الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

«المسلمون أخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى» (حديث آخر) روى أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان». ثم قال : لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه (حديث آخر) روى ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده ، فما وجد لها مناخا في المسجد حتى نزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أيدي الرجال فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبهم على راحلته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : «يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية ، وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل برّ تقي كريم على الله تعالى. ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى ، إن الله عزوجل يقول (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم» هكذا رواه عبد بن حميد (حديث آخر) روى الإمام أحمد ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما ، قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أنسابكم هذه ليست بمنسبة على أحد ، كلكم بنو آدم طف الصاع لم تمنعوه ، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى ، وكفى بالرجل أن يكون بذيا بخيلا فاحشا» وقد رواه ابن جرير عن ابن لهيعة به ولفظه : «الناس لآدم وحواء طف الصاع لم يملوه. إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم». وليس هو في شىء من الكتب الستة من هذا الوجه (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن درة بنت أبي لهب رضي الله عنها قالت : قام رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر فقال : يا رسول الله ، أي الناس خير؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير الناس أقراهم وأتقاهم لله عزوجل ، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم» (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما أعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شىء من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى. تفرد به أحمد).

وبمناسبة الآية المذكورة قال النسفي : (الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التى عليها العرب : وهي الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة. فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل. خزيمة الشعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ،

٦٠١

وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة ، وسميت الشعوب ؛ لأن القبائل تشعبت منها).

وبمناسبة هذه الآية أقول : لقد حددت الآية الحكمة من خلق الله عزوجل الناس شعوبا وقبائل بأنها التعارف ، وهذا يقرر واقعا أن هناك شعوبا وقبائل ، ويلغي أن يكون لشعب فضل عند الله بسبب كونه شعب كذا أو قبيلة كذا ، وإنما الفضل عند الله ميزانه التقوى ، فالناس يتفاوتون عند الله بقدر تفاوتهم في تقواهم ، ولا تنفي الآية أن يكون لشعب ميزة أو خصائص ، ولكن هذه الميزة والخصائص بسبب من استعداد هذا الشعب للتقوى ، والتزامه بها ، فالله عزوجل قال عن بني إسرائيل (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (الدخان : ٣٢) أي : على عالمي زمانهم ؛ وذلك بسبب استعدادهم الأعلى في زمانهم للتقوى ، وبسبب من كونهم أكثر الناس التزاما بما أنزل عليهم في زمانهم ، والله عزوجل اختار العرب ـ وقريش من العرب ـ لحمل رسالته الأخيرة الخاتمة بسبب استعدادهم الأعلى لذلك ، فشرّفهم بالرسالة فقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (الزخرف : ٤٤) وبسبب علمه تعالى أنهم أكثر الناس التزاما بهذه الرسالة ، وقدرة على حملها ، ومن ثم حذّرهم في حال توليهم أنّه سيستبدل لحمل رسالته غيرهم (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (محمد : ٣٨) وبهذه المناسبة نحب أن نسجل بعض المعاني التي لها علاقة بحكمة اختيار العرب لحمل الرسالة ، وحكمة اختصاص قريش بين العرب بالخلافة.

إن الشعب العربي يملك طاقة نفسية هائلة ، هذه الطاقة النفسية الهائلة إن أحسن تهذيبها وتوجيهها فعلت الكثير ، وإلا كانت أداة دمار وتدمير ، تحطم بعضها. فهي تشبه ماء السيل إن أحسن حبسه ووضعه وراء السدود أمكن الاستفادة منه ، وإلا كان أداة دمار ، هذه الطاقة النفسية الضخمة عند العرب التي لم يهذبها إلا الإسلام ، وعند ما هذّبها فعلت ما فعلت. قد تكون هذه الطاقة النفسية الهائلة فيها سر اختيار الله للعرب لحمل رسالته ، وقد تكون الحكمة في جانب آخر ، فكل الشعوب عندها استعداد للتفاعل مع الإسلام ، ولكن قد يكون العرب ساعة نزول القرآن عليهم هم أكثر الشعوب استعدادا للتفاعل الكامل الأعلى بكل جانب من جوانب الإسلام ، فاختارهم الله لرسالته لعلمه بذلك (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (الأنعام : ١٢٤) وقريش هي أكثر العرب استعدادا لحمل هذا الدين والتفاعل معه ؛ ومن ثم نلاحظ أن أرقى الخلق في الإسلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا من قريش : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو عبيدة

