الأساس في التفسير - ج ١٠

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١٠

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

المجموعة الثانية

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سورتي :

(الحديد ، والمجادلة)

٢٤١

كلمة في المجموعة الثانية من قسم المفصل

تبدأ سورة الحديد بقوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثم تأتي بعدها سورة المجادلة ، وهي تبدأ بقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ) ثم تأتي بعدها سورة الحشر وهي تبدأ كسورة الحديد بقوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.) ثم تأتي بعدها سورة الممتحنة وهي تبدأ بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) ثم تأتي سورة الصف ... وهي تبدأ كما بدأت سورة الحديد بقوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ثم تأتي سورة الجمعة وهي تبدأ بقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ثم تأتي سورة المنافقون وهي تبدأ بقوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ...) ثم تأتي سورة التغابن وبدايتها شبيهة ببداية سورة الحديد (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) ومن استقراء المعاني نجد أننا أمام عدة مجموعات كل مجموعة تبدأ بسورة فاتحتها كلمتا (سبح أو يسبح) ، والمجموعة الثالثة منها تتألف من ثلاث سور في : الصف ، والجمعة ، والمنافقون ، وكل من سورتي الصف والجمعة تبدأ ب (سبح ، يسبح) مع أنهما في مجموعة واحدة ، فنحن في زمرة المسبحات أمام أربع مجموعات ، المجموعة الأولى منها هي مجموعة الحديد والمجادلة وهي المجموعة الثانية من قسم المفصل.

تفصل مجموعة الحديد والمجادلة في الآيات السبع والعشرين الأول من سورة البقرة كما سنرى ، فتبرز لنا الكثير من معاني الإيمان والكفر والنفاق ، وما ينبثق عن كل ، وما يستلزمه كل من معان.

وهذه المجموعة هي الأولى من مجموعات زمرة المسبحات التي تقدم كل منها تفصيلا جديدا لمعان في سورة البقرة ، والتي تتكامل مع بعضها لتأخذ محلها في تكامل قسم المفصل.

٢٤٢

سورة الحديد

وهي السورة السابعة والخمسون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الأولى من المجموعة الأولى من قسم

المفصل ، وهي تسع وعشرون آية

وهي مدنية

٢٤٣

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٢٤٤

بين يدي سورة الحديد :

قدم الألوسي لسورة الحديد بقوله : (أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة ، وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له ، فقد قال قوم : إنها مكية ، نعم الجمهور ـ كما قال ابن الفرس ـ على ذلك.

وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا ، لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا ، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي ، وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم ، فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد ، فقرأه حتى بلغ (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) فأسلم ، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم ، والنسائي ، وابن ماجه. وغيرهم عن ابن مسعود : ما كان بين أسلامنا وبين أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) إلا أربع سنين. وأخرج الطبراني ، والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى بها إلا أربع سنين (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ ...) الآية).

(ووجه اتصالها ـ بالواقعة ـ أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به ، وكان أولها واقعا موقع العلة للأمر به فكأنه قيل : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) لأنه سبح له ما في السموات والأرض ، وجاء في فضلها مع أخواتها ما أخرجه الإمام أحمد ؛ وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ، وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير ثم قال : قال يحيى : نراها الآية التي في آخر الحشر).

وقال ابن كثير : والآية المشار إليها في الحديث هي ـ والله أعلم ـ قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة الحديد : (هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي تحقق في ذاتها حقيقة إيمانها. هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله ؛ فلا تضن عليها بشىء ، ولا تحتجز دونها شيئا ... لا الأرواح ولا الأموال ؛

٢٤٥

ولا خلجات القلوب ولا ذوات الصدور .. وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض. موازينها هي موازين الله ، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين. كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب [بالله] ، فتخشع لذكره ، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه).

