الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

سورة الفتح

وهي السّورة الثامنة والأربعون بحسب الرّسم القرآني

وهي السّورة الرابعة من المجموعة الخامسة من قسم المثاني

وآياتها تسع وعشرون آية

وهي مدنيّة

٥٠١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

٥٠٢

بين يدي سورة الفتح :

قال الألوسي في تقديمه لسورة الفتح : (نزلت بالمدينة على ما روي عن ابن عباس ، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، والأخبار تدل على أنها نزلت في السفر لا في المدينة نفسها وهو الصحيح ، أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو داود ، والنسائي ، وجماعة عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أي : عام ست بعد الهجرة ـ وكان قد خرج إليها عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة ، فأقام بها بضعة عشر يوما ، وقيل : عشرين يوما ، ثم قفل عليه الصلاة والسلام ، فبينما نحن نسير إذ أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتد عليه فسري عنه وبه من السرور ما شاء الله تعالى ، فأخبرنا أنه أنزل عليه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) وفي حديث صحيح أخرجه أحمد ، وأبو داود ، وغيرهما عن مجمع بن جارية الأنصاري ما يدل على أنها نزلت بعد منصرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية أيضا ، وأن ذلك عند كراع الغميم فقرأها عليه الصلاة والسلام على الناس وهو على راحلته ، وفي رواية ابن سعد عنه ما يدل على أنها بضجنان ، ونقل ذلك عن البقاعي ، وضجنان ـ بضاد معجمة وجيم ونونين بينهما ألف بزنة سكران كما في القاموس ـ جبل قرب مكة ، وهذا ونحوه قول بنزولها بين مكة والمدينة ، ومثل ذلك يعدّ مدنيا على المشهور ، وهو أن المدني ما نزل بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أم بمكة أم بسفر من الأسفار ، والمكي ما نزل قبل الهجرة ، وأما على القول بأن المكي ما نزل ولو بعد الهجرة بمكة ويدخل فيها ـ كما قال الجلال السيوطي ـ نواحيها ـ كمنى وعرفات والحديبية بل بعضها على ما في الهداية ، وأكثرها على ما قال المحب الطبري من حرم مكة ؛ والمدني ما نزل بالمدينة ويدخل فيها ـ كما قال أيضا ـ نواحيها كأحد. وبدر وسلع فلا ، بل يعدّ على القول بأنه نزل قرب مكة مكيا ، فالقول بأن السورة مدنية بلا خلاف فيه نظر ظاهر ، وهي تسع وعشرون آية بالإجماع ، ولا يخفى حسن وضعها هنا ، لأن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال ، وفي كل من ذكر المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين ما فيه ، وقد ذكر أيضا في الأولى الأمر بالاستغفار وذكر هنا وقوع المغفرة ، وذكرت الكلمة الطيبة هناك بلفظها الشريف ، وكنى عنها بكلمة التقوى بناء على أشهر الأقوال فيها ، وستعرفها إن شاء الله تعالى إلى غير ذلك والله أعلم.

٥٠٣

كلمة في سورة الفتح ومحورها :

ـ رأينا أن محور سورة القتال هو قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وقد فصّلت سورة القتال هذا المحور ، وامتدادات معانيه ، وخاصة في شؤون القتال والإنفاق ، وقد رأينا صلة ذلك كله بسورة البقرة.

ولو أنك مضيت في سورة البقرة تبحث عن محور لسورة الفتح فإنك ستجده في أوائل القسم الثالث من أقسام سورة البقرة ، وبالتحديد في قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (البقرة : ٢١٣ : ٢١٤) لاحظ ما يلي :

١ ـ جاء في آيتي المحور قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ويرد في سورة الفتح قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).

٢ ـ ويأتي في آيتي المحور قوله تعالى : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ويرد في سورة الفتح قوله تعالى (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً).

٣ ـ ويأتي في آيتي المحور قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) ويرد في سورة الفتح قوله تعالى : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..).

٤ ـ ويأتي في آيتي المحور قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) ويرد في سورة الفتح قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ... وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً).

٥ ـ ويأتي في آيتي المحور قوله تعالى : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) ويرد في سورة

٥٠٤

الفتح قوله تعالى (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ..).

