الأساس في التفسير - ج ١٠

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١٠

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

وحجاب ، وتهدي لها كما تهدي للكعبة ، وتطوف بها كطوافها بها ، وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها ؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه‌السلام ومسجده ، فكانت لقريش ، ولبني كنانة العزى بنخلة ، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم. (قلت) : بعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول :

يا عز كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

قال ابن إسحق : وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سدنتها وحجابها بني معتب. (قلت) : وقد بعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها وجعل مكانها مسجدا بالطائف ، قال ابن إسحق : وكانت مناة للأوس والخزرج ، ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها ، ويقال علي بن أبي طالب ، قال : وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة. (قلت) : وكان يقال لها الكعبة اليمانية التي بمكة الكعبة الشامية ، فبعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه ، قال : وكانت قيس لطي ومن يليها بجبل طي بين سلمى وأجا ، قال ابن هشام : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه ، واصطفى منه سيفين : الرسوب والمخزم ، فنفله إياهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهما سيفا علي ، قال ابن إسحق : وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له ريام وذكر أنه كان به كلب أسود ، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه ، وهدما البيت ، قال ابن إسحق : وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب ابن سعد حين هدمها في الإسلام :

ولقد شددت على رضاء شدة

فتركتها قفرا بقاع أسمحا

قال ابن هشام : إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة وهو القائل :

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وعمرت من عدد السنين مئينا

مائة حدتها بعدها مائتان لي

وعمرت من عدد الشهور سنينا

هل ما بقى إلا كما قد فاتنا

يوم يمر وليلة تحدونا

١٠١

قال ابن إسحق : وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة :

بين الخورنق والسدير وبارق

والبيت ذو الكعبات من سنداد

ولهذا قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)).

٨ ـ بمناسبة قوله تعالى : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته» تفرد به أحمد).

٩ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) قال ابن كثير : (وقد ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»).

١٠ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) قال ابن كثير : (وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له» وفي الدعاء المأثور : «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا»).

١١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ؛ فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذب» أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به. وروى ابن جرير عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال : زنا العينين النظر ، وزنا الفم التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللمم. وكذا قال مسروق والشعبي ، وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة ، فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس

١٠٢

(إِلَّا اللَّمَمَ) إلا ما سلف ، وكذا قال زيد بن أسلم ، وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قال في هذه الآية (إِلَّا اللَّمَمَ) قال الذي يلم بالذنب ثم يدعه قال الشاعر :

إن تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك ما ألما؟

وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه ، وقال وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون :

إن تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك ما ألما؟

وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا روى ابن جرير عن ابن عباس (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

إن تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك ما ألما؟

وهكذا رواه الترمذي وقال : هذا حديث صحيح حسن غريب ، وروى ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أراه رفعه في (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود. واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود قال فذلك الإلمام. وحدثنا ابن بشار عن الحسن في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود. وعن الحسن في قول الله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : هو الرجل يصيب اللمة من الزنا ، واللمة من شرب الخمر فيجتنبها ويتوب منها. وروى ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس (إِلَّا اللَّمَمَ) يلم بها في الحين قلت : الزنا؟ قال : الزنا ثم يتوب ، وقال ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : اللمم الذي يلم المرة. وقال السدي قال أبو صالح سئلت عن اللمم فقلت هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب ، وأخبرت بذلك ابن عباس فقال لقد أعانك ملك كريم. حكاه البغوي).

١٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) قال ابن كثير : (كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) وروى مسلم في صحيحة عن محمد بن عمرو بن عطاء قال :

١٠٣

سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسميت برة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزكوا أنفسكم ، إن الله أعلم بأهل البر منكم» فقالوا بم نسميها؟ قال : «سموها زينب» وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويلك قطعت عنق صاحبك ـ مرارا ـ إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا ، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك» وكذا رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وروى الإمام أحمد عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه ، قال فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب. ورواه مسلم وأبو داود). أقول : المدح والتزكية لهما حالات فالكراهة ليست هي الصورة الوحيدة.

١٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) قال ابن كثير : (وروى الترمذي في جامعه عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله عزوجل أنه قال : «ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» وروى ابن أبي حاتم رحمه‌الله عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى؟ إنه كان يقول كل ما أصبح وأمسى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)» حتى ختم الآية. ورواه ابن جرير).

١٤ ـ في أكثر من كتاب للعقاد أبرز القيمة الكبرى لقوله تعالى : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فهي علامة كبيرة على أن هذا الدين دين الله ، فالبيئة العربية التي تقول بالثأر الظالم من كل إنسان له صلة بالقاتل لا يمكن أن ينبثق عنها مثل هذا النص ، فأن يوجد مثل هذا في القرآن فذلك علامة على أنه من عند الله ، وأن تتحدد مسؤولية الإنسان عن أعماله وحدها فذلك تصحيح لمسار الفكر البشري على امتداد الزمان والمكان ، وهو بذلك يشكل قاعدة من قواعد الخلود لهذا الدين الذي به يرجح على كل دين من خلال هذه القاعدة فقط فضلا عن غيرها. (راجع كتاب مطلع النور للعقاد).

١٠٤

١٥ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) قال ابن كثير : (ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه‌الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء ، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما.

وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به» فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله ، كما جاء في الحديث : «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه» والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه ، وقد قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) الآية ، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله ، وثبت في الصحيح : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا»). أقول : وفي وصول ثواب التلاوة إلى الأموات خلاف بين كثير من العلماء حتى ألفت في ذلك كتب. قال الألوسي : (وفي الأذكار للنووي عليه الرحمة : المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل ، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل ، فالاختيار أن يقول القارىء بعد فراغه : اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان ، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه ـ كوهبت ثواب ما قرأته لفلان ـ بقلبه كفى).

١٦ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) قال ابن كثير : (وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون الأودي قال : قام فينا معاذ بن جبل فقال : «يا بني أود إني رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكم ، تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو إلى النار» وذكر البغوي من رواية أبي جعفر عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) قال : لا فكرة في الرب. قال البغوي وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعا : «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ، فإنه لا تحيط به الفكرة» وكذا أورده وليس بمحفوظ بهذا اللفظ ، وإنما الذي في الصحيح : «يأتي الشيطان

١٠٥

أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته» والحديث الآخر الذي في السنن : «تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله ، فإن الله تعالى خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقة مسيرة ثلاثمائة سنة» أو كما قال).

١٧ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) قال صاحب الظلال : (وهي الحقيقة الهائلة الواقعة المتكررة في كل لحظة. فينساها الإنسان لتكرارها أمام عينيه ، وهي أعجب من كل عجيبة تبدعها شطحات الخيال! نطفة تمنى ... تراق ... إفراز من إفرازات هذا الجسد الإنساني الكثيرة كالعرق والدمع والمخاط! فإذا هي بعد فترة مقدورة في تدبير الله ... إذا هي ماذا؟ إذا هي إنسان! وإذا هذا الإنسان ذكر وأنثى! كيف؟ كيف تمت هذه العجيبة التي لم تكن ـ لو لا وقوعها ـ تخطر على الخيال؟ وأين كان هذا الإنسان المركب الشديد التركيب ، المعقد الشديد التعقيد؟ أين كان كامنا في النقطة المراقة من تلك النطفة. بل في واحد من ملايين من أجزائها الكثيرة؟ أين كان كامنا بعظمه ولحمه وجلده ، وعروقه وشعره وأظافره. وسماته وشياته وملامحه. وخلائقه وطباعه واستعداداته؟! أين في هذه الخلية الميكروسكوبية السابحة هي وملايين من أمثالها في النقطة الواحدة من تلك النطفة التي تمنى؟! وأين على وجه التخصيص كانت خصائص الذكر وخصائص الأنثى في تلك الخلية. تلك التي انبثقت وأعلنت عن نفسها في الجنين في نهاية المطاف؟!

