الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

عنهم فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة). وقال النسفي : (هذه الآية ترد قول الروافض أنهم كفروا بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم إنما يكون أن لو ثبتوا على ما كانوا عليه في حياته).

كلمة في السياق :

١ ـ ما صلة هذه الآية بما قبلها؟ في الآية التي قبلها كان الحديث عن ظهور الإسلام على الدين كله ، وفي هذه الآية كان حديث عن كيفية هذا الظهور (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى ..) فالآية تبيّن كيفية نمو هذا الإسلام ، كما تبين الآية خصائص الذين سيقومون بهذا الدور ، من رحمة بالمؤمنين ، وشدة على الكافرين ، وركوع وسجود ، وإخلاص وإيمان وعمل صالح.

٢ ـ وأما صلة الآية الأخيرة بمقطعها فإن بداية المقطع هي : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) والآية الأخيرة تذكر خصائص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمستجبين له ، كما تذكر البشارة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته في التوراة والإنجيل ، فرسالته عليه الصلاة والسلام ممهد لها من قبل في رسالات الله.

٣ ـ وأما صلة الآية بالمقطع الأول فهي أن المقطع الأول تحدّث عن فعل الله برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمؤمنين ، وما أعد الله للمؤمنين من جنات. والآية الأخيرة تحدثنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وعن وعد الله لهم بالمغفرة والأجر العظيم.

٤ ـ وأما صلة الآية بالمحور (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) فمن حيث إنها تصف حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، وتصف الحال التي بها ينالون النصر.

فوائد

١ ـ بمناسبة قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) قال ابن كثير : (روى عبد الملك بن هشام النحوي عن الشعبي قال : إن أول من بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي ، وروى أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدى عن

٥٤١

الشعبي قال دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البيعة فكان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي فقال : ابسط يدك أبايعك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «علام تبايعني؟» فقال أبو سنان رضي الله عنه : على ما في نفسك ، هذا أبو سنان بن وهب الأسدي رضي الله عنه. وروى البخاري عن نافع رضي الله عنه قال : إن الناس يتحدثون أن ابن عمر رضي الله عنهما أسلم قبل عمر ، وليس كذلك ، ولكن عمر رضي الله عنه يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع عند الشجرة ، وعمر رضي الله عنه لا يدري بذلك ، فبايعه عبد الله رضي الله عنه ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه يستلئم للقتال ، فأخبره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع تحت الشجرة ، فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر رضي الله عنهما. وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن الناس كانوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ يعني عمر رضي الله عنه ـ يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر رضي الله عنه فخرج فبايع. وقد أسنده البيهقي ، وقال الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه ، وعمر رضي الله عنه آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، وقال : بايعناه على أن لا نفر ، ولم نبايعه على الموت. رواه مسلم عن قتيبة عنه. وروى مسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع الناس ، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة قال : ولم نبايعه على الموت ، ولكن بايعناه على أن لا نفر. وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة قال يزيد : قلت : يا أبا سلمة ، على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال : على الموت ، وروى البخاري أيضا عن سلمة رضي الله عنه قال : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية ثم تنحيت فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا سلمة ، ألا تبايع؟» قلت : قد بايعت ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقبل فبايع» فدنوت فبايعته ، قلت : علام بايعته يا سلمة؟ قال : على الموت. وأخرجه مسلم من وجه آخر ، وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم أنهم بايعوه على الموت. وروى البيهقي عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : قدمت الحديبية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن أربع عشرة مائة ، وعليها خمسون شاة لا ترويها ، فقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جباها ـ يعني الركى ـ فإما دعا وإما بصق فيها

