الأساس في التفسير - ج ٩

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٩

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٢

في الدنيا والآخرة.

٤ ـ في قوله تعالى : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) درس للنذير الذي يرى أن إنذاره لا ينفع في هؤلاء الكافرين ، ألّا يغتر بما هم فيه من متع الدنيا ، فالعبرة للعاقبة في الدنيا والآخرة.

٥ ـ نلاحظ من الآيات التي مرّت معنا في سورة غافر : أن آيتين منها فصّلتا في الآيات الأربع الأولى من سورة البقرة. وأن الآيات الثلاث التالية فصّلت في الآيتين اللاحقتين من سورة البقرة. وهذا شىء سنراه كذلك في الآيات اللاحقة ، أن التفصيل يتناوب بين آيات المتقين من سورة البقرة ، وآيتي الكافرين منها. فقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ ...) يفصّل في قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ...) وقوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ...) تفصيل في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ..).

وهذه مجموعة تحدثنا عن موقف الملائكة من المؤمنين في الدنيا ، وعن موقف الملائكة من الكافرين يوم القيامة ، وفي ذلك تفصيل لقضية من قضايا الإيمان بالغيب (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وتفصيل لنوع من أنواع الفوز ، وتفصيل لنوع من أنواع العذاب للكافرين.

تفسير المجموعة الثانية

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) من الملائكة (وَمَنْ حَوْلَهُ) أي : والحافين حوله وهم الذين يسمّيهم العلماء الكروبيين نسبة إلى لفظة الكروبيم العبرانية ، والتي تعني العرش والله أعلم. (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) أي : يجمعون بين الإيمان والعمل ، قارنين بين التسبيح الدال على نفي النقائص ، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح ، وفائدة وصفهم بالإيمان في هذا المقام إظهار شرف الإيمان وفضله

١٠١

والترغيب فيه (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فالملائكة يستغفرون لأهل الإيمان أي : لمن في مثل حالهم. قال النسفي : وفيه دليل على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شىء إلى النصيحة والشفقة ، وإن تباعدت الأجناس والأماكن (رَبَّنا) أي : يقول الملائكة ربنا (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي : وسعت رحمتك كل شىء ، ووسع علمك كل شىء ، ولما كان الدعاء للمؤمنين فكأنهم أرادوا أن يقولوا : رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم ، وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) أي : للذين علمت منهم التوبة ، أو فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) بأن أقلعوا عما كانوا فيه ، واتّبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات وترك المنكرات. أي : واتّبعوا طريق الهدى الذي دعوت إليه (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي : وزحزحهم عن عذاب الجحيم وهو العذاب الموجع الأليم (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي : اجمع بينهم وبينهم لتقرّ بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي : الذي لا يمانع ولا يغالب ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (الْحَكِيمُ) في أقوالك وأفعالك ، من شرعك وقدرك (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي : فعلها ، أو وبالها ممّن وقعت منه. أو جزاءها وهو عذاب النار (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي : لطفت به ونجيته من العقوبة (وَذلِكَ) أي : رفع العذاب (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز أعظم منه.

كلمة في السياق :

رأينا في هذه المجموعة ما للمؤمنين من مقام عظيم ، إذ يدعو لهم حملة العرش ومن حوله من الملائكة هذا الدعاء العظيم ، وفي ذلك دعوة للناس أن يكونوا من أهل الإيمان والتقوى ، وصلة ذلك بأحد محوري السورة واضحة (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). فالآيات دعوة لأن يكون الإنسان من هؤلاء لينال دعوات الملائكة ، وهي تفصيل لهذه الآيات كذلك من حيث إنها فصّلت في قضية فلاحهم ، وذكرت نموذجا على هذا الفلاح في الدنيا والآخرة ، من إلحاق أزواجهم وذرياتهم بهم في

١٠٢

الآخرة ، ومن دعوات الملائكة لهم ، ومن وقايتهم السيئات ، لأن دعاء الملائكة مستجاب ، كما أنّها بيّنت أنّ التّوبة ، واتباع السبيل ، هما قوام هذا الأمر ، وفي هذا زيادة تفصيل لقضية التقوى. والآن تأتي مجموعة آيات تتحدث عما يقوله الملائكة للكافرين يوم القيامة بعد أن عرفنا ما تدعو به الملائكة لأهل الإيمان في الدنيا ...