وأي قلب بشري يقف أمام هذه الحقيقة الهائلة العجيبة ، ثم يتمالك أو يتماسك. فضلا على أن يجحد ويتبجح ، ويقول : إنها وقعت هكذا والسلام! وسارت في طريقها هكذا والسلام! واهتدت إلى خطها المرسوم هكذا والسلام! أو يتعالم فيقول : إنها سارت هذه السيرة بحكم ما ركب فيها من استعداد لإعادة نوعها ، شأنها شأن سائر الأحياء المزودة بهذا الاستعداد! فهذا التفسير يحتاج بدوره إلى تفسير).

يقول الدكتور الطبيب خالص كنجو في كتابه (الطب محراب للإيمان) : (إن عدد الصبغيات في كل خلية إنسانية هي ٢٣ زوجا ، ويختص من هذه الأزواج زوج واحد فقط في تصميم الأنوثة أو الرجولة بكل الأبعاد في كيان الإنسان العضوي والنفسي ، إن مفتاح الذكورة والأنوثة موجود في هذا الزوج من الصبغيات.

ولقد لوحظ أن هذا الزوج متجانس في الأنثى ، فهما من شكل واحد ، ورمز لهما

١٠٦

بحرف (XX) في حين أن هذا الزوج في الذكر متغاير ورمز لهما بالرمز (YX) وعند الانقسام يصبح أحد الأشكال الأربعة في كل خلية أي : إما (X) أو (X) أو (X) أو (Y) أو بالأصح شكلان فقط هما :(X) و (Y). ثم ماذا يحدث بعد ذلك. إن البويضات تحمل صبغيا واحدا فقط ومن شكل واحد (X) بينما تحمل النطف عند الرجل شكلان من الصبغيات صبغي (X) وصبغي (Y).

والآن لعل الأمر أصبح واضحا في تحديد الجنس ، فالنطفة هي المسؤولة عن تحديد الجنس ؛ لأنها تحمل الأشكال المتغايرة من الصبغيات الجنسية ، فإذا حملت نطفة صبغيا اجتمعت نطفة من نوع (X) مع البويضة ذات النوع (X) كان المخلوق أنثى ، وإليك بيانا موضحا :

نطفةG (Y) بويضة ـ (X) ذكر (YX).

نطفةG (X) بويضة ـ (X) أنثى (XX).

وهذا ما ذكره القرآن قبل أربعة عشر قرنا حين أرجع مسؤولية تحديد الجنس إلى مني الرجل ... (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى)).

١٨ ـ وبمناسبة قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) ننقل ما قاله صاحب الظلال في (الشعرى) قال : (والشعرى نجم أثقل من الشمس بعشرين مرة ، ونوره خمسون ضعف نور الشمس. وهي أبعد من الشمس بمليون ضعف بعد الشمس عنا.

وقد كان هناك من يعبد هذا النجم. وكان هناك من يرصده كنجم ذي شأن. فتقرير أن الله هو رب الشعرى له مكانه في السورة التي تبدأ بالقسم بالنجم إذا هوى ؛ ونتحدث عن الرحلة إلى الملأ الأعلى ؛ كما تستهدف تقرير عقيدة التوحيد ، ونفي عقيدة الشرك الواهية المتهافتة).

(وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير. ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى. ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها. ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء).

١٩ ـ بمناسبة قوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ* لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) قال ابن كثير : (والنذير الحذر لما يعاين من الشر الذي يخشى

١٠٧

وقوعه فيمن أنذرهم كما قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) وفي الحديث : «أنا النذير العريان» أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئا ، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك فجاءهم عريانا مسرعا وهو مناسب لقوله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي : اقتربت القريبة ، يعني : يوم القيامة ، كما قال في أول السورة التي بعدها : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وروى الإمام أحمد عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود ، حتى أنضجوا خبزتهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه» وقال أبو حازم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال أبو نضرة : لا أعلم إلا عن سهل بن سعد ـ قال : «مثلي ومثل الساعة كهاتين» وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ثم قال : «مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان» ثم قال : «مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه أتيتم أتيتم» ثم يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا ذلك» وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحسان).

