الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

مسروقا من آذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال حدثني أبوك ـ يعنى ابن مسعود رضي الله عنه ـ أنه آذنته بهم شجرة ، فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ، ويكون إثباتا مقدما على نفي ابن عباس رضي الله عنهما ، ويحتمل أن يكون في الأولى ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة ، أي : أعلمته باجتماعهم والله أعلم ، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات والله أعلم ، روى الحافظ البيهقي : وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلمت حاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم ، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزوجل كما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(ذكر الرواية عنه بذلك)

روى الإمام أحمد عن علقمة قال : قلت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : هل صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال : ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا اغتيل؟ استطير؟ ما فعل؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما كان في وجه الصبح ـ أو قال في السحر ـ إذا نحن به يجيء من قبل حراء ، فقلنا يا رسول الله فذكروا له الذي كانوا فيه فقال «إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم» قال : فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم قال : قال الشعبي سألوه الزاد ، قال عامر سألوه بمكة وكانوا من جن الجزيرة فقال : «كل عظم ذكر اسم الله في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم ـ قال ـ فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن» وهكذا رواه مسلم في صحيحه. وروى مسلم أيضا : عن عامر قال سألت علقمة هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن؟! قال : فقال علقمة أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقيل : استطير؟ اغتيل؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء قبل حراء ، قال : فقلنا : يا رسول الله فقدناك ، فطلبناك ، فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال : «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن» قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد فقال : «كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم» قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم». (طريق

٤٤١

أخرى) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن الزهري عن عبيد الله قال : إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بت الليلة أقرأ على الجن واقفا بالحجون». (طريق أخرى) فيها : إنه كان معه ليلة الجن ، روى ابن جرير رحمه‌الله عن أبي عثمان ابن شبة الخزاعي ـ وكان من أهل الشام ـ قال : إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه وهو بمكة : «من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل» فلم يحضر منهم أحد غيري قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خطّ لي برجله خطّا ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم رهط ، ففرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الفجر ، فانطلق فتبرز ثم أتاني فقال : «ما فعل الرهط؟» قلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأعطاهم عظما وروثا زادا ، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم. ورواه البيهقي في الدلائل ، وإسحاق بن راهويه ، والحافظ أبو نعيم. (طريق أخرى) روى أبو نعيم حدثنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : استتبعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا فخطّ لي خطا فقال «كن بين ظهر هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت منها هلكت» فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة (طريق أخرى) روى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود رضي الله عنه : حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة وفد الجن قال : أجل ، قال : فكيف كان؟ فذكر الحديث وذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطّ عليه خطا وقال «لا تبرح منها» فذكر مثل العجاجة السوداء فغشيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذعر ثلاث مرات ، حتى إذا كان قريبا من الصبح أتاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أنمت!» فقلت : لا والله ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تهرعهم بعصاك تقول : «اجلسوا» فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو خرجت لم آمن أن يتخطفك بعضهم» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل رأيت شيئا؟» قلت : نعم رأيت رجالا سوادا مستثفرين ثيابا بياضا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أولئك جن نصيبين سألوني المتاع ـ والمتاع : الزاد ـ فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة فقلت : يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل. ولا روثا إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة». (طريق أخرى) روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : استتبعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