كلمة في سورة الحديد ومحورها :

نلاحظ أن سورة الحديد تبدأ بالكلام عن الله عزوجل ثم تبني على ذلك ، فتأمر بالإيمان والإنفاق ، وتنكر على من لا يؤمن ولا ينفق ، ثم تحض على الإنفاق ، ثم تنتقل من موضوع إلى موضوع حتى تصل إلى موضوع إرسال الرسل والحكمة فيه ، وموقف الناس منهم ، وبعض الاتجاهات الغالية عند بعض أتباعهم ، وتنتهي بالأمر بالتقوى والإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتتعرض السورة في سياقها لقضايا الإيمان بالله والرسل والكتب واليوم الآخر والقدر ، كما تتعرض للنفاق وأسبابه وآثاره ، وعقوبة أهله ، وتركز على الإيمان بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذا كانت مقدمة سورة البقرة تتحدث عن المتقين والكافرين والمنافقين فإن سورة الحديد تعمق تصورنا لقضية الإيمان والنفاق والكفر ضمن سياقها.

تتألف سورة الحديد من مقدمة ، ومقطع ، وخاتمة.

المقدمة تتحدث عن الله عزوجل.

والمقطع يأمر بالإيمان بالله والرسول والإنفاق.

والخاتمة تأمر بالتقوى والإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحدثنا عما وعد الله المتقين.

٢٤٦

مقدمة السورة

وتمتد من الآية (١) إلى نهاية الآية (٦) وهذه هي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

التفسير :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال النسفي : أي : مما يتأتى منه التسبيح ، ويصح وقال ابن كثير : أي : من الحيوانات والنباتات. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي خضع له كل شىء وقال النسفي : (أي : المنتقم من مكلف لم يسبح له عنادا) (الْحَكِيمُ) في خلقه وأمره وشرعه (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فليس لغيره فيهما أدنى ملك (يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي : يحيي الموتى ويميت الأحياء (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (هُوَ الْأَوَّلُ) أي : القديم الذي كان قبل كل شىء (وَالْآخِرُ) أي : الباقي فلا يطرأ عليه فناء ولا عدم (وَالظَّاهِرُ) قال النسفي : بالأدلة الدالة عليه. (وَالْباطِنُ) قال النسفي : لكونه غير مدرك

٢٤٧

بالحواس (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا شىء إلا وهو معلوم له إجمالا وتفصيلا. (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وذلك من مظاهر قدرته ودليل مالكيته (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي : ما يدخل فيها من غيرها كالأشعة والنيازك والملائكة ، أو ما يدخل في تربتها من حب ومطر وموتى ، وغير ذلك (وَما يَخْرُجُ مِنْها) إلى غيرها من أرواح وملائكة وأقمار صناعية ومراكب فضائية ، أو ما يخرج من تربتها من نبات وزرع وثمار (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من ملائكة وأمر (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الملائكة والأرواح والأعمال والدعوات (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) قال النسفي : (بالعلم والقدرة عموما وبالفضل والرحمة خصوصا).

أقول : بعد أن حدثنا في أول الآية عن مظاهر قدرته حدثنا فيما بعد ذلك عن مظاهر علمه ، ثم ختم الآية بقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قال ابن كثير : (أي : رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم ، من بر أو بحر ، في ليل أو نهار ، في البيوت أو في القفار ، الجميع في علمه على السواء ، وتحت بصره وسمعه فيسمع كلامكم ويرى مكانكم ويعلم مكانكم ويعلم سركم ونجواكم ...). قال النسفي : فيجازيكم على حسب أعمالكم (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كرر ذكر مالكيته بعد أن ذكر دليل ذلك ليتوصل إلى تقرير رجوع الأمور كلها إليه فقال : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أمور الدنيا والآخرة ، فكلها مرجعها إليه ، لأنه وحده المالك المتصرف ، ثم دلل على مالكيته مرة ثانية فقال : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) قال النسفي : (أي : يدخل الليل في النهار ، بأن ينقص من الليل ويزيد من النهار ، ويدخل النهار في الليل بأن ينقص من النهار ويزيد من الليل) وكل ذلك على أدق ما يكون وبما يحقق لمجموع سكان الكرة الأرضية من المصالح ما لا يحاط به. قال ابن كثير : (أي : هو المتصرف في الخلق ، يقلب الليل والنهار ، ويقدر هما بحكمته كما يشاء ، فتارة يطول الليل ويقصر النهار ، وتارة بالعكس ، وتارة يتركهما معتدلين ، وتارة يكون الفصل شتاء ثم ربيعا ثم صيفا ثم خريفا وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه) (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : يعلم السرائر وإن دقت وإن خفيت ، ومن كان هذا شأنه فلا شك أن مرجع الأمور كلها إليه سبحانه ، وبهذا انتهت المقدمة بعد أن دللت على مالكية الله للأشياء كلها ، وعلى إحاطة قدرته وعلمه ، وعلى قدمه وبقائه ، وعلى ظهوره وبطونه ، وعلى أنه وحده المتصرف ، وأن مرجع الأمور إليه ، وقدم لذلك بذكر تسبيح الأشياء له وأنه العزيز الحكيم وهذا كله يأتي كمقدمة للسورة