٢٠ ـ بمناسبة قوله تعالى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) قال ابن كثير : (روى البخاري عن ابن عباس قال : سجد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. انفرد به دون مسلم ، وروى الإمام أحمد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من عنده ، فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد ، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه. وقد رواه النسائي في الصلاة عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به).

كلمة أخيرة في سور النجم والذاريات والطور :

هذه السور الثلاث فصلت في الآيات الأولى من سورة البقرة أي في قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ففصلت في كون هذا القرآن لا ريب فيه ، وفصلت في أن الهداية فيه ، وأقامت الحجة على الريب والجحود ، وفصلت في موضوع الإيمان بالغيب ، فعرضت جوانب من الغيب ،

١٠٨

وعرضت بعض آثار الإيمان بالغيب ، وفصلت في موضوع الصلاة والإنفاق ، وفصلت في موضوع الإيمان بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما أنزل من قبله ، وفصلت في موضوع الإيقان بالآخرة ، فعرضت جوانب من عوالم الآخرة ، وأقامت الحجة على الكافرين فيها ، وحذرت وأنذرت وذكرت طرفا من مظاهر الفلاح للمتقين ، وطرفا من مظاهر الخسران للكافرين ، وفصلت في قضية التقوى والطريق إليها وخصائص أهلها ، وكل ذلك قد رأيناه تفصيلا ، ومع كون السور أدت دورها في التفصيل للمحور ، فقد كان لكل سورة سياقها الخاص بها ، فهي من ناحية وحدة متكاملة ، كما أنها جزء من وحدة متكاملة في هذا القرآن ، وقد رأينا أن أواخر كل سورة منها متصل بأوائل السورة اللاحقة ، وقد رأينا كيف أن سورة النجم انتهت بقوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ...) وكيف أن سورة القمر تبتدىء بقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وصلة ذلك ببعضه بعضا لا تخفى ، فلنر سورة القمر التي تفصل في الآيتين اللاحقتين للآيات التي فصلتها السور الثلاث من أول سورة البقرة.

١٠٩
١١٠

سورة القمر

وهي السورة الرابعة والخمسون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الرابعة من المجموعة الأولى من قسم

المفصل ، وآياتها خمس وخمسون آية

وهي مكية

١١١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

١١٢

قدم صاحب الظلال لسورة القمر بقوله : (هذه السورة من مطلعها إلى ختامها حملة رعيبة مفزعة عنيفة على قلوب المكذبين بالنذر ، بقدر ما هي طمأنينة عميقة وثيقة للقلوب المؤمنة المصدقة. وهي مقسمة إلى حلقات متتابعة ، كل حلقة منها مشهد من مشاهد التعذيب للمكذبين ، يأخذ السياق في ختامها بالحس البشري فيضغطه ويهزه ويقول له : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) ... ثم يرسله بعد الضغط والهز ويقول له : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟)).

(فإذا انتهت الحلقة وبدأوا يستردون أنفاسهم اللاهثة المكروبة عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولا ورعبا ... وهكذا حتى تنتهي الحلقات السبعة في هذا الجو المفزع الخانق. فيطل المشهد الأخير في السورة. وإذا هو جو آخر ، ذو ظلال أخرى. وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة. إنه مشهد المتقين : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ). في وسط ذلك الهول الراجف ، والفزع المزلزل ، والعذاب المهين للمكذبين : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ).

فأين وأين؟ مشهد من مشهد؟ ومقام من مقام؟ وقوم من قوم؟ ومصير من مصير؟).

كلمة في سورة القمر ومحورها :

من تشابه بداية سورة القمر وسورة الأنبياء نستأنس أن محور السورتين واحد ، فسورة الأنبياء ابتدأت بقوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) وسورة القمر ابتدأت بقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ومن دراسة مضمون سورة القمر نعرف أن محورها هو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو نفسه محور سورة الأنبياء لاحظ بعض آيات سورة القمر :

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (آية : ٢).

(فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (آية : ٥).

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (آية : ١٨).

١١٣

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) (آية : ٢٣).

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) (آية : ٣٣).

