : هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود). أقول : ويدخل في ذلك كل ولاية من قبل مسلم لكافر. قال ابن كثير : يقول الله تعالى منكرا على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن ، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أي : يقولون : والله إنا لمسلمون لا منافقون (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون منافقون. قال ابن كثير : (يعني المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا وهي اليمين الغموس ، ولا سيما في مثل حالهم اللعين ـ عياذا بالله منه ـ فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا جاؤوا الرسول حلفوا له بالله أنهم مؤمنون ، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به ، لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه وإن كان في نفس الأمر مطابقا ، ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك) (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي : نوعا من العذاب متفاقما (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : إنهم كانوا في الزمان الماضي مصرين على سوء العمل ، قال ابن كثير : أي : أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة ، وهي موالاة الكافرين ونصحهم ، ومعاداة المؤمنين وغشهم ، ولهذا قال تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) الكاذبة (جُنَّةً) أي : وقاية دون أموالهم

٣٠٤

ودمائهم (فَصَدُّوا) الناس من خلال أمنهم وسلامتهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : طاعته والإيمان به قال ابن كثير : (أي : أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ، واتقوا بالأيمان الكاذبة ، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم ، فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس). أقول : ما أكثر هذه الصورة في عصرنا (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي : مذل مخز. قال ابن كثير : أي : في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الخائنة (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ) عذاب (اللهِ شَيْئاً) ولو قليلا. قال ابن كثير : أي : لن يدفع ذلك عنهم بأسا إذا جاءهم (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي : ماكثون أبدا (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي : يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدا (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أي : فيحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مخلصين في الدنيا غير منافقين كما يحلفون لكم في الدنيا على ذلك (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ) في الدنيا (عَلى شَيْءٍ) ولذلك فهم يحسبون أنهم على شىء من النفع ثم بأيمانهم الكاذبة كما انتفعوا ههنا. قال ابن كثير : ثم قال تعالى منكرا عليهم حسبانهم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) في الدنيا والآخرة ، ذلك وصفهم اللازم لهم (اسْتَحْوَذَ) أي : استولى (عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) قال ابن كثير : أي : استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله عزوجل ، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليهم الشيطان ، وذروة استحواذ الشيطان على الإنسان أن يصرفه عن صلاة الجماعة ، وفي الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) أي : جنده وأنصاره ، يعني الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) في الدنيا والآخرة. وبهذا انتهى المقطع الأول في السورة.

كلمة في السياق :

١ ـ لاحظ الصلة بين قوله تعالى في المقطع : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وبين آية المحور (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) وبين قوله تعالى في المقطع (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) وبين قوله تعالى في وصف المنافقين في مقدمة سورة البقرة : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ

٣٠٥

إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).

٢ ـ بدأ المقطع بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ* يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) لاحظ قوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) وقد ختم المقطع بقوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ* اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) من تشابه البداية والنهاية نعرف وحدة المقطع ، ونعرف أن السياق الرئيسي فيه هو في الذين يحادون الله ورسوله ؛ بدليل مجىء الحديث عنهم في البداية والنهاية والوسط.

٣ ـ مما جاء في المقطع نعرف بعض صفات المحاربين لله ورسوله : ١ ـ أنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. ٢ ـ أنهم يوالون الكافرين. ٣ ـ أنهم كثير والحلف الكاذب. ٤ ـ أنهم ينسون ذكر الله لأن الشيطان مستحوذ عليهم. ومن صلة السورة بمحورها ، ومن وصف هؤلاء بالخسران كما وصف الفاسقون في المحور ، نعلم أن هذه تفصيلات لصفات الفاسقين (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

٤ ـ من المقطع نعرف بعض مظاهر خسران هؤلاء الفاسقين : الكبت في الدنيا والآخرة والعذاب الشديد في الآخرة.

