الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

أكرمك؟ ألم أسخّر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول : بلى يا رب ، فيقول : أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول : لا فيقول الله تعالى : فاليوم أنساك كما نسيتني»).

٩ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) قال ابن كثير : (وقد ورد في الحديث الصحيح : «يقول الله تعالى : العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما أسكنته ناري» رواه مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد رضى الله عنهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه).

كلمة أخيرة في سورة الجاثية :

١ ـ فصّلت السورة في الآيات السبع الأولى من سورة البقرة ، أي : في موضوع المتقين والكافرين ، فعرفنا كثيرا مما أجمل في أول سورة البقرة ، وعرفنا كثيرا عن بعض الأمور التي ذكرت هناك بشكل تقريري.

٢ ـ عرفنا بشكل دقيق أن ما سوى شريعة الله هو الهوى. جاء ذلك بعد ذكر اختلاف بني إسرائيل من بعد ما جاءهم العلم. مما يشير إلى أن كل خلاف في هذه الأمة سببه البغى ، وسببه اتباع الهوى ، وأن الحكم العدل هو في شريعة الله عزوجل ، وفي ذلك درس كبير لمسلمي عصرنا الذين اختلفوا كثيرا وأهملوا كثيرا.

٣ ـ عرفنا من السورة أن من خصائص هذا القرآن أنه بصائر للناس ، أي : أنه عيون لقلوبهم يرون بها الأشياء على حقائقها ، وبأحجامها ، وفي ذلك درس كبير للمسلم ألّا يرى شيئا في هذا الوجود إلا بعين القرآن ، وإن الذي لا يرى الناس والأشياء والأمور وكل شىء بهذه العين أعمى. إن كثيرين من الناس لا يرون الأمور السياسية بهذه العين ، وإن كثيرين لا يرون الأمور الاقتصادية بهذه العين ، وإن كثيرين لا يرون الأمور الاجتماعية بهذه العين ، هؤلاء كلهم عميان على الحقيقة ، إن المسلم الحق هو الذي يرى الأشياء كلها بنور القرآن.

٤ ـ رأينا أن محور السورة هو الآيات السبع من أول سورة البقرة ، وقد رأينا أن التفصيل انصب على قضية الاهتداء بالقرآن والكفر به ، أكثر مما انصب على أي شىء آخر. ومن ثم فإن السورة بدأت بقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ

٤٠١

الْحَكِيمِ) ثم ختمت المجموعة الأولى منها بقوله تعالى : (هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) ثم ختمت المجموعة الثانية بقوله تعالى : (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ورأينا في المجموعة الأولى : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ورأينا في المقطع الثاني : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) ورأينا كذلك في المقطع الثاني (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ..).

٥ ـ مع أن السورة فصّلت في محورها كما رأينا ، إلا أن سياقها الخاص ووحدتها كانا على غاية من التسلسل والوحدة ، فبعد أن أوصلتنا المجموعة الأولى إلى حقيقة من خصائص القرآن ، ثم أوصلتنا المجموعة الثانية إلى خصائص أخرى ، وعرفتنا المجموعتان على المواقف الكافرة من هذا القرآن ، انصبّ الكلام في المقطع الثاني على بيان عدم المساواة بين أهل الإيمان وأهل الكفر ، وهكذا أدّت السورة دورها في السياق العام للقرآن الكريم ، كما أدّت دورها في محلّها من مجموعتها وكلّ ذلك ضمن سياقها الخاص بها.

٤٠٢

سورة الأحقاف

وهي السّورة السّادسة والأربعون بحسب الرسم القرآني

وهي السّورة الثانية من المجموعة الخامسة من قسم المثاني

وآياتها خمس وثلاثون آية

وهي مكيّة

وهي السّورة السّابعة والأخيرة من آل (حم)

٤٠٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

٤٠٤

كلمة في سورة الأحقاف ومحورها :

يلاحظ أن هناك شبها بين سورة الأحقاف وسورتي فصّلت وهود ؛ ففي سورة فصّلت يرد قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ....) (الآية : ٣٠). وفي سورة الأحقاف يرد قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ....) (الآية : ١٣).

وفي سورة فصّلت يرد قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ* إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ....) (الآيتان : ١٣ ، ١٤) وفي سورة الأحقاف يرد قوله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ....) (الآية : ٢١).