تفسير المجموعة الثالثة

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) أي يوم القيامة إذا دخلوا النار ومقتوا أنفسهم فيناديهم خزنة النار (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) البغض أشد المقت والمعنى : لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) والمعنى : أنه يقال لهم يوم القيامة : كان الله يمقت أنفسكم الأمّارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون قبوله ، وتختارون عليه الكفر أشد مما تمقتوهن اليوم وأنتم في النار ، إذا وقعتم فيها باتباعكم هواهنّ : قال ابن كثير : (يقول تعالى مخبرا عن الكفار أنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظون ، وذلك عند ما باشروا من عذاب الله تعالى ما لا قبل لأحد به ، فمقتوا عند ذلك أنفسهم ، وأبغضوها غاية البغض ، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار ، فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا ، بأن نادتهم نداء بأن مقت الله تعالى لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الإيمان فيكفرون ، أشدّ من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة. قال قتادة في قوله تعالى : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) يقول لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه وأبوا أن يقبلوه أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة ، وهكذا قال الحسن البصري ومجاهد والسدي وذرّ بن عبيد الله الهمداني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير الطبري). (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي أمتنا إماتتين أو موتتين ، وأحييتنا إحياءتين أو حياتين ، وأرادوا بالإماتتين خلقهم أمواتا أولا ، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ، وبالإحياءتين ، الإحياءة الأولى في الدنيا ، والإحياءة الثانية البعث (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) لما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم علموا أن الله قادر على الإعادة ، كما هو قادر على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي

١٠٣

اقترفوها ، من إنكار البعث ، وما تبعه من معاصيهم (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) من النار أي إلى نوع من الخروج سريع أو بطىء لنتخلّص (مِنْ سَبِيلٍ) قط أم اليأس واقع دون ذلك فلا خروج ولا سبيل إليه؟ وجاء الجواب من خلال التعليل لبقائهم في النار بقوله : (ذلِكُمْ) أي الذي أنتم فيه ، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي ذلكم كفركم بتوحيد الله ، وإيمانكم بالإشراك به (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد (الْعَلِيِ) شأنه فلا يرد قضاؤه (الْكَبِيرِ) أي العظيم سلطانه فلا يحدّ جزاؤه.

كلمة في السياق :

١ ـ أرانا الله عزوجل في هذه المجموعة ماذا يقول الملائكة للكافرين يوم القيامة إذا دخلوا النار ، وبيّن لنا ماهية العذاب العظيم الذي يلاقونه ، وبيّن لنا علّة ذلك ، وهو رفضهم للإيمان والتوحيد ، وقبولهم الشرك وسيرهم فيه. وهكذا نجد من خلال عرض موقف الملائكة من أهل الإيمان في الدنيا ، وموقفهم من أهل الكفر في الآخرة ، الفارق الكبير بين الكفر والإيمان وأهلهما. ولذلك صلته بمقدّمة سورة البقرة (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

٢ ـ بدأت السورة بالحديث عن الله عزوجل ، وأنه منزل الكتاب ، وأن من أسمائه (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ). ثم حدثتنا عن مجادلة الكافرين في آيات الله ، وعن تكذيب الأمم السابقة ، وأخذهم واستحقاقهم النار. وحدثتنا عن موقف الملائكة من أهل الإيمان ، ودعاء الله لهم بالتوبة ... والجنة. ثم عن موقف الملائكة من الكافرين إذا دخلوا النار ، وقد عرفنا من خلال ذلك مظاهر عزّة الله وعلمه ، وغفرانه وشدة عقابه ، وكثرة إنعامه ووحدانيته حتى إذا رأينا في ما مرّ مظاهر اتّصاف الله عزوجل بهذه الصفات كلها يعود الحديث الآن إلى الكلام عن الذات الإلهية في الآيات اللاحقة ، فنرى الآية الآتية هي : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ...) فكأنها استمرار مباشر لما ورد في أول السورة : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) .. (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ). وكأن ما ورد بين ذلك قد أدى دوره المتعدد ، وعاد السياق إلى سيره الرئيسي في الكلام عن الله عزوجل : فلنتذكّر الآن أن هذه الآيات وما بعدها كلها

١٠٤

مقدمة للمقطع الرئيسي في السورة ، الذي يخاطب الكافرين. فكأنّ المقدّمة تعرّفنا على الله عزوجل ، وتعرّفنا على عاقبة تكذيب رسله ، ثم تتوجه بالخطاب إلى الكافرين لتقيم عليهم الحجة.