٦ ـ وفيما بعد آيتي المحور تأتي آية عن الإنفاق ، ثم آية عن القتال ، ثم قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ ..) (البقرة : ٢١٧) ويرد في سورة الفتح كلام عن المسجد الحرام (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ..) ، (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ..) فالصلات واضحة بين المحور وارتباطاته وبين سورة الفتح.

لقد جاءت سورة الفتح تبيّن كيف ينزل الله نصره على رسله والمؤمنين ، وتبيّن الخصائص التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون حتى ينالهم نصر الله ، فهي تكمّل ما جاء في سورة القتال ، هناك يأتي قوله تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) وههنا يأتي قوله تعالى (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) هناك يرد قوله تعالى (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) وههنا هدنة لها أسبابها. وهكذا يتكامل الكلام في المجموعة الخامسة من قسم المثاني.

تتألف سورة الفتح من مقطعين ، كل منهما مبدوء بقوله تعالى : (إِنَّا). المقطع الأول ويستمر من أول السورة حتى نهاية الآية (٧) ، ويبدأ بقوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً). والمقطع الثاني ويستمر إلى نهاية السورة ، ويبدأ بقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ..).

قال صاحب الظلال : لقد أري رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في منامه أنه يدخل الكعبة هو والمسلمون محلّقين رؤوسهم ومقصّرين. وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة ، حتى في الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية ، ويضعون السلاح فيها ، ويستعظمون القتال في أيامها. والصدّ عن المسجد الحرام. حتى

٥٠٥

أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة ، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا ، ولا يصدّه عن البيت المحرم. ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن ؛ وصدوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة. حتى كان العام السادس الذي أرى فيه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هذه الرؤيا. وحدّث بها أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ فاستبشروا بها وفرحوا. ورواية ابن هشام لوقائع الحديبية هي أوفى مصدر نستند إليه في تصورها. وهي في جملتها تتفق مع رواية البخاري ورواية الإمام أحمد ، ومع تلخيص ابن حزم في جوامع السيرة وغيرهم. قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالمدينة شهر رمضان ، وشوالا (بعد غزوة بني المصطلق وما جاء في أعقابها من حديث الإفك) وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ؛ ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق به من العرب ؛ وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظّما له. قال : وكان جابر بن عبد الله ـ فيما بلغني ـ يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مئة. قال الزهري : وخرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى إذا كان بعسفان (١) لقيه بشر بن سفيان الكعبي. فقال : يا رسول الله! هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل (٢) ، قد لبسوا جلود النمور ؛ وقد نزلوا بذي طوى ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ، قد قدموها إلى كراع الغميم (٣). قال : فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة (٤). ثم قال : «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم

__________________

(١) عسفان : موضع بين مكة والمدينة على مرحلتين من مكة.

(٢) العوذة : التي لم تلد ، والمطافيل : ذوات الأطفال ، وهذا يقتضي أن يكون النص العوذ والمطافيل.

(٣) كراع الغميم : دار أمام عسفان بثمانية أميال.

(٤) السالفة : صفحة العنق ، يعني : أو أقتل. فإنها لا تنفرد إلا بالقتل.

٥٠٦

بها؟». قال ابن اسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر ، أن رجلا من أسلم قال : أنا يا رسول الله. قال : فسلك بهم طريقا وعرا أجرل (١) بين شعاب. فلما خرجوا منه ـ وقد شق ذلك على المسلمين ـ وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للناس : «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه». فقالوا ذلك. فقال : «والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل ، فلم يقولوها» (٢). قال ابن شهاب الزهري : فأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الناس فقال : «اسلكوا ذات اليمين» بين ظهري الحمض (٣) في طريق على ثنية المرار ، مهبط الحديبية (٤) من أسفل مكة ؛ قال : فسلك الجيش ذلك الطريق. فلما رأت خيل قريش قترة (٥) الجيش ، قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته. فقال الناس : خلأت الناقة (٦). فقال : «ما خلأت. وما هو لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» ـ (وفي رواية البخاري : والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها). ثم قال للناس : «انزلوا» قيل له : يا رسول الله ، ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه. فنزل في قليب (٧) من تلك القلب ، فغرزه في جوفه ، فجاش بالرواء .. فلما اطمأن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي ، في رجال من خزاعة ، فكلّموه ، وسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا ، وإنما جاء زائرا للبيت ، ومعظما لحرمته. ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان ؛ فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمدا. إن محمدا لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت فاتهموهم وجبهوهم ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا. فو الله

__________________

(١) أجرل : كثير الحجارة.