٤٤٢

«إن نفرا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتون الليلة أقرأ عليهم القرآن» فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخطّ لي خطا وأجلسني فيه وقال لي : «لا تخرج من هذا» فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة وحمّة فقال : «إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشىء من هؤلاء» قال : فلما أصبحت قلت لأعلمنّ حيث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيرا. (طريق أخرى) روى البيهقي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : انطلقت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخطّ لي خطا ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد لهم يقال له وزدان : أنا أرحلهم عنك فقال : إني لن يجيرني من الله أحد. (طريق أخرى) روى الإمام أحمد : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لما كان ليلة الجن قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أمعك ماء؟» قلت : ليس معي ماء ولكن معي إداوة فيها نبيذ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تمرة طيبة وماء طهور» ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن زيد به (طريق أخرى) روى الإمام أحمد عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال : إنه كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عبد الله أمعك ماء؟» قال معي نبيذ في إداوة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اصبب علي» فتوضأ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عبد الله شراب وطهور» تفرد به أحمد من هذا الوجه وقد أورده الدارقطني من طريق آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه به. (طريق أخرى) روى الإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة وفد الجن فلما انصرف تنفّس فقلت ما شأنك؟ قال : «نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود» هكذا رأيته في المسند مختصرا ، وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه (دلائل النبوة) فقال : عن ابن مسعود قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة وفد الجن فتنفس ، فقلت : مالك يا رسول الله؟ قال : نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود» قلت : استخلف قال : «من؟» قلت : أبا بكر ، قال : فسكت ثم مضى ساعة فتنفّس ، فقلت : ما شأنك بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال : «نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود» قلت : استخلف قال : «من؟» قلت : عمر فسكت ، ثم مضى ساعة ثم تنفّس ، فقلت : ما شأنك؟ قال : «نعيت إلي نفسي» قلت : فاستخلف ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من؟ قلت : علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين» وهو حديث غريب جدا ، وأحرى به أن لا يكون محفوظا ، وبتقدير صحته ، فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده إن شاء الله تعالى ، فإن في ذلك

٤٤٣

الوقت كان في آخر الأمر لما فتحت مكة ودخل الناس والجان أيضا في دين الله أفواجا نزلت سورة النصر (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها إليه ، كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما ، ووافقه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عليه ، وقد ورد في ذلك حديث سنورده إن شاء الله تعالى عند تفسيرها والله أعلم ، وقد رواه أبو نعيم أيضا عن الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه فذكره وذكر فيه قصة الاستخلاف وهذا إسناد غريب وسياق عجيب (طريق أخرى) روى الإمام أحمد : عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطّ حوله فكان أحدهم مثل سواد النحل وقال : «لا تبرح مكانك فأقرأهم كتاب الله» فلما رأى المرعى قال : كأنهم هؤلاء ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمعك ماء؟» قلت : لا ، قال : «أمعك نبيذ؟» قلت : نعم ، فتوضأ به (طريق أخرى مرسلة) روى ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) قال : هم اثنا عشر ألفا جاؤوا من جزيرة الموصل فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن مسعود رضي الله عنه : «أنظرني حتى آتيك» وخطّ عليه خطّا وقال «لا تبرح حتى آتيك» فلما خشيهم ابن مسعود رضي الله عنه كاد أن يذهب فذكر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يبرح ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة». (طريق أخرى مرسلة أيضا) قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) قال : ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى وأن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني؟» فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل : يا رسول الله إن ذلك لذو ندبة فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذيل ، قال : فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شعبا يقال له شعب الحجون وخطّ عليه وخطّ على ابن مسعود رضي الله عنه خطّا ليثبته بذلك ، قال : فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم تلا القرآن فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : يا رسول الله ما اللغط الذي سمعت؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اختصموا في قتيل فقضي بينهم بالحق» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، فهذه الطرق كلها تدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذهب إلى الجن قصدا فتلا عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله عزوجل ، وشرع الله تعالى لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت. وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما. ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود رضي الله

٤٤٤

عنه ، وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لم يكن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حال مخاطبته للجن ودعائه إياهم ، وإنما كان بعيدا منه ولم يخرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد سواه ، ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة ، هذه طريقة البيهقي. وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن مسعود رضي الله عنه ولا غيره ، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام أحمد وهي عند مسلم ، ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى ـ والله أعلم ـ كما روى ابن أبي حاتم في تفسير (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) من حديث ابن جريج قال : عبد العزيز بن عمر : أما الجن الذين لقوه بنخلة فجنّ نينوى ، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجنّ نصيبين ، وتأوله البيهقي على أنه يقول : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم على غير ابن مسعود رضي الله عنه ممن لم يعلم بخروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجن ، وهو محتمل على بعد والله أعلم. وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن سعيد بن عمرو قال كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإداوة لوضوئه وحاجته فأدركه يوما فقال : «من هذا؟» قال : أنا أبو هريرة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة» فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته فقلت : يا رسول الله ما بال العظم والروثة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوه طعاما» أخرجه البخاري في صحيحه ، فهذا يدل ـ مع ما تقدم ـ على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يدل على تكرار ذلك. وقد روي عن ابن عباس غير ما روي عنه أولا من وجه جيد فروى ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) الآية قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسلا إلى قومهم. فهذا يدل على أنه قد روى القصتين. وروى ابن أبي حاتم عن ابن جريج عن مجاهد (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) الآية قال : كانوا سبعة نفر : ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، وكانت أسماؤهم حسى وحسى ومنسى وساصر وناصر والأردوبيان والأحتم ، وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال لهم : بنو الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا ، وهم كانوا عامة جنود إبليس وروى سفيان الثورى عن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا تسعة ، أحدهم زوبعة أتوه في أصل نخلة ، وتقدم عنهم أنهم كانوا خمسة عشر ، وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة ، وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان وقيل : كانوا ثلثمائة وتقدم عن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا. فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومما يدل