٣ ـ نلاحظ أن المقدّمة الطويلة لسورة غافر تفصّل معاني موجودة في الآيات الست الأولى من سورة البقرة ، إلا أنّ السياق شيئا فشيئا سيستقل في تفصيل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فهو المحور الرئيسي في السورة فلنلاحظ ذلك ، فكأن مقدّمة سورة غافر تبني على سورة الزمر وتكملها ، وتفصّل فيما فصّلت فيه ، ثم تنطلق السورة لتفصّل في ما بعد محور سورة الزمر ، وهو الكلام عن الكافرين ، ولنعد إلى التفسير ، فقد رأينا أن المجموعة اللاحقة تكمّل موضوع التعريف على الله عزوجل الذي بدأته الآيتان الأوليان في السورة.

تفسير المجموعة الرابعة

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي : يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي ، من الآيات العظيمة الدّالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها ، من ريح وسحاب ورعد وصواعق وغير ذلك (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ، ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله ، وهو ماء واحد ، فبالقدرة العظيمة جعل المطر سبب الرزق ، وفاوت بين هذه الأشياء (وَما يَتَذَكَّرُ) أي : يعتبر ويتفكّر في هذه الأشياء ، ويستدلّ بها على عظمة خالقها (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي : إلا من هو رجّاع توّاب إلى الله. قال النسفي : (أي) وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ، ويرجع إلى الله ، فإن المعاند لا يتذكّر ولا يتعظ. ثم قال للمنيبين (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : فاعبدوه مخلصين له الدين من الشرك (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي : وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليسوا على دينكم. قال ابن كثير : (أي : فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء ، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم ، ثمّ زادنا تعريفا على ذاته عزوجل ليستخرج منا العبادة والإخلاص ، وليبيّن لنا حكمة إنزاله الوحي على رسله فقال : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي : رافع السموات بعضها فوق بعض ، أو رافع درجات عباده في الدنيا بالمنزلة أو رافع منازلهم في الجنّة (ذُو الْعَرْشِ) أي : صاحب العرش ومالكه الذي خلقه فوق السموات مطافا للملائكة ، وإظهارا لعظمته مع

١٠٥

استغنائه (يُلْقِي الرُّوحَ) أي : جبريل ينزله ، أو يلقي الوحي الذي تحيا به القلوب (مِنْ أَمْرِهِ) أي : من أجل أمره أو بأمره (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) المرسلين (لِيُنْذِرَ) الله أو الرسول (يَوْمَ التَّلاقِ) أي : يوم القيامة ، لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، والأولون والآخرون (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي : ظاهرون لا يسترهم شىء من جبل أو أكمة أو بناء (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) أي : من أعمالهم وأحوالهم ، أي : الجميع في علمه على السواء (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) أي : يقول الله تعالى ذلك حين لا أحد يجيبه ، ثم يجيب نفسه بقوله : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). أي : الذي قهر الخلق بالموت (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ). قال النسفي : (لما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم ، عدد نتائج ذلك وهي أن كل نفس تجزى بما كسبت وعملت في الدنيا من خير وشر ، وأن الظلم مأمون منه ؛ لأنه ليس بظلّام للعبيد ، وأن الحساب لا يبطىء ؛ لأنه لا يشغله حساب عن حساب ، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين).

