الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

يَظْهَرُونَ) أي : عليها يصعدون فيعلون السطوح. (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً) أي : أغلاقا على أبوابهم (وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) أي : جميع ذلك يكون من فضة (وَزُخْرُفاً) أي وذهبا وزينة. والمعنى : ولولا أن يصبح الناس كلهم كفارا لجعلنا للكفار سقفا ومصاعد وأبوابا وسررا كلها من فضة ، وجعلنا لهم زخرفا أي زينة من كل شىء. دلّ هذا على أنّ ممّا يفتن المسلم عن دينه رؤيته الكافرين في حالة اقتصادية أجود ، وهذا هو الذي نراه في عصرنا ؛ إذ فتن كثير من المسلمين عن الإسلام بسبب رؤيتهم مجتمعات كافرة في حالة اقتصادية جيدة ، بل أصبحوا يدعون إلى هذه الأنظمة الكافرة ويتبعونها من أجل الوصول إلى ما هم عليه ، وقد أخطأوا مرّتين : مرة إذ استبدلوا الحقّ بالباطل ، ومرة لتصورهم أن تطبيق الإسلام لا يوصل إلى الرّفاه أو إلى التقدّم المدني. كيف والله عزوجل وعد المتقين بأن يفتح عليهم بركات من السماء والأرض ، وفي كتابنا (الإسلام) بيان شاف لكل ما يتعلق بهذا الموضوع ، ولنا في الفوائد عودة عليه. ثم قال تعالى بعد أن بيّن حقارة الدنيا عنده حتى ليعطيها الكافرين ، لولا أن يفتتن المسلمون (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ) أي : وما كلّ ذلك (لَمَّا) أي : إلا (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : إنّما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي : وثواب الآخرة عند الله لمن اتقى الله بفعل ما أمر واجتناب ما نهى. قال ابن كثير : أي وهي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد.

نقول :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى ـ حكاية عن قول الكافرين ـ : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال صاحب الظلال : (والله أعلم حيث يجعل رسالته ، وقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل. ولعله ـ سبحانه ـ لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سندا من خارج طبيعتها ، ولا قوة من خارج حقيقتها ، فاختار رجلا ميزته الكبرى .. الخلق .. وهو من طبيعة هذه الدعوة .. وسمته البارزة .. التجرد .. وهو من حقيقة هذه الدعوة .. ولم يختره زعيم قبيلة ، ولا رئيس عشيرة ، ولا صاحب جاه ، ولا صاحب ثراء. كي لا تلتبس قيمة واحدة من قيم هذه الأرض بهذه الدعوة النازلة من السماء. ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلي هذه الأرض ليست من حقيقتها في شىء. ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة. ولكي

٣٠١

لا يدخلها طامع ولا يتنزه عنها متعفف).

٢ ـ وفي تحليل طويل لردّ الله على هؤلاء يقول صاحب الظلال :

ولكن القوم الذين غلب عليهم المتاع ، والذين لم يدركوا طبيعة دعوة السماء. راحوا يعترضون ذلك الاعتراض :

(لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).

فرد عليهم القرآن مستنكرا هذا الاعتراض على رحمة الله ، التي يختار لها من عباده من يشاء ، وعلى خلطهم بين قيم الأرض وقيم السماء ، مبيّنا لهم حقيقة القيم التي يعتزون بها ، ووزنها الصحيح في ميزان الله :

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟! نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

أهم يقسمون رحمة ربك؟ يا عجبا! وما لهم هم ورحمة ربك؟ وهم لا يملكون لأنفسهم شيئا ، ولا يحققون لأنفسهم رزقا ، حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه ، وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة.

(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا).

ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد ، وظروف الحياة ، وعلاقات المجتمع. وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها. تختلف من بيئة لبيئة ، ومن عصر لعصر ، ومن مجتمع لمجتمع ، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها. ولكن السمة البارزة الباقية فيه ، والتي لم تتخلف أبدا ـ حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع ـ أنه متفاوت بين الأفراد.

وتختلف أسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم. ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبدا. ولم يقع يوما ـ حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة ـ أن تساوى جميع الأفراد في هذا الرزق أبدا (وَرَفَعْنا

٣٠٢

بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) ..

والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور ، وجميع البيئات ، وجميع المجتمعات .. هي :

(لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) ..