٤٤٥

على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشىء قط إني لأظنه هكذا إلا كان كما يظن ، بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مرّ به رجل جميل فقال : لقد أخطأ ظني أو أن هذا على دينه في الجاهلية ، أو لقد كان كاهنهم ، عليّ بالرجل ، فدعي له فقال له ذلك فقال ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم ، قال : فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال : كنت كاهنهم في الجاهلية ، قال : فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال : بينما أنا يوما في السوق جاءتنى أعرف فيها الفزع فقالت :

ألم تر الجن وإبلاسها

ويأسها من بعد إنكاسها

ولحوقها بالقلاص وأحلاسها

قال عمر رضي الله عنه : صدق ، بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ ، لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول : يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول : لا إله إلا الله ، قال : فوثب القوم فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ثم نادى : يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله ، فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي. هذا سياق البخاري ، وقد رواه البيهقي ، ثم قال : وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح ، وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه ، وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه والله أعلم ، وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجه ، وهذا الرجل هو سواد بن قارب ، وقد ذكرت هذا مستقصى في سيرة عمر رضي الله عنه ، فمن أراده فليأخذه من ثم ، ولله الحمد والمنة. وقال البيهقي : حديث سواد بن قارب ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح ، عن البراء رضي الله عنه قال : بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ قال : فلم يجبه أحد تلك السنة ، فلما كانت السنة المقبلة قال : أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ قال فقلت : يا أمير المؤمنين وما سواد بن قارب؟ قال : فقال له عمر رضي الله عنه : إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا ، فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب. قال : فقال له عمر رضي الله عنه يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال سواد رضي الله عنه : فإني كنت نازلا بالهند وكان لي رئي من الجن ، قال : فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ جاءنى في منامي ذلك قال : قم ، فافهم ، واعقل ، إن كنت تعقل قد بعث رسول من لؤي بن غالب ثم أنشأ

٤٤٦

يقول.

عجبت للجن وتحساسها

وشدها العيس بأحلامها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما خيّر الجن كأنحاسها

فانهض إلى الصفوة من هاشم

واسم بعينيك إلى راسها

قال : ثم أنبهني فأفزعني وقال : يا سواد بن قارب إن الله عزوجل بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد ، فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني ثم أنشأ يقول :

عجبت للجن وتطلابها

وشدها العيس بأقتابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ليس قداماها كأذنابها

فانهض إلى الصفوة من هاشم

واسم بعينيك إلى قابها

فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ثم قال :

عجبت للجن وتخبارها

وشدها العيس بأكوارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ليس ذوو الشر كأخيارها

فانهض إلى الصفوة من هاشم

ما مؤمنو الجن ككفارها

قال : فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله ، قال : فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي فما حللت نسعه ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا هو بالمدينة ـ يعني مكة ـ والناس عليه كعرف الفرس ، فلما رآني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مرحبا بك يا سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك» قال : قلت يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمعه مني ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قل يا سواد» فقلت :