(٢) يشير ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى ما جاء في القرآن الكريم : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ* فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ...).

(٣) الحمض : ما ملح من النبات وهو هنا اسم موضع.

(٤) قرية بينها وبين مكة مرحلة واحدة.

(٥) قترة الجيش : غباره.

(٦) خلأت : كما تقول للدابة حرنت. ولا يقال خلأت إلا للناقة.

(٧) القليب : منخفض يحفظ بعض ماء المطر حين ينزل ..

٥٠٧

لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدّث بذلك عنا العرب. وكانت خزاعة عيبة نصح (١) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مسلمها ومشركها ، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة. ثم بعثوا إليه مكرز ابن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي. فلما رآه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مقبلا قال : «هذا رجل غادر». فلما انتهى إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكلمه ، قال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نحوا مما قال لبديل وأصحابه ؛ فرجع إلى قريش ، فأخبرهم بما قال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان. وكان يومئذ سيد الأحابيش (٢) ، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «إن هذا من قوم يتألهون ـ يعني يتعبدون ـ فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه». فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إعظاما لما رأى. فقال لهم ذلك. فقالوا له : اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك! قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك. وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم. أيصّدّ عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال : فقالوا له : مه. كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. قال الزهري : ثم بعثوا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عروة بن مسعود الثقفي فقال : يا معشر قريش ، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ. وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد (وكان نسبه لأمه في بني عبد شمس) وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني من قومي ، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي. قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتّهم .. فخرج حتى جاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فجلس بين يديه. ثم قال : يا محمد. أجمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم (٣)؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا. وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. قال : وأبو بكر خلف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قاعد. فزجره (٤) وقال : أنحن

__________________

(١) أي وعاء نصح. والمقصود أنهم ناصحون مخلصون. وقد دخلوا في عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما سيجىء.

(٢) الأحابيش جمع حبشي بضم الحاء وسكون الباء نسبة إلى مكان في البادية.

(٣) بيضة الرجل : أهله وقبيلته. وتفضها أي : تكسرها. وهي كناية عن تحطيمها.

(٤) في الرواية جملة نستبعد صدورها على لسان أبي بكر رضي الله عنه في أدبه وعفة لسانه.

٥٠٨

ننكشف عنه؟ قال : من هذا يا محمد؟ قال : «هذا ابن أبي قحافة». قال : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها. ولكن هذه بها. قال : ثم جعل يتناول لحية رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يكلمه. قال : والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الحديد. قال : فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويقول : اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن لا تصل إليك قال : فيقول عروة : ويحك! ما أفظّك وأغلظك! قال : فتبسم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال له عروة : من هذا يا محمد؟ قال : «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة». قال : أي غدر (١). وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟ قال ابن هشام : أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف ؛ فتهايج الحيان من ثقيف : بنو مالك رهط المقتولين. والأحلاف رهط المغيرة. فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية. وأصلح ذلك الأمر. قال ابن إسحاق : قال الزهري : فكلمه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بنحو مما كلم أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا. فقام من عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد رأى ما يصنع به أصحابه : لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شىء إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إني جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ؛ وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ؛ ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا. فروا رأيكم. قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم ، أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على بعير له يقال له : الثعلب. ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له. فعقروا به جمل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله حتى جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن إسحاق : وحدثني بعض من لا أتهم ، عن عكرمة مولى ابن عباس (عن ابن عباس) أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم ـ أو خمسين رجلا ـ وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا. فأخذوا أخذا ، فأتي بهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالحجارة والنبل. ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلّغ عنه أشراف قريش ما جاء له. فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من

__________________

(١) أي : يا غادر.

