الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

الله ، وكذّبوا بالصدق ، وهم الجاحدون المكذّبون (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَصَدَّقَ بِهِ) هم المسلمون (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) لا غيرهم (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يعني : في الجنة مهما طلبوا وجدوا (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) دلّ السّياق على أن المجىء بالصدق والتصديق به تقوى وإحسان (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ) أي : عن المتقين (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أي : سىء عملهم ، لأن تكفير الأسوأ يرافقه تكفير السىء من باب أولى (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) كرما منه وتفضّلا.

كلمة في السياق :

١ ـ بدأت المجموعة بذكر خصيصتين من خصائص القرآن ، أولاهما أنه ضرب للناس من كل مثل ، وقد استوعب سيد قطب رحمه‌الله الكلام في كتابه (التصوير الفني في القرآن) هذا الموضوع إذ أثبت أن الأصل في العرض القرآني هو التصوير المبدع ، فأن يكون القرآن على مثل هذا الكمال في هذا الجانب وغيره ، فذلك دليل كونه من عند الله ، والخصيصة الثانية التي ذكرت هنا : هي كون القرآن لا عوج فيه ، لا في اللغة ، ولا في الأسلوب ، ولا في المعاني ، ولا في التشريع ، ولا في أي شىء ، فأن يكون كذلك فذلك دليل آخر على أنّه من عند الله ، وصلة ذلك بمقدمة المقطع (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) وبمحور السورة من سورة البقرة (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) واضحة ، وفي الآية الأولى من هذه المجموعة بيّن الله حكمة ضرب الأمثال ، فقال : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) وفي الآية الثانية بيّن حكمة كونه غير ذي عوج فقال : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فالتذكر والتقوى هما اللذان ينبغي أن يخرج بهما قارىء هذا القرآن. وصلة ذلك بما قبل هذه المجموعة وبمحور السورة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) واضحة.

٢ ـ وقد ضرب الله في الآية الثالثة مثلا للموحّد والمشرك ، وصلة ذلك ببداية المجموعة واضحة ، إذ في المثل نموذج على كون القرآن قد ضرب الأمثال ، وصلة ذلك ببداية المقطع (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) واضحة ، فبعد الجولة الطويلة يعود

٤١

السياق إلى الكلام عن التوحيد. ثم إنّ المجموعة ذكّرت بالموت ، وذكّرت بمآل الإنسان ، وذكّرت بالحساب والمحاكمة ، ثمّ بيّنت أنه لا أظلم ممن كذب على الله ، وكذّب بالصدق إذ جاءه ، أي : بالقرآن والوحي ، فبيّنت بذلك أن الكافرين سيخسرون المحاكمة بلا ريب ، وسيدخلون النار.

٣ ـ ثمّ ذكرت المجموعة تعريفا جديدا للمتقين (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) وصلة ذلك بمحور السورة (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) واضحة ، كما أن صلة ذلك بمقدمة المقطع (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) واضحة ، كما أن صلة ذلك بمقدمة المجموعة (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) واضحة. وهكذا فالمجموعة خدمت سياق السورة ، وتفصيل المحور بشكل واضح.

٤ ـ ولم يبق عندنا في المقطع الأول إلا مجموعة واحدة ، فلنر كيف سار السياق إليها : بيّنت المجموعة الأولى أن الله أنزل القرآن بالحق ، وأن هذا يقتضي عبادة وإخلاصا ، وخصّت نوعا من أنواع العبادة بالذكر ، وهو قيام الليل ، ثم جاءت المجموعة الثانية تأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن مجموعة أمور لها علاقة بالعبادة. ثم جاءت المجموعة الثالثة لتهيّج على التقوى ، وتلفت النظر إلى ما يوصل إليها. ثم جاءت المجموعة الرابعة لتقارن بين المهتدين والضالين ، وتبين بعض خصائص هذا القرآن. ثم جاءت المجموعة الخامسة لتحذّر وتنذر ، ثم جاءت المجموعة السادسة لتحدّثنا عن خصائص أخرى للقرآن ، وتوصلنا إلى ضرورة الإيمان به ، وبمن أنزل عليه ، فإذ استقر هذا كله ، وانتفت الصوارف عن السير ، إلا أن يعوق عن السير رهبة أو رغبة ، أو تهديد أو تخويف ، أو غير ذلك ، ومن ثمّ تأتي المجموعة السابعة لتعالج أمثال هذه القضايا ..

