الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

٢

المجموعة الثالثة

من القسم الثالث من أقسام القرآن

المسمّى بقسم المثاني

وتشمل سور :

(الزمر ، وغافر ، وفصلت)

٣
٤

كلمة في المجموعة الثالثة من قسم المثاني :

دلّلنا من قبل على أنّ سورة (ص) نهاية مجموعة ، وهذا يعني تلقائيا أن سورة الزمر بداية مجموعة ، وسنرى بأكثر من دليل أن سورة الشورى بداية مجموعة أخرى ، وهذا يقتضي بالضرورة أن تكون سورتا غافر وفصلت تتمة لمجموعة الزمر ، خاصة إذا دلّنا على ذلك المعنى ، وإذا لم يكن هناك ما يدلّ على أن واحدة منهما خارجة عن ذلك. وعندما ندرس السور الثلاث نلاحظ أن كل شىء فيهن يدلّ على أن السور الثلاث تشكّل وحدة متكاملة.

نلاحظ بشكل واضح أن سورة فصّلت تفصّل في محور سورة هود ، لاحظ بدايتي السورتين.

بدأت سورة هود بقوله تعالى : (الر* كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ* أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ...).

وبدأت سورة فصّلت بقوله تعالى : (حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً ...).

ومن المعلوم أن سورة هود فصّلت من سورة البقرة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...).

ونلاحظ بشكل واضح أن سورة الزّمر تفصّل في محور سورة يونس ، لاحظ بدايتي السورتين :

بدأت سورة يونس بقوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ* أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ).

وبدأت سورة الزمر بقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) وسنرى التشابه الكبير بين مضمونات سورة الزمر وسورة يونس.

وكان محور سورة يونس قوله تعالى في سورة البقرة : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)

٥

ونلاحظ بشكل واضح أن سورة غافر تفصّل في الكلام عن الكافرين ، بدليل أنه بعد مقدمة السورة مباشرة يأتي قوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ).

ونجد في السورة قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ ...).

ونجد في خاتمة السورة قوله تعالى : (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ).

ولذلك نقول : إنّ محور سورة المؤمن (غافر) هو قوله تعالى من سورة البقرة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

وبناء على ما مرّ نقول : إنّ سورتي الزمر والمؤمن تفصّلان في مقدمة سورة البقرة ، ثم تأتي سورة فصّلت لتفصل في حيز الآيات الآتية مباشرة بعد مقدمة سورة البقرة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) وسنرى تفصيل ذلك كله.

وإذن فأنت تلاحظ أن آيات سورة البقرة الأولى تفصّل في قسم المثاني مرات ، وفي كل مرة تجد روحا جديدة ، وأسلوبا جديدا ، وسياقا جديدا ، وعرضا جديدا ، ووحدة في كل سورة ، ووحدة في كل مجموعة ، إن هذا لمظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن ، أن تجد المعنى الواحد يعرض بالأساليب الكثيرة وفي السور الكثيرة ، وفي كل مرة تجد جديدا وتجد تفريعات وتفصيلات لمعان مستكنة.

ولعلّه يتضح لك في عرضنا لمجموعات هذا القسم لم سمّي هذا القسم بالمثاني؟ إذ تجد المعاني تثنى وتكرّر مرّة بعد مرّة ، ويلاحظ أيضا أن سورة الزمر يرد فيها قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ).

ولنبدأ عرض السور الثلاث.

٦

سورة الزّمر

وهي السّورة التاسعة والثلاثون بحسب الرّسم القرآني

وهي السّورة الأولى من المجموعة الثالثة من قسم المثاني

وآياتها خمس وسبعون آية

وهي مكيّة

٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

٨

كلمة في سورة الزمر ومحورها :

تبدأ السورة بمقدمة هي آية واحدة وهي قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الآية : ١). ثم يأتي قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (الآية : ٢).

ثم تسير السورة حتى نهاية الآية ٤٠ ثم يأتي قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الآية : ٤١). ثم تسير السورة إلى نهايتها.

فكأن السورة تتألف من مقدمة ومقطعين كل مقطع مبدوء بقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا .......).

والصلة بين بدايتي المقطعين ومقدمة السورة واضحة ؛ إذ يشترك الجميع في وجود معنى التنزيل. وفي المقطع الأول تجد قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ..) (الآية : ٢٣). وتجد (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الآيتين : ٢٧ ، ٢٨).