كلمة في السياق :

نلاحظ أنه في معرض كلام الله عزوجل عن صفاته أعلمنا أن من صفاته إلقاء الوحي على رسله لينذروا يوم القيامة ، وإذ تقرر ذلك يصدر الله عزوجل أمرا لرسوله عليه الصلاة والسلام بالإنذار ، فمن السياق يتبيّن أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه الروح ، ومن ثمّ فإنه يؤمر بالإنذار ، وكأنّ أمر نذارته بديهي.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي : القيامة ، سميت بذلك لاقترابها. فيوم الآزفة اسم من أسماء يوم القيامة (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) من الخوف (كاظِمِينَ) أي : ساكتين (ما لِلظَّالِمِينَ) أي : الكافرين (مِنْ حَمِيمٍ) أي : من محب مشفق (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي : ولا شفيع يشفّع. ثم أتمّ الله عزوجل تعريفنا على ذاته

١٠٦

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي : استراق العين النظر إلى ما لا يحل (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي : ما تسرّه من أمانة وخيانة. قال النسفي : وقيل (في الآية) : هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوة مسارقة ، ثم يتفكّر بقلبه في جمالها ولا يعلم بنظرته وفكرته من بحضرته ، والله يعلم ذلك كله (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) أي : والذي هذه صفاته لا يحكم إلا بالعدل (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي : من آلهة مزعومة (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي : لا يملكون شيئا ولا يحكمون بشىء ، لأنّهم ليس لهم مؤهلات الحكم (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ) أي : لأقوال خلقه (الْبَصِيرُ) بهم. قال النسفي (هذا تقرير لقوله) (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون وأنه يعاقبهم عليه ، وتعريض بما يدعون من دونه وأنها لا تسمع ولا تبصر).

كلمة في مقدّمة سورة غافر وسياقها :

١ ـ ذكر النسفي أن قوله تعالى : (يُرِيكُمْ آياتِهِ) وقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) وقوله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) وقوله تعالى : (ذُو الْعَرْشِ) وقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ) وقوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) كلها أخبار لقوله تعالى في أول الآية : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ...) فإذا تذكّرنا أن هذه الآية امتداد لقوله تعالى في أول السورة : (حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ندرك أن الله عزوجل عرّفنا على ذاته في هذه المقدمة. ومما عرفنا به على ذاته : أنه منزل القرآن ، ومنزل الوحي ، ومرسل الرسل ، والحاكم بين العباد بالحق والعدل ، وأنه هو الذي أمر رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإنذار.

٢ ـ نلاحظ أن بعد هذه المقدمة يأتي قوله تعالى مباشرة : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ...) مما يشير أنّه لمّا أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإنذار رفض الكافرون هذا الإنذار ، ومن ثم خاطبهم ولفت نظرهم إلى ما فعله في المكذبين السابقين. فإذا أدركنا هذه النقطة نعرف أنّ محور السورة الرئيسي هو قوله تعالى من سورة البقرة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ولكن كما أنّ سورة البقرة

١٠٧

قدّمت لهذا بذكر معان ، فقد قدمت سورة غافر للوصول إلى هذا بمعان هي تفصيل للمعاني التي قدّمتها سورة البقرة ، ومن ثم عرضت لنا سورة غافر صورا عن اليوم الآخر ، وصورا من مضمونات الغيب ، وعرضت لقضية الإيمان ، وعرضت لقضية تنزيل الكتاب من الله عزوجل ، وأنه فوق الريب والشكوك ، فلا يجادل في هذا الشأن إلا معاند ، وأوصلتنا إلى أن نفهم من السياق أن الكافرين يرفضون الإيمان والإنذار ، وذكرت ذلك كله في مقدمة السورة ، لتوصّلنا إلى المقطع الوحيد فيها ، وهو الذي يقيم الله به الحجة على الكافرين ، وينذرهم ويخوفهم ، حتى تقوم الحجة الكاملة عليهم.

٣ ـ رأينا أن المقدمة بدأت بذكر أسماء الله عزوجل ، حدثتنا عن صفاته ، وقد رأينا كيف أن المقدّمة برهنت لنا على اتصاف الله عزوجل بذلك ، والواقع أن السورة كلها تجلّي هذه الحقيقة ، وتدلّل على اتصاف الله عزوجل بهذه الصفات والأسماء.

فلننقل الآن بعض الفوائد المتعلّقة بهذه المقدّمة.