أتاني رئي بعد ليل وهجعة

ولم يك فيما قد بلوت بكاذب

ثلاث ليال قوله كل ليلة

أتاك رسول من لؤي بن غالب

فشمّرت عن ساقي الإزار ووسطت

بي الدعالب الوجناء بين السباسب

فأشهد أن الله لا رب غيره

وأنك مأمون على كل غائب

وأنك أدنى المرسلين وسيلة

إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل

وإن كان فيما جاء شيب الذوائب

وكن لى شفيعا يوم لا ذو شفاعة

سواك بمغن عن سواد بن قارب

٤٤٧

قال : فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه وقال لي : «أفلحت يا سواد» ، فقال له عمر رضي الله عنه : هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال : منذ قرأت القرآن لم يأتني ، ونعم العوض كتاب الله عزوجل من الجن. ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين. ومما يدل على وفادتهم إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما هاجر إلى المدينة الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة) عن عمرو بن غيلان الثقفي قال : أتيت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقلت له : حدّثت أنك كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة وفد الجن. قال : أجل ، قلت : حدثني كيف كان شأنه! فقال : إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل يعشيه وتركت فلم يأخذني أحد منهم ، فمرّ بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «من هذا؟» فقلت : أنا ابن مسعود ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أخذك أحد يعشيك؟» فقلت : لا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فانطلق لعلي أجد لك شيئا» قال : فانطلقنا حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجرة أم سلمة رضي الله عنها فتركني قائما ودخل إلى أهله ، ثم خرجت الجارية فقالت : يا ابن مسعود إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجد لك عشاء فارجع إلى مضجعك. فرجعت إلى المسجد فجمعت حصباء المسجد فتوسدته والتففت بثوبي ، فلم ألبث إلا قليلا حتى جاءت الجارية فقالت : أجب رسول الله فأتبعتها وأنا أرجو العشاء ، حتى إذا بلغت مقامي خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده عسيب من نخل فعرض به على صدري فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتنطلق أنت معي حيث انطلقت؟» قلت : ما شاء الله ، فأعادها علي ثلاث مرات كل ذلك أقول : ما شاء الله ، فانطلق وانطلقت معه حتى أتينا بقيع الغرقد ، فخطّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعصاه خطّا ثم قال : «اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك» ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل ، حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت قبله العجاجة السوداء ، ففرقت فقلت ألحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإني أظنّ أنّ هوازن مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقتلوه ، فأسعى إلى البيوت فأستغيث الناس ، فذكرت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصاني أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه ، فسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرعهم بعصاه ويقول «اجلسوا» فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ، ثم ثاروا وذهبوا فأتاني ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أنمت بعدي؟» فقلت : لا ولقد فزعت الفزعة الأولى حتى رأيت أن آتي البيوت فأستغيث الناس ، حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وكنت أظنها هوازن مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقتلوه ، فقال : «لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما أمنت عليك أن يختطفك بعضهم ، فهل رأيت من شىء منهم؟» فقلت : رأيت رجالا سودا مستثفرين بثياب بيض ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أولئك وفد جنّ نصيبين أتوني فسألوني الزاد والمتاع فمتعتهم بكل عظم حائل ،

٤٤٨

أو روثة أو بعرة» قلت : فما يغني عنهم ذلك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت ، فلا يستنقي أحد منكم بعظم ولا بعرة» وهذا إسناد غريب جدا ، ولكن فيه رجل مبهم لم يسم ، والله تعالى أعلم. وقد روى الحافظ أبو نعيم عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال «أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة؟ فأسكت القوم ثلاثا فمرّ بي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدنية كلها وأفضينا إلى أرض برازا فإذا رجال طوال كأنهم الرماح ، مستثفرين بثيابهم من بين أرجلهم ، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة ، ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم وهذا حديث غريب والله أعلم. ومما يتعلق بوفود الجنّ ما رواه أبو نعيم عن حصين بن عمر : أخبرني عبيد المكتب عن إبراهيم قال : خرج نفر من أصحاب عبد الله يريدون الحج ، حتى إذا كانوا في بعض الطريق إذا هم بحية تنثني على الطريق أبيض ينفح منه ريح المسك ، فقلت لأصحابي : امضوا فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية قال : فما لبثت أن ماتت فعمدت إلى خرقة بيضاء ، فلففتها فيها ، ثم نحيتها عن الطريق ، فدفنتها وأدركت أصحابي في المتعشى. قال : فو الله إنا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب ، فقالت : واحدة منهنّ : أيكم دفن عمرا؟ قلنا : ومن عمرو؟ قالت : أيكم دفن الحية؟ قال : فقلت : أنا ، قالت : أما والله لقد دفنت صواما قواما يأمر بما أنزل الله تعالى ، ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته من السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام ، قال الرجل : فحمدنا الله تعالى ثم قضينا حجتنا ثم مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة فأنبأته بأمر الحية فقال : صدقت ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة» وهذا حديث غريب جدا ، والله أعلم ، قال أبو نعيم : وقد روى الثوري عن أبي إسحاق عن الشعبي عن رجل من ثقيف بنحوه ، وروى عبد الله بن أحمد الظهراني عن صفوان ابن المعطل ـ هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة ـ وأنهم قالوا إنه آخر التسعة موتا الذين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمعون القرآن ، وروى أبو نعيم عن معاذ بن معمر قال : كنت جالسا عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء رجل فقال : يا أمير المؤمنين إني كنت بفلاة من الأرض فذكر أنه رأى ثعبانين اقتتلا ، ثم قتل أحدهما الآخر ، قال : فذهبت إلى المعترك فوجدت حيات كثيرة مقتولة ، وإذ ينفح من بعضها ريح المسك ، فجعلت أشمها واحدة واحدة ، حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة ،