٢٤٨

التي تأمر بالإيمان بالله ورسوله وتأمر بالإنفاق.

كلمة في السياق :

١ ـ إن الإيمان بالغيب عليه مدار الإسلام كله ، والإيمان بالله هو مرتكز الإيمان بالغيب ؛ فمنه يتفرع الإيمان بالرسل ، وعن الإيمان بالله والرسل يتفرع الإيمان بالملائكة الذين هم الواسطة بين الله والرسل ، وعن الإيمان بالله يتفرع الإيمان باليوم الآخر والقدر ، وعن الإيمان بالله والرسل يتفرع الإيمان بالكتب ، ومن ثم نلاحظ أن السورة قدمت بالتعريف على الله وصفاته.

٢ ـ سيأتي بعد هذه المقدمة مباشرة أمر بالإيمان بالله والرسول والإنفاق ، مما يشير إلى أن المقدمة ذكرت الأساس الذي يقوم عليه الإيمان بالله والرسول والإنفاق ، فإنفاق المسلم أثر عن إيمانه بمالكية الله للأشياء كلها ، ومن ثم فهو يتصرف في المال بما يتفق وأمر الله ـ عزوجل ـ الذي هو المالك الأصيل.

٣ ـ وصفت مقدمة سورة البقرة المتقين بأنهم : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

وقد حدثتنا مقدمة سورة الحديد عن أصل من الأصول في موضوع الإيمان بالغيب ، وعن الأصل الذي ينبثق عنه موضوع الإنفاق ، وكل ذلك مقدمة مباشرة للأمر بالإيمان بالله ورسوله أي : بالشهادتين اللتين تتضمنان أركان الإيمان ، ومقدمة للأمر بالإنفاق الذي هو علامة الإيمان وبرهانه كما قال عليه الصلاة والسلام «والصدقة برهان».

٤ ـ نلاحظ أن سورا كثيرة فيما سبق من قسم المفصل ركزت على موضوع الصلاة بشكل أوسع مما ركزت فيه على موضوع الإنفاق ، كما رأينا ذلك في سورة الذاريات والطور والنجم ، ومن ثم نلاحظ أن هذه المجموعة وهي الثانية في قسم المفصل تركز على موضوع الإنفاق أكثر مما تركز على موضوع الصلاة ، وهذا نوع من التكامل بين مجموعات المفصل ، ومظهر من مظاهر التنوع في الدعوة إلى المعاني التي تضمنتها مقدمة سورة البقرة.

٥ ـ نلاحظ أن المقطع الرئيسي في السورة ـ الذي يأتي بين مقدمة السورة وخاتمتها ـ بدأ بالأمر بالإيمان بالله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإنفاق ، ثم ركز على هذه النقاط

٢٤٩

الثلاث بشكل رئيسي ، وجاءت خاتمة السورة لتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) وهذا كله يشير إلى أن قضية الإيمان بالله والرسول والإنفاق في سبيل الله هي المسار الرئيسي للسورة ، وإذ كان الإيمان يقابله كفر ونفاق ، فإن للكفر والنفاق ذكرا في السورة كما هما مذكوران في مقدمة سورة البقرة.