٤٢

تفسير المجموعة السابعة

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) أي : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كل من اتصف بصفة العبودية له سبحانه. قال ابن كثير : (يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكّل عليه) (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني : المشركين يخوّفون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويتوعّدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها معه دون الله ، جهلا منهم ، وضلالا ، ودخل في ذلك كل تخويف بغير الله يخوّفه أحد عبدا من عباد الله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ* وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟) أي : أليس الله منيع الجانب ، لا يضام من استند إلى جنابه ، ولجأ إلى بابه؟! فإنه العزيز الذي لا أعزّ منه ، ولا أشدّ انتقاما منه ، ممّن كفر به وأشرك ، وعاند رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الآية وعيد للكافرين ، ووعد للمؤمنين ، بأنه ينتقم لهم منهم ، وينصرهم عليهم ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ) كائنا ما كان (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) أي : دافعات شدّته عنّي (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ) كائنة ما كانت (هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) أي : هي لا تستطيع شيئا من الأمر ، وقد جاء هذا في سياق تخويفهم إيّاه بمن دون الله ، فأمره أن يقررهم أولا بأن حالق العالم هو الله وحده ، ثمّ يقول لهم بعد التقرير فإن أرادني خالق العالم الذي أقررتم به بضرّ أو برحمة هل يقدرون على خلاف ذلك؟ فلمّا أفحمهم قال الله تعالى (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) كافيا لمضرة أوثانكم وأصنامكم وآلهتكم (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) لأنّه وحده أهل لأن يتوكل عليه ، توكّلنا عليك ربنا ، ثمّ أمر الله عزوجل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمر الأخير في المقطع (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي : على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكّنتم منها ، والمكانة والمكان بمعنى واحد ، أي : اعملوا على طريقتكم وهذا تهديد ووعيد (إِنِّي عامِلٌ) أي : على مكانتي وطريقتي ومنهجي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي : يذله في الدنيا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي : دائم مستمر لا محيد له عنه ، وذلك يوم القيامة ، وفي الآية أمر بالتوعّد بكونه منضورا عليهم ، غالبا عليهم في الدنيا والآخرة ؛ لأنهم إذا أتاهم الخزى والعذاب فذاك عزّه وغلبته ، من حيث إن الغلبة تتم له بعزّ عزيز ، يعز أولياءه ، ويذلّ أعداءه ، وبهذا انتهى المقطع الأول.

٤٣

كلمة في السياق :

١ ـ رأينا أنّ هذه المجموعة ثبّتت على الطريق من خلال الأمر بالتوكل ، ومن خلال التعريف على الله ، ومن خلال إعلان المفاصلة في المواقف ، ومن خلال الإنذار والتبشير ، وبهذا تمّ المقطع ليبدأ مقطع جديد ، بدايته شبيهة ببداية المقطع السابق :

لاحظ البدايتين :

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ)

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ).

٢ ـ والصلة ظاهرة بين بداية المقطع الجديد ، ونهاية المقطع السابق ، فالمقطع السابق انتهى بقوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) فبعد أن أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول هذا الكلام ، ذكّر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية التالية بنعمته عليه بإنزال هذا الكتاب ، وكونه حقا ، وأن من اهتدى فقد نفع نفسه ، ومن ضلّ فإنّما يضرّ نفسه ، وأن مهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإنذار فقط.

٣ ـ إنّ التشابه بين بداية المقطع الثاني وبداية المقطع الأول ومقدمة السورة يشير إلى أن البداية الجديدة سيبدأ معها السياق الرئيسي للسورة سيره من جديد ، وسنعرض المقطع الثاني بعد أن ننقل بعض الفوائد حول المجموعات الست الأخيرة :

فوائد

١ ـ في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها ..) قال ابن كثير : (قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) نزلت في زيد بن عمرة بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهم ، والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان ، وأناب إلى عبادة الرحمن ، فهؤلاء هم

٤٤

الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة).

٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ) قال ابن كثير : (أخبر عزوجل عن عباده السعداء أن لهم غرفا في الجنة وهي القصور أي : الشاهقة (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) طباق فوق طباق مبنيات محكمات ، مزخرفات عاليات. روى عبد الله بن الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن في الجنة لغرفا يرى بطونها من ظهورها ، وظهورها من بطونها» فقال أعرابي : لمن هي يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وصلى بالليل والناس نيام» ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحق ، وقال : حسن غريب ، وقد تكلم بعض أهل العلم فيه من قبل حفظه وروى الإمام أحمد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدّها الله لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى والناس نيام» تفرّد به أحمد. وروى الإمام أحمد أيضا عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في أفق السماء» قال : فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال : سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : «كما تراءون الكوكب الذي في الأفق الشرقي أو الغربي» أخرجاه في الصحيحين وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع في تفاضل أهل الدرجات» فقال يا رسول الله أولئك النبيون؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بلى والذي نفسي بيده ، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل» ورواه الترمذي ، وقال حسن صحيح. وروى الإمام أحمد عن أبي المدله مولي أم المؤمنين رضي الله عنها أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قلنا يا رسول الله إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة ، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا ، وشممنا النساء والأولاد ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ، ولزارتكم في بيوتكم ؛ ولو لم تذنبوا لجاء الله عزوجل بقوم يذنبون كي يغفر لهم» قلنا : يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لبنة ذهب ، ولبنة فضة ، وملاطها المسك الأزفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم ولا يبأس ، ويخلد ولا يموت. لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ، ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم

٤٥

تحمل على الغمام ، وتفتح لها أبواب السماوات ، ويقول الرب تبارك وتعالى : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» وروى الترمذي وابن ماجه بعضه.

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى عن المؤمنين في وصف حالهم عند سماع القرآن : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال ابن كثير : (هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار ، المهيمن العزيز الغفار ، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد ، والتخويف والتهديد ، تقشعر من جلودهم من الخشية والخوف (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه ، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه : (أحدها) أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات ، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات (الثاني) أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّدا وبكيا ، بأدب وخشية ، ورجاء ومحبة ، وفهم وعلم كما قال تبارك وتعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال : ٢ ـ ٤) وقال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (الفرقان : ٢٥) أي : لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها ، بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها ، فلهذا إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم (الثالث) أنهم يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى من تلاوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقشعر جلودهم ، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلّفون ما ليس فيهم ، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك ، ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة. قال عبد الرازق : حدثنا معمر قال : تلا قتادة رحمه‌الله (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال : هذا نعت أولياء الله ، نعتهم الله عزوجل بأن تقشعر جلودهم ، وتبكي أعينهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم ، والغشيان عليهم ، إنما هذا في أهل البدع ، وهذا من الشيطان).

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قال ابن كثير : (هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق

٤٦

رضي الله عنه عند موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى تحقق للناس موته مع قوله عزوجل : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ومعنى هذه الآية : أنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة ، وستجتمعون عند الله تعالى في الدار الآخرة ، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عزوجل ، فيفصل بينكم ، ويفتح بالحق ، وهو الفتاح العليم ، فينجي المؤمنين المخلصين الموحّدين ، ويعذّب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين. ثمّ إن هذه الآية ـ وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين ، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.