٥٠٩

بني عدي بن كعب أحد يمنعني. وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها. ولكني أدلك على رجل أعزّ بها مني. عثمان بن عفان. فدعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته. قال ابن إسحاق : فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ، حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها ؛ فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلّغهم عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما أرسله به ؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل. قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر ، أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : حين بلغه أن عثمان قد قتل ـ : «لا نبرح حتى نناجز القوم». فدعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. فكان الناس يقولون بايعهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يبايعنا على الموت ، ولكن بايعنا على ألا نفر. فبايع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة. فكان جابر بن عبد الله يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها (أي : لصق بها) ، يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل. قال ابن هشام : وحدثني من أثق به ، عمن حدثه بإسناد له ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عمر ، أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بايع لعثمان ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى. قال ابن إسحاق : قال الزهري : ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقالوا له : إيت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مقبلا قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل». فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تكلم فأطال الكلام. وتراجعا. ثم جرى بينهما الصلح. فلما التأم الأمر ، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول الله؟ قال : بلى! قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال : بلى! قال : أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى! قال : فعلام نعطي

٥١٠

الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه (١) ، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله ، ألست برسول الله؟ قال : بلى! قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال : بلى! قال : أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى! قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال : «أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعني». قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي الذي تكلّمت به ، حتى رجوت أن يكون خيرا! قال : ثم دعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ علي بن أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ فقال : «اكتب باسم الله الرحمن الرحيم» قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «اكتب باسمك اللهم» فكتبها. ثم قال : «اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو». قال : فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. قال : فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وأن بيننا عيبة مكفوفة (٢). وأنه لا إسلال ولا إغلال (٣) ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ـ فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم ـ وأنك ترجع عنك عامك هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها ، فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا ، معك سلاح الراكب : السيوف في القرب ، لا تدخلها بغيرها. فبينا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وقد كان أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فلما رأى

__________________

(١) الزم غرزه : أي : التزم طريقه. وأصله وضع القدم في الركاب موضع قدمه.

(٢) أي : تكف عنا ونكف عنك. والأصل أن بيننا وعاء مقفلا فاستعاره لهذا المعنى.

(٣) الإسلال : السرقة الخفية ، والإغلال : الخيانة.

٥١١

سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه ، ثم قال : يا محمد ، قد لجت (١) القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال : «صدقت» فجعل ينتره بتلبيبة ويجره ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فزاد الناس إلى ما بهم. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله. وإنا لا نغدر بهم». قال : فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ، ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب. قال : ويدني قائم السيف منه. قال : يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه. قال : فضنّ الرجل بأبيه ، ونفذت القضية (٢) فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين : أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص (وهو يومئذ مشرك) وعلي بن أبي طالب ، وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة. قال الزهري : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأصحابه : «قوموا فانحروا ثم احلقوا» قال : فو الله ما قام منهم رجل ، حتى قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد دخل ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ فذكر لها ما لقى من الناس. قالت (أم سلمة) ـ رضي الله عنها ـ : يا نبي الله ، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلّم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعوا حالقك فيحلقك. فخرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلم يكلّم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس. قال : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون. فقال : رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يرحم الله المحلّقين». قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : «يرحم الله المحلّقين». قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : «يرحم الله المحلّقين». قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال :

__________________

(١) لجت القضية : انعقدت وانتهى أمرها.

(٢) روي عن أبي جندل أن الذي منعه حرصه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا الضن بأبيه!.

٥١٢

«والمقصرين». فقالوا : يا رسول الله ، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال : «لم يشكوا» .. قال الزهري في حديثه : ثم انصرف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من وجهه ذلك قافلا. حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح.

