الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

يوسّع على من يشاء ، ويضيّق على من يشاء ، وله الحكمة والعدل التام (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو يعطي بعلم ويمنع بعلم.

كلمة في السياق :

نلاحظ أنّ الله عزوجل قد بيّن لنا في هذه الآيات بعض حكم إنزال القرآن : منها إنذار الخلق. وكذلك الحكم في كل خلاف يقع بين الناس. وعرّفنا الله عزوجل على ذاته بما يدلّل على ذلك ، ويعلّل له. وقد ذكر لنا نموذجا على الاختلاف بين الخلق في قضية الكفر والإيمان ، والشرك والتوحيد. وفي الآية اللاحقة يبيّن لنا أنّ ما شرعه في هذا الدين هو شرعه في رسالاته كلها.

(شَرَعَ لَكُمْ) أي : بيّن وأظهر لكم (مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) أي : شرع لكم من الدين ، دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ. ثمّ فسّر الشرع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أي : دين الإسلام (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي : ولا تختلفوا في الدين. قال ابن كثير : أي : أوصى الله تعالى ـ جميع الأنبياء ـ عليهم‌السلام بالائتلاف والجماعة ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف. قال النسفي : قال علي ـ رضي الله عنه ـ : لا تتفرقوا ، فالجماعة رحمة ، والفرقة عذاب. أقول : هذا يدلّ على أنّ هذه السورة تتحدّث عن جماعة المسلمين. (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي : عظم على المشركين وشقّ عليهم ما تدعوهم إليه ، من إقامة الإسلام ، والوحدة فيه وبه (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) قال النسفي : أي : يجتلب ويجمع إليه بالتوفيق والتسديد من يشاء (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي : من يقبل على طاعته. قال ابن كثير : أي : هو الذي يقدّر الهداية لمن يستحقها ، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريقة الرشد أقول : دلّت الآية على أن صفة الإنابة تجعل صاحبها مظنة الرشد والهداية.

كلمة في السياق :

لخّص الله ـ عزوجل ـ في هذه الآية مضمون شريعته في كل العصور ، وهي إقامة دينه ، والاجتماع على ذلك. فدين الله شريعة وجماعة. وسنرى في هذه السورة

٢٤١

مواصفات الجماعة. وإن غياب هذا المعنى عن المسلمين من أخطر ما يواجههم ، وما يقعون فيه. وقد بينت الآية أن المشركين يشقّ عليهم ويعظم أن يقبلوا هذا الدين ، وأن يعملوا لإقامته ، وأن يجتمعوا على ذلك ، ومن تأمّل ما عليه أحزاب الضلالة رأى مصداق ذلك. ثم بعد أن بيّن موقف المشركين فقد بيّن حال أهل الكتاب الأوائل إذ تفرّقوا واختلفوا فحطمّوا أحد مظهري دين الله ، وهو الجماعة. وأن الأواخر منهم الذين ورثوا الكتاب شاكّون أصلا في هذا الكتاب ، وبالتالي فلا إقامة لدين الحق ، ولا اجتماع عليه.

(وَما تَفَرَّقُوا) قال النسفي : أي : أهل الكتاب بعد أنبيائهم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) قال النسفي : إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال ، وأمر متوعدّ عليه على ألسنة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي : حسدا وطلبا للرياسة ، والاستطالة بغير حق. قال ابن كثير : أي : إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم ، وقيام الحجة عليهم ، وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشاقّة (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : فصل بينهم في الدنيا. قال النسفي : أي : لأهلكوا حين افترقوا ، لعظم ما اقترفوا. وقال ابن كثير : أي : لولا الكلمة السابقة من الله تعالى ، بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد ، لعجّل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا. أقول : الذي يستحق العذاب هم الخارجون على الجماعة أي الخارجون عن الحق والباغون على أهله (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد جيل الخلاف (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) قال النسفي : أي : من كتابهم لا يؤمنون به حقّ الإيمان (مُرِيبٍ) أي : موغل في الريبة. قال ابن كثير : (يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول ، المكذّب للحق (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي : ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم ، وإنّما هم مقلّدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان ، وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد). ولشك أهل الكتاب وتفرقهم واختلافهم ، وأمام استكبار المشركين عن إقامة الإسلام والاجتماع عليه ، يأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوامر قال تعالى : (فَلِذلِكَ) قال النسفي : فلأجل ذلك التفرق ، ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا. وقال ابن كثير : أي : فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصّينا به جميع المرسلين قبلك ، أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي : فادع إلى دين الله والاجتماع عليه ، واستقم