٤٤٩

فلففتها في عمامتي ودفنتها ، فبينا أنا أمشي إذ ناداني مناد : يا عبد الله لقد هديت ، هذان حيان من الجن بنو شعيبان وبنو قيس التقوا فكان من القتلى ما رأيت ، واستشهد الذي دفنته ، وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فقال عثمان لذلك الرجل : إن كنت صادقا فقد رأيت عجبا ، وإن كنت كاذبا فعليك كذبك).

فهم بعضهم من النصوص التي ذكرت بمناسبة الكلام عن جنّ نصيبين أن كل عظم هو غذاء للجن إلى قيام الساعة ، وكل روث هو علف لدوابهم ، والذي فهمته من النصوص أنّ ذلك كان معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكرامة لجنّ نصيبين فقط.

وقد تحدّث صاحب الظلال حديثا مسهبا عن الجن بمناسبة ذكرهم في السورة فقال : (إن ذكر القرآن لحادث صرف نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحكاية ما قالوا وما فعلوا .. هذا وحده كاف بذاته لتقرير وجود الجن ، ولتقرير وقوع الحادث. ولتقرير أن الجن هؤلاء يستطيعون أن يسمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق ، كما يلفظه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران ، مستعدون للهدى وللضلال .. وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة ؛ فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها الله ـ سبحانه ـ ثبوتا. ولكنا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني. إن هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار ، حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنها وصفة وأثرا. ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار نعرف منها القليل ونجهل منها الكثير. وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار وندرك بعض هذه القوى ، ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق. تارة بذواتها. وتارة بصفاتها. وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا. ونحن ما نزال في أول الطريق. طريق المعرفة لهذا الكون ، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا ، ويعيش أبناؤنا وأحفادنا ، على ذرة من ذراته الصغيرة الصغيرة. هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئا يذكر في حجم الكون أو وزنه! وما عرفناه اليوم ـ ونحن في أول الطريق ـ يعد بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن. ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شىء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم لظنوه مجنونا ، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعا!