٦٠٢

وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وطلحة والزبير ... وقد يكون لهذا المعنى جعل الله الخلافة في قريش ؛ لأن القرشي يمتلك من الخصائص ما يجعله أكثر الخلق استعدادا لحمل هذا الدين وفهمه والتفاعل معه ، ولكن هذا شىء ، والفخر والاستعلاء على الخلق واحتقارهم وازدراءهم شىء آخر.

والخلاصة : أن الكرامة عند الله بالتقوى ، وعليها مدار التفاضل بين الأفراد والشعوب ، وقد يصطفي الله تعالى فردا أو شعبا لحكمة مرتبطة بالتقوى ، وذلك شرف لأصحابه ، وعلى الآخرين أن يعترفوا به ، دون أن يترتب على ذلك فخر دنيوي أو كبر قلبي ، وهذا شىء وأن الشعوب والقبائل وجدت كذلك لتتعارف شىء آخر.

١٦ ـ بمناسبة قوله تعالى (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) قال ابن كثير : (وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ، ثم للأخص منه. وروى الإمام أحمد عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما قال أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا ، فقال سعد رضي الله عنه : يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا شيئا وهو مؤمن فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو مسلم». حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أو مسلم؟» ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم» أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به. فقد فرق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المؤمن والمسلم ، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقا ؛ لأنه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام ، فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين ، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ، فأدبوا في ذلك ، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير).

وبمناسبة هذه الآية نقول : إن الإسلام الكامل هو الإيمان الكامل ولا فرق ، لأن الإيمان الكامل يدخل فيه تصديق القلب وتصديق الجوارح بالعمل ، والإسلام الكامل يدخل فيه إسلام القلب لله بالإيمان وإسلام الجوارح بالعمل ، ومن ثم نلاحظ أن قوله

٦٠٣

تعالى في سورة الذاريات (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الآية : ٣٠ ، ٣١) قد جعل الإيمان هو عين الإسلام. أما إذا أريد بالإسلام عمل الجوارح ، وبالإيمان تصديق القلب ، فعندئذ يكون الإسلام شيئا والإيمان شيئا آخر ، كما ورد في حديث جبريل .. قال «أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ... قال فأخبرني عن الإيمان قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه ..» ففي هذا الحديث الإسلام شىء والإيمان شىء آخر ، وإن كان بينهما ارتباط في الواقع والحقيقة ، وآية الحجرات أشارت إلى هذا التمايز بين الإسلام والإيمان ، وبينت في الوقت نفسه أن الطريق إلى الإيمان القلبي هو عمل الجوارح ، إذ قالت (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وهذا أصل كبير في التربية الإسلامية ؛ فالقلب البشري يموت أو تسيطر عليه الغفلة ، وطريق إحيائه العمل بالإسلام من ذكر وقراءة قرآن ، وصلاة وإنفاق وصوم وحج ، وغير ذلك من أعمال الإسلام ، وبذلك ينتقل القلب من طور إلى طور آخر ، حتى يصل إلى الإيمان الكامل ، وإذا تأملت هذا الحديث تصل إلى هذه النتيجة : «القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط عليه غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مصفح ، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن ، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق ، عرف ثمّ أنكر ، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ، ومثل النفاق كمثل القرحة يمدها القيح والدّم ، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» أخرجه أحمد وجودّ إسناده ابن كثير. إذا أدركت هذه المعاني كلها تدرك معنى قوله تعالى (وَلَمَّا يَدْخُلِ) (الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فالإيمان لم يدخل بعد وهو على وشك الدخول إذا استمر العمل بالإسلام.

١٧ ـ بمناسبة قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) قال ابن كثير (وروى الإمام أحمد .. عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء : الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ، والذي إذا أشرف على طمع تركه لله عزوجل).