٢٥٠

المقطع الأول

ويمتد من الآية (٧) إلى نهاية الآية (٢٧) وهذا هو :

الفقرة الأولى

المقدمة

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

المجموعة الأولى من الفقرة الأولى

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩))

المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

(وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ

٢٥١

وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

الفقرة الثانية

المقدمة

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦))

المجموعة الأولى من الفقرة الثانية

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا

٢٥٢

أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

المجموعة الثانية من الفقرة الثانية

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

المجموعة الثالثة من الفقرة الثانية

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا

٢٥٣

فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧))

ملاحظة في السياق :

يبدأ المقطع بآية تأمر بالإيمان بالله والرسول ، وتأمر بالإنفاق ، وتبين ما أعد الله للمؤمنين المنفقين ، ثم يبدأ المقطع يناقش ويدعو ، وسنعرض المقطع على أنه فقرتان : الفقرة الأولى منه تتألف من مقدمة ومجموعتين.

الفقرة الأولى

تفسير مقدمة الفقرة الأولى :

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : صدقوا بهما (وَأَنْفِقُوا) يدخل في ذلك الزكاة والصدقات والإنفاق في سبيل الله (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) قال النسفي : (يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها ، وإنما مولكم إياها للاستمتاع بها ، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فليست هي بأموالكم في الحقيقة ، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى ، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه ، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيها في أيديكم بتوريثه إياكم وسينقله منكم إلى من بعدكم فاعتبروا بحالهم ولا تبخلوا به). (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بالله ورسوله (وَأَنْفِقُوا) في سبيل الله (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) عند الله تعالى.

٢٥٤

كلمة في السياق :

١ ـ في مقدمة سورة البقرة وصف الله المتقين بأنهم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ووصفهم بأنهم (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وههنا في سورة الحديد أمر بالإيمان بالله ورسوله ، والأمر بالإيمان بهما أمر بالشهادتين ، وهذا الذي كان يركز عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ كان يدعو إلى الشهادتين ويعتبر هما رمز الدخول في الإسلام ، وما ذلك إلا لأن الشهادتين يدخل في مضمونهما كل أركان الإيمان ، فمن آمن بالله والرسول آمن بالملائكة الذين هم الواسطة بين الله والرسل ، ومن آمن بالرسول آمن بالوحي والكتب ، ومن آمن بالله آمن بالقدر ، لأن الإيمان بالقدر فرع الإيمان بالله ، ومن آمن بالله والرسول آمن باليوم الآخر ، ومن ثم ندرك أن الأمر بالإيمان بالله والرسول نوع تفصيل لموضوع الإيمان بالغيب ، وأن يرافق الأمر بالإيمان بالله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمر بالإنفاق. فذلك يبين أهمية الإنفاق في دين الله عزوجل ، وهو موضوع عرفت أهميته واقعيا بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ارتد من ارتد ، وكان سبب ردة بعض هؤلاء إرادتهم النكوص عن الإنفاق.

٢ ـ رأينا أن الآية الأولى من المقطع أمرت بالإيمان بالله والرسول ، ثم أمرت بالإنفاق والآن تأتي مجموعتان : مجموعة تحض على الإيمان بالله ، ومجموعة تحض على الإنفاق.

تفسير المجموعة الأولى :

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي : وأي عذر لكم في ترك الإيمان بالله (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) قال ابن كثير : أي : وأي شىء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم يدعو كم إلى ذلك ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) أي : وقد أخذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميثاقكم بالبيعة ، هكذا فسرها ابن كثير ، وذهب مجاهد وهو الذي اعتمده ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : مصدقين قال النسفي : (أي : وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أو بما ركب فيكم من العقول ، ومكنكم من النظر في الأدلة فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون إن كنتم مؤمنين لموجب ما؟ فإن هذا الموجب

٢٥٥

لا مزيد عليه). (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي حججا واضحات ، ودلائل باهرات ، وبراهين قاطعات يعني في هذا القرآن (لِيُخْرِجَكُمْ) الله أو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعوته بهذا القرآن (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي : من ظلمات الكفر والشك والحيرة إلى نور الإيمان واليقين ، قال ابن كثير : أي : من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي : كثير الرأفة كثير الرحمة قال ابن كثير : أي : في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس وإزاحة العلل وإزالة الشبه.