٥٤٢

فجاشت فسقينا واستقينا ، قال : ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة ، فبايعته أول الناس ، ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط الناس قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بايعني يا سلمة» قال : قلت يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأيضا» قال ورآني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عزلا فأعطاني جحفة أو درقة ، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تبايع يا سلمة؟» قال : قلت : يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأيضا» فبايعته الثالثة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا سلمة أين جحفتك أو درقتك التي أعطيتك؟» قال : قلت يا رسول الله لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «إنك كالذي قال الأول اللهم ابغني حبيبا هو أحب إليّ من نفسي» قال : ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا ، قال : وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أسقي فرسه وأجنبه ، وآكل من طعامه ، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله ، فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة ، واختلط بعضنا في بعض ، أتيت شجرة فكشحت شوكها ، ثم اضطجعت في أصلها في ظلها ، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى ، فعلقوا سلاحهم واضطجعوا ، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين قتل ابن زنيم ، فاخترطت سيفي فشددت على أولئك الأربعة وهم رقود ، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي ، ثم قلت : والذي كرم وجه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ، قال : ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز من المشركين يقوده ، حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعين من المشركين ، فنظر إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناؤه» فعفا عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنزل الله عزوجل (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) الآية. وهكذا رواه مسلم وثبت في الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال : كان أبي ممن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة ، قال فانطلقنا من قابل حاجين فخفي علينا مكانها ، فإن كان بينت لكم فأنتم أعلم ، وروى أبو بكر الحميدي عن جابر رضي الله عنه قال : لما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى البيعة وجدنا رجلا منا يقال له الجد بن قيس مختبئا تحت إبط بعيره رواه مسلم ، وروى الحميدي أيضا حدثنا سفيان عن عمرو أنه سمع جابرا رضي الله عنه قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فقال لنا رسول

٥٤٣

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم خير أهل الأرض اليوم» قال جابر رضي الله عنه : لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة ، قال سفيان : إنهم اختلفوا في موضعها. أخرجاه من حديث سفيان ، وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» وروى ابن أبي حاتم عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر» قال : فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره ، فقلنا : تعال فبايع قال : لأن أصيب بعيري أحب إلى من أن أبايع. وروى عبد الله بن أحمد عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل» فكان أول من صعد خيل بني الخزرج ، ثم تبادر الناس بعد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر» فقلنا : تعال يستغفر لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : والله لأن أجد ضالتي أحب إلى من أن يستغفر لي صاحبكم ، فإذا هو رجل ينشد ضالة ، رواه مسلم. وقال ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول : أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها «لا يدخل النار ـ إن شاء الله تعالى ـ من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد» قالت : بلى يا رسول الله ، فانتهرها ، فقالت حفصة رضي الله عنها (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد قال تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (مريم : ٧٢) رواه مسلم ، وفيه أيضا عن جابر رضي الله عنه قال : إن عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا ، فقال : يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذبت لا يدخلها ، فإنه قد شهد بدرا والحديبية» ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) كما قال عزوجل في الآية الأخرى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) وقال ابن كثير : (وذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قريبا من هذا السياق ، وزاد في سياقه أن قريشا بعثوا ـ وعندهم عثمان رضي الله عنه ـ سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين بعض المسلمين وبعض المشركين ، وتراموا بالنبل والحجارة وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل من الفريقين من عنده من الرسل ، ونادى منادي

٥٤٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر بالبيعة فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوا ، فسار المسلمون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا أبدا ، فأرعب ذلك المشركين ، وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين ، ودعوا إلى الموادعة والصلح).

٢ ـ وبمناسبة قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) قال الألوسي عن هذه البيعة : (استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شىء ، ويستتبع ما لا يكاد يخطر على بال ، ويكفي فيما ترتب على ذلك ما أخرجه أحمد عن جابر. ومسلم عن أم بشر عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» وقد قال عليه الصلاة والسلام ذلك عند حفصة فقالت : بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (مريم : ٧١) فقال عليه الصلاة والسلام قد قال الله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (مريم : ٧٢) وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «أنتم خير أهل الأرض» فينبغي لكل من يدّعي الإسلام حبهم ، وتعظيمهم ، والرضا عنهم ، وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم ، وعثمان منهم ؛ بل كانت يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له رضي الله تعالى عنه ـ كما قال أنس ـ خيرا من أيديهم لأنفسهم).

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) قال ابن كثير : (وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة بالسلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا عليهم فأخذوا ، قال عفان : فعفا عنهم ونزلت هذه الآية (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) ورواه مسلم وأبو داود في سننه ، والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما. وروى أحمد أيضا عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنهما قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن ، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وسهيل بن عمرو بن يديه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي الله عنه : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فأخذ سهيل بيده وقال ما نعرف الرحمن الرحيم ، اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال : اكتب باسمك اللهم ـ وكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة. فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال : لقد

٥٤٥

ظلمناك إن كنت رسوله اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال : «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله» فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا ، فدعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحد أمانا؟. فقالوا : لا ، فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) الآية ورواه النسائي.

