الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

حين يقف الخلق الضعاف القاصرون ، أمام الخالق العزيز العليم).

٧ ـ في قوله تعالى : (وَقِيلِهِ) ثلاث قراءات : الرفع والنصب والجر ، وقراءة الرفع شاذة وقراءة حفص الجر ، وعلى قراءة الجر فهناك من أعربها على أنها معطوفة على كلمة الساعة من قوله تعالى (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فيكون التقدير : وعنده علم قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، وهناك اتجاه على أن الواو في. (وَقِيلِهِ) واو القسم فهي حرف جر ، وقد ضعّفه الألوسي واعتمده صاحب الظلال قال صاحب الظلال في الآيتين الأخيرتين من السورة :

(وفي ختام السورة يعظم من أمر اتجاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لربه. يشكو إليه كفرهم وعدم إيمانهم. فيبرزه ويقسم به : (وَقِيلِهِ. يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ).

وهو تعبير خاص ذو دلالة وإيحاء بمدى عمق هذا القول ، ومدى الاستماع له. والعناية به والرعاية من الله سبحانه والاحتفال.

ويجيب عليه ـ في رعاية ـ بتوجيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الصفح والإعراض. وعدم الاحتفال والمبالاة. والشعور بالطمأنينة. ومواجهة الأمر بالسلام في القلب والسماحة والرضاء. وذلك مع التحذير الملفوف للمعرضين المعاندين ، مما ينتظرهم يوم ينكشف المستور : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ، وَقُلْ سَلامٌ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ..).

كلمة أخيرة في سورة الزخرف :

عرضنا سورة الزخرف على أنها مقدمة ومقاطع ثلاث ، المقدّمة هي : (حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

والمقاطع الثلاثة كل منها مبدوء بقوله تعالى (وَإِنَّهُ) : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ...) ، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) ، (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

وقد لاحظنا أن كلا من المقاطع الثلاثة بدأ بمقدمة ، ثم جاء المقطع بعد ذلك متصلا بهذه المقدمة. بدأ المقطع الأول بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ* أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ* وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ

٣٤١

الْأَوَّلِينَ).

ثم بدأ المقطع الأول يناقش عقائدهم ويقيم الحجة عليها لأنها علة المواقف ، وناقش فيه أسباب موقفهم من القرآن. وبين أن علة هذه العقائد هي استمراريتهم على تقليد الآباء. وناقش مبدأ التقليد الفاسد ، وضرب مثلا بإبراهيم عليه‌السلام في رفضه التقليد السيّء. ثم ناقش اعتراضهم على إنزال القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردّه ، وذكر عقوبة العمى عن كتاب الله عزوجل ، ثم وجّه توجيهات لرسول عليه الصلاة والسلام ، وكان من هذه التوجيهات أمره الاستمساك بوحي الله ، مبينا له أنه على صراط مستقيم.

ثم جاء المقطع الثاني مبتدئا بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ* وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ). ثم عرض علينا قصة موسى وفرعون لنرى وحدة الرسالات وإجماعها على التوحيد ، وناقش تكأة اتكأ عليها المشركون في تشبّثهم بشركهم بحجة بنوها على فهم خاطىء للقرآن.

ثم جاء المقطع الثالث مبتدئا بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

ثم جاءت قصة عيسى تبين أن مضمون الدعوتين واحد : ثم جاء حديث عن الساعة وما لأهل الجنة وأهل النار. ثم جاء حديث عن كيد الكافرين للدعوة. ثم أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفنّد أن يكون لله ولد كما ادعى النصارى أو ادعى بعض مشركي العرب إذ زعموا أن الملائكة بنات الله. ثم تحدث المقطع عن الله. وأقام الحجة عليهم بألسنتهم على أنه هو خالقهم. ثم ذكر المقطع شكوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عدم إيمانهم ، ثم جاء توجيه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ينبغي أن يفعله أمام عدم إيمانهم.

وقد جاءت نهاية المقطع تصل بدايته بنهايته ؛ إذ بداية المقطع تحدثت عن اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما تحدثت على لسان المسيح عليه‌السلام عن كون العبادة لله هي الصراط المستقيم ، وجاءت نهاية المقطع لتعمّق العبودية الخالصة لله من خلال الأسوة ، ومن خلال التذكير بصفات الله عزوجل.