وروى الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن مجمع بن حارثة الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن. قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم : «إنا فتحنا لك فتحا مبينا» .. قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أي رسول الله أو فتح هو؟ قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «٧ ي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» .. وروى الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في سفر. قال : فسألته عن شىء ثلاث مرات فلم يرد عليّ. قال : فقلت ثكلتك أمك يا ابن الخطاب. ألححت ـ كررت ـ على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثلاث مرات ، فلم يرد عليك! قال : فركبت راحلتي ، فحركت بعيري ، فتقدمت ، مخافة أن يكون نزل فيّ شىء. قال : فإذا أنا بمناد يا عمر. قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيّ شىء. قال : فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «نزل عليّ البارحة سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)» .. ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه‌الله .. ولنبدأ عرض السورة :

المقطع الأول :

ويمتد من الآية (١) إلى نهاية الآية (٧) وهذا هو :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (١) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (٢) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣)

٥١٣

هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤) لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧))

التفسير :

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أي : بيّنا ظاهرا. قال ابن كثير : والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وأمن الناس ، واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي : يسرنا لك هذا الفتح ليكون سببا لغفران الذنب اللاحق والسابق (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) في الدنيا والآخرة بإعلاء دينك وفتح البلاد على يديك (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) قال ابن كثير : أي بما يشرعه الله من الشرع العظيم ، والدين القويم. أقول : قد يكون المعنى : ويهديك صراطا مستقيما في المواقف ، كما هداك إليه في الأقوال والأفعال (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي : قويا منيعا لا ذلّ بعده.

٥١٤

فائدة

جعل الله عزوجل صلح الحديبية فتحا ظاهرا ، ورتّب عليه غفران الذنب السابق واللاحق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإتمام النعمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والهداية إلى الصراط المستقيم والنصر ، كل ذلك رتّبه على هذا الصلح فلما ذا كان هذا؟ لقد أقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصلح تعظيما لحرمة بيت الله ، فكافأه الله عزوجل بأن جعل هذا الصلح سببا لمغفرة ذنبه السابق واللاحق ، وسببا لإتمام نعمته عليه بإظهار دينه وإعلائه فكان الصلح سببا لانتشار الإسلام إذ حميت الدعوة إليه بلا عوائق ، وأرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرسل إلى الملوك ، وتفرّغ لإنهاء سلطان اليهود في الجزيرة العربية ، وقويت قاعدة الإسلام ، كما كان سببا لانتصارات مقبلة على اليهود وعلى قريش نفسها ، فلم يكن فتح مكة إلا أثرا عن صلح الحديبية كما هو معروف تاريخيا ، وهكذا كافأ الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه المكافآت كلها ببركة تعظيمه لبيت الله ، مع أن بيت الله كان تحت سلطان الكافرين. قال ابن كثير : ولما كان (أي : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أطوع خلق الله تعالى وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه ، قال حين بركت به الناقة : «حبسها حابس الفيل» ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئا يعظّمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها» فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) قال ابن كثير : أي بسبب خضوعك لأمر الله عزوجل يرفعك الله وينصرك على أعدائك ، كما جاء في الحديث الصحيح : «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله عزوجل إلا رفعه الله تعالى» وعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : (ما عاقبت أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه) كان لهذا الصلح هذه الآثار المباركة ، مع أن كل الصحابة لم يكونوا متحمّسين له ، ولم يكونوا مرتاحين حين عقده ، بدليل أن أحدا منهم لم يحلق عندما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتحلل حتى أبو بكر ، وفي ذلك درس كبير لهذه الأمة في أن رعاية الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فوق كل رعاية ، وأن العمل الذي يقصد فيه وجه الله وطاعته