٥ ـ وبعد هذه الجولة في الكلام عن المحادين لله ورسوله يأتي المقطع الثاني ليبدأ بالكلام عن هؤلاء المحادين لله ورسوله وعقوبتهم الدنيوية ، وما يقابل موقفهم الفاسد من موقف صحيح هو موقف أهل الإيمان ، ويستقر الكلام في المقطع الثاني على ذكر اسم حزب الله ، بعد أن استقر الكلام في المقطع الأول على ذكر اسم حزب الشيطان فلننتقل إلى المقطع الثاني.

٣٠٦

المقطع الثاني

وهو ثلاث آيات يستمر من الآية (٢٠) إلى نهاية الآية (٢٢) وهذا هو :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

التفسير :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال ابن كثير : (يعني : الذين هم في حد والشرع في حد) فهم مجانبون للحق ، مشاقون له ، هم في ناحية والهدى في ناحية (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي : في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب ، الأذلين في الدنيا والآخرة. قال النسفي : (أي : في جملة من هو أذل خلق الله تعالى ، لا نرى أحدا أذل منهم) (كَتَبَ اللهُ) في اللوح المحفوظ (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) قال النسفي : بالحجة والسيف أو بأحدهما. قال ابن كثير : أي : قد حكم وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) لا يمتنع عليه ما يريد (عَزِيزٌ) أي : غالب غير مغلوب. قال ابن كثير : أي : كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه ، وهذا قدر محكم ، وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

٣٠٧

كلمة في السياق :

بين الله عزوجل في هذه الآية أن العاقبة لرسل الله عليهم الصلاة والسلام ، وأن النصرة لهم ، وأن الذلة لمن يحارب الله ورسوله ، ثم تختم السورة بآية تبين أن الإيمان الحقيقي هو الذي لا يكون معه موادة لمن يحارب الله ورسوله أصلا ، سواء كان المحارب كافرا أصليا أو منافقا ، وذلك في سياق السورة التي تتحدث في سياقها الرئيسي عن المنافقين الذين يحادون الله ورسوله من خلال التناجي بالباطل ، وموالاة الكافرين ، لتبين أن الإيمان الحقيقي لا يجتمع مع الموالاة لأعداء الله.

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي : من حاربهما وخالفهما وعاداهما. قال ابن كثير : أي : لا يوادون المحاربين ولو كانوا من الأقربين (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) قال النسفي : (أي : من الممتنع أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين ، مهما كانت قرابتهم حتى ولو كانت القرابة كمثل ما ذكر ، والمراد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال) (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي : جعل في قلوبهم الإيمان (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي : وقواهم بحياة منه. قال ابن كثير : أي : من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو ابنه أو أخاه فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان ، أي : كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بتوحيدهم الخالص وطاعتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه الجسيم في الآخرة أو بما قضى عليهم في الدنيا ، وفي ذكر الرضى المتبادل سر بديع فسره ابن كثير بقوله : وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله ؛ عوضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، والفضل العظيم (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي : جنده وأنصار الحق الذي أنزل ودعاة الخلق إليه. قال ابن كثير : أي : عباد الله وأهل كرامته (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قال النسفي : أي : الباقون في النعيم المقيم الفائزون بكل محبوب ، الآمنون من كل مرهوب ، وقال ابن كثير : تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة في مقابلة ما ذكر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان ثم قال : (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ).

٣٠٨

وقال صاحب الظلال : (وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين : حزب الله وحزب الشيطان. وإلى رايتين اثنتين : راية الحق وراية الباطل. فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق ، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل ... وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان!!

لا نسب ولا صهر ، ولا أهل ولا قرابة ، ولا وطن ولا جنس ، ولا عصبية ولا قومية ... إنما هي العقيدة ، والعقيدة وحدها. فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله. تختلف ألوانهم وتختلف أو طانهم ، وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم ، ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله ، فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة. ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل ، فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة. لا من أرض ، ولا من جنس ، ولا من وطن ، ولا من لون ، ولا من عشيرة ، ولا من نسب ، ولا من صهر ... لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فأنبتت هذه الوشائج جميعا.

ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة ، مما تعالجه هذه الآية في النفوس ، وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم ، والمفاصلة القاطعة ... إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة ، ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام).