كلمة في السياق :

١ ـ استدل عليهم للإيمان بالله بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما استقر في فطرهم ، وبما أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن ، فحال الرسول يدل على الله ، والقرآن يدل على الله ، وما ركب في الفطرة من بداهة الاعتراف بوجود الله يدل على الله ، فكيف بعد ذلك كله يتأبى الإنسان عن الإيمان بالله! ، وقد دللنا في سلسلة الأصول الثلاثة ، على أن النظر العقلي في الكون يدل على الله ، وعلى أن ظواهر القرآن تدل على الله ، وعلى أن حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أظهر الله على يديه من المعجزات يدل على الله ، وهذه المجموعة تذكر هذا كله ههنا كأدلة توصل إلى الإيمان بالله ، وفي معرض ذلك ذكرت قضية الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كبديهية من البديهيات بسبب ما أنزل الله عليه من البينات. فالآية الأولى من المقطع أمرت بالإيمان بالله والرسول ، وأمرت بالإنفاق ، وجاءت المجموعة الأولى من الفقرة الأولى فحثت على الإيمان بالله ، والآن ستأتي مجموعة ثانية تحث على الإنفاق ولم تأت مجموعة خاصة بالإيمان بالرسول ؛ لأن المجموعة التي حثت على الإيمان بالله تحدثت ضمنا عما يوجب الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ تبدأ الآيات الأولى من سورة البقرة والتي هي محور سورة الحديد بقوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، وقد جاء في المجموعة التي مرت معنا قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) وفي ذلك تقرير لكون هذا القرآن منزلا من عند الله ، وأنه منزه عن الريب ، وأن فيه الهداية ، وأنه يدل على الله. فصلة ما جاء في المجموعة الأولى من الفقرة الأولى بمحور السورة واضحة.

٢٥٦

٣ ـ ثم تأتي المجموعة الثانية في الفقرة الأولى من المقطع وفيها حث على الإنفاق ، قال ابن كثير : (ولما أمرهم أولا بالإيمان والإنفاق ، ثم حثهم على الإيمان وبين أنه قد أزال موانعه ، حثهم على الإنفاق).

تفسير المجموعة الثانية :

(وَما لَكُمْ) في (أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : في طريقه ، أي : في طريق الجهاد لإعلاء دينه (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال النسفي : (أي : يرث كل شىء فيهما ، لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره ، يعني : وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله مهلككم فوارث أموالكم ، وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله ، ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي : فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله ، ودخول الناس في دين الله أفواجا ، ومن أنفق من بعد الفتح بدلالة ما بعده عليه (أُولئِكَ) أي : الذين أنفقوا من قبل الفتح (أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) أي : من بعد الفتح (وَقاتَلُوا) في سبيل الله (وَكُلًّا) أي : كل واحد من الفريقين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي : المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي : فيجازيكم على قدر أعمالكم. قال ابن كثير : (أي : فلخبرته عزوجل فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن فعل ذلك بعد ذلك ، وما ذاك إلا لعلمه سبحانه وتعالى بقصد الأول وإخلاصه التام ، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق) ، ثم هيج الله عزوجل على الإنفاق بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي : بطيب نفسه ومراده الإنفاق في سبيله قال النسفي : (واستعير لفظ القرض ليدل على التزام الجزاء وقال عمر ابن الخطاب في الآية : هو الإنفاق في سبيل الله). أقول : وهو الذي يشهد له السياق قال ابن كثير : وقيل هو النفقة على العيال والصحيح أنه أعم من ذلك ، فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) أي : يعطيه أجره على إنفاقه أضعافا مضاعفة من فضله (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) قال النسفي : أي : وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه. وقال ابن كثير : أي : جزاء جميل ، ورزق باهر وهو الجنة يوم القيامة ، ثم بين الله عزوجل متى يكون ذلك ، وأنه يكون في اليوم الذي لا تقبل فيه فدية من كافر أو منافق ، عندئذ يوفى