وفي سورة فصّلت يرد قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.) (الآية : ٥٢) وفي سورة الأحقاف يرد قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ). (الآية : ١٠).

وفي سورة هود يرد قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (الآية : ١١٢) وترد فيها قصص مجموعة رسل منهم هود ، كلهم دعوا لعبادة الله وحده ، وذلك يشبه ما ورد في سورة الأحقاف.

ويرد في سورة هود قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ.) (الآية : ١٣) ونجد في سورة الأحقاف قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً.)

وفي سورة هود يرد قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (الآية : ١٧).

وفي سورة الأحقاف نجد قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ*

٤٠٥

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ* وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ.) (الآيات : ١٠ ـ ١٢).

وهذا كله يستأنس به على أن محور سورة الأحقاف هو نفسه محور سورتي هود وفصّلت ، ولقد رأينا أنّ محور سورتي هود وفصّلت هو قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وههنا نجد قوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) (الآيتان : ٤ ، ٥).

فمحور السورة من سورة البقرة يدعو إلى عبادة الله وحده ، وسورة الأحقاف تناقش من يعبد غيره.

رأينا أن سورة الجاثية فصّلت في مقدمة سورة البقرة ، ويأتي بعد مقدّمة سورة البقرة المقطع الأول من القسم الأول منها ، وهو مقطع الطريقين الذي يبدأ بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ.) والملاحظ أن سورة الأحقاف تفصّل في ست آيات في هذا المقطع أي إلى قوله تعالى (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ)

تتألف سورة الأحقاف من مقدمة ومقطعين :

المقدمة هي قوله تعالى : (حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) ثمّ يأتي المقطع الأول وهو مبدوء بكلمة (قل) ومنته بقول تعالي (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) ثمّ يأتي المقطع الثاني وهو مبدوء بكلمة (واذكر) ومنته بقوله تعالى (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)

وسنرى وحدة السورة أثناء عرضها وصلتها بمحورها من سورة البقرة ، وقد ذكر

٤٠٦

الألوسي وجه مناسبتها لما قبلها فقال : (ووجه اتصالها أنّه تعالى لما ختم السورة التي قبلها بذكر التوحيد ، وذمّ أهل الشرك والوعيد افتتح هذه بالتوحيد ، ثمّ بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد) ولنبدأ عرض السورة :

مقدمة السورة

وتمتد من الآية (١) إلى نهاية الآية (٣) وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣))

التفسير :

(حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ومن ثم فهو مجلى عزة الله وحكمته قال ابن كثير : (يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه دائما إلي يوم الدين. ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام ، والحكمة في الأقوال والأفعال.)

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) لا علي وجه العبث والباطل (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ينتهي إليه وهو يوم القيامة ، أي وإلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص ، وهذا يقتضي إنزال وحي وإرسال رسل ؛ لتحدد للإنسان المسار الذي ينسجم به مع حكمة خلق الخلق ، ومع مقتضى العبودية لله العزيز. ومن ثم قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) أي : عما أنذروه من هول ذلك اليوم الذي لا بد

٤٠٧

لكل مخلوق من انتهائه إليه (مُعْرِضُونَ) أي : لاهون عما يراد بهم ، أي لا يؤمنون به ولا يهتمّون بالاستعداد له. قال ابن كثير : (وقد أنزل الله تعالى إليهم كتابا ، وأرسل إليهم رسولا ، وهم معرضون عن ذلك كله ، أي وسيعلمون غبّ ذلك.)

كلمة في السياق :

قلنا إن سورة الأحقاف تفصّل في المقطع الآتي بعد مقدمة سورة البقرة ، ولكنها قبل أن تنطلق لهذا التفصيل فإنّها تقدّم بذكر قضيتين تعرّضت لهما مقدمة سورة البقرة ، فهي تذكّر بهما ، ثمّ تصل إلى تفصيل ما بعد المقدمة :

لقد ذكرت مقدّمة سورة الأحقاف بقوله تعالى من مقدمة سورة البقرة : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

فعرضت مقدمة سورة الأحقاف إلى أن القرآن من عند الله ، وعرضت لإعراض الكافرين عنه ، وها هي ذي تنطلق نحو مناقشة الذين يعبدون غير الله ، ثم تناقش الذين لا يؤمنون بالقرآن ، ثم تبشّر وتنذر ، ثم تتحدث عن الفاسقين ، ثمّ تذكّر وتعظ ، فتفصّل في سيرها وعلى طريقتها ـ كما قلنا ـ في ست آيات من المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة فلنر المقطع الأول من سورة الأحقاف.