٤٥٠

ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية ، المعدّة للخلافة في هذه الأرض ، ووفق مقتضيات هذه الخلافة ، وفي دائرة ما سخّره الله لنا ليكشف لنا عن أسراره ، ولتكون لنا ذلولا ، كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض .. ولا نتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها .. مهما امتد بنا الأجل ـ ومهما سحر لنا من قوى الكون وكشف لنا من أسراره ـ لا تتعدى تلك الدائرة. دائرة ما نحتاجه للخلافة في هذه الأرض. وفق حكمة الله وتقديره. وسنكشف كثيرا ، وسنعرف كثيرا ، وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته ، مما قد تعتبر أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة. وفي حدود قول الله ـ سبحانه ـ (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء : ٨٥). قليلا بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيومه. وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود ؛ ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) (لقمان : ٢٧). فليس لنا ـ والحالة هذه ـ أن نجزم بوجود شىء أو نفيه. وبتصوره أو عدم تصوره. من عالم الغيب المجهول ، ومن أسرار هذا الوجود وقواه ، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي أو تجاربنا المشهودة. ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها ، فضلا عن إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا! وقد تكون هنالك أسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلا. وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه ، فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره أو مجرد وجوده ، لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض. فإذا كشف الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى. عن طريق كلامه ـ لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضا ـ فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقّى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم. نتلقاها كما هي فلا نزيد عليها ولا ننقص منها. لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة. وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار! ومن هذا النص القرآني. ومن نصوص سورة الجن. والأرجح أنها تعبير عن الحادث نفسه. ومن النصوص الأخرى المتناثرة في القرآن عن الجن. ومن الآثار النبوية الصحيحة عن هذا الحادث. نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن .. ولا زيادة .. هذه الحقائق تتلخص في أن هنالك خلقا اسمه الجن. مخلوق من النار. لقول إبليس في الحديث عن آدم : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (ص : ٧٦) .. وإبليس من

٤٥١

الجن لقول الله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (الكهف : ٥٠) .. فأصله من أصل الجن. وأن هذا الخلق له خصائص غير خصائص البشر. منها خلقته من نار ، ومنها أنه يرى الناس ولا يراه الناس ، لقوله تعالى عن إبليس ـ وهو من الجن ـ : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (الأعراف : ٢٧) .. وأن له تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس. للقول السابق : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ ..) وأن له قدرة على الحياة في هذا الكوكب الأرضي ـ لا ندري أين ـ لقوله تعالى : لآدم وإبليس معا : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (البقرة : ٣٦) .. والجن الذين سخروا لسليمان عليه‌السلام كانوا يقومون له بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزودين بالقدرة على الحياة فيها. وأن له قدرة كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب لقول الله تعالى حكاية عن الجن : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (الجن : ٨ ـ ٩) .. وأنه يملك التأثير في إدراك البشر وهو مأذون في توجيه الضالين منهم ـ غير عباد الله ـ للنصوص السابقة ، ولقوله تعالى في حكاية حوار إبليس اللعين : (قالَ : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص : ٨٣ ـ ٨٤) .. وغير هذا من النصوص المماثلة. ولكنا لا نعرف كيف يوسوس ويوجه وبأي أداة. وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته ، بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثر به. وأنه قابل للهدى وللضلال بدلالة قول هذا النفر في سورة الجن : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ. فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً* وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (الآية : ١٤ ـ ١٥) .. وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الإيمان ، بعد ما وجدوه في نفوسهم ، وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد.

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى عن الجن : (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) قال ابن كثير : (وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل ولا شك أن الجن لم يبعث الله تعالى منهم رسولا لقوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (يوسف : ١٠٩) وقال عزوجل (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) (الفرقان : ٢٠) وقال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) (الحديد : ٢٦) فكل نبي بعثه الله تعالى بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته فأما قوله تبارك وتعالى في

٤٥٢

سورة الأنعام (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (الأنعام : ١١٥) فالمراد من مجموع الجنسين ، فيصدق على أحدهما وهو الإنس كقوله (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (الرحمن : ٢٢) أي : أحدهما).

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى على لسان الجن عن القرآن. (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) قال ابن كثير : (فإن القرآن مشتمل على شيئين خبر وطلب ، فخبره صدق وطلبه عدل عدلا كما قال تعالى (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) (الأنعام : ١١٥) وقال سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) (الصف : ٩) فالهدى هو العلم النافع ودين الحق هو العمل الصالح ، وهكذا قالت الجن (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) في الاعتقادات (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : في العمليات).

٦ ـ بمناسبة قوله تعالى على لسان الجن في قولهم لأقوامهم (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قال ابن كثير : (فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الثقلين الجن والإنس ، حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ، ووعدهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن ولهذا قال : (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ).

٧ ـ بمناسبة قوله تعالى (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) قال ابن كثير : (وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال وأشهرها : أنهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء كلهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نص الله تعالى على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى ، وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرسل فتكون (من) في قوله من الرسل لبيان الجنس والله أعلم ، وقد روى ابن أبي حاتم عن مسروق قال : قالت لي عائشة رضي الله عنها : ظل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صائما ثم طواه ، ثم ظل صائما ثم طواه ، ثم ظل صائما ثم قال : «يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله».