٢٥٧

هؤلاء المؤمنون أجرهم هذا أحوج ما يكونون إليه. (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي : لهؤلاء المؤمنين المقرضين الله قرضا حسنا أجر كريم ، يوم ترى المؤمنين والمؤمنات (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي : يوم القيامة بحسب أعمالهم وفي الآية إشعار بأن هذا النور كان لهم جزاء إيمانهم ، ومن السياق نعرف أن من أعمالهم التي استحقوا بها ذلك الإنفاق. قال ابن كثير : (يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين المتصدقين أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة بحسب أعمالهم ...). قال النسفي : وإنما قال : (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم ، فيجعل النور في الجهتين شعارا لهم وآية ، لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا ، وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون ، سعى بسعيهم ذلك النور ، وتقول لهم الملائكة : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي : دخول جنات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وأي فوز أعظم من دخول الجنة ، وكأن السياق يقول : أيها المؤمنون أنفقوا لتكونوا من هؤلاء ثم قال تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) أي : للمنفقين في سبيل الله أجر كريم ، يوم يقول المنافقون والمنافقات (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا) أي : انتظرونا ، لأن أهل الإيمان يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي : انتظرونا لنلحق بكم فنستنير بنوركم (قِيلَ) أي : تقول لهم الملائكة أو المؤمنون طردا لهم وتهكما بهم (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أي : إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور ، أو ارجعوا إلى الدنيا (فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي : فالتمسوا النور هنالك بتحصيل سببه وهو الإيمان وليسوا بقادرين (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) أي : بين المؤمنين والمنافقين (بِسُورٍ) أي : بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار قال النسفي : قيل هو الأعراف (لَهُ بابٌ) أي : لذلك السور باب لأهل الجنة يدخلون منه (باطِنُهُ) أي : باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة (فِيهِ الرَّحْمَةُ) أي : النور أو الجنة (وَظاهِرُهُ) أي : ما ظهر لأهل النار (مِنْ قِبَلِهِ) أي : من عنده وفي جهته (الْعَذابُ) أي : الظلمة أو النار (يُنادُونَهُمْ) أي : ينادي المنافقون المؤمنين (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أي : في الدنيا؟ يريدون مرافقتهم في الظاهر وادعاءهم أنهم معهم بلسانهم (قالُوا) أي : المؤمنون (بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي : أحرقتموها بالنفاق وأهلكتموها (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي : بالمؤمنين الدوائر (وَارْتَبْتُمْ) في التوحيد والقرآن والبعث (وَغَرَّتْكُمُ

٢٥٨

الْأَمانِيُ) أي : الآمال والطمع في الجاه والدنيا (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي : الموت (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي : الشيطان ، أي : وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم ، أو بأنه لا بعث ولا حساب (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ) أيها المنافقون (فِدْيَةٌ) أي : ما يفتدى به (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : لا يؤخذ منهم فدية كذلك (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي : هي مصيركم وإليها منقلبكم (هِيَ مَوْلاكُمْ) أي : هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار. وكأن السياق يقول : يا أيها المؤمنون والمؤمنات أقرضوا الله بالإنفاق في سبيله ، لتأخذوا نوركم ، وتنجوا بأنفسكم ، وتنالوا أجوركم يوم لا يقبل من كافر ولا منافق فدية.