المقطع الأول

وتمتد من الآية (٤) إلى نهاية الآية (٢٠) وهذا هو :

(قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ

٤٠٨

(٦) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولَـٰئِكَ

٤٠٩

الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّـهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

التفسير :

(قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكافرين المعرضين (أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : أخبروني عن هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله من الأصنام والأنداد والشركاء (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي : أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض ، أي : أي شىء خلقوا فيها إن كانوا آلهة (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي : أم شاركوا في خلق السماوات فصار لهم شركة مع الله في الألوهية حتى عبدتموهم؟؟ فإذا لم يكن هذا ولا هذا فكيف تعبدون معه غيره وتشركون به؟. من أرشدكم إلى هذا ومن دعاكم إليه؟ أهو أمركم به؟ أم هو شىء اقترحتموه من عند أنفسكم ، ومن ثم قال (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أي : من قبل هذا القرآن أنزله الله يشهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي : أو أدنى شىء

٤١٠

من علم أيا كان نوعه يشهد على أن هناك خالقا مع الله. حتى يصح أن يعبد معه ، هاتوا دليلا بينا على هذا المسلك الذي سلكتموه من عقل أو نقل أو تجريب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أن مع الله إلها آخر يعبد قال ابن كثير : أي لا دليل لكم ـ لا نقليا ولا عقليا ـ على ذلك.

كلمة في السياق :

لم يذكر الله عزوجل في مقدمة السورة موضوع العبادة بل قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) بينما جاء النقاش هنا منصبّا على عبادة غير الله ، مما يدل على أن علة الكفر عبادة غير الله ، وقد بين الله عزوجل في معرض نقض هذه العبادة أن العبادة لا تنبغي إلا للخالق ، وليس هناك من دليل علمي أو نقلي يثبت أن مع الله خالقا ، بل الدليل العلمي والنقلي على أن الله وحده هو الخالق ، ومن ثم فإنه وحده يستحق العبادة ، فليعبده الإنسان. وإذا تذكرنا أن محور السورة يبدأ بقوله تعالى في سورة البقرة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) إذا تذكرنا هذا عرفنا أن السورة بدأت تناقش من لا يعبد الله ، وتقيم الحجة عليه ، وقد رأينا كيف أن الحجة كانت قاطعة ومعجزة ، ففي عصرنا ندرك أبعاد قوله تعالي (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) ففي ذلك تحد كامل لكل كافر أن يستطيع أن يأتي بأدني دليل علمي على أن غير الله قد خلق ، فإذا كانت الكتب السماوية والعلم يشهدان أن الله هو الخالق ، وأنه يجب أن يعبد وحده فكيف يفر الفارون من عبادته ، وههنا نحب أن نسجّل فكرة ، وهي أن الملحدين يدّعون أنهم علميون وعقليون ، وكذبوا ؛ فالإلحاد شرك من نوع جديد. فبدلا من أن يكون المشرك الوثني يعبد جزءا من الكون ، فإن الملحدين خلعوا على مجموع الكون صفات الألوهية ، من خلق ورزق وحكمة ، وبدلا من أن يعبدوا أجزاء في الكون ـ كما فعل الوثني ـ عبدوا شهواتهم ونزواتهم وأهواءهم وآراءهم الفاسدة ، ولنعد إلى التفسير :

فبعد أن أقام الله عزوجل الحجة على المشركين بهذا الشكل القاطع المعجز الذي رأيناه يبيّن في الآيتين التاليتين أنه لا أضل من هؤلاء :

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا) أي : يعبده (مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام والأنداد والشركاء (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) إن دعاه (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ) مع عدم استجابتهم