٦٠٤

١٨ ـ بمناسبة قوله تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) قال ابن كثير : (روى الحافظ أبو بكر البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن فقههم قليل ، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم» ونزلت هذه الآية (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم قال : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه ، ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله عن سعيد ابن جبير غير هذا الحديث.

كلمة أخيرة حول سورة الحجرات :

سورة الحجرات سورة الآداب الإسلامية ، فقد وجهت المسلم نحو مجموعة كبيرة من الآداب : ١ ـ عدم التقدم بين يدي الكتاب والسنة برأي أو قول أو فعل. ٢ ـ خفض الصوت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ٣ ـ معاملة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكمال الأدب ، وعدم رفع حجاب الكلفة معه. ٤ ـ عدم نداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كان في بيته وانتظاره حتى يخرج. ٥ ـ امتحان خبر الفاسق وعدم التسرع في البناء عليه. ٦ ـ عدم فرض الرأي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ٧ ـ الإصلاح بين المؤمنين. ٨ ـ رد الباغي عن ظلمه ولو بالقتال إن أصر على الظلم. ٩ ـ العدل في الإصلاح. ١٠ ـ إعطاء المؤمنين الإخاء. ١١ ـ ترك السخرية بأهل الإيمان. ١٢ ـ ترك طعن أهل الإيمان. ١٣ ـ ترك التنابز بالألقاب. ١٤ ـ اجتناب الظن السىء بأهل الخير بدون مبرر. ١٥ ـ ترك التجسس وخاصة على أهل الحق لأهل الباطل. ١٦ ـ ترك الغيبة الكامل. ١٧ ـ ترك التفاخر في الأحساب والأنساب والقوميات. ١٨ ـ النهي عن ادعاء الإيمان. ١٩ ـ الصدق مع الله بتحقيق الإيمان وإقامة الجهاد. ٢٠ ـ عدم المن بالدخول في الإسلام ، ورؤية المن لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك.

فالسورة التي عرضت هذه الآداب كلها هي سورة الآداب ، ومن ثم فإن دراستها ودراسة حيثيات هذه الآداب مهمة جدا.

ومن الملاحظات الرئيسية التي نلاحظها في سورة الحجرات أنها علّمتنا أصول التعامل في دوائر ثلاث : دائرة التعامل مع القيادة العليا للمسلمين متمثلة في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٦٠٥

ودائرة التعامل مع أبناء هذه الأمة المسلمة ، ودائرة التعامل مع البشرية كلها ، كما أنها حددت في الوقت نفسه للقيادة جوانب ينبغي أن تلتزمها ، ولا شك أن هذه الدروس دروس ينبغي أن تلتزم وتطبق في كل عصر ، فيأخذ ورّاث النبوة حظّهم من التطبيق ، ويأخذ المؤمنون حظهم من التطبيق في التأدب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مع شخصه ، ومع سنته ، وفي الكلام عنه ، ومع وراثه عليه الصلاة والسلام ، كما يأخذ المؤمنون حظهم من التطبيق في التعامل مع بعضهم بعضا.

إن هذا القرآن الذي دلّ الإنسان على طريق الهدى دلّه من جملة ما دله على الطريق الذي يكون به المسلم هو الإنسان الأعلى في هذا الوجود ، تطلعات وأخلاقا وقيما ومبادىء وأهدافا ، وكما ربّاه على الكمال في الأخلاق الفردية ، ربّاه على الكمال في الأخلاق الجماعية ، بحيث يكون عضوا كاملا في أمة كاملة ، كما ربّى هذه الأمة على الكمال في كل شىء ، وعند ما نجد في عصرنا روح الفردية عند بعض المسلمين عاتية ، وعند ما نرى عجز بعض المسلمين عن التعامل مع بعضهم الآخر ، وعند ما نرى تطلعات المسلم قاصرة وأهدافه غامضة ، وتفاعله مع الإسلام جزئيا ، وعند ما لا نرى المسلمين جميعا أمة واحدة تتحرك حركة واحدة ، وتتجه اتجاها واحدا ، عند ما لا نرى هذا كله ندرك البعد الكبير بين ما كلّفنا به وبين واقعنا.