كلمة في السياق :

١ ـ دعت هذه المجموعة إلى الإنفاق في سبيل الله ، وحضت عليه من خلال التذكير بأن لله ميراث السموات والأرض ، ومن خلال التذكير بحال أهل الإيمان والكفر والنفاق يوم القيامة ، ومن السياق عرفنا أن المنفقين في سبيل الله هم المؤمنون حقا ، وأن النفاق والكفر يرافقهما البخل ، ومن ثم عرفنا سر اقتران الأمر بالإيمان بالله ورسوله ، مع الأمر بالإنفاق في سبيل الله في الآية الأولى من هذا المقطع.

٢ ـ من قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ...) نعلم أن الإيمان الصادق بالله والرسول يرافقهما إنفاق في سبيل الله وجهاد في سبيله.

٣ ـ ومن السياق عرفنا أن الإيمان يقابله الكفر والنفاق ، وعرفنا من صفات المنافقين : أ ـ الافتتان أي : قبولهم الفتنة عن دين الله بفتنة الكافرين إياهم وارتياحهم لذلك. ب ـ والتربص بانتظار نتائج الصراع بين الكفر والإيمان ، فهم لا يربطون مصيرهم بمصير أهل الإيمان ابتداء. ج ـ والارتياب ، ومن محور السورة نعلم أن الكافرين يرتابون في وجود الله ، وفي وجود اليوم الآخر ، وفي القرآن. د ـ والاغترار بالأماني والتطلعات الدنيوية ، وأن ذلك كله أثر من آثار تغرير الشيطان بهم ، وهكذا عرفنا تفصيلات جديدة عن المنافقين ، زائدة على التفصيلات التي ذكرتها مقدمة سورة البقرة.

٤ ـ مما ذكرته مقدمة سورة البقرة عن المنافقين : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) والملاحظ أن سورة الحديد ذكرت

٢٥٩

أن المنافقين ينادون المؤمنين ويذكرونهم بهذه المعية الكاذبة في الدنيا ، كما ذكرت أنهم لا يستفيدون منها.

٥ ـ ثم تأتي فقرة جديدة نقدم لها بما يلي :

في مقدمة سورة البقرة كلام عن الإيمان كركن في التقوى ، وعن الإنفاق كركن في التقوى ، ويقابل قضية الإيمان الكفر كرفض صريح للإيمان ، والنفاق كرفض للإيمان مع ادعاء له ، وسورة الحديد حتى نهاية المجموعة الثانية التي مرت معنا أمرت بالإيمان ، وأمرت بالإنفاق كعلامة على الإيمان ، وتحدثت عن النفاق والكفر ضمن سياق الأمر بالإيمان والإنفاق كما رأينا ، وبذلك عرفنا تفصيلات عن ركنين في التقوى ، وعما يقابل ذلك وكل ذلك قد مر معنا في الفقرة الأولى من المقطع ، وها هي الفقرة الثانية تبدأ معاتبة من لم يخشع قلبه للقرآن ، ولذلك صلة بقوله تعالى في المحور : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ثم تعود للكلام عن الرسل والكتب والقدر ولذلك صلته بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) كما تتحدث عن الإنفاق في سياق ذلك. إن سورة الحديد تفصيل جديد لمقدمة سورة البقرة : يبدأ من نقطة البداية ؛ التعريف على الله الذي يستتبع إيمانا ، وإنفاقا ، وجهادا ، واهتداء بكتاب الله ، وبعدا عن الصوارف التي تصرف عن ذلك ، فلنر الفقرة الثانية من المقطع ولنا عودة على السياق.

الفقرة الثانية

تفسير مقدمة الفقرة الثانية :

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : ألم يحن للذين آمنوا (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) أي : القرآن (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) أي : القرآن سماه ذكرا ، ووصفه بالحق النازل من السماء لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة ، وأنه حق نازل من السماء. قال ابن كثير : (يقول تعالى : أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي : تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن ، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه) (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل القرآن كاليهود والنصارى (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي : الأجل أو الزمان (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فلم يعد يؤثر فيها كتاب الله بسبب اتباعهم الشهوات. قال ابن كثير : (نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى ، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله

٢٦٠