٢٤٢

على شريعة الله. وعلى الدعوة إليها ، كما أمرك الله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المختلفة الباطلة من الرغبة عن دين الله ، والتفرّق عنه ، والاجتماع على غيره. أو أهواءهم التي بسببها اختلفوا ، وبها وصلوا إلى باطل من القول وزور (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي : صدّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، لا نفرّق بين أحد منهم (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي : في الحكم كما أمرني الله (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي : كلّنا عبيده. قال ابن كثير : أي : هو المعبود لا إله غيره ، فنحن نقر بذلك اختيارا ، وأنتم وإن لم تفعلوا اختيارا فله يسجد من في العالمين طوعا وإجبارا (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي : نحن برآء منكم ، وإنا لا نؤاخذ بأعمالكم ، وأنتم لا تؤاخذون بأعمالنا. (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي : لا مجادلة ؛ لأن الحق قد ظهر وصرتم محجوجين به ، فلا حاجة إلى المحاجّة ، ومعناه : لا إيراد حجة بيننا ، لأن المتحاجّين يورد هذا حجته وهذا حجته (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) أي : يوم القيامة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي : المرجع لفصل القضاء ، فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم. قال ابن كثير : (اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات ، كل منها منفصلة عن التي قبلها ، حكم برأسها. قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي ، فإنّها أيضا عشرة فصول كهذه). ولأنّ الدعوة الصافية إلى الله تلقى استجابة ، ولأن الكافرين سيحاولون ثني المؤمنين عن هذه الاستجابة ، فقد قال الله عزوجل في الآية اللاحقة : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) قال ابن كثير : أي : يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ؛ ليصدوهم عمّا سلكوه من طريق الهدى (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : باطلة عند الله (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) من الله بكفرهم وصدهم عن سبيل الله (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي : يوم القيامة.

كلمة في السياق :

١ ـ بدأت المجموعة التي مرّت معنا بذكر الحكمة من إنزال القرآن ، وعرّفتنا على الله ـ عزوجل ـ ، وحدّدت لنا مضمون شريعته التي أنزلها في هذا القرآن ، وأنزلها من قبل ، وذكرت لنا موقف المشركين من هذا المضمون ، وما فعل أهل الكتاب الأوائل بهذا المضمون ، وما هي حال أهل الكتاب الأواخر ، ثمّ ذكرت ما ينبغي أن نقابل به هذه المواقف ، ثمّ ذكرت بطلان حجج كل من يقف ضدّ الدعوة إلى الله.

٢٤٣

وإذا نظرنا إلى صلة هذه المعاني بالمقطع الأول من السورة ، فإننا نجد أن الصلة كاملة. لقد قرّر المقطع الأول أن الله عزوجل أوحى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللرسل السابقين. وقد جاء في هذه المجموعة تحديد لمضمون الوحي ، وتلخيص لحكم إنزال القرآن. وكما أن الصلة واضحة بين هذه المجموعة وسياق السورة ، فالصلة واضحة مع المحور (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فتقرير أن منزل الكتاب هو الله ـ عزوجل ـ ، وتبيان حكم النزول ، وتبيان أن الذين يجادلون في آيات الله حجّتهم داحضة. كل هذه المعاني صلتها مباشرة بمحور السورة.

٢ ـ ذكر ـ فيما مرّ من السورة ـ التوحيد ، كما ذكر أن مضمون شريعة الله إقامة دين الله والاجتماع على ذلك ، وستأتي معنا مجموعتان : مجموعة موضوعها الرئيسى حيد ، ومجموعة موضوعها الرئيسي خصائص جماعة المسلمين ، فلنر المجموعتين. وهما الثانية والثالثة في المقطع الثاني. ونلاحظ أنّ المجموعة الآتية تتألف من فقرات واضحة المعالم. كل فقرة منها مبدوءة إما بلفظ الجلالة : (اللهُ) أو بقوله تعالى : (وَهُوَ). ومجموع فقراتها أربعة ، وأوائلها على الترتيب : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) .. (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ .. وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ...) (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا).

ومن ملاحظة بداية الفقرات نعلم أن الحديث عن الله ـ عزوجل ـ هو المضمون الرئيسي للمجموعة بفقراتها :

تفسير الفقرة الأولى من المجموعة الثانية :

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) أي : جنس الكتاب (بِالْحَقِ) أي : بالصدق ، يعني أن الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه كلها صدق وحق ، وهو الذي أنزلها (وَالْمِيزانَ) أي : وهو الذي أنزل الميزان من أجل العدل والإنصاف ، فكما هدى الإنسان للميزان ليقوم العدل والإنصاف في القضايا المادية ، فقد أنزل الكتاب ليقوم العدل والإنصاف في الحياة البشرية كلها ، ومن ثم فالعدل والإنصاف متلازمان مع هذا القرآن ، فكلّ نظرية بشرية للعدل بمعزل عن هذا القرآن لا يمكن أن يتحقق فيها العدل ؛ لأن بصر الإنسان محدود ، ومن ثم فلا بد من تضخيم ، أو نسيان ، أو قصور ، أو تقصير ، أو غير ذلك مما يستحيل معه العدل في أي : نظرية بشرية للعدل (وَما يُدْرِيكَ

٢٤٤

لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي : لعل الساعة قريب منك ، وأنت لا تدري. قال ابن كثير : فيه ترغيب فيها وترهيب منها ، وتزهيد في الدنيا. قال النسفي : ووجه مناسبة اقتراب الساعة مع إنزال الكتب والميزان ، أن مع الساعة يأتي الحساب ووضع الموازين بالقسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع ، فاعملوا بالكتاب والعدل ، قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ووزن أعمالكم. (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) قال ابن كثير : أي : يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. وإنما يقولون ذلك تكذيبا واستبعادا ، أو كفرا وعنادا (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ) أي : خائفون (مِنْها) أي : وجلون من وقوعها. (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي : كائنة لا محالة فهم مستعدون لها ، عاملون من أجلها. (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) أي : يجادلون في وجودها ، ويدفعون وقوعها (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق. أي : في جهل بيّن. قال ابن كثير : لأنّ الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى. وقال النسفي : لأن قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله تعالى ، وقد دلّ الكتاب والسنّة على وقوعها ، والعقول تشهد على أنّه لا بدّ من دار جزاء.