فوائد :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) قال ابن كثير (وقال أبو بكر بن عياش سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إني قتلت فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه (حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) وقال : اعمل ولا تيأس. رواه ابن أبي حاتم واللفظ له وابن جرير. وروى ابن أبي حاتم عن يزيد ابن الأصم قال : كان رجل من أهل الشام ذو بأس وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ففقده عمر فقال : ما فعل فلان بن فلان ، فقالوا يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب. قال فدعا عمر كاتبه فقال : اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. ثم قال لأصحابه ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ، ويتوب الله عليه ، فلما بلغ الرجل كتاب

١٠٨

عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه ويردده ويقول : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، قد حذروني عقوبته ، ووعدني أن يغفر لي. ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان وزاد فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع ، فلما بلغ عمر خبره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه ووثقوه ، وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه. وروى ابن أبي حاتم عن ثابت البناني قال كنت مع مصعب بن الزبير رضي الله عنه في سواد الكوفة ، فدخلت حائطا أصلي ركعتين ، فافتتحت حم المؤمن ، حتى بلغت لا إله إلا هو إليه المصير ، فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء ، عليه مقطعات يمنية قال : إذا قلت : غافر الذنب فقل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي ، وإذا قلت : وقابل التوب فقل : يا قابل التوب اقبل توبتي. وإذا قلت شديد العقاب فقل : يا شديد العقاب لا تعاقبني ، قال فالتفت فلم أر أحدا ، فخرجت إلى الباب فقلت مرّ بكم رجل عليه مقطعات يمنية؟ قالوا : ما رأينا أحدا ، فكانوا يرون أنه إلياس ، ثم رواه من طريق أخرى عن ثابت بنحوه وليس فيه ذكر إلياس والله سبحانه وتعالى أعلم).

٢ ـ بمناسبة قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا ...) قال ابن كثير : (ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام كانوا يؤمّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب ، كما ثبت في صحيح مسلم «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله).

٣ ـ التحقيق أنّ حملة العرش الآن أربعة ، ويوم القيامة يكونون ثمانية. وهو موضوع سنحققه عند الكلام عن سورة الحاقة إن شاء الله.

٤ ـ بمناسبة دعاء الملائكة : (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) قال ابن كثير : (وقال سعيد بن جبير : إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه أين هم؟ فيقال : إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل فيقول إني إنما عملت لي ولهم فيلحقون به في الدرجة ، ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة ثم تلا هذه الآية (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) الآية

١٠٩

وأغشّ عباده للمؤمنين الشياطين).

٥ ـ بمناسبة قوله تعالى : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد عن أبي الزبير قال : كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلّم لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، قال وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهلل بهنّ دبر كل صلاة ، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي وقد ثبت في الصحيح عن ابن الزبير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبات : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إيّاه ، له النعمة وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون». وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه»).

٦ ـ بمناسبة قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) قال ابن كثير : (قد تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه تعالى يطوي السموات والأرض بيده ثم يقول : أنا الملك أنا الجبار أنا المتكبر ، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وفي حديث الصور أنه عزوجل إذا قبض أرواح جميع خلقه فلم يبق سواه وحده لا شريك له ، حينئذ يقول : لمن الملك اليوم؟ ثلاث مرات ثم يجيب نفسه قائلا : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي الذي هو وحده قد قهر كل شىء وغلبه. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة ، فيسمعها الأحياء والأموات ، قال : وينزل الله عزوجل إلى السماء الدنيا ويقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

٧ ـ بمناسبة قوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) قال ابن كثير : كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يحكي عن ربه عزوجل أنه قال : «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ـ إلى أن قال ـ يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه»).

١١٠

ولننتقل إلى المقطع الوحيد في السورة بعد المقدمة.