كلمة في السياق :

عرفنا من الآية الأخيرة أن المودة لمن حارب الله ورسوله لا تجتمع مع الإيمان ، وهذه القضية من أهم القضايا التي غفل عنها مسلمو القرن الأخير ؛ فترتب عليها ما ترتب ، والملاحظ أن كلمة حزب الله لم ترد في القرآن إلا مرتين ، مرة في معرض الكلام عن الولاء في سورة المائدة ، ومرة في معرض الكلام عن المودة في سورة المجادلة فلا يكون الإنسان من حزب الله إلا إذا صفت مودته ، وصفى ولاؤه للمؤمنين ، وحجب ولاءه ومودته عن الكافرين والمنافقين والفاسقين.

٣٠٩

وقد سبق المقطع الأخير في السورة بفقرة تتحدث عن الولاء مما يشير إلى صلة المودة بالولاء ، وجاء ذلك في سياق السورة التي تحرر من أخلاق الفاسقين ، وتوضح أخلاق المؤمنين ، وهذا المقطع الأخير بين لنا كيف ينبغي أن يكون الموقف من الفاسقين جميعا ، ولذلك صلاته بمحور السورة.

الفوائد :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) وفي سبب نزولها قال ابن كثير : «روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عزوجل (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) إلى آخر الآية ، وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقا ، وأخرجه النسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير من غير وجه عن الأعمش به. وفي رواية لابن أبي حاتم عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : تبارك الذي أوعى سمعه كل شىء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكل مالي وأفنى شبابي ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) قالت : وزوجها أوس بن الصامت).

٢ ـ بمناسبة الكلام عن الظهار قال النسفي : (والظهار أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، وإذا وضع موضع أنت عضوا منها يعبر به عن الجملة ، أو مكان الظهر عضوا آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ ، أو مكان الأم ذات رحم محرم منه بنسب ، أو رضاع ، أو صهر ، أو جماع ، نحو أن يقول : أنت علي كظهر أختي من الرضاع ، أو عمتي من النسب ، أو امرأة ابني أو أبي ، أو أم امرأتي أو ابنتها فهو مظاهر ، وإذا امتنع المظاهر من الكفارة ، للمرأة أن ترافعه ، وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر ، وأن يحبسه ولا شىء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار ، لأنه يضر بها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع ، فإن مس قبل أن يكفر استغفر الله ولا يعود حتى يكفر ، وإن أعتق بعض الرقبة ثم مس عليه أن يستأنف عند أبي حنيفة رضي الله عنه).

٣١٠

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) قال ابن كثير : (وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال : «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال رأيت خلخالها في ضوء القمر قال : «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عزوجل» وقال الترمذي : حسن غريب صحيح ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلا قال النسائي : وهو أولى بالصواب).

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال الألوسي : (وقال ناصر الدين البيضاوي : أو يضعون أو يختارون حدودا غير حدود الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور.

قال المولى شيخ الإسلام سعد الله جلبي : وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورا خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون ، والله تعالى المستعان على ما يصفون. أ. ه ، وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله : وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين رحمه‌الله تعالى رسالة في كفر من يقول : يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما ، وقد قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل).

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) قال النسفي : (وتخصيص الثلاثة والخمسة لأنها نزلت في المنافقين وكانوا يتحلقون للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ، وقيل ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عدديهم ولا أكثر إلا والله معهم يسمع ما يقولون ، ولأن أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب وأول عددهم الاثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال ، فذكر ـ عزوجل ـ الثلاثة والخمسة وقال : ولا أدنى من ذلك فدل على الاثنين والأربعة وقال ولا أكثر فدل على ما يقارب هذا العدد).

٦ ـ في سبب نزول قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) قال ابن كثير : (قال ابن أبي نجيح عن مجاهد (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) قال : اليهود ، وكذا قال مقاتل ابن حيان وزاد كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين اليهود موادعة وكانوا إذا مر بهم الرجل من

٣١١

أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن ، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم فنهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ)).

٧ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) قال ابن كثير : (روى ابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة : وعليكم السام قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» قلت : ألا تسمعهم يقولون السام عليك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو ما سمعت أقول وعليكم؟» فأنزل الله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم : عليكم السام والذام واللعنة وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا»).