كلمة في السياق :

بيّنت المجموعة الأولى من هذا المقطع أن مضمون رسالات الله هي (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) فمضمون رسالات الله كلها الإسلام والاجتماع عليه ، وقد جاءت هذه الفقرة لتبيّن أن الإسلام هو الحق وهو العدل ، وحضّت على إقامته من خلال التذكير بقرب الساعة ، فالصلة واضحة بين الفقرة وما سبقها ، وصلة الفقرة بالآيات الأولى من سورة البقرة كذلك واضحة : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .. وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ..).

٢٤٥

تفسير الفقرة الثانية من المجموعة الثانية :

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) في إيصال المنافع ، وصرف البلاء ، فهو برّ بليغ البر بهم ، قد وصل برّه إلى جميعهم ، ومن مظاهر لطفه (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي : يوسّع رزقه على من يشاء ، إذا علم مصلحته فيه (وَهُوَ الْقَوِيُ) أي : الباهرة القدرة ، الغالب على كل شىء (الْعَزِيزُ) المنيع الذي لا يغلب. قال ابن كثير : أي : لا يعجزه شىء. أقول : ومن لطفه بعباده أن يرسل لهم رسلا ، وأن ينزّل عليهم كتبا ، ومن مظاهر رزقه أن يخصّ بعض عباده بالرسالة. (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي : عمل الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) بالتوفيق في عمله ، أو التضعيف في إحسانه ، أو بأن ينال به الدنيا والآخرة. قال ابن كثير : أي : نقوّيه ونعينه على ما هو بصدده ، ونكثر نماءه ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) أي : من كان عمله للدنيا ، ولم يؤمن بالآخرة (نُؤْتِهِ مِنْها) أي : نؤته شيئا منها ، وهو رزقه الذي قسمه له لا ما يريده ويبتغيه. قال ابن كثير : (أي : ومن كان إنما سعيه ليحصل له شىء من الدنيا ، وليس له إلى الآخرة همّ البتة بالكلية حرمه الله الآخرة ، وأما الدنيا إن شاء أعطاه منها ، وإن لم يشأ لم يحصّل لا هذه ولا هذه ، وفاز الساعي بهذه النّيّة بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة) ومن ثمّ قال تعالى عن هذا الطالب للدنيا : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) أي : هو محروم بالكلية من نعيمها بل هو معذّب فيها.

كلمة في السياق :

بيّنت الفقرة الأولى من المجموعة الثانية أن الحق والعدل كائنان في الكتاب الذي أنزله الله ، وبيّن ما مرّ من الفقرة الثانية أنّه ـ عزوجل ـ هو اللطيف بعباده ، الرزاق القوي العزيز ، ومن ثم فعلى الإنسان أن يعمل للآخرة ، وألا يعمل للدنيا معترضا عن الآخرة ، ظنا منه أنه بذلك يحصّل رزقا ، أو اعتقادا منه أن العمل للآخرة يمنع عنه رزقا. كيف والله لطيف ، والله هو الرزاق ، والله قوي عزيز. وإذ بيّن الله ـ عزوجل ـ ميزة كتابه الذي فيه شرعه ، وبيّن ضرورة العمل به ، وخطأ الانحراف عنه ، فإنه فيما يأتي من الفقرة الثانية يناقش زعمين وقضيتين ، قضية السير في شرع غير شرعه ، وقضية اتهام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكذب عليه ، وكل من القضيتين يبدأ مناقشتها بكلمة (أَمْ).

٢٤٦

القضية الأولى :

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) قال ابن كثير : أي : هم لا يتّبعون ما شرع الله لك من الدين القويم ، بل يتّبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس ، من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار ، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالات الباطلة ، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم ، والعبادات الباطلة ، والأموال الفاسدة. قال النسفي : وفي الكلام إضمار تقديره : أيقبلون ما شرع الله من الدين ، أم لهم آلهة شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ، أي : لم يأمر به (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي : القضاء السابق بتأجيل الجزاء. أي : ولولا العدة بأنّ الفصل يكون يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : بين الكافرين والمؤمنين ، أو لعجّلت لهم العقوبة قال ابن كثير : أي : لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أي : المشركين (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة وإن أخر عنهم في دار الدنيا ، دلّ ذلك على أن المشركين المتّبعين غير شرع الله ظالمون. وبعد أنّ بيّنت الآية أن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة صوّر الله لنا حال هؤلاء يوم القيامة (تَرَى الظَّالِمِينَ) أي : المشركين في الآخرة (مُشْفِقِينَ) أي : خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) أي : من جزاء كفرهم في عرصات القيامة (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي : نازل بهم لا محالة ، أشفقوا أو لم يشفقوا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وهم المقيمون شرع الله (فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قال ابن كثير : فأين هذا من هذا؟ أي : أين من هو في العرصات في الذل والهوان ، والخوف المحقق عليه بظلمه ، ممن هو في روضات الجنات فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذّ ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) على العمل القليل ، الفوز العظيم والنّعمة التّامة السابغة الشاملة العامّة (ذلِكَ) أي : ما ذكر من الفضل الكبير (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال ابن كثير : أي : هذا حاصل لهم كائن لا محالة ، ببشارة الله تعالى لهم به (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي : على الدعوة ، أو على التبليغ ، أو على هذا الإسلام الموصّل إلى مثل هذا الفضل (أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي : إلا أن تودّوا قرابتي ، أي : أهلي. أو إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقرّبكم عند الله زلفى ، أو إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من

٢٤٧

القرابة. فتسمعون وتستجيبون ، وسنرى تفصيل الأقوال في هذا الموضوع في الفوائد ـ إن شاء الله تعالى ـ. قال النسفي : وقيل القربى : التقرب إلى الله تعالى ، أي : إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أي : يكتسب طاعة (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي : يضاعفها له أجرا وثوابا (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) أي : يغفر الكثير من السيئات (شَكُورٌ) لمن أطاع ، يكثر له القليل من الحسنات ويضاعفه ، ويستر ويغفر له السيئات.