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ* كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (الآيتان : ٤١ ، ٤٢). ومن تأمل هذه الآيات وجد صلتها بقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) واضحة ، والحقيقة أن السورة كلها ـ تقريبا ـ حديث عن الإنذار ، والتكذيب ، وعدم استفادة الكافرين من الإنذار ، وجزائهم في الدنيا والآخرة ، وهذا كله يؤكد صلة السورة بالمحور الذي ذكرناه.

وقد رأينا أن آخر سورة النجم كان : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ...) والملاحظ أن سورة القمر تبدأ بالكلام عن اقتراب الساعة ، وتتحدث عن مجموعة من النذر الأولى ، كما تتحدث عن القرآن فتتكرر بها اللازمة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وهكذا نجد أن سورة القمر ترتبط بالمعاني التي ذكرت في أواخر سورة النجم ، وبذلك نرى أن هذا القرآن تتعانق سوره ، وتتعانق زمره ، وتتعانق معانيه بهذا الشكل المعجز العجيب ، الذي لا يخطر على قلب بشر ، فضلا عن أن يستطيعه بشر. ولنبدأ عرض سورة القمر ، فإن وضوح صلتها بمحورها لا يستدعي منا وقوفا طويلا وسنعرض السورة على ثلاث مجموعات :

المجموعة الأولى : وتمتد حتى نهاية الآية : (٨).

المجموعة الثانية : وتمتد حتى نهاية الآية : (٤٢).

المجموعة الثالثة : وتمتد حتى نهاية الآية : (٥٥).

والمجموعات الثلاث تتعانق معانيها مع كونها تفصل في محور السورة من سورة البقرة.

١١٤

المجموعة الأولى

وتمتد من الآية (١) إلى نهاية الآية (٨) وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

التفسير :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي : قربت القيامة (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) نصفين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية للناس ، قال ابن كثير : (قد كان هذا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة) ولنا عودة إلى هذين الموضوعين في الفوائد. (وَإِنْ يَرَوْا) أي : وإن ير الكافرون (آيَةً) أي دليلا وحجة وبرهانا يدل على صدق سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُعْرِضُوا) أي عن الإيمان. قال ابن كثير : (أي لا ينقادون له بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم) (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قال النسفي : (أي محكم قوي ... أو دائم مطرد ، أو مار ذاهب يزول ولا يبقى) ولم يذكر ابن كثير إلا الثالث فقال : (أي ذاهب ، وقاله مجاهد وقتادة وغيرهما : أي باطل مضمحل لا دوام له) وأرجح أن يكون المراد بالاستمرار ظاهره أي الدوام والاطراد ، فكأنهم أرادوا أن يقولوا أن ما يظهر على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهرة كونية مستمرة هي من باب السحر ، وليست خارقة معجزة من الله تدل على صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغه عن الله(وَكَذَّبُوا) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاتَّبَعُوا

١١٥

أَهْواءَهُمْ) أي : ما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره قال ابن كثير : أي كذبوا بالحق إذ جاءهم ، واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخاقة عقلهم (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) قال قتادة : معناه أن الخير واقع بأهل الخير ، والشر واقع بأهل الشر ، أي : في النهاية ، وقال ابن جريج : أي مستقر بأهله ، أي وكل أمر مستقر بأهله في النهاية على ما يقتضيه هذا الأمر من نهايات خيرة أو شريرة في الدنيا والآخرة ، ولا شك أن استقرار الأمور استقرارا كاملا على ما تقتضيه إنما يكون في الآخرة ، ومن ثم فسر مجاهد استقرار الأمور بأنه يوم القيامة ، فكأن لكل أمر مسرى يسير فيه حتى يستقر في نهاية مصبه ، قال النسفي : وقيل : كل أمر من أمرهم واقع مستقر ، أي سيثبت ويستقر عند ظهور العقاب والثواب (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) أي : هؤلاء الكافرين (مِنَ الْأَنْباءِ) أي : من القرآن المودع أنباء القرون الخالية ، أو أنباء الآخرة وما وصف من عذاب الكفار (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي : ما فيه ازدجار عن الكفر ، قال ابن كثير : أي ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي إلى التكذيب (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي : جاءتهم حكمة بالغة نهاية الصواب ، أو حكمة بالغة من الله إليهم ، وأي حكمة تبلغ ما تبلغه الحكمة الموجودة في القرآن لمن عقل وتدبر ، ولكن هؤلاء وصلوا إلى حالة من الكفر ما عادت تنفع معهم الحكمة ، ولا الآية ، ولا الإنذار ، قال تعالى : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) قال النسفي : والنذر جمع نذير وهم الرسل أو المنذر به (أي : وهو القرآن) أو النذر ... بمعنى الإنذار. أقول : والواقع أن هؤلاء وصلوا إلى حالة لا القرآن يؤثر فيهم ، ولا موعظة الرسول تؤثر فيهم ، ولا إنذارات الله العملية تؤثر فيهم. قال ابن كثير : (يعني : أي شىء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة ، وختم على قلبه ، فمن الذي يهديه من بعد الله؟).