ولنلاحظ الصلة بين بداية السورة ونهايتها : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ

٣٤٢

الْأَوَّلِينَ) في البداية ، (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ* فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) في النهاية ، وقد رأينا أثناء عرض كل مقطع صلة ذلك المقطع بمحور السورة.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

هذا ويمكن أن نوجّه السياق في السورة وجهة أخرى ، فالملاحظ أنه قد جاء بعد عدة آيات في السورة قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ..) وقبل آيتين من آخرها جاء قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ).

وقد اعتدنا في كثير من مقاطع السور أن نرى مقطعا مبدوءا ببداية ومنتهيا بنفس هذه البداية والمعنى هو الذي يحدد المسار ، وههنا يمكن أن تتصور السورة على الشكل التالي.

تبدأ السورة بمقدمة هي : (حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ* أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ* وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ).

وبعد المقدّمة يأتي قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).

وسارت السورة مصححة للعقائد التي هي سبب المواقف الخاطئة من الوحي والرسل ، وتحدثت عن علة هذا كله أي : التقليد ، وتحدثت عن أمّة رفضت فعوقبت ، وتحدثت عن أمم اختلفت على أنبيائها فاستحقت عذاب الله في الآخرة ، ثم وعظت وذكّرت ، وأقامت الحجج حجة بعد حجة ، وانتهى الحديث بمثل ما بدأ به. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ..) فكانت السورة بهذا مقطعا واحدا.

ثم جاءت الخاتمة تبين أنه بعد هذا البيان كله لا يزال المشركون غير مؤمنين. (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ* فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

٣٤٣

ولو أننا تحدثنا عن سياق السورة على أنها مقدمة ومقطع واحد وخاتمة فإنّه يترتب على ذلك أن يوجه السياق توجيها جديدا. وهذا مظهر آخر من مظاهر الإعجاز في القرآن. أنك تجد للسورة الواحدة أكثر من توجيه للسياق ، وكل توجيه يعطيك معاني جديدة لا تتعارض ، ولكنها تتساند فتتزايد بذلك مدلولات السورة. إن هذه السورة تكاد تكون مظهرا كاملا. لكون القرآن مبينا وعليّا وحكيما ومذكّرا وواعظا ، ولا شك أن القرآن فيه قدر مشترك من كل هذه الخصائص في كل سورة منه. ولكن تبقى سورة أو مقطع نموذجا أعلى على وجود خاصية ما.

وسترى في الكلمة الأخيرة عن مجموعة (الشورى والزخرف والدخان) التكامل بين هذه السور التي تشكل مجموعة واحدة. ومن ثم فلن نتعرض لهذا الموضوع هنا.

٣٤٤

سورة الدّخان

وهي السّورة الرابعة والأربعون بحسب الرّسم القرآني

وهي السّورة الثالثة من المجموعة الرابعة من قسم المثاني

وآياتها تسع وخمسون آية

وهي مكيّة

وهي السّورة الخامسة من آل (حم)

٣٤٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

٣٤٦

بين يدي سورة الدخان :

١ ـ قدم ابن كثير لسورة الدخان بما يلي : (روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمرو بن أبي خثعم ـ وهو من رجال سنده ـ يضعف ، قال عنه البخاري : منكر الحديث ، ثم روى الترمذي عن هشام أبي المقدام عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له» ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وهشام أبو المقدام يضعف والحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد رحمة الله عليهم أجمعين).

٢ ـ وقال الألوسي عن سورة الدخان : (ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عزوجل ختم ما قبلها بالوعيد والتهديد وافتتح هذه بشىء من الإنذار الشديد وذكر سبحانه هناك قول الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) وهنا نظيره فيما حكي عن أخيه موسى عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) وأيضا ذكر فيما تقدم (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) وحكى سبحانه عن موسى عليه‌السلام (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) وهو قريب من قريب إلى غير ذلك ، وهي إحدى النظائر التي كان يصلي بهن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج الطبراني عن ابن مسعود : الذاريات والطور. والنجم واقتربت. والرحمن ، والواقعة ، ونون ، والحاقة. والمزمل ، ولا أقسم بيوم القيامة. وهل أتى على الإنسان ، والمرسلات. وعم يتساءلون ، والنازعات. وعبس ، وويل للمطففين. وإذا الشمس كورت ، والدخان ، وورد بفضلها أخبار).