كلمة في السياق :

بيّن الله ـ عزوجل ـ في هذه الآيات عاقبة المشركين السائرين على غير شرعه ، وبيّن عاقبة السائرين على شرعه ، ويلاحظ التشابه بين نهاية هذه الآيات ونهاية الآيتين اللتين بدئت بهما هذه الفقرة :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ..). (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ...).

فالفقرة دعوة للسير على شريعة الله ، ودعوة لترك شريعة غير الله ، وبيان لعاقبة هؤلاء وهؤلاء. والآن يأتي عرض القضية الثانية في الفقرة :

فالفقرة كما قلنا دعوة للالتزام بكتاب الله. وإنّما يحول دون ذلك السير وراء شرائع أخرى ، أو تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إنزال الكتاب عليه ، وقد عولجت القضية الأولى فيما مرّ ، والآن يأتي دور القضية الثانية.

القضية الثانية :

(أَمْ يَقُولُونَ) أي : بل أيقول هؤلاء الظالمون (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وهو استفهام فيه توبيخ. قال النسفي : كأنه قيل أيتمالكون أن ينسبوا مثله (أي : مثل محمد) صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الافتراء ، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) قال ابن كثير : أي : لو افتريت على الله كذبا ـ كما يزعم هؤلاء الجاهلون ـ يختم الله على قلبك أي : يطبع على قلبك ، ويسلبك ما كان آتاك

٢٤٨

من القرآن (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) أي : الشرك ، وهو وعد مطلق من الله عزوجل (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي : ويظهر الإسلام ويثبته بكلماته بما أنزل من كتابه على لسان نبيّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد فعل ـ جل جلاله ـ ويفعل. قال ابن كثير : أي : يحقّقه ويثبته ويبيّنه ويوضّحه بكلماته ، أي : بحججه وبراهينه. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما تكنّه الضمائر وتنطوي عليه السرائر ، وبهذا انتهت الفقرة الثانية من المجموعة الثانية من المقطع الثاني.

كلمة في السياق :

رأينا أنّ المجموعة الثانية تتألف من فقرات : الفقرتان الأولى والثانية تبدآن بلفظ الجلالة (اللهُ) ، والفقرتان الثالثة والرابعة تبدآن بقوله تعالى : (وَهُوَ).

وقد رأينا أن الفقرتين الأولى والثانية ذكرتا إنزال الله ـ عزوجل ـ الكتاب والميزان ، ووجوب العمل بالكتاب طلبا للآخرة ، وأزاحتا العلل القاطعة عن السير إلى الله ، وأنكرتا قضية السير وراء شرائع أخرى ، وقد فنّدت الآية الأخيرة أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كذب على الله بأن بيّنت أن لو كان شىء من ذلك لعاقبه الله بالختم على القلب فكان كافرا ـ والعياذ بالله ـ ولم يكن سيد المؤمنين. كيف والله ـ عزوجل ـ يؤيّده وينصره وهو العالم بكل شىء؟!. وبعد ذلك تأتي فقرة ثالثة في المجموعة الثانية تحضّ على التوبة ، وتبيّن من هم الذين يستجيبون لدعوة الله ـ عزوجل ـ وتعلّل لسنّة الله ـ عزوجل ـ في رزقه العباد على ما نراه.

تفسير الفقرة الثالثة من المجموعة الثانية :

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) قال ابن كثير : يقول تعالى ممتنا على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه ، أنه من كرمه وحلمه أنه يعفو ويصفح ويستر ويغفر (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) قال النسفي : هو ما دون الشرك .. وقال ابن كثير : أي : يقبل التوبة في المستقبل ، ويعفو عن السيئات في الماضي (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي : من التوبة والمعصية. قال ابن كثير : أي : هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم ، ومع هذا يتوب على من تاب إليه. أقول : ومجىء هذه الآية في هذا السياق يفيد مطالبة