٤٥٣

كلمة أخيرة في سورة الأحقاف وزمرة آل حم :

سورة الأحقاف هي آخر سورة من زمرة آل حم ، وقد اشتركت آل حم كلها في كونها تحدثت عن القرآن الكريم ، وعن مظاهر من إعجازه ، وناقشت الكافرين فيه ، ودار تفصيلها بين مقدمة سورة البقرة ، والمقطع الأول منها ، ومن ثم فقد كانت كلها تبني إما في الأساس ، وإما في الطريق ، ومن ثم فإن دراستها تشكل جزءا كبيرا من فقه الأساس ، وفقه الطريق ، وكانت سورة الأحقاق هي السورة السابعة فيها والأخيرة ، وقد فصّلت كما رأينا في الطريقين : طريق الإيمان ، وطريق الفسوق ، فعمّقت قضية الاهتداء بالقرآن ، وعمّقت قضية العبادة لله وحده ، وحذّرت وأنذرت ، وبشّرت ووعدت وأوعدت ، وناقشت وأقامت الحجة ، وخاطبت النفس والعقل ، وكان لها سياقها الخاص ، وأدت دورها في خدمة السياق القرآني العام ، وبيّنت في الطريق إلى التقوى والطريق إلى الفسوق ومن ثم فقد انتهت بقوله تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) ، ولننتقل إلى سورة القتال وهي السورة الثالثة من المجموعة الخامسة في قسم الثاني.

٤٥٤

سورة محمّد

وهي السّورة السّابعة والأربعون بحسب الرّسم القرآني

وهي السّورة الثالثة من المجموعة الخامسة من قسم المثاني

وآياتها ثمان وثلاثون آية

وهي مدنيّة

٤٥٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم

٤٥٦

بين يدي سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

قال الألوسى في تقديمه لهذه السورة : (وتسمى سورة القتال ، وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا استثناء ، وعن ابن عباس وقتادة أنها مدنية إلا قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) إلى آخره ، فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إليه وقال : «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله ، وأنت أحب بلاد الله تعالى إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك» فأنزل الله تعالى ذلك فيكون مكيا بناء على أن ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعني ما نزل في سفر الهجرة ـ من المكي اصطلاحا ، كما يؤخذ من أثر أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام ، وعدة آيها أربعون في البصري ، وثمان وثلاثون في الكوفي ، وتسع بالتاء الفوقية وثلاثون فيما عداهما ، والخلاف في قوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) وقوله تعالى : (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) ولا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها ، واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكان متصلا واحدا لا تنافر فيه كالآية الواحدة ، آخذا بعضه بعنق بعض ، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقرؤها في صلاة المغرب).

وقال صاحب الظلال : (هذه السورة مدنية ، ولها اسم آخر. (وهو) سورة القتال. وهو اسم حقيقي لها. فالقتال هو موضوعها. والقتال هو العنصر البارز فيها. والقتال في صورها وظلالها. والقتال في جرسها وإيقاعها.

القتال موضوعها. فهي تبدأ ببيان حقيقة الذين كفروا وحقيقة الذين آمنوا في صيغة هجوم أدبي على الذين كفروا ، وتمجيد للذين آمنوا ، مع إيحاء بأن الله عدو للأولين ووليّ للآخرين ، وأن هذه حقيقة ثابتة في تقدير الله سبحانه. فهو إذن إعلان حرب منه تعالى على أعدائه وأعداء دينه منذ اللفظ الأول في السورة : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ).

وعقب إعلان هذه الحرب من الله على الذين كفروا ، أمر صريح للذين آمنوا بخوض

٤٥٧

الحرب ضدهم. في صيغة رنانة قوية ، مع بيان لحكم الأسرى بعد الإثخان في المعركة والتقتيل العنيف : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها).

ومع هذا الأمر بيان لحكمة القتال ، وتشجيع عليه ، وتكريم للاستشهاد فيه ، ووعد من الله بإكرام الشهداء ، وبالنصر لمن يخوض المعركة انتصارا لله ، وبهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم : (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).