٣ ـ وقال صاحب الظلال في تقديمه للسورة : (يشبه إيقاع هذه السورة المكية ، بفواصلها القصيرة ، وقافيتها المتقاربة ، وصورها العنيفة ، وظلالها الموحية .. يشبه أن يكون إيقاعها مطارق على أوتار القلب البشري المشدودة.

ويكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة ، ذات محور واحد ، تشد إليه خيوطها جميعا. سواء في ذلك القصة ، ومشهد القيامة ، ومصارع الغابرين ، والمشهد الكوني ، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة. فكلها وسائل

٣٤٧

ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة ، كما يبثها هذا القرآن في القلوب.

إنها سورة تهجم على القلب البشري من مطلعها إلى ختامها ، في إيقاع سريع متواصل. تهجم عليه بإيقاعها كما تهجم عليه بصورها وظلالها المتنوعة المتحدة في سمة العنف والتتابع. وتطوف به في عوالم شتى بين السماء والأرض ، والدنيا والآخرة ، والجحيم والجنة ، والماضي والحاضر ، والغيب والشهادة ، والموت والحياة ، وسنن الخلق ونواميس الوجود .. فهي ـ على قصرها نسبيا ـ رحلة ضخمة في عالم الغيب وعالم الشهود ...).

كلمة في سورة الدخان ومحورها :

رأينا من قبل أن الطاسينات كلها قد فصّلت محورا واحدا وهو قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) كل سورة منها فصّلت فيها نوع تفصيل ، وذكرنا من قبل أن سورتي الزخرف والدخان تفصّلان في محور واحد. هو قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) وقد دلنا على ذلك التشابه بين مطلع سورة يوسف ومطلع السورتين ، مما يدل على وحدة المحور ، كما دلنا على ذلك المضمون نفسه فلنلاحظ المعاني التالية :

١ ـ بدأت سورة يوسف بقوله تعالى : (الر* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وبدأت سورة الزخرف بقوله تعالى. (حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ..). وجاءت سورة الدخان مبتدأة بقوله تعالى. (حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ..). فالتشابه بين بداية السور الثلاث واضح ، مما نستأنس به أن المحور واحد ...

٢ ـ نلاحظ أنه بعد الآيات الأولى لسورة الدخان يأتي قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي

٣٤٨

شَكٍّ يَلْعَبُونَ) وصلة ذلك بقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا ..) لا تخفى.

٣ ـ نلاحظ أن سورة الزخرف استقرت على قوله تعالى : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ* فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ..) وفي سورة الدخان نلاحظ مجىء قوله تعالى. (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ* رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ..) لاحظ قوله تعالى في سورة الزخرف (لا يُؤْمِنُونَ). وفي سورة الدخان : (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) بعد رؤية العذاب مما يشير إلى أن سورة الدخان استمرار لسورة الزخرف التي محورها ما رأيناه.

٤ ـ نلاحظ أن السورة تبدأ بالكلام عن القرآن (حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) وتنتهي بالكلام عن القرآن .. (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ..) كما أن ذكر الشك والافتراء يتكرر فيها : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ). وهذا كله واضح الصلة بقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ..).

بعد هذه الملاحظات العامة التي لها علاقة بمحور السورة نقول إن السورة تتألف من مقدمة ومقطع واحد. المقدمة هي :

(حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ* لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) والمقطع يمتد حتى نهاية السورة ويلاحظ أنه يبدأ بقوله تعالى : (فَارْتَقِبْ ...) وتنتهي السورة بقوله تعالى : (فَارْتَقِبْ) ومن ثمّ فبداية المقطع شبيهة بنهايته ، والنهاية تدل على البداية.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ..).

(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ..). والصلة بين المقطع والمقدمة ، وصلة المقدمة والمقطع بالمحور ، كل ذلك سنراه أثناء عرض السورة.