٢٤٩

بالسير في شريعة الله ، ومطالبة بالتوبة عن السير في غيرها أو في المعصية (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) في هذا النصّ اتجاهان ، أولهما : أنّ الله ـ تعالى ـ يستجيب دعاء المؤمنين العاملين فيعطيهم مطلوبهم ويزيدهم عليه ، وثانيهما : أنّ الذين اجتمع لهم الإيمان والعمل الصالح هم الذين يستجيبون الاستجابة الكاملة لخطاب الشارع ، والله ـ عزوجل ـ يكرمهم بالزيادة من فضله فلا يزالون في ترقّ. وقد رجّح ابن كثير القول الأول. ويبدو لي ـ والله أعلم ـ أن القول الثاني هو الأرجح ، فسياق السورة يفصّل في موضوع الاتّباع الكامل لشريعة الله ، والإقامة الكاملة لدين الله ، فمن اجتمع له الإيمان والعمل الصالح فهو المرشّح لكمال العمل بالشريعة ولإقامة دين الله ـ عزوجل ـ ومما يرجّح ما ذهبنا إليه أنه قد جاء هذا بعد المنّ بقبول التوبة ، فكأن الآية تشير إلى أن المؤمنين العاملين هم التوّابون إلى الله ـ عزوجل ـ المستجيبون لأمره (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ شَدِيدٌ) أي : موجع مؤلم. وأيّ عذاب أشد من عذاب النار؟! نعوذ بالله منها. ولمّا كانت الفقرة الثانية ذكرت بسط الله الرزق لمن يشاء ، فإنّ الآية تأتي معلّلة لحجب الله التوسعة في الرزق على كل الخلق ، وتأخير التعليل يشعر بوحدة المجموعة ، وليدخل الرزق الحسي والمعنوي في التعليل ، ولتكون الآية مقدمة للفقرة الرابعة كما سنرى.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي : لظلموا في الأرض لأن الغنى مبطرة مأشرة ، أو لتكبّروا في الأرض (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ). قال النسفي : أي : يعلم أحوالهم فيقدر لهم ما تقتضيه حكمته فيفقر ويغني ، ويمنع ويعطي ، ويقبض ويبسط ، ولو أغناهم جميعا لبغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا ، وما ترى من البسط على من يبغي. ومن البغي بدون البسط فهو قليل ، ولا شك أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب.

وقال ابن كثير : أي : ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك ، فيغني من يستحق الغنى ، ويفقر من يستحق الفقر ، كما جاء في الحديث المروي «إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه».

٢٥٠

تفسير الفقرة الرابعة في المجموعة الثانية :

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) فمن بعد يأس الناس من نزول المطر ينزّله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي : بركات الغيث ومنافعه ، وما يحصل به الخصب قال ابن كثير : أي : يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية (وَهُوَ الْوَلِيُ) أي : الذي يتولى عباده بإحسانه (الْحَمِيدُ) أي : المحمود على ذلك ، يحمده أهل طاعته ، قال ابن كثير : أي : هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وهو المحمود في جميع ما يقدره ويفعله.

كلمة في السياق :

١ ـ جاء قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) بعد قوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) فهذه الآية تعليل لقبض المطر. وقبض المطر نموذج لقبض الرزق.

٢ ـ بدأت المجموعة الثانية بقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ ..). ثم بعد نهاية الفقرة الأولى جاء قوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ..). ثم جاءت الفقرة الثالثة مبدوءة : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ..) وفيها نموذج على لطف الله ثم جاءت الفقرة الرابعة مبدوءة بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ..) وفي هذه البداية نموذج على لطف الله ـ عزوجل ـ.

وهكذا نجد أن الفقرة الثالثة والرابعة تخدمان في تبيان مظاهر من لطف الله ـ عزوجل ـ وذكر لطف الله ـ عزوجل ـ في سياق المجموعة دعوة لإقامة الكتاب والميزان دون خوف على رزق ، وبهذا نعلم أن في المجموعة الثانية دعوة لإقامة شريعة الله بذكر كل ما يساعد على ذلك ، وتفنيد كل ما يصدّ عن ذلك في سياق الحديث عن ـ الله عزوجل ـ. إذ كل الأمور منبثقة عن أصل الإيمان بالله ومعرفته ، ومن ثم تنتهي المجموعة ـ كما سنرى ـ بذكر نموذجين من آياته ـ عزوجل ـ الدالة عليه ، كل منهما مبدوء بقوله تعالى (وَمِنْ آياتِهِ) ..

٢٥١

ا ـ (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على عظمته وقدرته العظيمة ، وسلطانه القاهر (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مع عظمهما (وَما بَثَّ فِيهِما) أي : وما ذرأ وفرّق في السموات والأرض (مِنْ دابَّةٍ) قد يكون في ذلك إشارة إلى وجود حياة في كواكب أخرى غير الأرض ، وقد يكون المراد غير ذلك كما سنرى في الفوائد (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) أي : على جمع دواب الأرض والسماء. فإن كان المراد في الآية الإشارة إلى دوابّ في كواكب أخرى ، فالآية إذن تشير إلى إمكانية جمع بعضهم ببعض ، والمحاولات في عصرنا قائمة لاستكشاف الفضاء. وإن لم يكن الأمر كذلك فالآية تتحدّث عن قدرته ـ عزوجل ـ على جمعهم يوم القيامة. قال ابن كثير : أي : يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر. فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق. (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) من غمّ أو ألم أو مكروه أو قحط أو فقر أو شدة أو سجن أو غير ذلك (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي : فبجناية كسبتموها عقوبة لكم. قال ابن كثير : أي : مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي : من السيئات ، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : بفائتين الله ـ عزوجل ـ (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي : متول بالرحمة (وَلا نَصِيرٍ) أي : ناصر يدفع عنكم العذاب إذا حلّ بكم.

نقل :

قال الألوسي : (وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية (وَما أَصابَكُمْ) الخ ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب ، وما يعفو الله ـ عزوجل ـ عنه أكثر» وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله تعالى عنهما ـ كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول : بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر. ورؤي على كف شريح قرحة فقيل : بم هذا؟ فقال : بما كسبت يدي. وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال : إن أحبه إليّ أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي. والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له ـ كالأنبياء عليهم‌السلام ـ قد تصيبهم مصائب ، ففي الحديث «أشد الناس بلاء

٢٥٢

الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا ، وأما الأطفال والمجانين فقيل : غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية ، وقيل : في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر).