٤١١

(عَنْ دُعائِهِمْ) أي : عبادتهم (غافِلُونَ) أي : لا أضل ممن يدعو من دون الله شركاء ، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة ، وهي غافلة عما يقول ، لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش ؛ لأنها جماد حجارة صم (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) يوم القيامة (كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) أي : كانت هذه الأصنام لعبدتها عدوة (وَكانُوا) أي : الأصنام (بِعِبادَتِهِمْ) أي : بعبادة شركائهم (كافِرِينَ) أي : يقولون ما دعوناهم إلى عبادتنا فسيخذلونهم أحوج ما يكونون إليهم. قال النسفي : ومعنى الاستفهام في (من أضل) إنكار أن يكون في الضّلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأوثان ، حيث يتركون دعاء السميع المجيب ، القادر على كل شيء ، ويدعون من دونه جمادا لا يستجيب لهم ، ولا قدرة له على استجابة أحد منهم ، ما دامت الدنيا ، وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا عليهم ضدا ، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة ، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم ، ولما أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم من الاستجابة والغفلة قيل (من) و (هم) ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة فذلك على طريقة التهكم بها وبعبدتها ، ونحوه قوله تعالى (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) (فاطر : ١٤).

قال صاحب الظلال :

(وإذا كان القرآن يندد بضلال من يدعون من دون الله آلهة لا يستجيبون لهم إلى يوم القيامة ، وكان هذا يعني المعبودات التاريخية التي عرفتها الجماعات البشرية عند نزول هذا القرآن ، فإن النص أوسع مدلولا وأطول أمدا من ذلك الواقع التاريخي. فمن أضل ممن يدعو من دون الله أحدا في أي زمان وفي أي مكان؟ وكل أحد ـ كائنا من كان ـ لا يستجيب بشىء لمن يدعوه ، ولا يملك أن يستجيب. وليس هناك إلا الله فعّال لما يريد .. إن الشرك ليس مقصورا على صوره الساذجة التي عرفها المشركون القدامى. فكم من مشركين يشركون مع الله ذوي سلطان ، أو ذوي جاه أو ذوي مال ؛ ويرجون فيهم ، ويتوجهون إليهم بالدعاء. وكلهم أعجز من أن يستجيبوا لدعاتهم استجابة حقيقية. وكلهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا. ودعاؤهم شرك. والرجاء فيهم شرك. والخوف منهم شرك. ولكنه شرك خفى يزاوله الكثيرون وهم لا يشعرون.)

٤١٢

كلمة في السياق :

رأينا في مقدمة السورة قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) ثم جاء مباشرة بعد ذلك قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ.) مما يشير إلى أن علة كفر هؤلاء هو الشرك ، وصلة ذلك في أوائل محور السورة واضحة (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وبعد أن فنّد الله عزوجل ما هم عليه ، وبيّن فظاعته ، تأتي الآن آيات تعرض موقفهم من الإنذار ، أي من الكتاب الذي أنذروا به ، وتردّ على هذا الموقف. والسؤال الآن : ما صلة ذلك بمحور السورة؟.

والجواب : إنه بعد الأمر بالعبادة ، والنهي عن الشرك في محور السورة ، جاء قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وههنا يذكر الله عزوجل موقفهم من الكتاب ويقيم الحجة عليهم فيه.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي : واضحات مبيّنات قال ابن كثير : أي : تتلى عليهم حال بيانها ووضوحها وجلائها (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كبرا وعنادا (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي للقرآن حين جاءهم. قال النسفي : بادهوه الجحود ساعة أتاهم ، وأول ما سمعوه ، من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر أمره في البطلان لا شبهة فيه (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي : بل يقولون إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلقه وأضافه إلى الله كذبا ، والضمير للحق ، والمراد به الآيات أي : القرآن ، وصفوه بالسحر ، ثم وصفوه بأنه مكذوب على الله اختلقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند نفسه ، والصيغة تفيد أنهم استقروا على الرأي الأخير ، وأيّا ما كان فإن مرجع الوصف الأول إلى الثاني ، ومن ثمّ ينصبّ الجواب عليه ، وإذا كانت هذه القضية هي الأصل الذي يرتكز عليه كل كفر ، فقد جاء الجواب عليها مفصلا ، فأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول ثلاثة أقوال في الردّ عليها ، ومن ثم تتكرر كلمة (قل) ثلاث مرات في معرض الجواب :