وفي المقطع الثاني تجد قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) (الآية : ٧١).

وهذا يشير إلى أن الكلام عن القرآن وكونه منزلا من عند الله عزوجل موضوع رئيسي في السورة ، ونلاحظ أن هناك آيات في السورة مبدوءة بلفظ الجلالة :

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ...)

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ...).

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

مما يشير إلى أن الكلام عن الله عزوجل منزل هذا القرآن موضوع رئيسي من مواضيع السورة.

٩

ونلاحظ أن موضوع العبادة يتكّرر في السورة كثيرا :

(فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ).

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ...).

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ...).

(قُلْ يا عِبادِيَ ...).

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ ...).

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ ...).

مما يشير إلى أنّ هناك صلة بين معرفة الله وعبادته وإنزاله القرآن.

فلنتذكر الآن بعض معان في سورة يونس :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ* أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ* إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

لاحظ وجود اسم الله (الحكيم) في الآية الأولى من السورتين ، ولاحظ الأمر (فاعبد) في أوائل سورة الزمر ، والأمر (فاعبدوه) في أوائل سورة يونس ، ثم لاحظ خاتمة سورة يونس. (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ). وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة الزمر :

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الآية : ٤١).

من خلال ذلك ندرك أن هناك صلة بين السورتين ، وأنّ سورة الزمر تبني على سورة يونس ، وتفصّل في محورها ، ومن المعلوم أن سورة يونس فصّلت في الآية الأولى

١٠

من سورة البقرة ، أي : في قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

وقد كنا رأينا من قبل أن سورة الصافات فصّلت في الآيات الأربع الأولى التي وصفت المتقين من سورة البقرة ، ونلاحظ أن سورة الصافات ختمت بقوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

كما نلاحظ أن سورة الزمر ختمت بقوله تعالى (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وهذه الخاتمة كذلك تجعلنا نستأنس أن سورة الزمر تفصّل في ما فصلت فيه سورة الصافات ، أي في الآيات الأولى من سورة البقرة.

إن تفصيل سورة الزمر ينصبّ على المحور الذي فصلته سورة يونس ، وهو قوله تعالى (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) إلا أن التفصيل الموجود في سورة الزمر يكمّل التفصيل الموجود في سورة يونس ، فإذا كان الكلام في سورة يونس انصب على نفي الريب عن هذا القرآن بنفي كل ما يؤدي إليه ، وتقرير أن هذا القرآن هدى ، فإن سورة الزمر ينصب الكلام فيها على أن هذا القرآن منزّل من عند الله ، وعلى تعريفنا على الله منزّل هذا القرآن ، وعلى ما يترتب على كون هذا القرآن من عند الله : من عبادة لله ، وصياغة للسلوك والأفكار على ضوء ذلك ، إلى غير ذلك من المواضيع التي سنراها

ونلاحظ في السورة بشكل واضح كثرة الآيات المبدوءة باستفهام :

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً ...)

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ ....)

١١

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ .......)

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ)

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ....)

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ ....)

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ .....)

مما يعطي السورة جرسا معيّنا ، ويصبغها بصبغة معينة ، وهذا يرينا مظهرا من مظاهر هذا الإعجاز ؛ إذ تجد الموضوع الواحد تفصّله سور كثيرة ، كلّ سورة تبرز جانبا من جوانبه المتعلّقة به ، مع كون التفصيل في كل مرّة يأتي بروح جديدة ، وصيغة جديدة ، وأسلوب جديد ، وهكذا.

وسنعرض السورة على أنّها مقدّمة ومقطعان ، وسنرى أنّ كل مقطع فيه مجموعات واضحة المعالم ، وسنرى صلة هذه المجموعات بسياق السورة الخاص ، وصلتها بمحور السورة ، ولا نستعجل الكلام عن ذلك ، وقبل أن نبدأ عرض السورة نحبّ أن ننقل مجموعة نقول حول السّورة :

نقول :

١ ـ قدّم ابن كثير لتفسير سورة الزمر بالحديث التالي :

(روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.).