روى ابن أبي حاتم رحمه‌الله عن ابن الزبير رضي الله عنهما قال : لما نزلت (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قال الزبير رضي الله عنه : يا رسول الله : أتكرّر علينا الخصومة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» قال رضي الله عنه : إن الأمر إذن لشديد. وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان وعنده زيادة : ولما نزلت (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر : ٨) قال الزبير رضي الله عنه : «أي رسول الله ، أي نعيم نسأل عنه وإنما نعيمنا الأسودان : التمر والماء؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إن ذلك سيكون» وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن ماجه من حديث سفيان به وقال الترمذي حسن ، وروى أحمد أيضا عن عبد الله بن الزبير عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قال الزبير رضي الله عنه : أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه» قال الزبير رضي الله عنه : والله إن الأمر لشديد. وكذا رواه الترمذي وقال حسن صحيح ، وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أول خصمين يوم القيامة جاران» تفرد به أحمد ، وروى أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا» تفرد به أحمد رحمه‌الله ، وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاتين ينتطحان قال : «أتدري فيما ينتطحان يا أبا ذر؟» قلت : لا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لكن الله يدري وسيحكم بينهما» وروى الحافظ أبو بكر البزار : عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة ،

٤٧

فتخاصمه الرعية فيفلحون عليه فيقال له : سد ركنا من أركان جهنم» ثم قال : الأغلب بن تميم ليس بالحافظ وهو من رجال الحديث. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) يقول : يخاصم الصادق الكاذب ، والمظلوم الظالم ، والمهتدي الضال ، والضعيف المستكبر ، وقد روى ابن منده في كتاب الروح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يختصم الناس يوم القيامة ، حتى تختصم الروح مع الجسد ، فتقول الروح للجسد : أنت فعلت ، ويقول الجسد للروح : أنت أمرت ، وأنت سوّلت ، فيبعث الله تعالى ملكا يفصل بينهما ، فيقول لهما : إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير ، والآخر ضرير ، دخلا بستانا ، فقال المقعد للضرير ، إني أرى ههنا ثمارا ، ولكن لا أصل إليها ، فقال له الضرير : اركبني فتناولها ، فركبه فتناولها فأيهما المعتدي؟ فيقولان : كلاهما ، فيقول لهما الملك : فإنكما قد حكمتما على أنفسكما ، يعني أن الجسد للروح كالمطية ، وهي راكبة. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : نزلت هذه الآية وما نعلم في أي شيء نزلت (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قال : قلنا من نخاصم؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة ، فمن نخاصم؟ حتى وقعت الفتنة ، فقال ابن عمر رضي الله عنهما : هذا الذي وعدنا ربنا عزوجل نختصم فيه ، ورواه النسائي. وقال أبو العالية في قوله تبارك وتعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قال : يعني أهل القبلة ، وقال ابن زيد : يعني أهل الإسلام وأهل الكفر ، وقد قدمنا أن الصحيح العموم والله سبحانه وتعالى أعلم).

٥ ـ قال النّسفي في تبيان الفارق بين كلمتي (ميت) و (ميّت) :

قال الخليل أنشد أبو عمرو :

وتسألني تفسير ميت وميّت

فدونك قد فسرت إن كنت تعقل

فمن كان ذا روح فذلك ميّت

وما الميت إلا من إلى القبر يحمل

فالميّت ، من حاله أنه سيموت ، والميت من حلّ به الموت.

٦ ـ رأينا أن قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَصَدَّقَ بِهِ) وهم المسلمون ، إلا أن في الآية أقوالا أخرى ، ذكرها ابن كثير فلنرها ، قال ابن كثير : (قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) هو

٤٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال السّدّي : هو جبريل عليه‌السلام (وَصَدَّقَ بِهِ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) قال : من جاء بلا إله إلا الله (وَصَدَّقَ بِهِ) يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ الربيع بن أنس والذين جاؤا بالصدق يعني : الأنبياء وصدقوا به يعني : الأتباع. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) قال أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون : هذا ما أعطيتمونا فعملنا فيه بما أمرتمونا. وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين ، فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير ، فإنه جاء بالصدق وصدّق المرسلين ، وآمن بما أنزل من ربه والمؤمنون ، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَصَدَّقَ بِهِ) قال : المسلمون (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : اتقوا الشرك.

٧ ـ بمناسبة قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) قال ابن كثير : (وروى ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به» ورواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي : صحيح).

٨ ـ في سبب نزول قوله تعالى : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ذكر النّسفي أن قريشا : قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لتكفنّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبلنّك ، فنزلت (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ...).

٩ ـ بمناسبة قوله تعالى : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ).