٤ ـ وبمناسبة قوله تعالى : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً* سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) .. قال صاحب الظلال : (وهكذا يربط نصرهم وهزيمة الكفار بسنته الكونية الثابتة التي لا تتبدل. فأية سكينة؟ وأية ثقة؟ وأي تثبيت يجده أولئك المؤمنون في أنفسهم وهم يسمعون من الله أن نصرهم وهزيمة أعدائهم سنة من سننه الجارية في هذا الوجود؟. وهي سنة دائمة لا تتبدل. ولكنها قد تتأخر إلى أجل. ولأسباب قد تتعلق باستواء المؤمنين على طريقهم ، واستقامتهم الاستقامة التي يعرفها الله لهم. أو تتعلق بتهيئة الجو الذي يولد فيه النصر للمؤمنين والهزيمة للكافرين ، لتكون له قيمته وأثره. أو لغير هذا ولذلك مما يعلمه الله. ولكن السنة لا تتخلف. والله أصدق القائلين : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)).

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) قال ابن كثير : (وقوله عزوجل (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) وذلك حين أبوا أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم ، وأبوا أن يكتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) وهي قول لا إله إلا الله كما قال ابن جرير وعبد الله بن الإمام أحمد عن الطفيل ـ يعني ابن أبيّ بن كعب ـ عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : «لا إله إلا الله» وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه ، وسألت أبا زرعة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه ، وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزوجل» وأنزل

٥٤٦

الله عزوجل في كتابه وذكر قوما فقال (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (الصافات : ٣٥) وقال جل ثناؤه (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله فاستكبروا عنها ، واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية فكاتبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قضية المدة ، وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري ، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري والله أعلم. وقال مجاهد : كلمة التقوى : الإخلاص ، وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ، وعن المسور (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وروى الثوري عن علي رضي الله عنه (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : لا إله إلا الله والله أكبر ، وكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : يقول شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأس كل تقوى ، وقال سعيد بن جبير (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : لا إله إلا الله والجهاد في سبيله. وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، وقال قتادة (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : لا إله إلا الله (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) وكان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها).

٦ ـ مما أعقب صلح الحديبية ما ذكره ابن كثير : (ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) حتى بلغ (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) فطلّق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير من قريش وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا : العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا ، فاستله الآخر فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت منه ثم جربت ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأمكنه منه ، فضربه حتى برد وفرّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رآه «لقد رأى هذا ذعرا» فلما انتهى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول ، فجاء أبو بصير فقال : يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله تعالى منهم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويل أمه مسعر

٥٤٧

حرب لو كان معه أحد» فلما سمع بذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر قال : وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة ، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، وأنزل الله عزوجل (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) حتى بلغ (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ، ولم يقروا باسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت وهكذا ساقه البخاري).

٧ ـ قال ابن كثير راويا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (يا أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره لرددته ، وفي رواية فنزلت سورة الفتح فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأها عليه) وروى ابن كثير : (وقال الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال : إن قريشا صالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيهم سهيل بن عمرو فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي الله عنه : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل : لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب باسمك اللهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب من محمد رسول الله» قال : لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب من محمد بن عبد الله» واشترطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن من جاء منكم لا نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقال يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله» رواه مسلم. وروى أحمد أيضا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : لما خرجت الحرورية اعتزلوا فقلت لهم : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية صالح المشركين فقال لعلي رضي الله عنه : «اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله» قالوا : لم نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «امح يا علي اللهم إنك تعلم إني رسولك ، امح يا علي واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ، والله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة أخرجت من هذه» قالوا : نعم ، ورواه أبو داود ، وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل ، فلما صدّت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها).