٨ ـ بمناسبة قوله تعالى حكاية عن قول المنافقين : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) قال ابن كثير : (وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سام عليكم ثم يقولون في أنفسهم : لو لا يعذبنا الله بما نقول؟ فنزلت هذه الآية (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) إسناد حسن ولم يخرجوه).

٩ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) قال ابن كثير : (وروى الإمام أحمد عن صفوان بن محرز قال : كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال : كيف سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة).

٣١٢

١٠ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قال ابن كثير : (وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن ، كما روى الإمام أحمد عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه» أخرجاه من حديث الأعمش. وروى عبد الرزاق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه» انفرد بإخراجه مسلم). قال الألوسي : (مثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان ذلك يحزنه).

١١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) قال ابن كثير : (يقول تعالى مؤذنا عباده المؤمنين وآمرا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) وقرىء «في المجلس» (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) وذلك أن الجزاء من جنس العمل كما جاء في الحديث الصحيح : «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» وفي الحديث الآخر : «من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» ولهذا أشباه كثيرة).

١٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) قال الألوسي : (وعمم الحكم فقيل : إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه : قوموا ينبغي أن يجاب ، وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه ، نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه ، فقد أخرج مالك ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا»).

١٣ ـ وبمناسبة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر ابن الخطاب بعسفان ـ وكان عمر استعمله على مكة ـ فقال له عمر : من استخلفت على أهل الوادي؟ قال : استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا ، فقال عمر : استخلفت عليهم مولى؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنه قارىء لكتاب الله ، عالم بالفرائض ،

٣١٣

قاص ، فقال عمر رضي الله عنه : أما إن نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال : «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما ويضع به آخرين» وهكذا رواه مسلم من غير وجه عن الزهري به ، وروي من غير وجه عن عمر بنحوه).

وقال النسفي : (عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال : يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عبادة العالم يوما واحدا تعدل عبادة العابد أربعين سنة». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء». فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : خير سليمان عليه‌السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوحى الله إلى إبراهيم عليه‌السلام يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم». وعن بعض الحكماء : ليت شعري أي شىء أدرك من فاته العلم ، وأي شىء فات من أدرك العلم. وعن الزبيري : العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال ، والعلوم أنواع فأشرفها أشرفها معلوما).

وقال الألوسي : (واستدل غير واحد بالآية على تقديم العالم ولو باهليا شابا ، على الجاهل ولو هاشميا شيخا ، وهو بناء على ما تقدم من معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين ، وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه ، ويجعل منزلته فوق منزلته ، فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل.

وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم : معنى الآية : يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم ، فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس ، والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى).

١٤ ـ بمناسبة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قال ابن كثير : (وقد قيل إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : نهوا عن مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يتصدقوا ، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب قدم دينارا صدقة تصدق به ثم ناجى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن عشر خصال ، ثم أنزلت الرخصة ، وقال ليث ابن أبي سليم عن مجاهد قال علي رضي الله عنه : آية في كتاب الله عزوجل لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ؛ كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا

٣١٤

ناجيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصدقت بدرهم ، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، ثم تلا هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) الآية. وروى ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترى ، دينار؟» قال : لا يطيقون قال : «فنصف دينار» قال : لا يطيقون قال : «ما ترى؟» قال : شعيرة فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك لزهيد» قال فنزلت (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) قال علي : خفف الله عن هذه الأمة ، ورواه الترمذي ... عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) إلى آخرها قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترى ، دينار؟» قال : لا تطيقونه وذكره بتمامه مثله ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه ثم قال : ومعنى قوله شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب ورواه أبو يعلى).