٢ ـ وقال الألوسي في تقديمه لسورة الزمر :

(وتسمى سورة الغرف كما في الإتقان والكشاف لقوله تعالى (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ

١٢

فَوْقِها غُرَفٌ) أخرج ابن الضريس. وابن مردويه. والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها أنزلت بمكة ولم يستثن ، وأخرج النحاس عنه أنه قال : نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) إلى ثلاث آيات ، وزاد بعضهم (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) الآية ذكره السخاوي في جمال القراء وحكاه أبو حيان عن مقاتل ، وزاد بعض (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) حكاه ابن الجوزي ، والمذكور في البحر عن ابن عباس استثناء (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) وقوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الخ ، وعن بعضهم إلا سبع آيات من قوله سبحانه (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) إلى آخر السبع وآيها خمس وسبعون في الكوفي ، وثلاث في الشامي ، واثنتان في الباقي ، وتفصيل الاختلاف في مجمع البيان وغيره ، ووجه اتصال أولها بآخر سورة (ص) أنه قال سبحانه هناك : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) وقال جل شأنه هنا (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) وفي ذلك كمال الالتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام ، ثم إنه تعالى ذكر آخر سورة (ص) قصة خلق آدم ، وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه منه ، وخلق الناس كلهم منه ، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق ، ثم ذكر أنهم ميّتون ، ثم ذكر سبحانه القيامة والحساب والجنة والنار وختم بقوله سبحانه : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فذكر جل شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد ، متصلا بخلق آدم ـ عليه‌السلام ـ المذكور في السورة قبلها ، وبين السورتين أوجه أخر من الربط ، تظهر بالتأمل ، فتأمّل.).

١٣

المقدمة :

وهي آية واحدة وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١))

التفسير :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي : القرآن (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) أي : المنيع الجناب ، غير المنازع في السّلطان (الْحَكِيمِ) في تدبيره وفي أقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره.

كلمة في السياق :

قلنا إن محور هذه السورة من سورة البقرة هو قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وقد جاءت مقدّمة السورة لتقرّر أنّ منزل هذا القرآن الذي لا ريب فيه هو الله العزيز الحكيم ، وفي ذكر اسم الله العزيز في هذه المقدمة بيان أن الله لم ينزل كتابه ذلّة ، وأنّ ما فيه من تكليف إنما هو تكليف عزيز في سلطانه ، وفي ذلك إشعار إلى أنه سيحاسب ويعاقب لمن خالف كتابه ، فذلك شأن العزيز ، وفي ذكر اسم الله الحكيم في هذه المقدمة إشعار بأن كتابه حكيم ، لأن الحكيم يصدر عنه ما هو حكيم ، وفي ذلك بيان أن هذا القرآن فيه الحكمة في ما أمر ، وفي ما نهى ، وفيما أخبر ، وفي ترتيبه ، وترتيب سوره ، وترتيب آياته. وإن ظهور الحكمة في هذا القرآن ، وظهور آثار العزة الإلهية فيه لواضح ، وذلك دليل على أن هذا القرآن من عند الله العزيز الحكيم ، فالبشر لا يملكون الحكمة الكاملة ، لأنّهم لا يملكون العلم الكامل ، والبشر لا يملكون العزة المطلقة ، فلو أنّ هذا القرآن بشريّ المصدر لظهر فيه الضعف البشري ، والجهل البشري ، أمّا وهو منزّه عن ذلك فذلك دليل أنّه من عند الله ، وإذ تقرر ذلك كله في المقدمة يأتي المقطع الأول.

١٤

المقطع الأول

ويتألف من سبع مجموعات ، ويمتد من الآية (٢) إلى نهاية الآية (٤٠) وهذا هو :

المجموعة الأولى

(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّـهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (٢) أَلَا لِلَّـهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَّوْ أَرَادَ اللَّـهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّـهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ (٦) إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا

١٥

خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّـهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (٩))

المجموعة الثانية

(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّـهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّـهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّـهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّـهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٨))

١٦

المجموعة الثالثة

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ (١٩) لَـٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّـهِ لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ الْمِيعَادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٢١))

المجموعة الرابعة

(أَفَمَن شَرَحَ اللَّـهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (٢٢) اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣))

المجموعة الخامسة

(أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذَاقَهُمُ اللَّـهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦))

١٧

المجموعة السادسة

(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّـهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّـهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّـهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

المجموعة السابعة

(أَلَيْسَ اللَّـهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦) وَمَن يَهْدِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّـهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ (٣٧) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّـهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ

١٨

هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّـهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (٤٠))