٥٤٨

٨ ـ بمناسبة قوله تعالى (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) قال ابن كثير : (وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذي الحجة والمحرم وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه ، بعضها عنوة وبعضها صلحا ـ وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع ـ فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة : جعفر ابن أبي طالب وأصحابه ، وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم ، ولم يغب منهم أحد. قال ابن زيد : إلا أبا دجانة سماك بن خرشة ـ كما هو مقرر في موضعه ـ ثم رجع إلى المدينة. فلما كان ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي ، قيل : كان ستين بدنة فلبى وسار أصحابه يلبون ، فلما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريبا من مر الظهران بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه ، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة ، فلما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج ، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه ، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال يا محمد ما عرفناك تنقض العهد؟ ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما ذاك؟» قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال عليه الصلاة والسلام : «لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى يأجج» فقال : بهذا عرفناك بالبر والوفاء ، وخرجت رءوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظا وحنقا ، وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطريق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصارى آخذ زمام ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقودها وهو يقول :

باسم الذي محمد رسوله

باسم الذي لا دين إلا دينه

اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

٥٤٩

ويذهل الخليل عن خليله

قد أنزل الرحمن في تنزيله

خلوا بني الكفار عن سبيله

ضربا وتنزيل الهام عن مقيله

في صحف تتلى على رسوله

بأن خير القتل في سبيله

يا رب إني مؤمن بقيله

فهذا مجموع من روايات متفرقة.

(وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قريشا تقول : ما يتباعثون من العجف ، فقال أصحابه : لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه ، وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جمامة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم» فجمعوا له وبسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا ، وحشا كل واحد منهم في جرابه ، ثم أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر ، فاضطبع صلى‌الله‌عليه‌وسلم بردائه ثم قال : «لا يرى القوم فيكم غميزة» فاستلم الركن ، ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود ، فقالت قريش : ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقزون نقز الظباء ، ففعل ذلك ثلاثة أشواط فكانت سنّة ، قال أبو الطفيل : فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل ذلك في حجة الوداع. وروى أحمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب ، ولقوا منها سوءا ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ، ولقوا منها شرا ، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر ، فأطلع الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قالوا ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ؛ ليرى المشركون جلدهم ، قال : فرملوا ثلاثة أشواط ، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون ، ولم يمنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم ، فقال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم ، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. أخرجاه في الصحيحين). وفي لفظ قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم صبيحة رابعة يعني من ذي القعدة فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم ، قال البخاري وزاد ابن سلمة ـ يعني حماد بن سلمة ـ عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعامه الذي استأمن قال : «ارملوا ليري المشركين قوتهم والمشركون

٥٥٠

من قبل قعيقعان ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنما سعى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليرى المشركون قوته. ورواه في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينة به. وروى أيضا عن إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع ابن أبي أوفى يقول : لما اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انفرد به البخاري دون مسلم ، وروى البخاري أيضا : عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج معتمرا فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه ، وحلق رأسه بالحديبية ، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا ، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم ، فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في صحيح مسلم أيضا. وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : اعتمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذي القعدة ، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ، قالوا : لا نقرّ بهذا ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه «امح رسول الله» قال رضي الله عنه : لا والله لا أمحوك أبدا ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله أن لا يدخل مكة بالسلاح إلا بالسيف في القراب ، وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه ، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها» فلما دخلها ومضى الأجل أتوا عليّا فقالوا : قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل ، فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتبعته ابنة حمزة رضي الله عنه ، تنادي : يا عم يا عم ، فتناولها علي رضي الله عنه فأخذ بيدها وقال لفاطمة رضي الله عنها : دونك ابنة عمك فحملتها ، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم ، فقال علي رضي الله عنه : أنا أخذتها وهي ابنة عمي ، وقال جعفر رضي الله عنه : ابنة عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد رضي الله عنه : ابنة أخي فقضى بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخالتها وقال : «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي رضي الله عنه : «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر رضي الله عنه «أشبهت خلقي وخلقي» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد رضي الله عنه : «أنت أخونا ومولانا» قال علي رضي الله عنه : ألا تتزوج ابنة حمزة رضي الله عنه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنها ابنة أخي من الرضاعة» تفرد به من هذا الوجه.