كلمة في السياق :

رأينا في ما مر معنا من الآيات كيف أن ناسا من الكفار وصلوا إلى درجة من الكفر أصبحوا معها لا يستفيدون من رؤية المعجزات ، ولا يستفيدون من زجر القرآن وقصصه وحكمته ، ولا من أي إنذار آخر ، وصلة ذلك بقوله تعالى في محور السورة واضحة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ومما مر نستطيع أن نتلمس صفات هؤلاء الذين لا ينفع معهم الإنذار ، وقد ذكرت الآيات صفتين : التكذيب ، واتباع الهوى (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ومن ثم

١١٦

نعلم أن الله ختم على قلوبهم كما ورد في المحور ، إنما هو عقوبة لهم بسبب مما جنته أيديهم (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وأمام عدم نفع الإنذارات بهؤلاء كما ذكرت الآيات المارة معنا من سورة القمر ، وأمام استواء الإنذار وعدمه في حقهم كما ذكرته آيتا المحور ، فإن الله عزوجل يأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) قال ابن كثير : يقول تعالى : فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضون ويقولون هذا سحر مستمر ، أعرض عنهم وانتظرهم (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) قال ابن كثير : أي إلى شىء منكر فظيع ، وهو موقف الحساب ، وما فيه من البلاء ، بل والزلازل والأهوال ، وقال النسفي : (أي منكر فظيع تنكره النفوس ، لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة) وقال النسفي : والداعي إسرافيل عليه‌السلام (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) أي : يوم يخرجون خشعا أبصارهم ، أي : ذليلة أبصارهم ، وقال النسفي : وخشوع الأبصار كناية عن الذلة ، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي : من القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي : في كثرتهم وانتشارهم في كل جهة ، قال ابن كثير : أي كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر في الآفاق ؛ ولهذا قال : (مُهْطِعِينَ) أي : مسرعين (إِلَى الدَّاعِ) أي : لا يخالفون ولا يتأخرون ، قال النسفي : أي مسرعين مادي أعناقهم إليه (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي : صعب شديد ، وبهذا انتهت المجموعة الأولى.

كلمة في السياق :

١ ـ رأينا أنه أمام عدم غناء الإنذار لللكافرين أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرض عنهم ، وأن ينتظر فيهم عقاب الله يوم القيامة ، ومن المجموعة عرفنا أن هؤلاء هم الذين اجتمع لهم التكذيب واتباع الهوى ، أي أصبح التكذيب واتباع الهوى خلقين لهم ، أمثال هؤلاء لا ينفع فيهم الإنذار ، ولكن هل كل كافر تأصل فيه هذان الخلقان على الكمال والتمام ، حتى لم يعد ينفع فيه الإنذار؟ الجواب لا ، ومن ثم أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتبليغ ، وإقامة الحجة على الخلق أجمعين ، ومن هنا نعلم سر إيمان بعض الكافرين؟ ذلك لأنه لا زال في قلوبهم بقية من الفطرة ، ولم يصلوا في التعقيد إلى الذروة ، وقد أبرزنا هذه المعاني في أول سورة الأنبياء ، ولهذه الأسباب كلها نعلم لم أقام الله الحجج الكثيرة على الكافرين ، ولم ناقش مواقفهم كلها في هذا القرآن؟.