ليسخّر بعضكم بعضا .. ودولاب الحياة حين يدور يسخّر بعض الناس لبعض حتما. وليس التسخير هو الاستعلاء .. استعلاء طبقة على طبقة ، أو استعلاء فرد على فرد .. كلا! إن هذا معنى قريب ساذج ، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد. كلا! إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية ، وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجىء .. إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض. ودولاب الحياة يدور بالجميع ، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف. المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق. والعكس كذلك صحيح. فهذا مسخّر ليجمع المال ، فيأكل منه ويرتزق ذاك. وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء. والتفاوت في الرزق هو الذي سخر هذا لذاك ، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة .. العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل. والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل. وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء .. وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات ، والتفاوت في الأعمال والأرزاق ..

وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية. وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص ، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس ، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضا سخريا!.

وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق ، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه! إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود ، الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع.

وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد ، والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل ، والتفاوت في مدى إتقان هذا العمل. وهذا

٣٠٣

التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض. ولو كان جميع الناس نسخا مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة. ولبقيت أعمال كثيرة جدا لا تجد لها مقابلا من الكفايات ، ولا تجد من يقوم بها ـ والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو ، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها. وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق .. هذه هي القاعدة .. أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، ومن نظام إلى نظام. ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة. ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس ، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد. على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم. وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام الله. وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة.

ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا ، ووراء ذلك رحمة الله. (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ..

والله يختار لها من يشاء ، ممن يعلم أنهم لها أهل. ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا ، ولا صلة لها بقيم هذه الدنيا. فهذه القيم عند الله زهيدة زهيدة. ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار ، وينالها الصالحون والطالحون. بينما يختص برحمته المختارين.

وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث لو شاء الله لأغدقها إغداقا على الكافرين به. ذلك إلا أن تكون فتنة للناس ، تصدهم عن الإيمان بالله.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ* وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ).

فهكذا ، لولا أن يفتتن الناس ـ والله أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم ـ لجعل لمن يكفر بالرحمن ـ صاحب الرحمة الكبيرة العميقة ـ بيوتا سقفها من فضة ، وسلالمها من ذهب ، بيوتا ذات أبواب كثيرة. قصورا فيها سرر للاتكاء ، وفيها زخرف للزينة .. رمزا لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع ، بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن!.

(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ..

٣٠٤

متاع زائل ، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا. ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا.

(وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) ..

وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم ، فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى ، ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى ، ويميزهم على من يكفر بالرحمن ، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان!.

وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين. وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار ، ويرون أيادي الأبرار منه خالية ، أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء ، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء. والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس. ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه ، ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده. والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار.

وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئا من عرض هذه الحياة الدنيا ، ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة ، أو بما يملكون من مال. يرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله. وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله. فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبيء عن رضى ، ولا تشي باختيار.

وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها ، ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة ، ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة. وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختياره. واطراح العظماء المتسلطين!.

وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير ، ولا تؤثر فيها تطورات الحياة ، واختلاف النظم ، وتعدد المذاهب ، وتنوع البيئات. فهناك سنن للحياة ثابتة ، تتحرك الحياة في مجالها ، ولكنها لا تخرج عن إطارها. والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة ، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي ، الذي يجمع بين الثبات والتغير في صلب الحياة وفي أطوار الحياة ، ويحسبون أن التطور والتغير يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها. ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور ، وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر. فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته! فأما نحن ـ أصحاب العقيدة الإسلامية ـ فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير

٣٠٥

متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون ، وفي كل جانب من جوانب الحياة. وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس ، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات .. وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال).

كلمة في السياق :

١ ـ رأينا أن اعتراض الكافرين على الله عزوجل في إنزاله القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعدم إنزاله على رجل عظيم ذي جاه ومال ، قد جاء بعد إقامة الحجة على الكافرين في عقائدهم التي هي سبب البلاء. فكأنهم بعد إقامة الحجة عليهم اقتنعوا ، ولكنهم لعدم تملك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجاه والمال لا يرونه أهلا لنزول القرآن عليه ، أو لا يرونه أهلا للمتابعة. ومن ثمّ كان هذا البيان الذي رأيناه ، فالله عزوجل أعلم حيث يجعل رسالته. واعتراضهم على الله في اصطفائه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم محض جهل ، فعطاء الدنيا لإنسان لا يعني شيئا ، وليس دليلا على أن صاحبها صاحب فضل عند الله. وإذ بيّن الله عزوجل هذا كله ـ ففنّد عقائد الكافرين ، وفنّد أقوالهم ـ فإنه فيما سيأتي سيبين عاقبة العمى عن كتابه كما سنرى.