تفسير المجموعة الأولى

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) فالمنزل هو الله تعالى ، والمنزل عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمنزل بالحق الكتاب ، ويلاحظ التشابه بين الآية الأولى في السورة وهذه الآية قال النسفي : (هذا ليس بتكرار ؛ لأنّ الأول (أي : ما ورد في الآية الأولى) كالعنوان للكتاب ، أي : القرآن ، والثاني (أي : ما ورد في هذه الآية لبيان ما في الكتاب) أي : القرآن ، أي لبيان مضمون ما في هذا الكتاب وهو الحق الخالص ، وبعد أن بيّن الله عزوجل هذا ، أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعبادة والإخلاص ، فهما لازما كون هذا القرآن من عند الله ، وكونه حقا خالصا ، لقد خلق الله الخلق لعبادته ، فشىء بديهي أن ينزل كتابه من أجل هذه العبادة ، وبيانها والمطالبة بها ، وذكر شروطها ومواصفاتها ، ومن ثمّ قال : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي : ممحّضا له الدين من الشرك والرياء ، وذلك بالتوحيد ، وتصفية السر ، قال ابن كثير : (أي : فاعبد الله وحده لا شريك له ، وادع الخلق إلى ذلك ، وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده ، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد) (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي : هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة كدر ؛ لاطّلاعه على الغيوب والأسرار. فالدين في الآية المراد به الخضوع والطاعة. قال ابن كثير في الآية : (أي : لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له) وهذا لا يكون إلا بالتوحيد الخالص ، ومن ثمّ فسّر قتادة الدين في الآية : بأنه شهادة أن لا إله إلا الله (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي : من دون الله (أَوْلِياءَ) أي : آلهة فإنهم يقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي : تقربا ، أي : ليشفعوا لهم عند الله تعالى في نصرهم ورزقهم ، وما ينوبهم من أمور الدنيا ، أما الآخرة فكانوا جاحدين لها ، كافرين بها (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ

١٩

بَيْنَهُمْ) أي : بين عباده والمشركين به يوم القيامة (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) دلّ على أنّ المشركين ينازعون ويفلسفون ، ويجادلون ويدّعون ويبرّرون. كما دلّت الآية على أنّ الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين ، أي : سيفصل بين الخلائق يوم معادهم ، ويجزي كل عامل بعمله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) قال ابن كثير : (أي : لا يرشد إلى الهداية من قصد الكذب والافتراء على الله تعالى ، وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه.) قال النّسفي : (أي : لا يهدي من هو في علمه أنه يختار الكفر ، يعني لا يوفّقه للهدى ، ولا يعينه وقت اختياره الكفر ، ولكنه يخذله)

أقول : دلّت الآية على أنّه إذا اجتمعت صفتا الكذب والكفران في إنسان فإنّ الله لا يلهمه الهداية ، فليحذر امرؤ من صفتي الكذب والكفران (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي : لو جاز اتخاذ الولد على ما تظنون لاختار مما يخلق ما يشاء ، لا ما تختارون أنتم وتشاؤون ، وقد أشعرتنا الآية أنّ بعضا ممّن عبدوا مع الله غيره ليتقربوا ـ في زعمهم ـ إليه ، عبدوهم بعد أن خلعوا عليهم صفات البنوّة لله عزوجل كبعض العرب إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، والنصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله ، واليهود الذين قالوا : عزير ابن الله ، وقد ردّ الله هذا القول وفنّده ، ثمّ نزّه ذاته سبحانه عن أن يكون له ما نسبوا إليه من الشركاء والأولاد فقال : (سُبْحانَهُ) أي : تعالى وتقدّس وتنزّه عن أن يكون له ولد (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي فإنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي كل شىء عبد لديه ، فقير إليه ، وهو الغني عمّا سواه ، الذي قد قهر الأشياء ؛ فدانت له وذلّت وخضعت ، وإذ كان كذلك فقد كذب من نسب إليه الشريك والولد. قال النسفي : (يعني : أنه واحد ، متبرىء عن انضمام الأعداد ، متعال عن التجزؤ والأولاد ، قهار غلاب لكل شىء ، ومن الأشياء آلهتهم ، فأنّى يكون له أولاد وشركاء.)

نقل :

بمناسبة قوله تعالى على لسان المشركين : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) قال صاحب الظلال :

(فلقد كانوا يعلنون أن الله هو خالقهم وخالق السماوات والأرض .. ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق إذن بالعبادة ، وفي إخلاص الدين لله بلا

٢٠