٥١٥

يجعل الله فيه من الآثار المباركة ما لا تخطر على بال ، مهما ظن الناس أن في هذا العمل انكسارا أو انحسارا أو تراجعا أو ذلا ، كما نظر عمر إلى المعاهدة على أنها إعطاء الدنية في دين الله عزوجل ، وفي تسمية الله المعاهدة فتحا درس كبير للمسلمين في أن الفتح ليس فقط في العمل العسكري ، بل قد يكون في العمل السياسي ، حتى الذي ظاهره تراجع أو ذلة. ولنعد إلى التفسير.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي : الطمأنينة (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن كثير : (وهم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانقادوا لحكم الله ورسوله ، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت ، زادهم إيمانا مع إيمانهم ..) ومن ثم قال تعالى (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي : ليزدادوا يقينا إلى يقينهم (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) منه الجند الحسي ومنه الجند الغيبي ، ومنه الجند المعنوي ، ومن جنوده السكينة التي ينزلها الله على من يشاء من عباده (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) يسخّر ما يشاء فيما شاء (حَكِيماً) في أفعاله وأقواله وشرعه ، وفي هذه الآية منّة جديدة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أنزل السكينة على المؤمنين في أكثر من موقف ، وفي أشدّ اللحظات حراجة ، ومن ذلك عندما أحسوا بهزة نفسية نتيجة المعاهدة ، ومع ذلك أطاعوا ونفّذوا ، ثم بيّن الله عزوجل حكمته في الفتح ، وفي إنزال السكينة وهي كما سجّلتها الآيتان اللاحقتان : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي : ماكثين فيها أبدا (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي : خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها ، بل يعفو ويصفح ، ويغفر ويستر ، ويرحم ويشكر (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) وأي فوز أعظم من الفوز بدخول الجنة والزحزحة من النار (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) قال ابن كثير : (أي يتهمون الله تعالى في حكمه ، ويظنون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية) وقال النسفي (والمراد ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمؤمنين ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهرا) ولهذا قال تعالى (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي : ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم

٥١٦

ودائر عليهم ، والسوء : الهلاك والدمار (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) أي : أبعدهم من رحمته (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي : وساءت جهنم مصيرا ، ثم قال عزوجل مذكرا بقدرته على الانتقام من الأعداء ـ أعداء الإسلام ـ من الكفرة والمنافقين (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيدفع كيد من عادى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بما شاء منها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي : غالبا فلا يرد بأسه (حَكِيماً) فيما يدبّر. ذكر جنده مرتين : المرة الأولى في معرض تأييده للمؤمنين ، ثم ذكرهم ههنا في معرض قدرته على الكافرين ، وبهذا انتهى المقطع الأول الذي هو بمثابة مدخل إلى السورة.

كلمة في السياق :

جاء المقطع الأول بمثابة مدخل ومقدمة للسورة ، فقد ذكر الله عزوجل فيه عنايته برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالمؤمنين في أمر دنياهم وأخراهم ، وذكر فيه نصره لهم وهدايته إياهم ، وتحدّث فيه عن جنود السموات والأرض التي تأتمر بأمره عزوجل ، وهي ملك له ، وذلك بين يدي المقطع الذي يبدأ بتبيان مهمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وواجبات المؤمنين تجاهه.

فوائد

١ ـ قال الألوسي : (وقد خفي ما كان في الحديبية فتحا على بعض الصحابة حتى بيّنه عليه الصلاة والسلام. أخرج البيهقي عن عروة قال : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : والله ما هذا بفتح ، ولقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا ، وعكف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالحديبية ، ورد رجلين من المسلمين خرجا ، فبلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك فقال : «بئس الكلام هذا ؛ بل هو أعظم الفتح. لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ، ويسألونكم القضية ، ويرغبون إليكم في الأمان ، وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم ، وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح ، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟

٥١٧

أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون» قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح ، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا).