قال ابن كثير : (وذكر ابن أبي حاتم ... عن ابن عباس مرفوعا : «احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ؛ إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يكتبه الله عليك لم يضروك ، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ، جفت الصحف ورفعت الأقلام ، واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا. وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج

٤٩

مع الكرب ، وأن مع اليسر يسرا» (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي : والله كافي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) كما قال هود عليه الصلاة والسلام حين قال قومه (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود : ٥٤ ـ ٥٦) وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما رفع الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عزوجل أوثق منه بما في يديه ، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزوجل».

ولننتقل إلى المقطع الثاني.

المقطع الثاني

ويتألف من ثلاث مجموعات ويمتدّ من الآية (٤١) إلى نهاية الآية (٧٥) أي : إلي نهاية السورة وهذا هو :

المجموعة الأولى

(إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (٤١) اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ

٥٠

مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللَّـهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّـهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤٨) فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَـٰؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

٥١

المجموعة الثانية

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّـهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّـهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّـهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّـهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

المجموعة الثالثة

(اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّـهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ

٥٢

لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّـهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّـهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥))

٥٣

تفسير المجموعة الأولى

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي : القرآن (لِلنَّاسِ) أي : لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه ، ليبشّروا وينذروا فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية ، وقال ابن كثير (أي : لجميع الخلق من الإنس والجن لتنذرهم به) أي : لأجل الناس ومصالحهم الدنيوية والأخروية (بِالْحَقِ) الخالص الذي لا يخالطه باطل (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) أي : فإنّما يعود نفع ذلك إلى نفسه (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي : إنما يرجع وبال ذلك على نفسه ، قال النسفي : (أي : فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه ، ومن اختار الضّلالة فقد ضرّ) (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي : بحفيظ ثم أخبر تعالى بأنه الحفيظ القدير عليهم (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) وتوفيها إماتتها : وهو أن يسلب ما هي به حيّة حسّاسة درّاكة (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، أي : يتوفّاها حين تنام ، تشبيها للنائمين بالموتى حيث لا يتصرفون كما أنّ الموت كذلك. قال ابن كثير : (قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنّه المتصرف في الوجود بما يشاء ، وأنّه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى ، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان ، والوفاة الصغرى عند المنام) (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : في توفي الأنفس مائتة ونائمة ، وإمساكها أو إرسالها إلى أجل (لَآياتٍ) على قدرة الله وعلمه (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي : يجيلون في ذلك أفكارهم ويعتبرون.

كلمة في السياق :

ما الصلة بين إنزال الكتاب على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين توفي الأنفس؟ أي : الصلة بين الآية الأولى والآية الثانية في هذا المقطع؟ إن الآية الثانية بيّنت أنّ روح الإنسان في قبضة الله عزوجل ، فهو يتوفّاها الوفاة الكبرى ، ويتوفّاها الوفاة الصغرى ، وهذا يقتضي من الإنسان أن يستجيب لأمر الله ، ويهتدي بهداه الذي أنزله الله على رسوله عليه الصلاة والسلام ، كما أن في ذكر الوفاة ، وكونها بيد الله ، تعزية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذا تنكّب أحد عن الهدى فإنّ الآية تذكّر بإحاطة الله عزوجل به ، فإذا عرفنا الصلة بين الآيتين فلنتذكر الصلة بين الآية الأولى منهما وبين محور السورة ، قال تعالى في سورة البقرة.

٥٤

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وههنا قال تعالى مبيّنا الحكمة في إنزال الكتاب : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ) لكل الناس (بِالْحَقِ) ثمّ بيّن أنّ نفع من اهتدى به عائد عليه ، وضرر من ضلّ عنه عائد عليه ، (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ولذلك صلته بقوله تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وإذا تقررت هذه المعاني ، تأتي الآن آية تبيّن كيف أنّ الكافرين قد أشركوا : (أَمِ) أي : بل (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أي : آلهة تشفع لهم في زعمهم عند الله عزوجل والاستفهام للإنكار (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الزاعمين ذلك (أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) أي : أيشفعون ولو كانوا لا يملكون شيئا قط (وَلا يَعْقِلُونَ) أي : ولا عقل لهم (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي : هو مالكها فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا تقرير لكون الشفاعة لله جميعا ، لأنّه إذا كان له الملك كله ، والشفاعة من الملك ، كان مالكا لها (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة ، فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له ، فله ملك الدنيا والآخرة أي : فيحكم بينكم بعدله ، ويجزي كلا بعمله.