٣٤٩

مقدمة السورة

وتمتد من الآية (١) إلى نهاية الآية (٩) وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (٣) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (٧) لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

التفسير :

(حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أي : والقرآن الواضح الموضّح (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هذا جواب القسم. قال ابن كثير : يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر .. وقال : ومن قال : إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد النجعة ، وسننقل كلامه كاملا في الفوائد إن شاء الله. قال النسفي : (والمباركة كثيرة الخير ؛ لما ينزل فيها من الخير والبركة ويستجاب من الدعاء ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة) (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي : أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب. قال ابن كثير : أي : معلّمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعا ؛ لتقوم حجة الله على عباده (فِيها) أي : في ليلة القدر (يُفْرَقُ) أي : يفصل ويكتب (كُلُّ أَمْرٍ) من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى ليلة القدر التي تجىء في السنة المقبلة (حَكِيمٍ) أي : ذي حكمة أي : مفعول على ما تقتضيه الحكمة. وقال ابن كثير : أي : محكم لا يغيّر

٣٥٠

ولا يبدّل ، وقال : أي : في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق ، وما يكون فيها إلى آخرها. وقال النسفي : في الآيتين الأخيرتين : (هما جملتان مستأنفتان فسّر بهما جواب القسم كأنه قيل : أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب ، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا ؛ لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) أي : جميع ما يكون ويقدّره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه. أي : الأمر الذي يفرق في ليلة القدر أمرا من عند الله ، وصف أمره في الآية السابقة بالحكمة ، ثم زاده في هذه الآية جزالة وفخامة ، بأن قال : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي : إنا أنزلنا القرآن ؛ لأن من شأننا وسنتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم. ومن ثم قال (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وقد وصف الرحمة بالإرسال إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد (الْعَلِيمُ) بأحوالهم (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) قال ابن كثير : أي : الذي أنزل القرآن هو رب السموات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما .. إن كنتم متحققين باليقين. قال النسفي في معنى (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) : إنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض ربا وخالقا فقيل لهم : إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب ، ثم قيل : إن هذا الرب هو السميع العليم ، الذي أنتم مقرون به ومعترفون بأنه رب السموات والأرض وما بينهما ، إن كان إقراركم عن علم وإيقان. فآمنوا أنه أرسل رسلا وأنزل كتبا. أقول : وهذا يفيد أن معرفة الله حق المعرفة تقتضي الجزم بأنه أرسل رسلا وأنزل كتبا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ومن كان هذا شأنه فلا يترك عباده بلا هداية ولا توجيه ولا إنذار ولا رسل ..

نقل :

بمناسبة قوله تعالى : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) قال صاحب الظلال : (وما تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلي في تنزيل هذا القرآن بهذا اليسر ، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب ، ويجعل الاستجابة له تتم كما تتم دورة الدم في العروق. وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم ، والمجتمع البشري إلى حلم جميل ، لولا أنه واقع تراه العيون!.

٣٥١

إن هذه العقيدة التي جاء بها القرآن ـ في تكاملها وتناسقها ـ جميلة في ذاتها جمالا يحب ويعشق ؛ وتتعلق به القلوب! فليس الأمر فيها أمر الكمال والدقة وأمر الخير والصلاح. فإن هذه السمات فيها تظل ترتفع وترتفع حتى يبلغ الكمال فيها مرتبة الجمال الحبيب الطليق. الجمال الذي يتناول الجزئيات كلها بأدق تفصيلاتها ، ثم يجمعها ، وينسقها ، ويربطها كلها بالأصل الكبير).