وقد حاولنا خلال عرضنا للسورة أن نذكر وحدتها ، وأن نذكر صلتها بما قبلها ، وأن نبيّن الروابط التي تربطها مع محورها. وقد يكون من المناسب قبل الانتقال إلى سورة (قاف) أن نعيد إلى الأذهان بعض مظاهر الارتباط ، بين سورة الحجرات وسورة الفتح ، لنبقى متذكرين الصلات الخاصة التي تربط بين سور هذه المجموعة.

إننا لا نبالغ إذا قلنا إن سورة الحجرات قد ذكرت الطريق العملي لتحقيق المعاني الواردة في سورة الفتح ، فقد ورد في سورة الفتح (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (الآية : ٢٩) وسورة الحجرات توجه المؤمنين في الطريق لتحقيق ذلك ، فتنهاهم عن الغيبة والتجسس ، واللمز والتنابز بالألقاب ، لأن هذه المعاني كلها تتنافى مع التراحم. وسورة الفتح تعرضت لقصة الحديبية التي حدث فيها نوع من الاعتراض الصامت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتوقيعه الصلح ، وتأتي سورة

٦٠٦

الحجرات لتقول في بدايتها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ...) وسورة الفتح تعرضت لموضوع توقير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتأتي سورة الحجرات لتنهى عن رفع الصوت (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...) وسورة الفتح بشّرت بانتصار عالمي للإسلام ، وهذا يقتضي أن تكون قضية الإخاء الإسلامي واضحة ، وقضية الصلة بين الشعوب واضحة ، ومن ثم نجد في سورة الحجرات (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ...) ونجد (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ...) وسورة الفتح بيّنت أن الجهاد والمشاركة فيه ميزان من موازين الإيمان ، وتأتي سورة الحجرات لتعرّف الإيمان ، وتذكر الجهاد كجزء منه (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) وفيما ذكرناه كفاية لتوضيح هذه القضية ، ونخرج من ذلك بوضوح كامل لموضوع تكامل سور المجموعة الواحدة ، ولموضوع أن كل مجموعة تفصّل في سورة البقرة إنما تضيف معاني جديدة.

٦٠٧
٦٠٨

سورة ق

وهي السّورة الخمسون بحسب الرّسم القرآني

وهي السّورة السّادسة من المجموعة الخامسة من قسم

المثاني ، وآياتها خمس وأربعون آية

وهي مكيّة

٦٠٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

٦١٠

كلمة في سورة (ق) ومحورها :

يرجّح ابن كثير أن قسم المفصّل يبدأ بسورة (ق) ويفند كل قول آخر ، وهذا كلامه : (هذه السورة هي أول الحزب المفصّل على الصحيح ، وقيل من الحجرات. وأما ما يقوله العوام إنه من (عمّ) فلا أصل له ، ولم يقله أحد من العلماء رضي الله عنهم المعتبرين فيما نعلم. والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصّل ما رواه أبو داود في سننه (باب تحزيب القرآن) ثم قال : قال عبد الله بن سعيد : حدثنيه أوس بن حذيفة ثم اتفقا قال : قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وفد ثقيف قال : فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني مالك في قبة له قال مسدد ـ وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثقيف ـ قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا قال أبو سعيد : قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام فأكثر ما يحدثنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لقي من قومه قريش ، ثم يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا أساء وكنا مستضعفين مستذلين» قال مسدد بمكة «فلما خرجنا إلى المدينة كانت الحرب سجالا بيننا وبينهم ، ندال عليهم ويدالون علينا» فلما كانت ليلة أبطأ عنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلنا : لقد أبطأت علينا الليلة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه طرأ على حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه» قال أوس : سألت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يحزّبون القرآن فقالوا : ثلاث وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصّل وحده ، ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ورواه الإمام أحمد ، إذا علم هذا فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة فالتي بعدها سورة ق. بيانه : (ثلاث) البقرة وآل عمران والنساء (وخمس) المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة (وسبع) يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل (وتسع) سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان (وأحد عشرة) الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان وآلم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس (وثلاث عشرة) الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات ، ثم بعد ذلك الحزب المفصّل كما قاله الصحابة رضي الله عنهم ، فتعيّن أن أوله سورة ق ، وهو الذي قلناه ولله الحمد والمنّة).