كلمة في السياق :

ذكرت الآية الأولى أنّ الله عزوجل منزل الكتاب ، وذكرت الآية الثانية أن الله عزوجل يتوفى الأنفس ، ثم ذكرت الآية الثالثة موضوع اتخاذ المشركين آلهة مع الله لتشفع لهم ـ في زعمهم ـ عنده ، فكأنّ السّياق يقول : إنه مع إنزال الكتاب ، ومع كون أرواح الناس في قبضة الله فإنّ المشركين يشركون معه غيره مما لم ينزل به سلطانا ثم يأتي موقف آخر للكافرين وردّ عليه ، فالمشرك لا يكتفي بأن يتخذ شريكا لله ، بل إنّه يشمئز من ذكر اسم الله منفردا.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) أي : إذا أفرد الله بالذكر ، ولم تذكر معه آلهتهم

٥٥

(اشْمَأَزَّتْ) أي : نفرت وانقبضت (قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) دلّ على أنّ العلة هي الكفر باليوم الآخر (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني : آلهتهم (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لافتتانهم بها. لاحظ موقفهم البشع ، فهم في الغاية من السرور إذا ذكر غير الله ، وفي غاية الانقباض إذا ذكر الله. قال النسفي : (ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه ، فالاستبشار أن يمتلىء قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل ، والاشمئزاز أن يمتلىء غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه ، والعامل في (إذا ذكر) هو العامل في إذا المفاجأة. تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار) وأمام هذا الموقف المغرق في الشرك والنفرة من التوحيد أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول معلنا للحق ، ومذكّرا وواعظا ومنذرا (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ) أي : يا فاطر (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ) أي : يا عالم (الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : السّر والعلانية (أَنْتَ تَحْكُمُ) أي : تقضي (بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الهدى والضلال ، أي : أنت تفصل بينهم يوم معادهم ، ونشورهم وقيامهم من قبورهم ، ثمّ يحدّثنا الله عزوجل عن موقف الكافرين يوم الفصل ، (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : أشركوا (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) أي : لو أن لهم جميع ما في الأرض وضعفه معه (لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : من شدّته (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي : وظهر لهم من الله من العذاب والنّكال بهم ما لم يكن في بالهم ، ولا في حسابهم (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي : سيئات أعمالهم التي كسبوها ، أو سيئات كسبهم حين تعرض صحائف أعمالهم ، وكانت خافية عليهم ، أو عقاب ذلك. وقال ابن كثير : أي : وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في الدار الدنيا من المحارم والمآثم. (وَحاقَ بِهِمْ) أي : نزل بهم وأحاط (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : جزاء هزئهم ، أي : وأحاط بهم من لعذاب والنّكال ما كانوا يستهزؤون به في الدار الدنيا.

كلمة في السياق :

رأينا في الآيات الأخيرة موقفا آخر للمشركين من قضية التوحيد ، ورأينا ما هو الموقف المكافىء لهذا الموقف ، ثمّ يعرض الله عزوجل علينا موقفا ثالثا للكافرين ، وردّ عليه ، هذا الموقف هو إنكار الكافرين أن يكون ما بهم من نعمة من الله ، مع أنهم في أيام الشدة لا يدعون إلّا الله.