٢ ـ قلنا : إن محور سورة الزخرف من سورة البقرة هو قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) والآيات المارة تشعر بأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ، وشعروا بأن هذا القرآن من عند الله ، ولكن كانوا يرون أن غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحق به : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) لاحظ الصلة بين (نَزَّلْنا) في المحور وقولهم (نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ) وقد رد الله عزوجل اعتراضهم ، والملاحظ أنه عزوجل في المحور قال (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) هناك وعظهم بعد إقامة الحجة ، وسنرى كذلك هنا أنه سيعظهم بعد إقامة الحجة.

(وَمَنْ يَعْشُ) قال ابن كثير : أي يتعامى ويتغافل ويعرض ، وقال النسفي في معناها : ومن يتعام عن ذكره ، أو يعرف أنه الحق ويتجاهل (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي : عن القرآن. قال ابن كثير : والعشا في العين ضعف بصرها والمراد ههنا عشا البصيرة (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) أي : نسلطه عليه (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي : فهو معه في

٣٠٦

الدنيا والآخرة يحمله في الدنيا على المعاصي ، ويدخل معه النار يوم القيامة. قال النسفي : وفيه إشارة إلى أنّ من داوم عليه (أي : على الذكر) لم يقرنه الشيطان (وَإِنَّهُمْ) إي وإن الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) أي : ليمنعون العاشين (عَنِ السَّبِيلِ) أي : عن سبيل الهدى (وَيَحْسَبُونَ) أي : العاشون (أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) فهم ضالون ويظنون أنهم على الهدى كحال أكثر الخلق كل منهم يرى أن ما هو عليه عين الهداية وهيهات (حَتَّى إِذا جاءَنا) أي : هذا العاشي (قالَ) لقرينه الشيطان (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي : المشرق والمغرب ، أي : يا ليت بيني وبينك بعد المشرق من المغرب ، والمغرب من المشرق (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) الشيطان (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي : صحّ ظلمكم وكفركم ، وتبيّن ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين ، ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب ، أو كونكم مشتركين في العذاب كما كان عموم البلوى يطيّب القلب في الدنيا. قال ابن كثير : أي لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم. وهكذا بيّن الله عزوجل عاقبة الغفلة والإعراض عن كتابه في الدنيا والآخرة.

كلمة في السياق :

قال تعالى في محور السورة من سورة البقرة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) وقد عرضت السورة أنّ الله عزوجل هو منزل هذا القرآن ، وأقامت الحجة من خلال ذكر خصائص القرآن أنه لا شك فيه ، ورأينا كيف عالجت السورة مواقف الكافرين من هذا القرآن ، واستقر السياق على تبيان عقوبة العشا عنه في الدنيا والآخرة ، والآن يتوجه الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أنزل عليه القرآن. ويستوعب هذا الخطاب بقية المقطع الأول وبداية المقطع الثاني.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) أي : الذين فقدوا سمع القبول. أي : الذين لا يستمعون للحق استماع قبول ففي آذانهم صمم عن سماع الحق (أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) أي : الذين فقدوا البصر ، والمراد به بصر البصيرة ، ففي قلوبهم عمى لا يرون معه الحق (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عن الحق فلا يعرفه ، ولا يعرف طريقه ، ولا يهتدي إليه. قال ابن

٣٠٧

كثير : (أي : ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ ، وليس عليك هداهم ، ولكنّ الله يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وهو الحكم العدل» ثم قال تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) أي : نتوفينّك قبل أن ننصرك عليهم ، ونشفي صدور المؤمنين منهم (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) أشدّ الانتقام في الدنيا والآخرة. قال ابن كثير : أي : لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) من العذاب الدنيوي قبل أن نتوفاك (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي : قادرون. أي : نحن قادرون على هذا وهذا (فَاسْتَمْسِكْ) أي : فتمسّك (بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) وهو القرآن واعمل به (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : على الدين الذي لا عوج له. قال ابن كثير : (أي : خذ بالقرآن المنزل على قلبك ، فإنّه هو الحق ، وما يهدي إليه هو الحق ، المفضي إلى صراط الله المستقيم ، الموصل إلى جنات النعيم والخير الدائم المقيم).

كلمة في السياق :

تلاحظ أن السورة بعد أن أقامت الحجة على الكافرين في أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه لا ريب فيه ، وأقامت الحجة على الكافرين في عقائدهم ومواقفهم ، توجهت بالخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وممّا تضمّنه الخطاب أن هؤلاء المعرضين عن كتاب الله صمّ وعمي ، ويستحقون العذاب ، سواء كان ذلك في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعد مماته. ثم أصدر الله أمره لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستمساك بهذا القرآن ، وكان ذلك هو الجسر الذي يعود السياق به للحديث عن هذا القرآن ، وخصائصه التي تقتضي الإيمان به ، وعدم الريب ، فقد رأينا أنّه بعد مقدّمة السورة جاء قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ). والآن يأتي قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ).