أقول : الذي أذهب إليه في هذا الموضوع أن سورة الذاريات هي بداية قسم

٦١١

المفصّل ، وأن سورة (ق) ينتهي بها قسم المثاني ، والذي دعاني إلى هذا القول استقرائي لمعاني القرآن وأسلوبه ، فقد رأينا في سورة الصافات أنها كانت بداية لمجموعة ، وهي مبدوءة بقسم مباشر (وَالصَّافَّاتِ) فهي تشبه سورة (وَالذَّارِياتِ) ومن ثم قلنا : إن سورة الذاريات بداية مجموعة ، وبداية قسم ، وسنرى في المفصّل بشكل واضح أنه حيث جاء القسم بشكل مباشر فذلك علامة على بداية مجموعة (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ... وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ... وَالسَّماءِ ...) (وَالْفَجْرِ ... وَالتِّينِ ... وَالْعَصْرِ ...) فهذا أول شىء دعانا إلى اعتبار الذاريات هي بداية قسم المفصّل ، ثم لاحظنا من قبل أن سورة الشورى مبدوءة بقوله تعالى (حم عسق) مما يشير إلى أن سورة (ق) مشدودة إلى هذا القسم الذي فيه سورة الشورى ، فهي ألصق بقسم المثاني ، وهذا معنى ثان دعانا إلى هذا القول وهو أنّ سورة (ق) هي نهاية قسم المثاني ، وليست بداية قسم المفصّل. ومن كلام العرب (قلت لها قفي فقالت قاف) أي وقفت فعبّر بالحرف عن الكلمة ، وهذا البيت مشهور عند العرب ، والوقوف يتضمن معنى نهاية السير ، ولا نستبعد أن يكون ختم قسم المثاني بحرف (قاف) يتضمن إشارة إلى أن سورة (ق) نهاية سير قسم المثاني ، وهذا معنى آخر نستأنس به على أن سورة (ق) نهاية قسم ، وقد ذكر ابن كثير أن أحد الأقوال الضعيفة في (ق) أنه إشارة إلى كلمة وهو قول مردود ، ولذلك فقد استأنست به استئناسا قال ابن كثير : (وقيل المراد قضي الأمر والله ، وأن قوله جل ثناؤه (ق) دلت على المحذوف من بقية الكلمة كقول الشاعر* قلت لها قفي فقالت ق* وفي هذا التفسير نظر لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف؟). وقد استأنست استئناسا بأصل الفكرة أن يكون في الحرف قاف إشارة إلى معنى الوقوف ، خاصة والعرب استعملته في ذلك. وأهم من كل ما ذكرته في الاستدلال على أن سورة (ق) هي نهاية قسم المثاني ، وليست بداية قسم المفصّل هو معناها ومحلها وصلتها بما قبلها ، وتفصيلها لمحور يأتي في أعماق سورة البقرة بينما تفصّل سورة الذاريات في مقدمة سورة البقرة بشكل واضح كما سنرى ، مما يؤكد أن سورة الذاريات بداية قسم ، وأن سورة (ق) نهاية قسم.

فإذا اتضحت هذه المعاني وعرفنا كما ذكرنا من قبل وكما سنذكر في ابتداء الكلام عن المفصّل أنّ القضية اجتهادية ، بدليل كثرة الأقوال فيها ، مما يشير إلى أن ما ورد في الموضوع ليس حاسما فإن ما ذهبنا إليه له وجهه ، مع ملاحظة أن الدليل الوحيد الذي