الجواب الأول :

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) قال ابن كثير : أي لو كذبت عليه

٤١٣

وزعمت أنه أرسلني وليس كذلك ، لعاقبني أشد العقوبة ، ولم يقدر أحد من أهل الأرض ـ لا أنتم ولا غيركم ـ أن يجيرني منه. فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه وأنا أعلم ذلك. (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي : بما تسهبون فيه من القدح في وحي الله ، والطعن في آياته ، وتسميته سحرا تارة ، وفرية تارة أخرى (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي : يشهد لي بالصدق والبلاغ ، ويشهد عليكم بالجحود والإنكار. قال النسفي : ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم. وقال ابن كثير : هذا تهديد لهم ووعيد أكيد وترهيب شديد. أقول : أمره بأن يرد عليهم بأن الله عزوجل يغار أن يفترى عليه ، ويعاقب على ذلك ، كما يغار أن يكذّب وحيه ورسوله ، ومن ثم ففعل الله عزوجل بالفريقين يدل على من هو صاحب الحق. وقد حكم الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنصره وأيّده ، ونشر دينه ، وتوفاه وهو على أكمل حال ، وفي ذلك دليل صدقه في رسالته ، إذ لو ادعى الرسالة عن الله كذبا لغضب الله وعاقبه في الدنيا. ولا يقولن قائل : إن كثيرين تنتشر دعواتهم وهم غير مستقيمين ، فالكلام عمن يدّعي أنّه رسول الله ، فإن مثل هذا إن كان كاذبا يعاقبه الله في الدنيا. ثم ختم الله الآية بقوله : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي : هو على مغفرته ورحمته يعاقب من كذب عليه. وفي ختم الآية بذلك دعوة لهم إلى التوبة والإنابة ، وترغيب لهم بذلك. قال ابن كثير : أي ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم تاب الله عليكم ، وعفا عنكم ، وغفر ورحم. هذا هو الجواب الأول على اتهام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه افترى القرآن على الله من عند نفسه. فلنر الجواب الثاني.

الجواب الثاني :

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي : ما كنت بديعا من الرسل. قال النسفي : (والمعنى لست بأول رسول فتنكروا نبوتي) وقال ابن كثير : أي لست بأول رسول طرق العالم ، بل قد جاءت الرسل من قبلي ، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني ، وتستبعدون بعثتي إليكم ، فإنه قد أرسل الله جل وعلا قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم). فإذا كان هذا هو الشأن ، وكانت تظهر معي علامات النبوة وخصائصها فعلام تستنكرون الوحي الذي أنزله علي وأنا لا أدعي إلا العبودية له سبحانه ، ولا أدعي مقاما فوق مقام البشر. ومن ثم أتّم الله الحجة ، آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي : وما أعلم ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان ، أي في الدنيا قال ابن كثير : (قال الحسن البصري : أما في الآخرة فمعاذ الله ،

٤١٤

أي ألا يعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما الله فاعل به. وقد علم أنه في الجنة ، ولكن قال لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا. أخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبلي؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة؟ وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير ، وأنه لا يجوز غيره ، ولا شك أن هذا هو اللائق به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا؟ أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم).

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي : إنما أتّبع ما ينزله الله عليّ من الوحي ، فما أنا إلا عبد الله ، منفذ لأمره ، وذلك دليل على أنني صادق في دعوى الرسالة على الله ، ومن ثمّ فأنا أكثركم التزاما بما أدعو إليه (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : مبين النذارة ، أمري ظاهر لكل ذي لب وعقل. أقام الله عليهم الحجة بأن رسوله صادق في هذه الآية بظهور خصائص الرسالة عليه ، ومن جملة ذلك التواضع والالتزام الكامل بما يدعو إليه ، والنذارة في أمر الآخرة.

والآن يأتي الجواب الثالث على زعمهم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم افترى هذا القرآن.