وكان الجسر الذي وصل بين نهاية المقطع السابق وبداية المقطع الجديد هو قوله تعالى : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) مما يدلّ على أن السياق الرئيسي للسورة هو الكلام عن القرآن ، مما يؤكد أن محور السورة هو ما ذكرناه (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ..) والآيات الأخيرة بيّنت أن على صاحب الدعوة في كل حال أن يستمسك بالوحي الذي أنزل عليه ، فالسورة تعالج الريب ، وتعالج الكفر ، وتوجّه صاحب الدعوة.

٣٠٨

الفوائد :

١ ـ بدأت السورة بقوله تعالى : (حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فهل وصف الكتاب بالعربية تقرير لواقع؟ أو أنّ في ذلك معنى زائدا وهو وصفه بالفصاحة والبيان؟ وفي ذلك ثناء على اللغة العربية بأنها لغة الفصاحة والبيان. قال ابن كثير في معرض شرحه لكون الكتاب مبينا : لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس. وكلام ابن كثير هذا يشير إلى أن وصف القرآن بالعربية فيه معنى زائد على تقرير الواقع ، وبالتالي فيه ثناء على هذه اللغة ، ولا يدرك أحد ميزات هذه اللغة على بقية اللغات إلا بدراسة مستفيضة لفقهها وأسرارها مقارنة ببقية اللغات.

٢ ـ عند قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) قال النسفي : وإن القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ ، دليله قوله (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) وسمّي (أي : اللوح المحفوظ) أم الكتاب ؛ لأنّه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب ، منه تنقل وتستنسخ .. (ووصف القرآن بالعلو) أي : في أعلى طبقات البلاغة .. وقال ابن كثير : وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله كما قال تبارك وتعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ* فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ) ولهذا استنبط العلماء رضي الله عنهم من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف ، كما ورد به الحديث ـ إن صح ـ لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملإ الأعلى ، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى ، لأنه تنزيل عليهم ، وخطابه متوجه إليهم ، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم ، والانقياد له بالقبول والتسليم ، لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ).

٣ ـ قلنا في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) : إن كل مفسّر للقرآن قد فسّر القرآن بثقافة عصره ؛ بل بثقافته من ثقافة عصره ، وبقدر قصور هذه الثقافة يقع الخطأ في التفسير ، والعلة في القصور البشري وليس في القرآن علة ـ حاشاه وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ وكنموذج لما ذكرناه ننقل ما ذكره ابن كثير ـ على جلالة قدره وثقوب بصره ـ عند قوله تعالى في هذه السورة : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

٣٠٩

الْأَرْضَ مَهْداً) (مع أنها مخلوقة على تيار الماء) وهو قول ظاهر الخطأ لكنها ثقافة عصره ، ولو كلّفنا الإنسان أن يحلّق فوق ثقافة عصره وهو بشر نكون قد كلفنا الإنسان فوق ما يطيقه. ومن هنا تظهر لك عظمة النص القرآني إذ تسع العصور ، وتسبق اكتشافات الإنسان.

٤ ـ إن الأعلم بخصائص القرآن هو منزل هذا القرآن ، ومن ثم إذا أردنا أن نأخذ تصوّرا عن خصائص القرآن فإن أقصر طريق هو أن نتتبّع ما وصف به الله كتابه ، وأن نفهمها حق الفهم. من ذلك أنّ القرآن أحسن الحديث ، وأنه متشابه ، وأنه مثان ، وأنه مفصّل ، وأنّه محكم ، وأنّه مبين ، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن المستقبل يخدمه ولا ينقضه ولا يبطله ، وأنه عليّ ، وأنه حكيم ، وأنه ذكر ، وأنه علم للساعة ، وأنه اجتمع فيه الإحكام والتفصيل ، وأنه هدى ، وأنه بصائر للناس ، وغير ذلك ممّا قصه الله علينا من خصائص كتابه ، وفي كل خاصية من هذه الخواص نجد دليلا على أن هذا القرآن من عند الله.