كلمة في السياق :

نلاحظ مما مر أن الآيات بيّنت من خلال التعريف على الله وعلى أفعاله أنّ هذا القرآن كتابه. وأنه هو الذي أنزله ، وأن هذه قضية حتمية تقتضيها حكمة الله وتدبيره لشؤون هذا الكون ، وتقتضيها رحمته وألوهيته وربوبيته. إن هذا كله يقتضي إرسالا وإنذارا ، وهذا كله يؤكد أن هذا القرآن هو الذي أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا يقتضي أن تكون هذه المسألة من المسلّمات والبديهيات. ولكن الواقع أن الكافرين في شك ، ومن ثم قال تعالى :

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ). قال ابن كثير : يقول تعالى : بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون. أي قد جاءهم الحق واليقين. وهم يشكّون فيه ويمترون ولا يصدقون به. أقول : وهذا يشير إلى أن أصل معرفتهم بالله غير صحيح. وأن هذه المعرفة عندهم لا تخرج عن كونها كلمة على اللسان ، وأن إقرارهم بوجود الله عزوجل وصفاته غير صادر عن علم وتيقّن ، بل قول مخلوط بغفلة وبهزؤ ولعب ينتج عن ذلك شك بالقرآن وغيره من أمور الإيمان ..

كلمة في السياق :

نلاحظ مما مر معنا في المقدمة. أنّ المقدمة أفهمتنا أن المعرفة الحقيقية لله تقتضي إيقانا بالقرآن وبالرسول ؛ إلا أن الكافرين مع هذا كله يشكّون. والملاحظ أنّه لم يحدّد مضمون الشك مما يشير إلى أنه شك في كل القضايا الإيمانية : في الله وصفاته وأفعاله وفي القرآن والرسول ، وأمام هذا الشك بعد هذا البيان لم يبق من فائدة ترجى من هؤلاء

٣٥٢

الشاكّين. ومن ثمّ يأتي المقطع القادم مبدوءا بقوله تعالى : (فَارْتَقِبْ ..) ومختوما بقوله تعالى : (فَارْتَقِبْ ..) مما يشير إلى أنّ المستقبل وحده وفعل الله فيه هو وحده الذي يمكن أن يغيّر مواقفهم. مما يشير إلى أنّ من واجبات الداعية الارتقاب فإذا اتضح هذا فما هي صلة الآيات المارّة بالمحور؟.

لو أنك دمجت بين معاني المقدمة وما ورد في المحور فإنك ستجد الصلة (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) في ليلة القدر من هذا القرآن الذي إنزاله أثر حكمتنا ورحمتنا وأثر ألوهيتنا وربوبيّتنا ، وأثر سنتنا في الإرسال والإنذار (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ولكنّهم مع هذا كله مرتابون شاكون في هذا القرآن وفي الرسول المنزل عليه ، فيا أيها الرسول ارتقب ماذا سنفعل بهم. فالصلة بين المقدمة والمقطع الوحيد في السورة واضحة. والصلة بين المقدمة والمحور كذلك واضحة فلنر المقطع ..

المقطع الوحيد في السورة

ويمتد من الآية (١٠) إلى نهاية السورة أي : إلى نهاية الآية (٥٩) وهذا هو :

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١) رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّـهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَن لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّـهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ

٣٥٣

بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ (٣٣) إِنَّ هَـٰؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (٤١) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّـهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ

٣٥٤

الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (٥٣) كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (٥٩))

التفسير :

(فَارْتَقِبْ) أي : فانتظر (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي : ظاهر حاله لا يشك أحد في أنّه دخان (يَغْشَى النَّاسَ) أي : يشملهم ويلبسهم فيقولون : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم ، ثم يدعون الله عزوجل (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي : سنؤمن إن كشفت عنا العذاب (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي : كيف يتذكّرون ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان عند كشف العذاب؟. (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ* ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي : أنّى لهم الادّكار وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادّكار ، من كشف الدخان ، وهو ما ظهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات والبيّنات من الكتاب المعجز وغيره ، فلم يذكروا وتولوا عنه وبهتوه بأنه قد علّمه غيره من البشر ونسبوه إلى الجنون. قال ابن كثير : يقول : كيف لهم بالذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بيّن الرسالة والنذارة ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه. بل كذبوه وقالوا معلم مجنون. (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) أي : زمانا قليلا (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي : إلى الكفر الذي كنتم فيه ، أو إلى العذاب (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) أي : العظمى (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) منهم على أفعالهم. وهل الدخان والبطشة مضتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فالبطشة ما أصاب المشركين يوم بدر ، والدخان ما أصابهم في سني القحط والجوع ، حتى إن أحدهم كان ينظر إلى السماء

٣٥٥

فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد؟ أو أنهما سيأتيان؟ فيكون الدخان علامة من علامات الساعة ، والبطشة الكبرى يوم القيامة؟ قولان للمفسرين على رأس القائلين بالأول ابن مسعود ، وعلى رأس القائلين بالثاني ابن عباس ، وقد رجّح ابن كثير قول ابن عباس وسننقل تحقيقه في الفوائد.