الجواب الثالث :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) هذا القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) قال ابن كثير : أي ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله عليّ لأبلغكموه وقد كفرتم به وكذبتموه. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) قال النسفي : أي مثله في المعنى ، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن ، من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك. (فَآمَنَ) قال ابن كثير : أي هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيّته (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أنتم عن اتباعه. قال ابن كثير : (وهذا الشاهد اسم جنس يعمّ عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره. فإن هذه الآية مكية.) وسنرى في الفوائد تحقيق ذلك ، ثم ختم الله الآية بقوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) دلّت هذه الجملة على جواب الشرط (إن) والتقدير إن كان القرآن من عند الله ، وكفرتم به ، ألستم ظالمين ، وإذا كنتم ظالمين فإن الله عزوجل لا يهديكم لقيام الحجة عليكم ، واستكباركم عن الخضوع لها ، فأصبح معنى الآية كما قال النسفي : (والمعنى .. قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به ، واجتمع

٤١٥

شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله فآمن به ، مع استكباركم عنه ، وعن الإيمان به ألستم أضل الناس وأظلمهم؟!).

أقول : دلّل هذا الجواب على أن القرآن ليس مفترى ؛ بمطابقة معانيه لمعاني الكتب المنزلة من قبل ، يشهد على ذلك علماء بني إسرائيل المنصفون ، ولكن هذه الحجة جاءت في سياق وعظي آمرناه ، فاجتمع في الآية الأخيرة الحجّة والأمر والنّهي والإنكار والتبيان والوعظ بآن واحد ، لأنها مع كونها حجة جديدة وردا جديدا ، فهي خاتمة للآيات التي ردت على اتهام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بافترائه هذا القرآن.

كلمة في السياق :

بعد أن أقام الله عزوجل الحجة على الكافرين في أن هذا القرآن من عنده ، يعرض لنا موقفا آخر من مواقفهم تجاه القرآن ، وهو موقف غاية في الكبر ، إذ يستدلون على أن هذا القرآن ليس فيه خير بسبق المستضعفين إليه ، وإيمانهم به ، ثم يستدرجهم الكبر إلى اتهام جديد لهذا القرآن. ومن خلال هذا العرض نرى كيف أن السورة تلاحق كل ما يصرف عن العبادة لله التي توصّل إلى الاهتداء بكتاب الله ، فلنر شبهة الكافرين الجديدة :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : عن الذين آمنوا فاللام هنا بمعنى عن (لَوْ كانَ) أي : القرآن (خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي : ما سبقنا هؤلاء المستضعفون إليه. قال ابن كثير : يعنون بلالا وعمارا وصهيبا وخبابا. رضي الله عنهم ، وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء ، وما ذاك إلا لأنهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة ، وله بهم عناية ، وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا ، وأخطأوا خطأ بيّنا ، كما قال تبارك وتعالى (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) (الأنعام : ٥٣) أي : يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ، ولهذا قالوا (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) وأمّا أهل السنّة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم : (هو بدعة لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه ، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها) ثم قال تعالى عن هؤلاء المستكبرين (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي : بالقرآن (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي كذب متقادم أي كذب قديم ، أي مأثور عن الناس الأقدمين. فاجتمع لهم بذلك انتقاص القرآن وأهله ،

٤١٦

وهذا دأب رافضي هدى الله في كل زمان ومكان ، أنهم ينتقصون أهل الإيمان ، وينتقصون مضمون القرآن. مرضا في العقل ، وعمى في القلب.

قال صاحب الظلال : (ولقد سارع إلى الإسلام وسبق إليه نفر من الفقراء والموالي في أول الأمر. فكان هذا مغمزا في نظر الكبراء المستكبرين. وراحوا يقولون : لو كان هذا الدين خيرا ما كان هؤلاء أعرف منا به ، ولا أسبق منا إليه. فنحن في مكانتنا وسعة إدراكنا وحسن تقديرنا ، أعرف بالخير من هؤلاء.

والأمر ليس كذلك. فما كان يمنعهم عنه أنهم يشكون فيه أو يجهلون الحق الذي يقوم عليه. والخير الذي يحتويه. إنما كان هو الكبر عن الإذعان لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما كانوا يقولون ـ وفقدان المراكز الاجتماعية ، والمنافع الاقتصادية ، كما كان هو الاعتزاز الأجوف بالآباء والأجداد ، وما كان عليه الآباء والأجداد. فأما الذين سارعوا إلى الإسلام وسبقوا إليه فلم تكن في نفوسهم تلك الحواجز التي منعت الكبراء والأشراف.