ومعه كذلك تهديد عنيف للكافرين ، وإعلان لولاية الله ونصرته للمؤمنين ، وضياع الكافرين وخذلانهم وضعفهم وتركهم بلا ناصر ولا معين : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها* ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ). كذلك تهديد آخر للقرية التي أخرجت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ).

ثم تمضي السورة بعد هذا الهجوم العنيف السافر في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان ، وحال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا والآخرة. فتفرق بين متاع المؤمن بالطيبات ، وتمتع الكافرين بلذائذ الأرض كالحيوان : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ). كما تصف متاع المؤمنين في الجنة بشتى الأشربة الشهية من ماء غير آسن ، ولبن لم يتغير طعمه ، وخمر لذة للشاربين ، وعسل مصفى ، في وفر وفيض .. في صورة أنهار جارية .. ذلك مع شتى الثمرات ، ومع المغفرة والرضوان. ثم سؤال : أهؤلاء (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)؟.

فإذا انقضت هذه الجولة الأولى في المعركة السافرة المباشرة بين المؤمنين والكافرين. أعقبها في السورة جولة مع المنافقين ، الذين كانوا هم واليهود بالمدينة يؤلفون خطرا على الجماعة الإسلامية الناشئة لا يقل عن خطر المشركين الذين يحاربونها من مكة وما حولها

٤٥٨

من القبائل في تلك الفترة ، التي يبدو من الوقائع التي تشير إليها السورة أنها كانت بعد غزوة بدر ، وقبل غزوة الأحزاب وما تلاها من خضد شوكة اليهود ، وضعف مركز المنافقين (كما ذكرنا في تفسير سورة الأحزاب).

والحديث عن المنافقين في هذه السورة يحمل ظلالها. ظلال الهجوم والقتال. منذ أول إشارة. فهو يصور تلهيهم عن حديث رسول الله ، وغيبة وعيهم واهتمامهم في مجلسه ، ويعقب عليه بما يدمغهم بالضلال والهوى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ : ما ذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).

ويهددهم بالساعة يوم لا يستطيعون الصحو ولا يملكون التذكر : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً؟ فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها. فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ؟).

ثم يصور هلعهم وجبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال ـ وهم يتظاهرون بالإيمان ـ والفارق بينهم يومئذ وبين المؤمنين الصادقين : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ! فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ!).

ويحثهم على الطاعة والصدق والثبات. ويرذل اتجاهاتهم ، ويعلن عليهم الحرب والطرد واللعن : (فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ؟ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ).

ويفضحهم في توليهم للشيطان ، وفي تآمرهم مع اليهود ، ويهددهم بالعذاب عدا الموت بالفضيحة التي تكشف أشخاصهم فردا فردا في المجتمع الإسلامي ، الذي يدمجون أنفسهم فيه ، وهم ليسوا منه ، وهم يكيدون له : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ : سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ* وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ).

٤٥٩

وفي الجولة الثالثة والأخيرة في السورة عودة إلى الذين كفروا من قريش ومن اليهود وهجوم عليهم : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ـ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى ـ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ).

وتحذير للذين آمنوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أعداءهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ..

وتحضيض لهم على الثبات عند القتال : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ).

وتهوين من شأن الحياة الدنيا وأعراضها. وحضّ على البذل الذي يسره الله ، ولم يجعله استئصالا للمال كله ، رأفة بهم ، وهو يعرف شح نفوسهم البشرية ، وتبرمها وضيقها لو أحفاهم في السؤال :

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ* إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ).

وتختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إن هم بخلوا بإنفاق المال ، وبالبذل في القتال : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) ..

إنها معركة مستمرة من بدء السورة إلى ختامها ؛ يظللها جو القتال ، وتتسم بطابعه في كل فقراتها.

وجرس الفاصلة وإيقاعها منذ البدء كأنه القذائف الثقيلة : (أَعْمالَهُمْ.* بالَهُمْ.* أَمْثالَهُمْ.* أَهْواءَهُمْ.* أَمْعاءَهُمْ ..). وحتى حين تخف فإنها تشبه تلويح السيوف في الهواء : (أَوْزارَها. أَمْثالُها. أَقْفالُها ..).

وهناك شدة في الصور كالشدة في جرس الألفاظ المعبرة عنها .. فالقتال أو القتل

٤٦٠