١١٧

٢ ـ نلاحظ أن القرآن الكريم مع تقريره أن نوعا من الكفار لن يستفيدوا من الإنذار فإنه قد أنذر ، ولذلك حكمته ، ومن حكمة ذلك إقامة الحجة ، ومن حكمة ذلك أنه قد يتسلل إلى المؤمنين بعض من أخلاق الكافرين ، وقد يؤمن كافر لم يصل إلى الحضيض في أخلاق الكافرين ، فتأتي هذه الآيات مربية للثاني ، ومطهرة للأول.

٣ ـ نلاحظ أن الآيات أفهمتنا أن في القرآن كفاية في الإنذار (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) وفي ذلك إشارة إلى أن القرآن هو النذير الكافي المستمر إلى يوم القيامة ، كما نلاحظ أن الآيات وصفت القرآن بالحكمة البالغة ، مما نفهم منه أنه لا أحكم من هذا القرآن أسلوبا وأحكاما وخطابا ، ومن ثم فكل من يشتغل بقضية الدعوة إلى الله فعليه أن يركز على ربط الإنسان بالقرآن.

٤ ـ نلاحظ أن المجموعة الآتية تحدثنا عن مجموعة أمم كذبت فعوقبت ، وصلة ذلك في المجموعة الأولى واضحة ، فالمجموعة الأولى ورد فيها قوله تعالى : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وتأتي المجموعة الثانية لترينا نماذج من المكذبين السابقين ، وعقوبتهم في الدنيا قبل الآخرة ، كما ورد في المجموعة الأولى قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) وتأتي المجموعة الثانية لتقص علينا من قصص السابقين ما فيه مزدجر فلنر المجموعة الثانية.

المجموعة الثانية

وتمتد من الآية (٩) إلى الآية (٤٢) وهذه هي :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ

١١٨

(١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا

١١٩

بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

التفسير

تفسير الفقرة الأولى :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) قال ابن كثير : (أي قبل قومك يا محمد) (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) أي : نوحا عليه‌السلام ، والملاحظ أن كلمة التكذيب وردت مرتين في الآية ، قال النسفي معللا لذلك : ومعنى تكرار التكذيب أنهم كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبت قوم نوح الرسل ، فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين بالرسل ، جاحدين للنبوة رأسا ، كذبوا نوحا عليه‌السلام ، لأنه من جملة الرسل (وَقالُوا مَجْنُونٌ) لم يكتفوا أن صرحوا له بالتكذيب بل اتهموه بالجنون ، وزادوا على ذلك أن زجروه قال تعالى : (وَازْدُجِرَ) قال النسفي : (أي زجر عن أداء الرسالة بالشتم ، وهدد بالقتل) قال ابن كثير : (وقيل وازدجر أي انتهروه وزجروه وتوعدوه لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قاله ابن زيد وهذا متوجه حسن) ويحتمل أن يكون (وَازْدُجِرَ) تتمة لوصفهم إياه بالجنون ، أي قالوا : هو مجنون ، وقد ازدجرته الجن ، وتخبطته ، وذهبت بلبه وهو قول مجاهد ، والأول أولى (فَدَعا) نوح عليه‌السلام (رَبَّهُ أَنِّي) أي : بأني (مَغْلُوبٌ) أي : غلبني قومي فلم يسمعوا مني ، واستحكم اليأس من إجابتهم لي (فَانْتَصِرْ) أي : فانتقم لي منهم بعذاب تبعثه عليهم. قال ابن كثير في الآية : (أي إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فانتصر أنت لدينك) قال تعالى : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي : منصب في كثرة وتتابع (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي : وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر قال ابن كثير : (أي نبعث جميع أرجاء الأرض حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيونا) (فَالْتَقَى الْماءُ) أي : من السحاب والعيون المتفجرة من الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي : أمر مقدر ، أي على حال قدرها الله كيف شاء ، أو على أمر قد قدر في اللوح المحفوظ أنه يكون وهو هلاك قوم نوح بالطوفان (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي : على سفينة ، والدسر :

١٢٠