إنه الهوى يتعاظم أهل الكبر أن يذعنوا للحق ، وأن يستمعوا لصوت الفطرة ، وأن يسلموا بالحجة. وهو الذي يملي عليهم العناد والإعراض ، واختلاق المعاذير ، والادعاء بالباطل على الحق وأهله. فهم لا يسلمون أبدا أنهم مخطئون ؛ وهم يجعلون من ذواتهم محورا للحياة كلهم يدورون حوله ويريدون أن يديروا حوله الحياة : (إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ : هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ.)

وقد ردّ الله عزوجل عليهم مبينا أن الكتاب القديم الذي أنزله ـ وهو التوراة ـ لم يكن كذبا ، بل هو إمام ورحمة وهذا القرآن مصدق له ، ومن ثم فهو إمام ورحمة ، وبشير ونذير ، وليس كما زعموه ، والملاحظ أنهم ههنا لم يوجهوا تهمة الكذب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل وجهوا الاتهام لمضمون القرآن ، فانصب الردّ على ذلك ، قال تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي : التوراة (إِماماً وَرَحْمَةً) أي : قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه ، كما يؤتم بالإمام ، ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه (وَهذا) أي : والقرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) أي : لما بين يديه من الكتب (لِساناً عَرَبِيًّا) أي : باللسان العربي ، وأما مضمونه فموجود في الكتب السابقة. قال ابن كثير : (أي : فصيحا بيّنا واضحا) (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : لينذر هذا القرآن العربي الكافرين (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي : وليبشر المؤمنين المطيعين. فكتاب اجتمع له التصديق للكتب السابقة ، والإعجاز والتبشير والإنذار ، ليس من الإفك القديم ، بل من الحق

٤١٧

القديم ، لأن الكتاب الذي يصدقه من قبله حق ، بدليل ما فيه من الهدى والرحمة.

كلمة في السياق :

بعد آية (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا.) من المحور ، يأتي قوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ.) وها هي ذي الآية التي مرّت معنا من سورة الأحقاف تقول : (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) وها هي ذي الآية اللاحقة تذكر الذين يستحقون البشارة من هم؟ وماذا أعدّ لهم؟.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) فاعترفوا لله بالربوبية ، وعلى أنفسهم بالعبودية (ثُمَّ اسْتَقامُوا) على أمره وشريعته (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي : فيما يستقبلونه أو في القيامة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلّفوا أو عند الموت. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) دلّ ذلك على أن أعمالهم التي وفقهم الله إليها هي سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم.

قال صاحب الظلال عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) :

وقوله : (رَبُّنَا اللهُ). إنما هي منهج كامل للحياة ، يشمل كل نشاط فيها وكل اتجاه ، وكل حركة وكل خالجة ؛ ويقيم ميزانا للتفكير والشعور ، وللناس والأشياء ، وللأعمال والأحداث ، وللروابط والوشائج في كل هذا الوجود.

(رَبُّنَا اللهُ) فله العبادة ، وإليه الاتجاه. ومنه الخشية وعليه الاعتماد.

(رَبُّنَا اللهُ) فلا حساب لأحد ولا لشىء سواه ، ولا خوف ولا تطلّع لمن عداه.

(رَبُّنَا اللهُ) فكل نشاط وكل تفكير وكل تقدير متجه إليه ، منظور فيه إلى رضاه.

(رَبُّنَا اللهُ) فلا احتكام إلا إليه ، ولا سلطان إلا لشريعته ، ولا اهتداء إلا بهداه.

(رَبُّنَا اللهُ) فكل من في الوجود وكل ما في الوجود مرتبط بنا ونحن نلتقي به في صلتنا بالله.

٤١٨

(رَبُّنَا اللهُ) منهج كامل على هذا النحو. لا كلمة تلفظها الشفاة ، ولا عقيدة سلبية بعيدة عن واقعيات الحياة.