٩ ـ بمناسبة قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ

٥٥١

عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) قال صاحب الظلال : (فلقد ظهر دين الحق ، لا في الجزيرة وحدها ، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان. ظهر في إمبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من إمبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية (أندونسيا) .. وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي. وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله ـ حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها ، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض. وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان. أجل ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله ، من حيث هو دين. فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الراحف بلا سيف ولا مدفع من أهله! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصيلة ؛ ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب! وما من صاحب دين غير الإسلام ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة .. (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) .. فوعد الله قد تحقق في الصور السياسية الظاهرة قبل مضي قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية. ووعد الله ما يزال متحققا في الصورة الموضوعية الثابتة ؛ وما يزال هذا الدين ظاهرا على الدين كله في حقيقته. بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادرا على العمل والقيادة ، وفي جميع الأحوال. ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم! فغير أهله يدركونها ويخشونها ، ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب!).

أقول : لقد جاءت نصوص كثيرة تدلّ على انتصار سياسي عالمي للإسلام ستصبح فيه أزمة العالم كله بيد المسلمين ، ولقد نقلنا بعض هذه النصوص في تفسير سورة براءة ، وهذا الانتصار كائن قبل نزول المسيح عليه‌السلام بزمن كثير ، كما يبدو ـ والله أعلم ـ والتحقيق الواسع لهذا الموضوع سيكون في كتابنا (الأساس في السنة وفقهها) وما يجري الآن في العالم يدل على أننا أصبحنا قريبين من مرحلة تشبه مرحلة المدّ الأول ، وفي الحديث الشريف «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره».

٥٥٢

١٠ ـ بمناسبة قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) قال ابن كثير : (كما قال عزوجل (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (التوبة : ٥٤) وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفا على الكفار ، رحيما برّا بالأخيار ، غضوبا عبوسا في وجه الكافر ، ضحوكا بشوشا في وجه أخيه المؤمن كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة : ١٢٣) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصابعه ، كلا الحديثين في الصحيح.

أقول : في سورة المائدة ذكرت مواصفات الجماعة التي تقف في وجه الردة وتستأهل الغلبة والنصر ، ومجىء آية (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...) في سياق سورة الفتح يشعر بأن ما ذكرته هذه الآية هو مواصفات الجماعة التي تستأهل الرعاية والنصرة والغلبة ، فلنتدبر الآية ، وليحاول المسلم أن يأخذ حظّه مما ورد فيها ، ولتحاول الطائفة القائمة بالحق أن تأخذ بحظها من ذلك الإيمان ، والعمل الصالح ، والوحدة والتلاحم والتفاني ، ووضاءة الوجوه من العبادة ، والركوع والسجود ، والرحمة بالمؤمنين ، والشدّة على الكافرين.

ومجىء هذه الآية بعد قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ...) يشعر أن وجود من هذا شأنهم هو الطريق إلى انتصار الإسلام ، ولقد تحقق أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ورد في الآية ، وعلى أتباعه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يفعلوا ليكون لهم شرف المعيّة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلئن فاتتهم معيّة الجسد فلا تفوتهم معيّة الاقتداء والتحقيق والتخلق ، وإن في الآية لردا على من أغفلوا الصراع مع الكفر وتناسوه.

١١ ـ بمناسبة قوله تعالى (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال ابن كثير : (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : سيماهم في وجوههم

٥٥٣

يعني السمت الحسن ، وقال مجاهد وغير واحد : يعني الخشوع والتواضع. وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال : الخشوع ، قلت : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون. وقال السدي : الصلاة تحسّن وجوههم ، وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ، وقد أسنده ابن ماجه في سننه عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه» والغرض أن الشىء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عزوجل ظاهره للناس ، كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته. وروى أبو القاسم الطبراني عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر» العزرمي ـ وهو من رجال السند ـ متروك. وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو أنّ أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائنا ما كان». وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة» ورواه أبو داود. فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم ، وحسنت أعمالهم ، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال مالك رضي الله عنه : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون : والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا ، وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

١٢ ـ بمناسبة قوله تعالى عن الصحابة (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) روى ابن كثير : (قال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبوا أصحابي ، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»).