٦١٢

ذكره ابن كثير يمكن أن يوجّه لصالح ما ذهبنا إليه ، فمن المعلوم أن عثمان رضي الله عنه لم يذكر هو والصحابة الذين نسخوا المصحف (بسم الله الرحمن الرحيم) بين سورة الأنفال وسورة براءة لمظنة أنهما سورة واحدة ، وقد رأينا في أول التفسير ما ذكره ابن كثير في تفسير السبع الطوال عن سعيد بن جبير قال : (هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس) فلم يذكر هنا الأنفال ولا براءة مع أن براءة أطول من سورة يونس ، كل ذلك يجعلنا نتصوّر أن الأثر الذي استدل به ابن كثير في الاستشهاد على أن سورة (ق) بداية قسم المفصّل يمكن أن يكون لصالحنا ، فإذا اعتبرنا أن سورة الأنفال وبراءة في تقييم بعض الصحابة سورة واحدة فهذا يعني أن سورة (ق) هي نهاية قسم المثاني ، وأن سورة الذاريات هي بداية قسم المفصّل. إن ابن كثير جعل الأنفال وبراءة سورتين ، وجعل سورة يونس في ورد اليوم الثالث ، فاحتمال أن تكون سورة يونس من ورد اليوم الثاني ، وبراءة والأنفال سورة واحدة احتمال قائم ، وهو لصالح ما اجتهدنا إليه ، هذا ونحب أن نلفت نظر القارىء إلى أن ذكر أسماء السور في اليوم الأول والثاني والثالث .... هو من فعل ابن كثير وليس مذكورا في نص الأثر ، فالأثر اكتفى بالقول : ثلاث وخمس وسبع ، فلمّا فصّلها ابن كثير خرجت معه سورة (ق) على أنها بداية المفصّل ، أما إذا نظرنا إلى واقع الأمر في عصر الصحابة من احتمال بعضهم كون الأنفال وبراءة سورة واحدة ، ومن عدم عدّ بعضهم الأنفال وبراءة في السبع الطول ، فكل ذلك يجعلنا نقول إن الأثر يحتمل أن يكون لصالح قولنا ، فإذا أضفنا إلى هذه المعاني التي استأنسنا بها لقولنا فإن الراجح أن يكون قولنا هو الصحيح ، والله أعلم.

وهذا قول أضيفه إلى مجموعة أقوال في قضية خلافية ، وفي ظني أن له وجهه الأقوى ، وليس هناك نص عن الصحابة أنّ بداية المفصّل هو الحجرات أو قاف ، وإنما المنقول عنهم هو ما ذكرناه ، وهو محتمل لما ذهبنا إليه ، ولما ذهب إليه ابن كثير ، وهو ليس نصا في الموضوع ، وإلا لقطع الخلاف ، والخلاف لم ينقطع من قبل.

إن سورة (ق) وهي خاتمة قسم المثاني تجد فيها من كل مجموعة من مجموعات قسم المثاني روحا ونفسا وأثرا وصلات وروابط وهذه أمثلة :

ـ جاء في سورة سبأ من المجموعة الأولى من قسم المثاني قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ

٦١٣

لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (الآية : ٩) وجاء في سورة (يس) من المجموعة الأولى قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (الآية : ١١) وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى : (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

ـ وجاء في سورة (ص) من المجموعة الثانية من قسم المثاني قوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) (الآية : ١ ، ٢). (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) (الآية : ٤). وتجد في سورة قاف قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ).

ـ وجاء في سورة (فصّلت) من المجموعة الثالثة من قسم المثاني قوله تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...) (الآية : ٩). (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ...) (الآية : ١٠). (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (الآية : ١٢). وتجد هنا قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ).

ـ وجاء في سورة الشورى من المجموعة الرابعة من قسم المثاني قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (الآية : ١٤). وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ).

ـ وجاء في سورة الأحقاف من المجموعة الخامسة ـ التي هي مجموعة قاف نفسها ـ قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ...) (الآية : ٣٣) وتجد ههنا قوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) فسورة قاف التي هي خاتمة قسم المثاني ترتبط بقسمها رباطا وثيقا وتختمه بما تتكامل هي معه ويتكامل معها. ولذلك فقد اشتملت على أنواع من التذكير كان بسببها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخصها بالتلاوة في المجامع الكبار

٦١٤

كالعيد والجمع. قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في العيد؟ قال : بقاف واقتربت) ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث مالك به ، وفي رواية لمسلم عن أبي واقد قال سألني عمر رضي الله عنه فذكره (حديث آخر) وروى أحمد عن أم هشام بنت حارثة قالت : لقد كان تنّورنا وتنور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة ، وما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس رواه مسلم من حديث ابن إسحاق به ، وروى أبو داود عن ابنة الحارث بن النعمان قالت : ما حفظت (ق) إلا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب بها كل يوم جمعة وكان تنّورنا وتنور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا ، وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة به. والقصد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار كالعيد والجمع لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب والله أعلم).