كلمة في السياق :

أمام الشك الذي عليه الكافرون واللعب الذي هو حالهم وشأنهم ودأبهم أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالارتقاب ، وهو أمر لكل مسلم ، أن يرتقب أشراط الساعة والساعة. ومن السياق نفهم أنه حتى أشراط الساعة إذا ظهرت فإن هؤلاء لا يؤمنون بل يعدون بالإيمان. ثم إذا زالت الشدّة ينكصون ، مما يشير إلى أن هؤلاء لم يعد منهم ولا فيهم فائدة ولا أمل ، فالغفلة عندهم بلغت الغاية ، ومن ثم فليس أمام المسلم إلا أن ينتظر عذابهم في الدنيا وفي الآخرة. وبعد أن وضّح الله عزوجل هذا فإنه يذكر من نبأ موسى وفرعون وقومهما ممّا يشير إلى وحدة موقف الكافرين في كل عصر ، ويبشّر بالعاقبة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فقال :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ) أي : قبل هؤلاء الكافرين. قال النسفي : أي فعلنا بهم فعل المختبر ليظهر منهم ما كان باطنا. (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) قال ابن كثير : يقول تعالى : ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر. (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) على الله وعلى عباده المؤمنين ، أو كريم في نفسه ، حسيب ، نسيب ؛ لأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا من سراة قومه وكرامهم ، والمراد به موسى عليه‌السلام (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) أي : قال موسى لفرعون وقومه : سلّموا إليّ عباد الله وهم بنوا إسرائيل ، يقول : أدوهم إليّ وأرسلوهم معي (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) في رسالتي غير متّهم. قال ابن كثير : أي : مأمون على ما أبلغكموه. (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي : لا تستكبروا على الله بالاستهانة برسوله ووحيه ، أو لا تستكبروا على نبي الله. قال ابن كثير : أي : لا تستكبروا عن اتّباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : بحجة واضحة تدل على أني نبي ، وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البيّنات والأدلة القاطعات (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أي أن تقتلوني رجما بالحجارة ومعناه : أنّه عائذ بربه ، متّكل على أنّه يعصمه منهم ومن كيدهم

٣٥٦

فهو غير مبال بما كانوا يتوعدونه من الرجم والقتل ، وفسّر بعضهم الرجم بالشتم ، وفسّر ابن كثير الآية بقوله. (أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إليّ بسوء من قول أو فعل) (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) قال ابن كثير : أي : لا تتعرضوا لي ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا. وقال النسفي : (أي : إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن ، فتنحوا عني ، أو فخلوني كفافا لا لي ولا علي ، ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم ، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم ذلك). قال ابن كثير : فلما طال مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم ، وأقام حجج الله تعالى عليهم وما زادهم ذلك إلا كفرا وعنادا ، دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي : فدعا ربه شاكيا قومه. بأن هؤلاء قوم مجرمون فعند ذلك أمره الله تعالى. أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ولهذا قال جل جلاله. (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) أي : سر بعبادي بني إسرائيل في الليل (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) دبّر الله أن تتقدّموا ويتّبعكم فرعون وجنوده فينجيكم ويغرقهم (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي : ساكنا قارا على حاله وهيئته ، من انتصاب الماء ، وكون الطريق يبسا لا يضربه بعصاه ولا يغيّر منه شيئا ؛ ليدخله القبط ، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم. وقيل الرهو : الفجوة الواسعة : أي : اتركه مفتوحا على حاله منفرجا. (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) بعد خروجكم من البحر وقد كان ذلك (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) أي : بساتين (وَعُيُونٍ) أي : آبار وأنهار (وَزُرُوعٍ) من كل الأنواع (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) وهي المساكن الأنيقة والأماكن الحسنة ، وفسّر مجاهد وسعيد بن جبير المقام الكريم بالمنابر التي كانوا يخطبون عليها في الناس ، أي كثيرا جدا من هذه الأشياء تركوه (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي : متنعمين. قال ابن كثير : أي : عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات ، والحكم في البلاد ، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة ، وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير .. (كَذلِكَ) أي : الأمر كذلك (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) غيرهم. (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ..) أي : لم ينظروا إلى وقت آخر ، ولم يمهلوا. قال ابن كثير : أي : لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم ، فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ، ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم ، ولنا عودة في الفوائد على هذا المقام (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ

٣٥٧

الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي : الاستخدام والاستعباد وقتل الأولاد. (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي : مستكبرا جبارا عنيدا (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) قال ابن كثير : أي : مسرف في أمره ، سخيف الرأي على نفسه (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أي : بني إسرائيل (عَلى عِلْمٍ) أي : عالمين بمكان الخيرة ، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا (عَلَى الْعالَمِينَ) قال النسفي : على عالمي زمانهم ، وقال ابن كثير : على من هم بين ظهريه. وقال قتادة : اختيروا على أهل زمانهم ذلك (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) أي : الحجج والبراهين وخوارق العادات ، كفلق البحر وتظليل الغمام ، وإنزال المنّ والسلوى ، وغير ذلك (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي : نعمة ظاهرة ، أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون.

كلمة في السياق :

جاءت هذه الآيات كنموذج لفعل الله بالمكذبين ، وفعل الله برسله والمؤمنين ، وكمثل على أن دأب الكافرين في كل عصر : التكذيب والرفض والشك ، مهما كثرت الآيات ، وقامت الحجج وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، وبشارة لهم وتعليم لهم بواقع الحال ، وبعد هذه الجولة عن السابقين يعود الكلام عن المشركين الذين يواجهون هذه الدعوة وتواجههم.

(إِنَّ هؤُلاءِ) أي : المشركين الكافرين بدعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ) أي : ما هي (إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) وليس الأمر كما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هناك موتة تعقبها حياة ، فما ثم إلا الموتة الأولى والحياة الأولى. (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي بمبعوثين (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) احتجوا بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا قال ابن كثير : (وهذه حجة باطلة ، وشبهة فاسدة ، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة ، لا في الدار الدنيا ، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها ، يعيد الله العالمين خلقا جديدا ، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا ، ثم قال تعالى متهددا لهم ومتوعدا لهم بأسه الذي لا يردّ ، كما حلّ بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث كقوم تبّع (وهم سبأ) حيث أهلكهم الله عزوجل ، وخرّب بلادهم ، وشرّدهم في البلاد ، ومزّقهم شذر مذر كما تقدّم ذلك في سورة سبأ ..). قال تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ) في القوة والمنعة (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) الحميري. وسنذكر تحقيق ابن كثير عنه في الفوائد ..