وقال صاحب الظلال مبينا بعض مظاهر الفتح في صلح الحديبية : (فتكون بيعة الرضوان التي فاض منها الخير على الذين فازوا بها وسعدوا وكان هذا هو الفتح ؛ إلى جانب الفتح الآخر الذي تمثل في صلح الحديبية ، وما أعقبه من فتوح شتى في صور متعددة كان فتحا في الدعوة. يقول الزهري : فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه. إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس بعضهم بعضا ، والتقوا ؛ فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، ولم يكلّم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه. ولقد دخل في تينك السنتين (بين صلح الحديبية وفتح مكة) مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام : والدليل على قول الزهري أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خرج إلى الحديبية ـ في ألف وأربع مئة في قول جابر بن عبد الله ـ ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف. وكان ممن أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وكان فتحا في الأرض. فقد أمن المسلمون شر قريش ، فاتجه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى تخليص الجزيرة من بقايا الخطر اليهودي ـ بعد التخلص من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ـ وكان هذا الخطر يتمثل في حصون خيبر القوية التي تهدد طريق الشام. وقد فتحها الله على المسلمين ، وغنموا منها غنائم ضخمة ، جعلها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيمن حضر الحديبية دون سواهم. وكان فتحا في الموقف بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة وسائر المشركين حولها. يقول الأستاذ محمد عزة دروزة بحق في كتابه : «سيرة الرسول صور مقتبسة من القرآن الكريم) : ولا ريب في أن هذا الصلح الذي سماه القرآن بالفتح العظيم يستحق هذا الوصف كل الاستحقاق. بل إنه ليصح أن يعد من الأحداث الحاسمة العظمى في السيرة النبوية ، وفي تاريخ الإسلام وقوته وتوطده ، أو بالأحرى من أعظمها. فقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما ، واعتبرت النبي والمسلمين أندادا لها ، بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن ، في حين أنها غزت المدينة في سنتين مرتين ، وكانت الغزوة الأخيرة قبل سنة من هذه الزيارة ، وبحشد عظيم مؤلف منها ومن أحزابها لتستأصل شأفتهم ، وبعثت هذه الغزوة في نفوس المسلمين أشد الاضطراب والهلع ؛ لضعفهم وقلتهم إزاء الغزاة. ولهذا شأن عظيم في نفوس العرب ، الذين كانوا يرون في قريش الإمام والقدوة ، والذين كانوا

٥١٨

متأثرين بموقفهم الجحودي كل التأثر ، وإذا لو حظ أن الأعراب كانوا يقدرون أن النبي والمسلمين لن يعودوا سالمين من هذه الرحلة ، وأن المنافقين كانوا يظنون أسوأ الظنون. بدت لنا ناحية من نواحي خطورة هذا الفتح وبعد مداه. ولقد أثبتت الأحداث صدق إلهام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما فعل ، وأيده فيه القرآن ، وأظهرت عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين منه. إذ قووا في عيون القبائل ، وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار ، وازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتا وشأنهم ضآلة ، وإذ صار العرب يفدون على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من أنحاء قاصية ، وإذ تمكّن من خضد شوكة اليهود في خيبر وغيرها من قراهم المتناثرة على طريق الشام ، وإذ صار يستطيع أن يبعث بسراياه إلى أنحاء قاصية كنجد واليمن والبلقاء ، وإذ استطاع بعد سنتين أن يغزو مكة ويفتحها ، وكان في ذلك النهاية الحاسمة ، إذ جاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجا .. ونحن نعود فنؤكد أنه كان هناك ـ إلى جانب هذا كله ـ فتح آخر. فتح في النفوس والقلوب ، تصوره بيعة الرضوان ، التي رضي عنها الله وعن أصحابها ذلك الرضى الذي وصفه القرآن. ورسم لهم على ضوئه تلك الصورة الوضيئة الكريمة في نهاية السورة : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ..) الخ. فهذا فتح في تاريخ الدعوات ، له حسابه ، وله دلالته ، وله آثاره بعد ذلك في التاريخ.

٢ ـ قدّم ابن كثير لسورة الفتح بقوله : (نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام فيقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى ـ فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع ، أنزل الله عزوجل هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحا ، باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روى ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية ، وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ؛ كنا مع

٥١٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها ، فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا ..)

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) قال ابن كثير : (وروى الإمام أحمد عن مجمع بن حارثة الأنصاري رضي الله عنه ـ وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن ـ قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ قالوا أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي رسول الله أو فتح هو؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» قسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانية عشر سهما ، وكان الجيش ألفا وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما ، ورواه أبو داود في الجهاد وروى ابن جرير عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال : سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائم قال : فقلنا : أيقظوه فاستيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «افعلوا ما كنتم تفعلون ، وكذلك يفعل من نام أو نسي» قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة ، فأتيته بها فركبها ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه ، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي من غير وجه عن جامع بن شداد به وروى الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي حتى ترم قدماه ، فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلا أكون عبدا شكورا؟» أخرجاه وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به. وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه ، فقالت له عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا» أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب به. وروى ابن أبي حاتم عن قتادة عن أنس قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تورّمت قدماه ـ أو قال

٥٢٠