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) عقد ابن كثير فصلا تحت عنوان (ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة) ننقل منه ما يلي :

وروى الإمام أحمد عن علي بن ربيعة قال : رأيت عليّا رضي الله عنه أتي بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فلما استوى عليها قال : الحمد لله (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ثم حمد الله ثلاثا وكبّر ثلاثا ، ثم قال : سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ، ثم ضحك فقلت له : مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال علي رضي الله عنه : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل مثل ما فعلت ، ثم ضحك فقلت : مم ضحكت يا رسول الله : فقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم : «يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال : رب اغفر لي ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي. وقال الترمذي : حسن صحيح.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ركب راحلته كبر ثلاثا ثم قال : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ

٣١٠

وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ثم يقول : «اللهم إني أسألك في سفرى هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هوّن علينا السفر واطو لنا البعيد ، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا» وكان صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إذا رجع إلى أهله قال «آيبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون» وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وروى الإمام أحمد عن أبي لاس الخزاعي قال : حملنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج فقلنا : يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من بعير إلا في ذروته شيطان ، فاذكروا اسم الله عليها إذا ما ركبتموها كما آمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله عزوجل» أبو لاس اسمه محمد بن الأسود بن خلف.

(حديث آخر) في معناه روى أحمد عن أسامة بن زيد قال : أخبرني محمد بن حمزة أنه سمع أباه يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا الله عزوجل ثم لا تقصروا عن حاجاتكم»).

وذكر الألوسي بمناسبة الآية : (أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن أبي مجلز قال : رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرمّ وجههما رجلا ركب دابة فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا ، فقال : أو بذلك أمرت؟ فقال : فكيف أقول؟ قال : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم ، الحمد لله الذي جعلني في خير أمة أخرجت للناس ثمّ تقول : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) إلى (مُقْرِنِينَ) ... (وظاهر النظم الجليل أن تذكر النعمة والقول المذكور لا يخصّان ركوب الأنعام بل يعمانها والفلك ، وذكر بعضهم أنه يقال إذا ركبت السفينة : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) .. إلى .. (رَحِيمٌ) ويقال عند النزول منها «اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»).

٦ ـ هناك اتجاه لبعض غلاة الصوفية ، أن هذا الكون هو تكثفات الذات الإلهية. فالذات الإلهية تكثفت فكان هذا الكون ، يقولون : إن أول تكثف كان هو الذات المحمدية ، ومنه خلق هذا الكون ، وإنني أجزم أن هذا القول كفر بصريح القرآن ، وهو قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) إذ إن قولهم ذاك يجعل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو جزء الذات الإلهية ، ويجعل الكون كذلك ، تعالى الله عن ذلك ، ونعوذ بالله من الضلال ، وإن من أفظع طرق الضلال أن يقول الإنسان القول لمجرد

٣١١

احتمال من احتمالات الفهم دون أن يحقق هذا القول ، ويفهمه على ضوء النصوص المحكمة. وإن هذا من الجهل العريض. لقد كان الصوفية الأوائل يقولون : إنه لتقع النكتة من كلام القوم في قلبي فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة. ثم صار بعض الصوفية يسجلون ما يقع في قلوبهم ويحملون النصوص عليه ، ولم يجعل الله لقلب عصمة إلا لقلب رسول أو نبي فليتق الله امرؤ في هذه الأمّة ولا يتكلّمن إلا بعلم وتحقيق وضمن حدود الشريعة.

٧ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) قال النسفي : (أي يكذبون ومعنى الآية عندنا أنهم أرادوا بالمشيئة الرضا ، وقالوا لو لم يرض بذلك لعجّل عقوبتنا أو لمنعنا عن عبادتها منع قهر واضطرار ، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضي بذلك ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) الآية ، أو قالوا هذا القول استهزاء لا جدّا واعتقادا ، فأكذبهم الله تعالى فيه ، وجهّلهم حيث لم يقولوا عن اعتقاد كما قال مخبرا عنهم : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) (يس : ٤٧) وهذا حق في الأصل ، ولكن لما قالوا ذلك استهزاء كذّبهم الله بقوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (يس : ٤٧) وكذلك قال الله تعالى : (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) (المنافقون : ١) ثم قال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (المنافقون : ١) لأنهم لم يقولوه عن اعتقاد وجعلوا المشيئة حجّة لهم فيما فعلوا باختيارهم وظنوا أن الله لا يعاقبهم على شىء فعلوه بمشيئته ، وجعلوا أنفسهم معذورين في ذلك فرد الله عليهم.

٨ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال ابن كثير : (أي : هلا كان إنزال القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين؟ يعنون مكة والطائف. قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وابن زيد ، وقد ذكر غير واحد ـ منهم قتادة ـ أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة ، وعروة بن مسعود الثقفي ، وقال مالك عن زيد بن أسلم والضحاك والسدي : يعنون الوليد بن المغيرة ومسعود بن عروة الثقفي ، وعن مجاهد : يعنون عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي ، وعنه أيضا : أنهم يعنون عتبة بن ربيعة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : جبارا من جبابرة قريش. وعنه رضي الله تعالى عنهما : أنهم يعنون الوليد بن المغيرة ، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ، وعن مجاهد : يعنون عتبة ابن ربيعة بمكة وابن عبديا ليل بالطائف ، وقال السدي عنوا بذلك الوليد بن المغيرة ،

٣١٢

وكنانة بن عبد عمرو بن عمير الثقفي ، والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان).