كلمة في السياق :

في وقوع المصائب وفي كونها عقوبة على الذنوب دليل على أنّ الإنسان لا يعجز الله ـ عزوجل ـ ، وفي ذلك دليل على قدرة الله على البعث ، كما أن في خلق السموات والأرض دليلا على ذلك ، وهذا درس في وجوب اتباع دين الله وإقامته خوفا من عقوبته في الدنيا بالمصائب ، وخوفا من عقوبته في الآخرة. وهكذا نجد أن الآيات الثلاث الأخيرة خدمت السياق في أكثر من جانب ، فكانت تعليلا لحبس الرزق وحبس المطر ، وكانت تدليلا على مجىء اليوم الآخر الذي يجازى فيه المنحرفون عن أمر الله ، ويكافأ فيه المقيمون لأمره ، وكانت تحذيرا للمنحرفين عن أمر الله ، سواء أكان انحرافهم كبيرا أو صغيرا. ثمّ بعد هذه الآيات الثلاث تأتي آيات أخرى مبدوءة بقوله تعالى (وَمِنْ آياتِهِ) تذكّر الإنسان بأنه في قبضته ـ عزوجل ـ ، وتدل على كمال قدرته ، وتدل على أن الإنسان لا يعجزه ، وتدل على مظهر من مظاهر عقوبته على الذنب.

ب ـ (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) أي : السفن الجاريات (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي : كالجبال (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي : سائرات على مهل وكأنّهن ثوابت بالنسبة لإحساس الإنسان (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه. أو صبار على طاعته ، شكور لنعمته. قال النسفي : أي لكل مؤمن مخلص ، فالإيمان نصفان : نصف شكر ، ونصف صبر (أَوْ يُوبِقْهُنَ) أي : يهلكهن. والمعنى : إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها (بِما كَسَبُوا) من الذنوب (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من الذنوب فلا يجازي عليها. (وَيَعْلَمَ) أي : لينتقم الله منهم وليعلم (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) أي : في إبطالها ودفعها (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : مهرب من عذابه ، أي : لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا ، فإنهم مقهورون بقدرتنا.

٢٥٣

كلمة في السياق :

١ ـ من قوله تعالى (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) نعلم صلة هذه الآيات بما قبلها في النموذج السابق أي في قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) فالآية هذه نموذج على قدرة الله ، وهي في الوقت نفسه مثال لما ذكر في النموذج الأول.

٢ ـ نلاحظ أنّ الله ـ عزوجل ـ ذكر أنّ من حكمة عقوباته الدنيوية أن يعلم الذين يجادلون في آيات الله أنهم لا مهرب لهم من عذاب الله ـ عزوجل ـ ، وفي ذلك دعوة لهم للعودة إلى شريعة الله ، ولذلك صلته بالسياق.

٣ ـ نلاحظ أن المجموعة الأولى في المقطع الثاني انتهت بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ). وأن المجموعة الثانية في هذا المقطع انتهت بقوله تعالى : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ..). فالمجموعتان انتهتا بالكلام عن الذين يحاجّون ويجادلون ، ولذلك صلته بموضوع إقامة دين الله ، فالمجموعتان متكاملتان ، إذ النقطة الرئيسية في سياق المجموعة الثانية أن منزل الكتاب هو الله ـ عزوجل ـ ، وأن هذا الكتاب هو الصيغة الوحيدة للحق والعدل ، وأن على الإنسان أن يقيم شرع الله ـ عزوجل ـ ، وأن يترك شرع غيره. فإذا فعل حفّته رعاية الله في الدنيا والآخرة ، وأنّ الانحراف عن شرع الله جزاؤه عقوبات الله في الدنيا والآخرة. فإذا أردنا أن نقول كلمة نلخّص فيها السياق العام للمقطع الثاني نقول :

بدأ المقطع بذكر حكمة إنزال القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم بين أن شريعة الله تتضمن معنيين : إقامة دين الله ، والاجتماع عليه.

ثم بيّن الله ـ عزوجل ـ موقف المشركين وأهل الكتاب من هذا المعنى ، ثم أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعوة إلى الله والاستقامة على أمره ، ثمّ بيّن الله ـ عزوجل ـ ضياع وخسارة وعقوبة الصادّين عن دعوته. ثم جاءت المجموعة الثانية لتبيّن أن الحق والعدل هما صفتا هذا الكتاب ، ثم سار السياق كما رأينا بما يخدم قضية التطبيق الدقيق للقرآن الكريم.

والآن تأتي مجموعة ثالثة تتألف من ثلاث فقرات ، تبيّن الفقرة الأولى منها صفات

٢٥٤

الذين يستأهلون رضوان الله ، وهم الذين يقيمون دين الله ، ولا يتفرّقون فيه.

٤ ـ وإذن فنحن الآن أمام موضوع من أهمّ الموضوعات التي يجب أن يعرفها كل مسلم ، وهو موضوع جماعة المسلمين ، ما هي صفاتها؟ وما هي خصائصها؟ إنّ الله عزوجل يعطينا الميزان الذي نتعرّف به على جماعة المسلمين لنلتزم بها ، ونتحقق بأخلاقياتها. ولقد قدمت السورة لذلك بأمور كثيرة :

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).