٥٥٤

١٣ ـ قال الله عزوجل واصفاً رسوله والمؤمنين (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) فدلّ هذا على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته موصوفون في التوراة بهذه الصفات ، ولكن أين التوراة الحقيقية؟ إن التوراة الحالية محرّفة متناقضة ، تدل على نفسها بنفسها أنها ليست التوراة التي أنزلت على موسى عليه‌السلام ، كما برهنا على ذلك في كتابنا (من أجل خطوة إلى الإمام) ومع أن التوراة الحالية كذلك فلا زال فيها بقايا من البشارات برسولنا عليه الصلاة والسلام ذكرناها في كتابنا (الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، ولأن التوراة الحالية تمزج ما هو من سيرة موسى عليه‌السلام ، بما هو وحي ، بما هو حكاية. وبما أن هذه الأسفار كتبت بعد مئات السنين من وفاة موسى عليه‌السلام ، وبما أنها حصيلة دمج لمجموعة روايات ـ كما نقلنا ذلك في هذا التفسير ـ فإننا لا نطمع أن نجد شيئا على أصله فيها. ولقد تتبّعنا عبارات هذه الأسفار فوجدنا في بعضها ما يشير إلى بعض ما ذكره القرآن هنا ، ولكن بشكل مفرق من مثل (أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه ..) تثنية ١٨ (يجلب الربّ عليك أمّة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النّسر ، أمة لا تفهم لسانها ، أمة جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد) تثنية ٢٨ (تهلّلوا أيها الأمم شعبه ؛ لأنه ينتقم بدم عبيده ، ويرد نقمة على أضراره ، ويصفح عن أرضه عن شعبه) تثنية ٣٢ وهذا الأخير يشبه (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

١٤ ـ قال تعالى (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) وقد فتّشت في ما يسمى بالأناجيل الحالية والتي هي مجموعة روايات متناقضة ، والتي تقيم الحجة بمضمونها على نفسها ، أنها ليست ذات ما بشر به المسيح ، فرأيت النص التالي يمكن أن يكون أصل ما أشار إليه القرآن : في الإصحاح الثالث عشر من إنجيل متى على لسان المسيح عليه‌السلام : (قدّم لهم مثلا آخر قائلا : يشبه ملكوت السموات حبّة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله ، وهي أصغر جميع البذور ؛ ولكن متى نمت فهي أكبر البقول ، وتصير شجرة حتى إن طيور السماء تأتي وتأوي في أغصانها).

كلمة أخيرة في سورة الفتح :

بدأت السورة بمقدمة سمّت صلح الحديبية فتحا مبينا ، وذكرت حكمة الله في هذا

٥٥٥

الفتح ، وأنها إرادة الله برسوله : المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر ، ثم ذكرت إنزال السكينة على المؤمنين قبل الصلح وبعده ، وأن حكمة ذلك زيادة الإيمان في قلوبهم من أجل أن تكون النتيجة إدخال المؤمنين الجنة ، وتعذيب الكافرين في النار. وهكذا قدّمت السورة هذه المعاني الإجمالية ليعرف منذ البداية أن ما حدث يوم الحديبية كان فتحا ، وأن عاقبته بالنسبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالنسبة للمؤمنين هي الخير كله. وبعد هذه المقدمة يعرض الله عزوجل المسألة من بدايتها : فالبداية أن الله أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل مهمته الشهادة على الخلق ، والتبشير والإنذار ، وأن على الخلق أن يؤمنوا بالله ورسوله ، وأن ينصروا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يعظموه ، وأن ينزهوا الله عزوجل ، وأن بيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هي بيعة لله عزوجل ، فماذا كان موقف الناس من هذه المعاني قبيل صلح الحديبية وأثناءه : أما المنافقون فقد تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذ البداية ، وأمّا المؤمنون الصادقون فساروا معه ، ولما اقتضى الأمر بيعة على الموت أو عدم الفرار بايعوا مطمئنين ، فكافأهم الله بإنزال السكينة ، وفتح خيبر ، وغير ذلك. ومن جملة ذلك تحقيق رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطواف حول البيت في عام لاحق ، وأما الكافرون والمنافقون فكانت مواقفهم خلال ذلك في غاية الجهل والتناقض ، ثم بشر الله عزوجل بإظهار دينه على الأديان كلها ، ثم ذكر خصائص رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين الذين يستأهلون هذا النصر ، ويستأهلون معه المغفرة والجنة.