٩ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) قال ابن كثير : (أي : إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى ، أي : يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ليوافوا الآخرة ، وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها ، كما ورد به الحديث الصحيح. وورد في حديث آخر : «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء» أسنده البغوي عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكروه ، ورواه الطبراني عن سهل بن سعد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافرا منها شيئا).

١٠ ـ بمناسبة قوله تعالى : (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) قال ابن كثير : (أي : هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم ، ولهذا لما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صعد إليه في تلك المشربة لما آلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نسائه ، فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه ، فابتدرت عيناه بالبكاء وقال : يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متكئا فجلس وقال : «أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» وفي رواية : «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟». وفي الصحيحين أيضا وغيرهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» وإنما خوّلهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها ، كما روى الترمذي وابن ماجه من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا» قال الترمذي : حسن صحيح).

١١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) قال ابن كثير : (روى عبد الرزاق عن سعيد الجريري قال : بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة شفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصيرهما الله تبارك وتعالى إلى النار فذلك حين يقول : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)). وننبه على أن هذا أثر.

٣١٣

قال ابن كثير : (والمراد بالمشرقين ههنا هو ما بين المشرق والمغرب ، وإنما استعمل ههنا تغليبا كما يقال : القمران والعمران والأبوان قاله ابن جرير وغيره) أقول : إن المغرب في حقنا مشرق في حق آخرين ، فالمشرق والمغرب في حقنا هو مغرب ومشرق في حق آخرين ، وهذا يعني أن بعد ما بين المشرق والمغرب في حقي هو بعد ما بين المشرق في حقي والمشرق في حق الآخر الذي تطلع عليه الشمس إذا غربت من عندي ، ومن ثم فالتعبير بلفظ المشرقين فيه إشارة خفية إلى ما ذكرناه ، وما قاله المفسرون فهم صحيح للنص ومطابق لاصطلاح العرب في الخطاب.

١٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ* أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) قال ابن كثير : (أي : نحن قادرون على هذا وعلى هذا ، ولم يقبض الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أقر عينه من أعدائه ، وحكّمه في نواصيهم ، وملكه ما تضمنته صياصيهم ، هذا معنى قول السدي ، واختاره ابن جرير وروى ابن جرير عن معمر قال : تلا قتادة : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) فقال : ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقيت النقمة ولم ير الله تبارك وتعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى ، ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : وذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري ما يصيب أمته من بعده فما رؤي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله عزوجل وذكر من رواية سعيد بن أبي عروة عن قتادة نحوه ، ثم روى ابن جرير عن الحسن نحو ذلك أيضا وفي الحديث : «النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون»).

ولننتقل إلى المقطع الثاني.

المقطع الثاني

ويمتدّ من الآية (٤٤) إلى نهاية الآية (٦٠) وهذا هو :

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (٤٤) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن

٣١٤

رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (٤٧) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (٥٠) وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ (٥٦) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠))

التفسير :

(وَإِنَّهُ) أي : القرآن (لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي : لشرف لك ولقومك ، قاله ابن

٣١٥

عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد ، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه .. قال ابن كثير : (ومعناه أنه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم فهم أفهم الناس له ، فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعلمهم بمقتضاه. وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلّص من المهاجرين السابقين الأولين ومن شابههم وتابعهم) وقيل معناه : أي : لتذكير لك ولقومك ، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) قال ابن كثير : أي : عن هذا القرآن. وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له ، وقال النسفي : أي : وسوف تسألون عنه يوم القيامة ، وعن قيامكم بحقه وعن تعظيمكم له ، وعن شكركم هذه النعمة. ولنا في الفوائد عودة على هذه الآية (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) قال ابن كثير : أي : جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد .. وقال النسفي : (ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم ، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء ، وكفاه نظرا وفحصا نظره في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه ، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا ، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها ، وقيل إنه عليه الصلاة والسلام جمع له الأنبياء ليلة الإسراء فأمّهم وقيل له : سلهم. فلم يشكّ ولم يسأل ، وقيل : معناه : سل أمم من أرسلنا وهم أهل الكتابين أي : التوراة والإنجيل ، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء ، ومعنى هذا السؤال التقريع لعبدة الأوثان أنهم على الباطل).