٣٥٨

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي : كافرين منكرين للبعث. دلّ هذا على أن إنكار المشركين للبعث يستحقون به الهلاك ، وفي ذلك إنذار لهم وتحذير. وبعد هذا الإنذار والتحذير يقيم الله عليهم الحجة في هذا الشأن بقوله. (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) فعلى مقتضى قولهم أنه لا بعث ولا حساب فإن السموات والأرض وما بينهما خلقت عبثا قال النسفي : (ولو لم يكن بعث ولا حساب ولا ثواب كان خلق الخلق للفناء خاصة فيكون لعبا) وتعالى الله عن اللعب والعبث والباطل. قال تعالى : (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي : بالجدّ ضدّ اللعب (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنه خلق لذلك ، ومن ثم لا يؤمن بالبعث ، ولو أنه علم تنزيه الله عن العبث ، وعلم أن الله خالق السموات والأرض بالحقّ ، لأيقن بالبعث والحساب ولكنّه لا يعلم ، وبعد أن قامت الحجة على أن يوم القيامة آت لأن ذلك مقتضى خلق السموات والأرض بالحق ، يحدثنا الله عزوجل عن هذا اليوم. (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) بين المحق والمبطل أي : يوم القيامة. (مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي وقت موعدهم كلهم ، يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق. فيعذّب الكافرين ، ويثيب المؤمنين (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى) أي : ولي (عَنْ مَوْلًى) أي : عن ولي (شَيْئاً) أي : مهما كان قليلا. قال ابن كثير : أي : لا ينفع قريب قريبا. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي : لا ينصر القريب قريبه ولا يأتيه نصر من الخارج (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي : لا يمنع من العذاب إلا من رحمه‌الله. قال ابن كثير : أي : لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله عزوجل بخلقه (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) أي : الغالب على أعدائه (الرَّحِيمُ) لأوليائه. ثم أخبر تعالى عمّا يعذّب به الكافرين الجاحدين للقائه فقال : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) أي : الآثم في قوله وفعله واعتقاده ، وهو الكافر ، أي : ليس له طعام غيرها (كَالْمُهْلِ) أي : كعكر الزيت (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي : الماء الحار الذي انتهى غليانه أي : من حرارتها ورداءتها. (خُذُوهُ) أي : خذوا هذا الأثيم ، والخطاب للملائكة قال ابن كثير : وقد ورد أنه تعالى : إذا قال للزبانية : خذوه ابتدره سبعون ألفا منهم (فَاعْتِلُوهُ) أي : فقودوه بعنف وغلظة قال ابن كثير : أي : سوقوه سحبا ودفعا في ظهره (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي : وسطها ومعظمها (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) قال ابن كثير : وقد تقدّم أنّ الملك يضربه بمقمعة من حديد فتفتح دماغه ، ثم يصب الحميم على رأسه ، فينزل في بدنه ، فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه. أعاذنا الله تعالى من ذلك. (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي : قولوا له

٣٥٩

ذلك على وجه التهكم والتوبيخ. أي : لست بعزيز ولا كريم (إِنَّ هذا) العذاب أو هذا الأمر هو (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي : تشكّون. وهكذا استقر السياق على هذا المعنى.

كلمة في السياق :

رأينا أن مقدمة السورة انتهت بقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ثم جاء المقطع وسار حتى وصل إلى قوله تعالى : (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) فتبيّن لنا أن المقطع نقلنا من معنى إلى معنى ، حتى أرانا عاقبة الشاكين في نار جهنم. فلنر كيف كان تسلسل المعاني :

بدأ المقطع بأمر الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالارتقاب لأشراط الساعة ، والساعة ليري كيف سيكون حال الكافرين الشاكّين. ثم عرض علينا قصة موسى وفرعون ، وفيها مجموعة قضايا ، منها استحقاق المكذبين للرسل العذاب الدنيوي ، ثم قصّ الله عزوجل علينا موقف هؤلاء الشاكين من اليوم الآخر ، فأنذرهم وحذرهم باستحقاقهم الهلاك لذلك. ثم أقام عليهم الحجة ، ثم حدّثنا عما يكون لهؤلاء الشاكين من عذاب يوم القيامة.

وبهذا عرفنا أن علة الشك إنكار اليوم الآخر ، وعرفنا أن الشاكين سينزل بهم العذاب قبيل يوم القيامة ، وسيعذبون يوم القيامة ، وأنهم في شكهم ليس لهم حجة ولا شبهة. هكذا سار السياق فما الصلة بين المحور وسياق المقطع؟ يمكن أن نقدّر الصلة بين المحور وبين ما مرّ معنا من المقطع على الشكل التالي : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) واعلموا أن عاقبة المرتابين كذا وكذا مما مرّ معنا ، وأنت أيها الرسول انتظر ماذا سيحل بهم نتيجة شكّهم. وبعد أن حدثنا الله عن عاقبة الكافرين ، يحدّثنا الله عزوجل عن المتقين المؤمنين الذين لا يشكّون. وإذا تذكرنا محور السورة وقول الله فيها : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ..). وتذكّرنا أن ذلك يأتي بعده مباشرة قول الله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ). فإننا نستطيع الربط بين الآيات القادمة والمحور وامتداداته.

٣٦٠