إنّ الجماعة التي تقيم دين الله ولا تتفرّق فيه هي التي تتحقّق بمواصفات معيّنة ، هي التي تذكرها الفقرة الأولى من المجموعة الثالثة ، وأي صفة من هذه الصفات لا تظهر في الجماعة تجعلها غير مرشحة لإقامة دين الله ، وتجعلها معرّضة للتفرق فيه. إن على المسلمين جميعا أن يكونوا جماعة واحدة وهذا هو الطريق لذلك :

تفسير الفقرة الأولى من المجموعة الثالثة :

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) قال ابن كثير : أي : مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنّما هو متاع الحياة الدنيا ، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) وثواب الله تعالى خير من الدنيا وهو باق سرمدي ، فلا تقدّموا الفاني على الباقي ، لكن من هم الذين يستأهلون هذا الثواب؟ (لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالغيب (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فلا يتوكّلون على غيره (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) كالشرك وقذف المحصنات والفرار من الزحف ، وغير ذلك من الموبقات (وَالْفَواحِشَ) أي : ما عظم قبحه وفحشه كالزنا واللواط (وَإِذا ما غَضِبُوا) في أمر دنيوي أو شخصي (هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن النّاس ، وليس من سجيّتهم الانتقام من الناس إذا أساؤوا لأشخاصهم (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي اتّبعوا رسله ، وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره ، فأقاموا دينه واجتمعوا عليه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : وأتموا الصلوات الخمس. (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) قال ابن كثير : أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه ؛ ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها. وقال النسفي : أي ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه ، وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم (وَمِمَّا

٢٥٥

رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : يتصدّقون (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أي : الظلم (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) قال ابن كثير : أي فيهم قوة الانتصار ممّن ظلمهم واعتدى عليهم ، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين ، بل يقدرون على الانتقام ممّن بغى عليهم ، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا واعفوا. أقول : إلا إذا كان الحزم أو العلم أو الحكم عدم العفو ، وقال النسفي : أي هم ينتقمون ممن ظلمهم ، أي : يقتصرون في الانتصار على ما جعله الله تعالى لهم ، ولا يعتدون ، وكانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق. وإنما حمدوا على الانتصار ؛ لأن من انتصر وأخذ حقه ولم يجاوز في ذلك حد الله فلم يسرف في القتل ـ إن كان ولي دم ـ فهو مطيع لله وكل مطيع محمود. ثمّ بيّن تعالى حدّ الانتصار فقال (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي : يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي : لا يضيع ذلك عنده كما صحّ ذلك في الحديث «وما زاد الله تعالى عبدا بعفو إلا عزّا» وهذا في الخصومات الشخصية بين مسلم ومسلم أو مسلم ومعاهد (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي : المعتدين وهم المبتدئون بالسيئة ، وفسّر النسفي الظالمين هنا بقوله : الذين يبدأون الظلم ، أو الذين يجاوزون حدّ الانتصار. (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي : ليس عليهم جناح في الانتصار ممّن ظلمهم ، أي : ولمن أخذ حقه بعد ما ظلم فهؤلاء ما عليهم من سبيل للمعاقب ، ولا للمعاتب ، ولا للمعايب. قال النسفي : وفسّر السبيل بالتبعة والحجة. (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي : إنما الحرج والعنت والعيب والعقاب والعتاب (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي : يبتدؤونهم بالظلم (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون بالباطل (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : شديد موجع يوم القيامة ، وقد فهم من الآيتين الأخيرتين ضمنا أن من خصائص المسلمين ألا يلوموا وألا يعاقبوا من انتصر بحق أو بعد ما ظلم (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) قال ابن كثير : أي صبر على الأذى وستر السيئة. وقال النسفي : ولمن صبر على الظلم والأذى وغفر ولم ينتصر (إِنَّ ذلِكَ) أي : الصبر والغفران معه (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) قال النسفي : أي من الأمور التي ندب إليها أو مما ينبغي أن يوجبه العاقل على نفسه ولا يترخّص في تركه. وقال ابن كثير : (قال سعيد بن جبير : يعني لمن حق الأمور التي أمر الله تعالى بها ، أي : لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل).

٢٥٦

نقول :

١ ـ قدّم صاحب الظلال للفقرة التي مرّت معنا بقوله : (وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها. ومع أن هذه الآيات مكية ، نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة ، فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) .. مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاما سياسيّا للدولة ، فهو طابع أساسي للجماعة كلها ، يقوم عليه أمرها كجماعة ، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة ، بوصفها إفرازا طبيعيا للجماعة. كذلك نجد من صفة هذه الجماعة : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ). مع أن الأمر الذي كان صادرا للمسلمين في مكة هو أن يصبروا وألا يردوا العدوان بالعدوان ؛ إلى أن صدر لهم أمر آخر بعد الهجرة وأذن لهم في القتال ، وقيل لهم : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). وذكر هذه الصفة هنا في آيات مكية بصدد تصوير طابع الجماعة المسلمة يوحي بأنه صفة الانتصار من البغي صفة أساسية ثابتة ؛ وأن الأمر الأول بالكف والصبر كان أمرا استثنائيا لظروف معينة. وأنه لما كان المقام هنا مقام عرض الصفات الأساسية للجماعة المسلمة ذكر منها هذه الصفة الأساسية الثابتة ، ولو أن الآيات مكية ، ولم يكن قد أذن لهم بعد في الانتصار من العدوان.