٥٦

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) أي : تضرّع إلينا لنكشف عنه ضرّه ، وهذا اعتراف منه بأنّ النعم من الله (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ) أي : أعطيناه تفضّلا (نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) أي : على علم مني بوجوه الكسب والعمل والحركة (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي : ابتلاء وامتحان لك ، أتشكر أم تكفر (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنها فتنة ، فلهذا يقولون ما يقولون ، ويدّعون ما يدّعون (قَدْ قالَهَا) أي : قد قال هذه المقالة وهي قولة (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقارون مثلا إذ قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من متاع الدنيا وما يجمعون منها (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي : جزاء سيئات كسبهم (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) أي : والذين أشركوا من هذه الأمّة (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي : سيصيبهم مثل ما أصاب أولئك (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : بفائتين من عذاب الله (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا) عن طريق ما يشاهدونه (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي : ويضيّق (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بأنّه لا قابض ولا باسط إلّا الله عزوجل ، أما الكافرون فإنّهم عمي عن رؤية الآيات ، وبهذا بينت الآيات تناقض الكافرين ، وأقامت عليهم الحجة ، فهم في حال الشدة يؤمنون بأنّ النعم بيد الله ، فإذا أصبحوا في نعمة أنكروا أن يكون مصدر النعمة هو الله ، بل نسبوها لأنفسهم ، مع أنّ نظرة صحيحة لموضوع بسط الرزق وقبضه تدلّ على أن الله وحده هو المنعم ، وفي سياق ذلك أنذرهم الله عزوجل العذاب ، مبيّنا أنّ عدم اعتراف الإنسان بالنّعمة ، وأنّها من عند الله ، يستحقّ بسببه عذاب الاستئصال. وبهذا انتهت المجموعة الأولى من المقطع الثاني.

نقل :

بمناسبة قوله تعالى : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا. ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا ، قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قال صاحب الظلال : (والآية تصور نموذجا مكررا للإنسان ، ما لم تهتد فطرته إلى الحق ، وترجع إلى ربها الواحد ، وتعرف الطريق إليه ، فلا تضل عنه في السراء والضراء.

٥٧

إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات ، ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود. فعندئذ ترى الله وتعرفه وتتجه إليه وحده. حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء. نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء ، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء. وقال عن النعمة والرزق والفضل : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) .. قالها قارون ، وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان. غافلا عن مصدر النعمة ، وواهب العلم والقدرة ، ومسبب الأسباب ، ومقدّر الأرزاق.

(بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) هي فتنة للاختبار والامتحان. ليتبين إن كان سيشكر أو سيكفر ؛ وإن كان سيصلح بها أم سيفسد ؛ وإن كان سيعرف الطريق أم يجنح إلى الضلال.

والقرآن ـ رحمة بالعباد ـ يكشف لهم عن السر ، وينبهم إلى الخطر ، ويحذرهم الفتنة. فلا حجة لهم ولا عذر بعد هذا البيان.

وهو يلمس قلوبهم بعرض مصارع الغابرين قبلهم. مصارعهم بمثل هذه الكلمة الضالة التي يقولها قائلهم : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ). (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) ... هي ذاتها هذه الكلمة الضالة قالها الذين من قبلهم ، فانتهت بهم إلى السوء والوبال. ولم يغن عنهم علمهم ولا مالهم ولا قوتهم شيئا. وهؤلاء سيصيبهم ما أصاب الغابرين. فسنّة الله لا تتبدّل (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ). فالله لا يعجزه خلقه الضعاف المهازيل!.

فأما ما أعطاهم الله من نعمة ، وما وهبهم من رزق ، فإنه يتبع إرادة الله وفق حكمته وتقديره في بسط الرزق وقبضه ، ليبتلي عباده ، ولينفذ مشيئته كما يريد : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فلا يجعلوا آيات الله سببا في الكفر والضلال .. وهي جاءت للهدى والإيمان ..).

ملاحظات حول السياق :

١ ـ لاحظنا أن المجموعة الأولى في المقطع الأول : بدأت بقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا

٥٨

إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ثم تحدثت عن اتخاذ المشركين شركاء (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ثم حدثنا السياق عن الله عزوجل وعن شكره ، ثم حدثنا عن موقف الكافر عند الشدة (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ..) ثم جاءت مجموعة مبدوءة بقوله تعالى (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ..).