كلمة في السياق :

١ ـ بدأ المقطع الثاني بهاتين الآيتين اللتين تلفتان النظر إلى بعض خصائص هذا القرآن في كونه شرفا للأمة التي نزل عليها. وفي دعوته إذ دعا إلى ما دعا إليه كل رسول ، وهذا يقتضي ألا ترتاب فيه الأمة التي نزل عليها ، بل تحمله حق الحمل ، فكيف ترتاب فيه وقد تضمّن دعوة الرسل جميعا؟! كيف وهي ستسأل عنه يوم القيامة؟!

٢ ـ للمفسرين قولان في تفسير كلمة (الذكر) : أنّه بمعنى الشرف ، وأنه بمعنى التذكير ، وفي كل من القولين ذكر خاصية من خواصه تقتضي الإيمان به وعدم الريب.

٣١٦

فمن المحال أن يكون كتاب فيه مثل هذا التذكير بالله ورسله واليوم الآخر والحق على مثل هذا الكمال ويكون بشري المصدر.

٣ ـ في تفسير القوم في الآية ثلاثة أقوال. فقول أنهم «قريش» بدليل إيراد الترمذي : في هذا المقام الحديث الذي رواه البخاري عن معاوية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين». وقول أنهم العرب ؛ لأنهم قومه عليه الصلاة والسلام ، ولسانه لسانهم. وقول أنهم الأمة أي : أمة الاستجابة. كما فسّر ذلك النسفي فقال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (أي : ولأمتك) أي : كل من استجاب لهذا القرآن فقد ناله الشرف العظيم عند الله ، وأيّا ما كان الأمر فإن الصلة ما بين الآيتين والمحور واضحة ، (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) من هذا القرآن الذي هو شرف لكم يا معشر قريش أو يا معشر العرب أو يا أيها الناس. إذ يخاطبكم الله أو الذي هو تذكير لكم بالحق كله. والذي سوف تسألون عنه والذي مضمونه الحق الذي هو دعوة الرسل جميعا (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ..). فالصلة واضحة بين الآيتين ومحور السورة.

٤ ـ يلاحظ أن الله عزوجل يقص علينا بعد مقدمة المقطع الثاني من نبأ موسى وفرعون ، وصلة ذلك بقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ..) واضحة ، فالله عزوجل يقصّ علينا من نبأ هؤلاء المرسلين ليرينا أن دعوة الرسل السابقين جميعا هي دعوة هذا القرآن في التوحيد. وفي ذلك دليل من خلال المضمون على أن هذا القرآن من عند الله.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) الكثيرة (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) من الأمراء والوزراء والقادة والأتباع والعامة (فَقالَ) موسى (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : رسول الله إليكم ، ومن السياق نفهم أنهم طالبوه بإحضار البيّنة على دعواه ، وإبراز الآية ؛ بدليل قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أي : يسخرون منها ويهزؤون بها ويسمّونها سحرا (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي : أعظم من صاحبتها ، أي : أعظم من التي كانت قبلها في نقض العادة ، والمراد بهذا الكلام : أنهن جميعا موصوفات بالكبر (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) كالطوفان

٣١٧

والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الزروع والأنفس والثمرات (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن الكفر إلى الإيمان ، ومع ذلك لم يرجعوا. (وَقالُوا) في كل مرة سلط عليهم فيها عذاب (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي : بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة ، أو بعهده عندك وهو النبوة ، أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمّن اهتدى (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي : مؤمنون به ، وفسّر ابن جرير الساحر بالعالم. قال ابن كثير : (وكان علماء زمانهم هم السحرة ، ولم يكن السحر في زمانهم مذموما عندهم ، فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص منهم ؛ لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك ، وإنما هو تعظيم في زعمهم ، ففي كل مرة يعدون موسى عليه‌السلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل ، وفي كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه ، هذا كقوله تبارك وتعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ* وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (الأعراف : ١٣٣ : ١٣٥).

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي : ينقضون العهد بالإيمان ولا يوفون به (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) أي : نادى بنفسه عظماء القبط. أو أمر مناديا فنادى ، ويحتمل أنه عمّم تعميما ، أو وزّع منشورا ؛ إذ إن بعض أوراق البردي المكتشفة تذكر أن رعمسيس الثاني وزع منشورا ـ عثر على بعض نسخه ـ يدعو فيه إلى ألوهيته ، ولكن هناك خلاف في أن رعمسيس الثاني هو فرعون موسى.

(قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ) المتفرعة من النيل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي : من تحت قصري أو بين يدي ، أو من تحت سيطرتي ، أي : في ملكي (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك يعني : وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء. وقال النسفي : أي : أفلا تبصرون قوتي وضعف موسى ، وغناي وفقره. وهكذا استدل الخاسر على أن الحق معه بوجود الجاه والغنى والرفاه ، وهي حجة الكافرين وشبهة الضالّين وفتنة القاصرين ، وقد ناقشها المقطع الأول كما رأينا مناقشة واسعة (أَمْ) أي : بل (أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي ضعيف حقير (وَلا يَكادُ يُبِينُ) يعني : لا يكاد يفصح عن الكلام فهو عييّ فقير. ويحتمل أن

٣١٨

يكون أم بمعنى بل وهمزة الاستفهام فيكون المعنى : بل ثبت عندكم واستقر أني أنا خير من موسى الضعيف العييّ. قال ابن كثير : وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون ـ لعنه الله ـ بذلك أنه خير من موسى عليه الصلاة والسلام ، وقد كذب في قوله كذبا بيّنا واضحا ، وسننقل في الفوائد ما قاله ابن كثير في إبطال كلام فرعون في حق موسى (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) الأسورة : هي ما يجعل في الأيدي من الحلي (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه قال ابن كثير : (نظر إلى الشكل الظاهر ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه لو كان يفهم) وقال النسفي : (أراد بإلقاء الأسورة عليه إلقاء مقاليد الملك إليه لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوّروه بسوار وطوّقوه بطوق ذهب).

أقول : هذا الذي قاله النسفي يحتمل ، ويحتمل أنه أراد إنزال الأسورة عليه من باب المعجزات ، وإعطاء الله عزوجل له الغنى والجاه العريض ؛ بدليل اقتراحه إنزال الملائكة يمشون معه مقترنا بعضهم ببعض ليكونوا أعضاده وحاشيته وأنصاره وأعوانه (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) قال ابن كثير : أي : استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له وقال النسفي : أي : استفزهم بالقول واستنزلهم وعمل فيهم كلامه فأطاعوه (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي : خارجين عن دين الله (فَلَمَّا آسَفُونا) أي : أغضبونا وأسخطونا (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) قال النسفي : ومعناه أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن نعجلّ لهم عذابنا وانتقامنا وألّا نحلم عنهم (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي : سالفين لمثل من عمل بعملهم (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي : عبرة لمن بعدهم. قال النسفي : (أي : وحديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل يضرب بهم الأمثال ، ويقال مثلكم مثل قوم فرعون (لِلْآخِرِينَ) لمن يجىء بعدهم ، ومعناه : فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم لإتيانهم بمثل أفعالهم ومثلا يحدثون به).

كلمة في السياق :

١ ـ دلت الآيات أن مضمون دعوة رسل الله السابقين هو التوحيد ، وأرتنا الآيات أنه مع كل الآيات كفر فرعون وقومه. وأنهم بذلك استحقوا العذاب ، وبهذا أدّت الآيات أكثر من خدمة للسياق والمحور ، فكانت نموذجا على مضمون رسالات الله ،

٣١٩

وهذا هو المراد الرئيسي في سياقها بدليل سبقها بقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ). وكانت نموذجا على ما ورد في أول السورة : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) لاحظ الصلة بين هذه الآيات وما ورد ههنا (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) ، (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) ثم لاحظ صلة بداية المقطع الثاني ببداية المقطع الأول : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ..) ، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ).

وهكذا تجد كيف تتجسّد في السورة الخصائص التي ذكرت عن القرآن في كونه مبينا ، وكونه عليا ، وكونه حكيما ، وكونه مذكرا.

وأما صلة القصة بمحور السورة فمن أكثر من جهة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) مع أن مضمونه هو مضمون رسالات الله ، ومع ملاحظة ما أصاب المكذبين بهذه الرسالات (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ..).

٢ ـ وبعد قصة موسى عليه‌السلام وفرعون يأتي قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ).

لاحظ صلة ذلك ببداية المقطع (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ).

ولاحظ صلة ذلك ببداية السورة (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) وصلة ذلك في المحور (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ..) فلنر الآيات :

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) من قبل الكافرين في كونه عبد من دون الله ، وذلك دليل في زعم الكافرين أنه في النار بناء على ما ورد في سورة الأنبياء أنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم ، فهذا عيسى يعبد من دون الله. فاستدلوا بذلك على أن القرآن ليس مستقيم العبارة وأنه .. وأنه .. وأنه .. وبنوا عليه : ما دام عيسى على رأي القرآن في النار ـ وليس ذلك معقولا ـ فآلهتهم ليست في النار ، وبالتالي فالقرآن ليس صحيح المضمون. وسنرى في الفوائد عند ذكر سبب نزول هذه الآية ، من الذي ضرب هذا المثل من الكافرين ، وما قصة ذلك. والذي نذكره هنا هو أن المشركين بنوا على هذا

٣٢٠