لقد جاءت سورة (قاف) على هذه الشاكلة من قوة التذكير والوعظ كخاتمة لقسمها ـ قسم المثاني ـ لترفع الهمم للأخذ به ولتهيّج على التطبيق الرفيع ، خاصّة وقد سبقت بسور الحجرات والفتح والقتال ، وفيها جميعا تكليفات قتالية وتكليفات شاقة ، إلا على الموفّقين. عندما تفتّش عن محور لسورة قاف يأتي بعد محور سورة الحجرات من سورة البقرة فإنك تجده في آخر آية من القسم الثالث من سورة البقرة وهي : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الآية : ٢٨٤) لاحظ صلة هذه الآية بما جاء في سورة (قاف) من خلال هذه المقارنة : جاء في هذه الآية قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وجاء في الآية التالية لآية المحور قوله تعالى : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الآية : ٢٨٥) وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ

٦١٥

وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ).

وسنرى أثناء عرضنا للسورة صلاتها بمحورها. ولننقل ههنا بعض ما قالوه فيها : قال الألوسي في تقديمه لهذه السورة : (وهي مكية وأطلق الجمهور ذلك ، وفي التحرير عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية فهي مدنية نزلت في اليهود ، وآيها خمس وأربعون بالإجماع ، ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ، ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث ؛ افتتح عزوجل هذه السورة بما يتعلق بذلك ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم وغيره عن جابر بن سمرة ؛ وفي رواية ابن ماجه وغيره عن قطبة بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر. وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والترمذي ، والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت ، وأخرج أبو داود ، والبيهقي ، وابن ماجه ، وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت : «ما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا من فيّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس» وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي الله تعالى عنه مرفوعا «تعلموا ق والقرآن المجيد» وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور).

وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة (قاف) : (كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة ـ فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها ـ وفي الجماعات الحافلة .. وإن لها لشأنا .. إنها سورة .. ، شديدة الوقع بحقائقها ، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها ، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها ، وتتعقبها في سرها وجهرها ، وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة الله ، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد ، إلى الممات ، إلى البعث ، إلى الحشر ، إلى الحساب. وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة. تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا. فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا ، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا ، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا. كل نفس معدود. وكل هاجسة معلومة. وكل لفظ مكتوب. وكل حركة محسوبة. والرقابة الكاملة

٦١٦

الرهيبة مضروبة على وساوس القلب ، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة ، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة. في كل وقت وفي كل حال. وكل هذه حقائق معلومة. ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة ، تروع الحس روعة المفاجأة ، وتهز النفس هزا ، وترجها رجا ، وتثير فيها رعشة الخوف ، وروعة الإعجاب ، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب! وذلك كله إلى صور الحياة ؛ وصور الموت ، وصور البلى ، وصور البعث ، وصور الحشر. وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس. وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض ، وفي الماء والنبت ، وفي الثمر والطلع .. (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) .. وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف ، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال ، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه ؛ وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال ، إشعاعا مباشرا للحس والضمير).

وبعد فإن السورة تتألف من مقدمة وثلاث فقرات : المقدمة تعرض علينا موقفا للكافرين ، والفقرات الثلاث تردّ على هذا الموقف :

أما المقدمة فهي قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ* أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ثم تأتي فقرات ثلاث : الأولى منها مبدوءة بكلمة (قد) والأخريان مبدوءتان بكلمة (ولقد) وكل من الفقرات الثلاث يرد على موقف الكافرين الذي ذكرته المقدمة : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) (الآية : ٤) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (الآية : ١٦) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (الآية : ٣٨). ولنبدأ عرض السورة.