١٥ ـ بمناسبة قوله تعالى في المنافقين : (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) قال ابن كثير : (وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حدثه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين قد كاد تقلص عنهم الظل قال : «إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه» فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلمه فقال : «علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟» ـ نفر دعاهم بأسمائهم ـ قال : فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه قال : فأنزل الله عزوجل (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ). وهكذا رواه الإمام أحمد من طريقين عن سماك به ورواه ابن جرير ، وأخرجه أيضا من حديث سفيان الثوري عن سماك بنحوه إسناد جيد ولم يخرجوه وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ* انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)).

١٦ ـ بمناسبة قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) قال النسفي : (قال شاه الكرماني : علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والمشارب والملابس ، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها ، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبهتان ، ويشغل

٣١٥

لبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها).

١٧ ـ بمناسبة قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) قال الألوسي : (أي : بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما ، ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم‌السلام في أزمنتهم غالبا ، فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح. وقوم صالح. وقوم لوط. وغيرهم ، والحرب بين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين وإن كانت سجالا إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة والسلام ، وكذا لأتباع الرسل بعدهم ، لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصا لله ـ عزوجل ـ لا لطلب ملك ، وسلطنة ، وأغراض دنيوية ، فلا تكاد تجد مجاهدا كذلك إلا منصورا غالبا ، وخص بعضهم الغلبة بالحجة لاطرادها وهو خلاف الظاهر ، ويبعده سبب النزول ، فعن مقاتل : لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين ، والطائف ، وخيبر وما حولها قالوا : نرجو أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال عبد الله بن أبي : أتظنون الروم ، وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على نصر رسله (عَزِيزٌ) لا يغلب على مراده عزوجل).

١٨ ـ عند قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) قال ابن كثير : (وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره أنزلت هذه الآية (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى آخرها في أبي عبيدة عامر ابن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر ، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة رضي الله عنهم : ولو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته ، وقيل في قوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر (أَوْ أَبْناءَهُمْ) في الصديق هم يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن (أَوْ إِخْوانَهُمْ) في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا ، وفي حمزة وعلي وعبيدة ابن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ فالله أعلم).

قال ابن كثير : (ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين في أسارى بدر فأشار الصديق بأن يفادوا فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين ، وهم بنو

٣١٦

العم والعشيرة ، ولعل الله تعالى أن يهديهم ، وقال عمر : لا أرى ما رأى يا رسول الله ، هل تمكنني من فلان ـ قريب لعمر ـ فأقتله ، وتمكن عليا من عقيل ، وتمكن فلانا من فلان ، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين القصة بكمالها).

١٩ ـ وبمناسبة الآية الأخيرة في السورة قال ابن كثير : (وقد روى ابن أبي حاتم أنه كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري : اعلم أن الجاه جاهان : جاه يجريه الله تعالى على أيدي أوليائه لأوليائه ، وأنهم الخامل ذكرهم ، الخفية شخوصهم ، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

٢٠ ـ وبمناسبة الآية الأخيرة في السورة قال ابن كثير : (وقد روى ابن أبي حاتم عنه عليه الصلاة والسلام : «إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يدعوا ، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة» فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وروى نعيم بن حماد ... عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة فإني وجدت فيما أو حيته إلي (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)» قال سفيان : يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان. رواه أبو أحمد العسكري).

وقال النسفي : (وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان. وعن عبد العزيز بن أبي رواد أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها ، وقال سهل : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس بمبتدع ولا يجالسه ، ويظهر له من نفسه العداوة ، ومن داهن مبتدعا سلبه الله حلاوة السنن ، ومن أجاب مبتدعا لطلب عز الدنيا أو غناها أذله الله بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه ومن لم يصدق فليجرب).

وقال الألوسي : (وأخرج أحمد ، وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا : «أو ثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله». وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «اللهم لا تجعل لفاجر ـ وفي رواية ـ ولا لفاسق علي يدا ولا نعمة فيوده قلبي ، فإني وجدت فيما أوحيت إلي (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)» وحكى الكواشي عن سهل أنه قال : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع

٣١٧

ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ، ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء ، ومن داهن مبتدعا سلبه الله حلاوة السنن ، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضا منها ، أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور الإيمان من قلبه ، ومن لم يصدق فليجرب انتهى.

ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة ـ وليس منهم ولا قلامة ظفر ـ يوالي الظلمة ؛ بل من لا علاقة له بالدين منهم ، وينصرهم بالباطل ، ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس ، وإذا تليت عليه آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول : سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس‌سره وأذهب ظلمته ـ إن كانت ـ بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته ، وهذا لعمري هو الضلال البعيد ، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء).

كلمة أخيرة في سورتي الحديد والمجادلة :

سورتا الحديد والمجادلة شكلتا مجموعة واحدة وفصلتا في الآيات السبع والعشرين الأولى من سورة البقرة كما رأينا ، وتكاملتا فيما بينهما ؛ فسورة الحديد عمقت قضية الإيمان بالله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمرت بذلك وربت عليه ، وذكرت المعاني التي توصل إلى الإيمان بالله والرسول ، وجاءت سورة المجادلة لتبين أن الحكمة في تشريع الأحكام تعميق الإيمان بالله والرسول ، وذكرت نماذج من محاربة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمواقف المقابلة لذلك ، فعمقت السورتان بذلك تصوراتنا عن التقوى والفسوق ، وعن الإيمان والكفر والنفاق ضمن سياق خاص لكل منهما ، وقد رأينا تفصيل ذلك كله وبعد سورة المجادلة تأتي مجموعة ثالثة من قسم المفصل تتألف من سورتين ، وسنرى أن المجموعة اللاحقة تكمل مع المجموعتين السابقتين عملية البناء ، وتتكامل معهما ومع ما بعدها ، كل ذلك بنظام عجيب ، وتداخل مدهش ، مع سياق خاص ، ووحدة خاصة. فلنر المجموعة الثالثة.

٣١٨

المجموعة الثالثة

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سورتي :

(الحشر ، والممتحنة)

٣١٩

كلمة في المجموعة الثالثة من قسم المفصل

هذه المجموعة تكمل ما قبلها بشكل واضح ؛ فقد ختمت سورة المجادلة بقوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ* لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) وتأتي سورة الحشر لترينا مظهرا من مظاهر نصرة الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولترينا مظاهر من اتخاذ أعداء الله أولياء. سورة الحديد فصلت في موضوع النفاق ، وجاءت سورة المجادلة فأكملت ، وستأتي سورة الحشر لتزيد موضوع النفاق تفصيلا ، وتأتي سورة الممتحنة لتحذر من السير في طريق النفاق.

وظاهر منذ سورة الحديد أن السور المبدوءة بصيغ (سبح يسبح) إذا جاءت بعد سور لا تظهر فيها هذه الصيغة ، فهي تدل على أنها بدايات مجموعات تفصل في أوائل سورة البقرة ، وهذا واضح جدا من خلال التأمل للمعاني ، ولتسلسل السور وبداياتها.

تأتي سورة الحديد مبدوءة بقوله تعالى : (سَبَّحَ) ثم تأتي سورة المجادلة مبدوءة بقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ) ثم تأتي سورة الحشر مبدوءة بقوله تعالى : (سَبَّحَ) ثم تأتي سورة الممتحنة مبدوءة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ثم تأتي سورة الصف مبدوءة بقوله تعالى : (سَبَّحَ) ثم سورة الجمعة مبدوءة بقوله تعالى : (يُسَبِّحُ) ثم تأتي سورة المنافقون مبدوءة بقوله تعالى : (إِذا) ثم تأتي سورة التغابن مبدوءة بقوله : (يُسَبِّحُ) ثم تأتي سورتا الطلاق والتحريم مبدوأتين بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ... فعلامة بداية المجموعة وجود الفعل سبح أو يسبح ، وكل تفصيل لا حق لسورة البقرة يكمل التفصيل السابق بالنسبة للقسم الواحد وبالنسبة للقرآن كله.

وواضح أن سورة الحشر تفصل في مقدمة سورة البقرة ، وأن سورة الممتحنة تفصل في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة ، وهي السمة الغالبة التي تشترك بها مجموعات قسم المفصل ، فكلها تقريبا تفصل ضمن هذه الحدود من سورة البقرة.

٣٢٠