ونلاحظ أن المجموعة الأولى في المقطع الثاني بدأت بقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ..) ثم حدثتنا عن اتخاذ المشركين آلهة ليشفعوا لهم ... (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ ..) ثمّ وثمّ حتى حدثتنا عن موقف الكافر عند الشدة ، وكفره عند الرخاء (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا ...) ثم تأتي الآن مجموعة مبدوءة بقوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ...).

هذا التشابه الكبير بين المجموعة الأولى والثانية في المقطع الأول ، وبين المجموعة الأولى والثانية في المقطع الثاني ، يذكّرنا بقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ...) إنك تلاحظ التشابه الواضح ، وتلاحظ تثنية المعاني ، وتلاحظ أن ذلك عرض على أعظم ما يكون البيان ، وأحسن ما يكون الكلم ، وكل ذلك في صيغة تبشير وإنذار ، تقشعر منها الجلود ثم تلين ، وهذا كله يتأدّى دون أن تحسّ بملل لرؤيتك التجديد والجديد كلما سرت في السورة ، ومن ثم فإنك تجد كيف أنّ السورة يخدم بعضها بعضا بأشكال متعددة ، وبشكل لا يمكن الإحاطة به ، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز الكبير في هذا القرآن ، ودليل على أنّ القرآن من عند الله.

٢ ـ من التشابه بين المقطعين تستطيع أن تدرك مسار السورة ، فالسورة تحدّثنا عن تنزيل هذا القرآن ، وهذا يقتضي عبادة لله ، والعبادة تقتضي معرفة لله وعملا ، وقد عرفنا الله عزوجل في المقطع الأول على ذاته ، ودلّنا على طريق العمل ، وأقام الحجة على الجاحدين والجاهلين والمشركين. وجاء المقطع الثاني ليكمّل المسار ، فيقرر تنزيل الله هذا القرآن ، ثم يعرفنا على الله عزوجل ، ثمّ يبيّن ضلال المشركين في شأن الألوهية ، ثم يبين لنا ما ينبغي فعله ، وهكذا ما بين التعريف بالله عزوجل ، والتعريف على العمل ، وتبيان المآل ، نرى السياق يسير ، وكل ذلك بما يخدم محور السورة من سورة البقرة

٥٩

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) إذ إنّ أوّل ما يقدّمه القرآن في باب الهداية هو الهداية إلى معرفة الله ، والتعريف على طريق عبادته.

فلنر المجموعة الثانية في المقطع الثاني التي تفتح باب التوبة ، والرّجوع إلى الله.

تفسير المجموعة الثانية

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي : جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلوّ فيها (لا تَقْنَطُوا) أي : لا تيأسوا (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) بالعفو عنها إلا الشرك (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) يستر عظائم الذنوب (الرَّحِيمُ) بكشف فظائع الكروب ، قال ابن كثير : (هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها ، وإن كانت مهما كانت ، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر ، ولا يصح حمل هذه على غير توبة ؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه). (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) أي : وارجعوا إليه ، أي : وتوبوا إليه (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي : واستسلموا له بالانقياد لشرعه ، والتسليم لقدره (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب ، أي : بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن أو عزائم القرآن (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي : من قبل أن يفجأكم العذاب وأنتم غافلون كأنكم لا تخشون شيئا لفرط غفلتكم من حيث لا تعلمون ولا تشعرون (أَنْ تَقُولَ) لئلا تقول (نَفْسٌ) من الأنفس (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ) أي : على ما قصّرت (فِي جَنْبِ اللهِ) أي : في أمر الله ، أو في طاعة الله ، أو في ذاته ، أو في طريقه : وهو توحيده والإقرار بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنْ كُنْتُ) أي : وإنه كنت (لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي : المستهزئين قال قتادة لم يكفه أن ضيّع طاعة الله حتى سخر من أهلها ، وتقدير الكلام فرّطت في حال سخريتي (أَوْ تَقُولَ) يوم القيامة (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) أي : أعطاني الهداية (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي : من الذين يتقون الشرك (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) أي : رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي : من الموحّدين ، أي : تودّ لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل. ولمّا عرض الله علينا ما يتمنّاه أهل الجرائم من العود إلى الدنيا ردّ عليهم فقال : (بَلى قَدْ

٦٠