٦١٧

مقدمة السورة

وتمتدّ من الآية (١) إلى نهاية الآية (٣) وهذه هي مع البسملة :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣))

التفسير :

(ق) قال ابن كثير : حرف من أحرف الهجاء المذكورة في أوائل السورة كقوله تعالى (ص) و (ن) و (الم) و (حم) و (طس) ونحو ذلك قاله مجاهد وغيره (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أي : الكريم العظيم ، قال النسفي : والمجيد ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ، ومن أحاط علما بمعانيه وعمل بما فيه مجد عند الله وعند الناس. قال ابن كثير : واختلفوا في جواب القسم ما هو؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) وفي هذا نظر ، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم ، وهو إثبات النبوة ، وإثبات المعاد ، وتقريره وتحقيقه ، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) وهكذا قال ههنا (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ). (بَلْ عَجِبُوا) أي : بل عجب الكافرون (أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) قال ابن كثير : أي تعجّبوا من إرسال رسول إليهم من البشر وقال النسفي : (أي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وفي النصّ كما قال النسفي : إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا عدالته وأمانته ، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحا لقومه ، خائفا أن ينالهم مكروه ، وإذا علم أن مخوفا أظلهم لزمه أن ينذرهم فكيف بما هو غاية المخاوف؟ ثم بيّن تعالى محل عجبهم بقوله (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) هذا إخبار من الله عزوجل عن تعجبهم من المعاد ، واستبعادهم لوقوعه ، يقولون : أئذا

٦١٨

متنا وبلينا وتقطّعت الأوصال منا ، وصرنا ترابا ، كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب؟! (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي : مستبعد مستنكر ، أي : بعيد من الوهم والعادة وقال ابن كثير : أي بعيد الوقوع ، والمعنى أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه.

كلمة في السياق :

١ ـ جاءت مقدمة السورة لتعرض علينا موقف الكافرين من النذير ومن البعث وستأتي بقية السورة في فقراتها الثلاث لتردّ على ذلك.

٢ ـ قلنا إن محور السورة هو قوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الآية : ٢٨٤) هذه الآية تذكر الحساب وهو ما أنذر به الله عزوجل عباده بواسطة رسوله ، وقد ذكرت مقدمة سورة (قاف) تعجّب الكافرين من إرسال النذير ، ومن نذراته بالبعث ، فالصلة بين المحور وبين مقدمة السورة قائمة ، وسنرى أن الردود على عجب الكافرين تنصب على إثبات صفة القدرة لله عزوجل للوصول إلى أن الله عزوجل لا يعجزه أن يبعث عباده ، ولهذا صلته بقوله تعالى في المحور (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

الفقرة الأولى في السورة وتتضمنّ الردّ الأول

وتمتدّ من الآية (٤) إلى نهاية الآية (١٥) وهذه هي :

(قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ

٦١٩

وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (١٠) رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

التفسير :

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) قال ابن كثير : (أي ما تأكل من أجسادهم في البلى نعلم ذلك ، ولا يخفى علينا أين تفرّقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أين صارت) أقول : وليس المراد بالأرض هنا التربة فقط ؛ بل الأرض بمجموعها جوا وسطحا ، فإن الميت إذا تحلّل فللتراب منه حظّ ، وللهواء منه حظ ، وكل ذلك أرض ، فعندما يقال : الأرض يعني الأرض بجملتها ، ويدخل في الأرض بجملتها غلافها الجوي ، قال النسفي : (هذا ردّ لاستبعادهم الرجع ؛ لأن من لطف علمه حتى علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى ، وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادرا على رجعهم أحياء كما كانوا) (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) قال ابن كثير : (أي حافظ لذلك ، فالعلم شامل ، والكتاب أيضا فيه كل الأشياء مضبوطة). والمراد بذلك اللوح المحفوظ فإنه حافظ لما أودعه وكتب فيه ، ومن كان هذا علمه وهذا كتابه فكيف يتعجّب من قدرته على بعث الإنسان وإن صار ترابا. (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) دلّت كلمة (بل) هنا كما قال النسفي : (على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر ، وقيل الحق القرآن وقيل الإخبار بالبعث) أقول : وعلى أي فإنّ العلة الرئيسية التي تتفرع عنها العلل كلها هي المسارعة في تكذيب الحق قال تعالى (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي : مضطرب مختلف

٦٢٠