(ثُمَّ اسْتَقامُوا). وهذه أخرى. فالاستقامة والاطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ المنهج. استقامة النفس وطمأنينة القلب. استقامة المشاعر والخوالج ، فلا تتأرجح ولا تضطرب ولا تشك ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات. وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة. واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار. وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات ، وفيه هواتف بالانحراف من هنا ومن هناك :

(رَبُّنَا اللهُ). منهج .. والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره. والذين يقسم الله لهم المعرفة والاستقامة هم الصفوة المختارة. وهؤلاء (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وفيم الخوف وفيم الحزن. والمنهج واصل. والاستقامة عليه ضمان الوصول؟).

كلمة في السياق :

مر معنا أن من مواصفات القرآن (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) وقد جاء بعد هذه الآية آيتان. تبشران المؤمنين المستقيمين على أمر الله ، فكأنهما يعطياننا نموذجا على ما في هذا القرآن من تبشير ، ودلتانا في الوقت نفسه على أن أصل الإحسان هو الاعتراف لله بالربوبية ، والاستقامة على أمره ، فخدمتا في تبيان الإحسان ، والآن تأتي آيتان هما نموذج على تبشير هذا القرآن لأهل الإحسان ، وفيهما نموذج على أنواع من الإحسان يأمر الله بها ، ويدعو إليها ، وبذلك تستكمل ذكر السورة أمهات مسائل العبادة لله ، التي توصّل إلى التقوى ، من اعتراف لله بالربوبية ، واستقامة على أمره ، وإحسان إلى الوالدين ، ودعاء لله عزوجل ، وإعلان الإسلام ، وغير ذلك من المعاني ، ثم تأتي آيات هي نموذج على الإنذار ، وعرض لمظاهر من الظلم الكافر وأسبابه. فالسورة كما تربي على العبادة والتقوى ، تطهّر من العصيان والفسوق ، وتعمّق خلال ذلك موضوع الإيمان بالقرآن ؛ لأنه الأساس.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) أي : ووصيناه أن يحسن لوالديه إحسانا.

٤١٩

قال ابن كثير : أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا ، من وحم وغثيان وثقل وكرب ، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي : بمشقة أيضا من الطلق وشدته (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) أي فطامه عن الرضاع (ثَلاثُونَ شَهْراً) وفي الآية معان فقهية سنراها في الفوائد (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) بأن اكتهل واستوفى السنّ التي تستحكم فيها قوته وعقله. قال النسفي : ذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين ، وعن قتادة ثلاث وثلاثون سنة ، ووجهه أن يكون ذلك أول الأشد وغايته الأربعون.

وقال ابن كثير : أي : قوي وشب وارتجل (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي : تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي : ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) قال النسفي : المراد به نعمة التوحيد والإسلام ، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه ؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي : في المستقبل (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي : اجعل ذريتي موضعا للصلاح ، ومظنة له ، وذريته : نسله وعقبه (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من كل ذنب (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : المستسلمين المنقادين لأمرك. قال ابن كثير : وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدّد التوبة والإنابة إلى الله عزوجل ، ويعزم عليها (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) قال ابن كثير : أي المتصفون بما ذكرنا ، التائبون إلى الله ، المنيبون إليه ، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار ، هم الذين نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم ، فنغفر لهم الكثير من الزلل ، ونتقبّل منهم اليسير من العمل (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) وقال ابن كثير : أي هم في جملة أصحاب الجنة ، وهذا حكمهم عند الله ، كما وعد الله عزوجل من تاب إليه وأناب ، ولهذا قال تعالى (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في الدنيا بالكتب ، وعلى لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام. ثم لما ذكر الله تعالى حال الدّاعين للوالدين ، البارّين بهما ، أي المحسنين بأنواع الإحسان ، وما لهم عند الله من الفوز والنجاة ، عطف بحال الأشقياء الظالمين ، العاقين للوالدين فقال : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) التأفيف : صوت إذا صوّت به الإنسان علم أنّه متضجر ، ومعنى قول الفاجر الكافر : هذا التأفيف لكما خاصّة ، ولأجلكما دون غيركما ، فالفاجر أجرأ على والديه من كل الخلق ، وهو أقسى عليهما من دون الخلق (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أي : أبعث من الأرض (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ) أي : مضت القرون (مِنْ قَبْلِي) ولم يبعث منهم

٤٢٠