هذه أمهات من المعاني في السورة عرض الله عزوجل لنا فيها صلح الحديبية ، وما رتّبه عليه وأسماه فتحا ، فأعطى بذلك المسلمين درسا خالدا من دروس القرآن ، وكلها خوالد. فالقرآن الكريم يسجل لنا كل ما هو خالد تحتاجه الأمة الإسلامية أفرادا ، وجماعة في سيرها خلال العصور ، ومن ثم تجده سجّل كثيرا من مواقف السيرة التي من هذا النوع في الحرب أو في السلم ، فسجّل لنا مواقف متعددة في قضايا الجهاد من خلال عرضه لغزوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحروبه الرئيسية ، وسجل لنا ههنا موقفا ترتب عليه معاهدة وصلح ، وهو موقف قد تحتاجه الأمة الإسلامية في سيرها الطويل كثيرا ، والملاحظ أن سورة القتال السابقة على سورة الفتح ذكرت شيئا عن المسالمة والمصالحة ، وأنها جائزة في بعض الحالات ، وقد جاءت سورة الفتح لتعرض علينا نموذجا على أن الهدنة والصلح قد يترتب عليهما من المنافع والمصالح للمسلمين أضعافا مضاعفة ، بل قد

٥٥٦

لا يكون في لحظة من اللحظات أية مصالح في الحرب. من هذه الصلة بين سورة القتال والفتح نعرف كيف أن السور في القسم الواحد يكمّل بعضها بعضا ، سنحاول تفصيل هذا الموضوع في الكلام عن قسم المثاني بعد أن ننتهي من عرضه.

ومن خلال عرض ما مر فصلت السورة في قضايا تتعلّق بالإيمان والتقوى وأخلاق الجماعة المؤمنة ، وفصّلت في الكفر وأخلاقه ودوافع أهله ، وفصّلت في النفاق وأخلاق أهله ودوافعهم ، وفصّلت في كيفية تعامل الجماعة المسلمة مع المنافقين ، وفصّلت في سنن الله في عملية الصراع بين الكفر والإيمان ، وفيما ينبغي أن يلاحظه المسلمون في عملية الصراع ، ومن أهم ذلك حماية أرواح المؤمنين المخالطين للكافرين ، كما فصّلت في خصائص الجماعة الإسلامية في تعاطفها مع بعضها وفي شدتها على الكافرين ، وفي إقبالها على الله بالعبادة ، وإخلاصها له في النية ، كما فصّلت فيما تقتضيه عملية الإيمان من نصرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعظيمه.

ومما ينبغي أن نتذكره أنه لا يكفي أن يقول قائل آمنت بالله ورسوله ، بل لا بد أن يرافق ذلك نصرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنصرة شخصه في حياته ، ونصرة شريعته ودينه ، وأن يرافق ذلك توقير وتعظيم لشخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته وبعد مماته ، وأن يرافق ذلك تنزيه لله عزوجل ، وأن يضم المسلمين فيما بينهم صف واحد يمتاز بالرحمة فيما بينه ، والشدة على العدو الكافر ، ويمتاز بالصلاة والعبادة ، والترقّي والإيمان والعمل الصالح ، والصراع المتواصل لنشر الإسلام حتى يعمّ الإسلام العالم.

وقد رأينا صلة سورة الفتح بمحور السورة من البقرة وكيف أنها تفصله وتضرب الأمثال على تحققه ؛ فقد جاء في المحور (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) وههنا ذكر ما يترتب على ذلك من إيمان ونصرة وتوقير وتعظيم وتسبيح وبيعة. وفي المحور ذكر (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وههنا ذكر كيفية الهداية ، وذكر بعض أسبابها (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ومن السياق نعلم أن هذه الهداية هي أثر الحركة الجهادية المخلصة ، وأثر الطاعة الراشدة ، والمحور ذكر أن النصر يكون بعد البأساء والضراء والزلزال ، وكان فتح الحديبية بعد ذلك كله.

٥٥٧

والمحور ذكر (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) والسورة فصّلت في صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين الذين إذا قالوا ذلك كان الجواب : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

٥٥٨

سورة الحجرات

وهي السّورة التاسعة والأربعون بحسب الرّسم القرآني

وهي السّورة الخامسة من المجموعة الخامسة من قسم

المثاني ، وآياتها ثماني عشرة آية

وهي مدنيّة

٥٥٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

٥٦٠