المقطع الأول والأخير في السورة

ويتألف من ثلاث فقرات ، ويمتد من الآية (٢١) إلى نهاية السورة أي : إلى نهاية الآية (٨٥) وهذا هو :

الفقرة الأولى

وتشتمل على خمس مجموعات

المجموعة الأولى من الفقرة الأولى

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّـهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّـهِ مِن وَاقٍ (٢١) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّـهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢))

المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٢٣) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي

١١١

أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦) وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (٢٧))

المجموعة الثالثة من الفقرة الأولى

(وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّـهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (٣١) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّـهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّـهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّـهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ

١١٢

أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (٣٧))

المجموعة الرابعة من الفقرة الأولى

(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّـهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّـهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤) فَوَقَاهُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦))

١١٣

المجموعة الخامسة من الفقرة الأولى

(وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ (٤٧) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّـهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (٤٨) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (٤٩) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَىٰ قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣) هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤))

الفقرة الثانية

وتشتمل على أربع مجموعات

المجموعة الأولى من الفقرة الثانية

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦))

١١٤

المجموعة الثانية من الفقرة الثانية

(لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠))

المجموعة الثالثة من الفقرة الثانية

(اللَّـهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّـهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١) ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذَٰلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّـهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّـهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ

١١٥

عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٦٨))

المجموعة الرابعة من الفقرة الثانية

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِن دُونِ اللَّـهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّـهُ الْكَافِرِينَ (٧٤) ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

الفقرة الثالثة

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّـهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ

١١٦

وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللَّـهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّـهِ تُنكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّـهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (٨٥))

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : أولم يسر هؤلاء المكذبون برسالتك وإنذارك يا محمد (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : كيف كان آخر أمر الذين كذبوا الرسل من قبلهم ، ما حلّ بهم من العذاب والنكال (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) بأجسادهم (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) يشهد على ذلك ما خلّفوه ، ومن رأى سدّ الصين ، وأهرامات مصر ، وأعمدة تدمر ، وبعلبك رأى فضل آثار السابقين على آثار من بعدهم. هذا إذا اعتبرنا أنّ الخطاب عام للبشرية كلها التي بعث لها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أما إذا كان الخطاب لأهل مكة المخاطبين الأوّلين بهذا الخطاب فالأمر واضح ، كيف أنّ الأوّلين أقوى منهم ، وأشدّ آثارا في الأرض ، (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي : عاقبهم

١١٧

بذنوبهم مع هذه القوّة العظيمة ، والبأس الشديد (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي : وما دفع عنهم عذاب الله أحد ، ولا ردّه عنهم رادّ ، ولا وقاهم منه واق. ثم ذكر علة أخذه إياهم ، وأنّها ذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها فقال تعالى : (ذلِكَ) أي : الأخذ (بِأَنَّهُمْ) أي : بسبب أنهم (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : بالدلائل الواضحات ، والبراهين القاطعات (فَكَفَرُوا) أي : مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي : أهلكهم ودمّرهم (إِنَّهُ قَوِيٌ) أي : ذو قوة عظيمة وبطش شديد (شَدِيدُ الْعِقابِ) أي : عقابه أليم شديد موجع إذا عاقب.

كلمة في السياق :

بدأ الكلام عن الكافرين في هذه السورة بقوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ* وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ).

ثم جاء كلام آخر عنهم في الآيات (١٠ ، ١١ ، ١٢) وهو : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ* قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ* ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ).

وفي الآية (١٨) ورد قوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ).

وبعد ذلك تأتي آيتان لا تشعراننا بقبولهم الإنذار. ثم يأتي قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا ...) مما يشير إلى أنهم رفضوا الإنذار والله عزوجل يحذرهم أن يفعل بهم كما فعل بالمكذبين من قبل.

ونلاحظ أنّ هناك صلة بين الآيات التي تتحدّث عنهم : (ما يُجادِلُ ... كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ... فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) فالسورة إذن تصبّ في الكلام عن الكافرين في سيرها الرئيسي ، وتذكّرهم

١١٨

بالمعنى الواعظ مرّة بعد مرّة. مرّة بصيغة التقرير ، ومرّة بصيغة الطلب ، وتذكرهم بالعذاب الدنيوي ، والعذاب الأخروي.