وذكر هذه الصفات المميزة لطابع الجماعة المسلمة ، المختارة لفيادة البشرية وإخراجها من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام ، ذكرها في سورة مكية وقبل أن تكون القيادة العملية في يدها فعلا ، جدير بالتأمل. فهي الصفات التي يجب أن تقوم أولا ، وأن تتحقق في الجماعة لكي تصبح بها صالحة للقيادة العملية. ومن ثم ينبغي أن نتدبرها طويلا .. ما هي؟ ما حقيقتها؟ وما قيمتها في حياة البشرية جميعا؟.

إنها الإيمان ، والتوكل ، واجتناب كبائر الإثم والفواحش ، والمغفرة عند الغضب ، والاستجابة لله ، وإقامة الصلاة ، والشورى الشاملة ، والإنفاق مما رزق الله ، والانتصار من البغي ، والعفو ، والإصلاح ، والصبر).

٢ ـ وعند قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) قال الألوسي : (قد كانت الشورى بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب ، وكذا بين الصحابة ـ

٢٥٧

رضي الله تعالى عنهم ـ بعده ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وكانت بينهم أيضا في الأحكام كقتال أهل الرّدة وميراث الجد وعدد حدّ الخمر وغير ذلك. والمراد بالأحكام ما لم يكن لهم فيه نص شرعي فالشورى لا معنى لها ، وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله ـ عزوجل ـ إلى آراء الرجال والله سبحانه هو الحكيم الخبير. ويؤيد ما قلنا ما أخرجه الخطيب عن علي ـ كرم الله تعالى وجهه ـ قال : قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ، ولم يسمع منك فيه شىء قال : اجمعوا له العابدين من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد ، وينبغي أن يكون المستشار عاقلا كما ينبغي أن يكون عابدا ، فقد أخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة ـ مرفوعا ـ : «استرشدوا العاقل ترشدوا ، ولا تعصوه فتندموا». والشورى ـ على الوجه الذي ذكرناه ـ من جملة أسباب صلاح الأرض ، ففي الحديث «إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم ، فظهر الأرض خير لكم من بطنها ، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها». وإذا لم تكن على ذلك الوجه كان إفساد الدين والدنيا أكثر من إصلاحها).

وقال صاحب الظلال عند الآية نفسها : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) :

والتعبير يجعل أمرهم كله شورى ؛ ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة. وهو ـ كما قلنا ـ نص مكي ، كان قبل قيام الدولة الإسلامية. فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين. إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد.

والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية. والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية.

ومن ثم كان طابع الجماعة في الشورى مبكرا ، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها. إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية ، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية ، وهي من ألزم صفات القيادة.

أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوبا في قالب حديدي ، فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان ؛ لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية. والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالا جامدة ، وليست نصوصا حرفية ، إنما هي ـ

٢٥٨

قبل كل شىء ـ روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب ، وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة. والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شىء .. وليس هذا كلاما عائما غير مضبوط كما قد يبدو لأول وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية. فهذه العقيدة ـ في أصولها الاعتقادية البحتة ، وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها ـ تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شىء له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري ، يهيىء لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية ، ثم تجىء النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال والأوضاع ، لمجرد تنظيمها لا لخلقها وإنشائها. ولكي يقوم أيّ شكل من أشكال النظم الإسلامية ، لا بد قبلها من وجود مسلمين ، ومن وجود إيمان ذي فاعلية وأثر. وإلا فكل الأشكال التنظيمية لا تفي بالحاجة ، ولا تحقق نظاما يصح وصفه بأنه إسلامي ..

ومتى وجد المسلمون حقا ، ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته ، نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية ، وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها ، وتحقق المبادىء الإسلامية الكلية خير تحقيق) أه.

٣ ـ وعند قوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) قال صاحب الظلال :

(وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف. فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة ، صفة الانتصار من البغي ، وعدم الخضوع للظلم ، وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل ، وهي عزيزة بالله (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) .. فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي ، وأن تدفع العدوان. وإذا كانت هناك فترة اقتضت ـ لأسباب محلية في مكة ، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة ـ أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصلية.

ولقد كانت هناك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي.

منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على

٢٥٩

الجماعة. فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعا قبليا مخلخلا. ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب ، ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه ، ولم يقع إلا في الندرة أن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة ، كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ أحد على إيذائهم غالبا. ولم يكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد. والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة.

ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى. واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم ، كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين. وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشّعب وحصر بني هاشم فيه. فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار ، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة ، ونقضت هذا العهد الجائر.

ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف ، وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام. والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوافز الدائم ، وإخضاعها لهدف ، وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب. مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم. ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية ، وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق.

فهذه الاعتبارات وأمثالها قد اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة ، مع تقرير الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ......) أه.

كلمة في السياق :

بيّن الله ـ عزوجل ـ في الفقرة المارة أنّ متاع الدنيا قليل ، ثمّ بيّن أن متاع الآخرة خير وأبقى لمن توفرت فيه مجموعة صفات. وقد تبيّن لنا من مجموع ما ذكر في الفقرة أن الطريق إلى الدنيا والآخرة هو إقامة دين الله. والاجتماع عليه. وقد حددت المجموعة

٢٦٠