فالسير العام للسورة يفصّل قوله تعالى من سورة البقرة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

والسورة تبين لنا نوعية هؤلاء الكافرين الذين لا ينفعهم الإنذار ، وهم الذين يجادلون في آيات الله ، تكذيبا وعنادا مع وضوحها. ونلاحظ أن السورة مع تبيانها عدام استفادة الكافرين من الإنذار فإن الله عزوجل يأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإنذار ، لأن الكافرين الذين حكم الله عليهم بالموت على الكفر لا يعلمهم إلا الله ، ومن أعلمه الله بشأنهم ، وإذ كان الأمر غيبا فإن على الرسول الإنذار ، ثم إنه مع كفر الكافرين لا بد من إقامة الحجة عليهم ، هذا مع ملاحظة أن الكافرين الذين ختم الله على قلوبهم هم الذين اجتمعت بهم صفات معينة استكملوا بها صفات لم يعد ينفع معها إنذار. وقد رأينا في سورة الأنبياء هذه الصفات. وسنرى في هذه السورة كذلك هذه الصفات ، ولاحتمال أن هناك كافرا لم يصل إلى هذا الحد فإن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإنذار لعلّ أحدا يهتدي.

ونلاحظ أنه بعد ما قال الله عزوجل (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) يقصّ علينا الله عزوجل قصة من قصص السابقين كيف كانوا أشدّ قوة وآثارا ، وكيف كذّبوا رسل الله ، وكيف كانت عاقبتهم ، وكيف كان عقابهم شديدا ، هذه القصة هي قصة فرعون ، وذكر قصة فرعون في هذا السياق له دلالته ، إذ الفراعنة كانوا أشدّ قوة وآثارا في الأرض ، كما هو مشهور. وسنرى أنّ القصة تخدم سياق السورة بأكثر من وجه.

١١٩

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي : المعجزات التسع (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي وحجة ظاهرة ، فاجتمع له المعجزة والحجة القولية (إِلى فِرْعَوْنَ) ملك مصر (وَهامانَ) وهو وزيره في مملكته (وَقارُونَ) وهو من بني إسرائيل ، وكان أكثر الناس في زمانه مالا وتجارة. وقد مرّت قصته في سورة القصص (فَقالُوا) عن موسى هو (ساحِرٌ كَذَّابٌ) فسمّوا المعجزات سحرا ، والحجة الواضحة كذبا. أي : كذّبوه وجعلوه ساحرا مجنونا مموّها كذّابا في أنّ الله أرسله (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) أي : بالبرهان القاطع الدّال على أنّ الله عزوجل أرسله إليهم (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي : أعيدوا عليهم قتل الذكور الذي كان أولا ، واستحياء الإناث للخدمة. قال ابن كثير : (وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل ، أما الأول فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى ، أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم ، أو لمجموع الأمرين ، وأما الأمر الثاني فللعلة الثانية ، ولإهانة هذا الشعب ، ولكي يتشاءموا بموسى عليه‌السلام ؛ ولهذا قالوا (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (سورة الأعراف : ١٢٩). قال قتادة هذا أمر بعد أمر). ومن القائل هذه المرة ، هل هو فرعون وحده ، أو اشترك معه هامان وقارون؟ الملاحظ أن القرآن عبّر بصيغة (قالوا) وهذا يشير إلى تواطؤ الثلاثة على القتل. وسنتحدث في الفوائد عن قارون وهامان. فلنسر الآن في التفسير قال تعالى عن كيدهم في قتل الأولاد واستحياء الذرية (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : في ضياع يعني أنهم باشروا قتلهم أولا ، فما أغنى عنهم ، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه ، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني؟! وكان فرعون قد كفّ عن قتل الولدان. فلمّا بعث موسى عليه‌السلام ، وأحسّ بأنّه قد وقع ، أعاده عليهم غيظا وظنا منه أنّه يصدّهم بذلك عن مظاهرة موسى عليه‌السلام ، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرّتين جميعا (وَقالَ فِرْعَوْنُ) لملئه (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) أي : دعوني حتى أقتل موسى. قال ابن كثير : وهذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى على قتل موسى عليه الصلاة والسلام (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) قال ابن كثير : أي لا أبالي منه ، وهذا في غاية الجهل والتجهرم والعناد (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أي أن يغيّر ما أنتم عليه (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ)

١٢٠