الكشّاف - ج ١

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ١

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٩

سورة النساء

مدنية ، وهي مائة وست وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) يا بنى آدم (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم (١). فإن قلت : علام عطف قوله (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها)؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يعطف على محذوف ، كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها ، وخلق منها زوجها. وإنما حذف لدلالة المعنى عليه. والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق زوجها حواء من ضلع من أضلاعها (وَبَثَّ مِنْهُما) نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث ، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل بكيفية خلقهم منها. والثاني : أن يعطف على خلقكم ، ويكون الخطاب في : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى : خلقكم من نفس آدم ، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حواء وبث منهما (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) غيركم من الأمم الفائتة للحصر. فإن قلت : الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعوا إليها ويبحث عليها ، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجبا للتقوى وداعيا إليها؟ قلت : لأنّ

__________________

(١) قال محمود : «معناه فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم وعلام عطف ... الخ» قال أحمد : وإنما قدر المحذوف في الوجه الأول حيث جعل الخطاب عاما في الجنس ، لأنه لو لا التقدير لكان قوله : (وَبَثَّ مِنْهُما) تكراراً لقوله : (خَلَقَكُمْ) إذ مؤداهما واحد ، وليس على سبيل بيان الأول ، لأنه معطوف عليه حينئذ. وأما وهو معطوف على المقدر ، فذاك المقدر واقع صفة مبينة ، والمعطوف عليه داخل في حكم البيان فاستقام. وأما الوجه الثاني فالتكرار فيه ليس بلازم ، إذ المخاطب بقوله : (خَلَقَكُمْ) الذين بعث إليهم النبي عليه الصلاة والسلام. وقوله (وَبَثَّ مِنْهُما) واقع على من عدا المبعوث إليهم من الأمم ، فلا حاجة للتقدير المذكور في الوجه الثاني ، والله أعلم.

٤٦١

ذلك مما يدل على القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء ، ومن المقدورات عقاب العصاة ، فالنظر فيه يؤدى إلى أن يتقى القادر عليه ويخشى عقابه ، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم ، فحقهم أن يتقوه في كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها. أو أراد بالتقوى تقوى خاصة وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله ، فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم ، حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة. فيما يجب على بعضكم لبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة. وقرئ : وخالق منها زوجها. وباث منهما ، بلفظ اسم الفاعل ، وهو خبر مبتدإ محذوف تقديره : وهو خالق (تَسائَلُونَ بِهِ) تتساءلون به ، فأدغمت التاء في السين. وقرئ (تساءلون) بطرح التاء الثانية ، أى يسأل بعضكم بعضا بالله وبالرحم. فيقول : بالله وبالرحم أفعل كذا على سبيل الاستعطاف. وأناشدك الله والرحم. أو تسألون غيركم بالله والرحم ، فقيل «تفاعلون» موضع «تفعلون» للجمع ، كقولك : رأيت الهلال وتراءيناه. وتنصره قراءة من قرأ : تسلون به. مهموز أو غير مهموز. وقرئ (وَالْأَرْحامَ) بالحركات الثلاث ، فالنصب على وجهين : إما على : واتقوا الله والأرحام ، أو أن يعطف على محل الجار والمجرور ، كقولك : مررت بزيد وعمراً. وينصره قراءة ابن مسعود : نسألون به وبالأرحام ، والجرّ على عطف الظاهر على المضمر ، وليس بسديد ؛ لأنّ الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فكانا في قولك «مررت به وزيد» و «هذا غلامه وزيد» شديدي الاتصال ، فلما اشتد الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة ، فلم يجز ووجب تكرير العامل ، كقولك : «مررت به وبزيد» و «هذا غلامه وغلام زيد» ألا ترى إلى صحة قولك «رأيتك وزيدا» و «مررت بزيد وعمرو» لما لم يقو الاتصال ، لأنه لم يتكرر ، وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ونظيرها.

فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ (١)

والرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف ، كأنه قيل : والأرحام كذلك ، على معنى : والأرحام مما يتقى أو والأرحام مما يتساءل به. والمعنى أنهم كانوا يقرون بأن لهم خالقاً ، وكانوا يتساءلون بذكر الله والرحم ، فقيل لهم : اتقوا الله الذي خلقكم ، واتقوا الذي تتناشدون به واتقوا الأرحام

__________________

(١) فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيام من عجب

للأعشى. وقيل : لعمرو بن معديكرب. وقيل : لخفاف بن ندبة. وقيل : لعباس بن مرداس. يقال : قرب الفرس تقريباً أسرع. يقول : فاليوم دنوت مسرعا في هجونا بعد بطئك عنه. ويروى : قد بت ، أى قد صرت تهجونا ، فاذهب على طريقتك فإنها سمة اللئام وشيمة الأيام ، فلا عجب من ذلك ، وهو أمر تخلية ومتاركة. والأيام : عطف على الضمير المجرور ، وهو دليل على جوازه بدون إعادة الجار وإن منعه الجمهور.

٤٦٢

فلا تقطعوها. أو واتقوا الله الذي نتعاطفون باذكاره وباذكار الرحم. وقد آذن عز وجل ـ إذ قرن الأرحام باسمه ـ أن صلتها منه بمكان ، كما قال : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وعن الحسن : إذا سألك بالله فأعطه ، وإذا سألك بالرحم فأعطه. وللرحم حجنة عند العرش (١) ومعناه ما روى عن ابن عباس رضى الله عنه «الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته ، وإذا أتاها القاطع احتجبت (٢) منه». وسئل ابن عيينة عن قوله عليه الصلاة والسلام «تخيروا لنطفكم» (٣) فقال : يقول لأولادكم. وذلك أن يضع ولده في الحلال. ألم تسمع قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال ، فلا يقطع رحمه ولا نسبه فإنما للعاهر الحجر ، ثم يختار الصحة ويجتنب الدعوة (٤) ، ولا يضعه موضع سوء يتبع شهوته وهواه بغير هدى من الله.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً)(٢)

(الْيَتامى) الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم. الانفراد. ومنه : الرملة اليتيمة والدرّة اليتيمة. وقيل : اليتم في الأناسى من قبل الآباء ، وفي البهائم من قبل الأمهات. فإن قلت : كيف جمع اليتيم ـ وهو فعيل كمريض ـ على يتامى؟ قلت : فيه وجهان : أن يجمع على يتمى كأسرى ، لأنّ اليتم من وادى الآفات والأوجاع ، ثم يجمع فعلى على فعالي كأسارى. ويجوز أن يجمع على فعائل لجرى اليتيم مجرى الأسماء ، نحو صاحب وفارس ، فيقال : يتائم ، ثم يتامى على القلب. وحق هذا

__________________

(١) قوله «حجنة عند العرش» في الصحاح : الحجن ـ بالتحريك ـ الاعوجاج. وصقر أحجن المخالب معوجها. وحجنة المغزل ـ بالضم ـ هي المنعقفة في رأسه. وفيه أيضا : عقفت الشيء فانعقف ، أى عطفته فانعطف. والتعقيف : التعويج (ع)

(٢) أخرجه إسحاق بن راهويه : أخبرنا جرير عن قابوس عن أبيه عنه به. ورواه الحكيم الترمذي من هذا الوجه

(٣) رواه ابن ماجة والحاكم والدارقطني من حديث هشام عن أبيه عن عائشة. قال ابن طاهر : لم يروه عن هشام ثقة. ورواه ابن عدى من طريق عيسى بن ميمون أحد الضعفاء عن القاسم عن عائشة رضى الله عنها ورواه تمام في فوائده وأبو نعيم في الحلية من رواية الزهري عن أنس وفيه عبد العظيم بن إبراهيم السالمى وهو مجهول. ورواه ابن عدى من حديث عمر موقوفا. وفيه سليمان بن عطاء وهو ضعيف وقال ابن طاهر : رواه إسحاق بن الغيض عن عبد المجيد عن ابن جريج عن عطاء ، فمرة قال : عن ابن عباس. ومرة قال : عن عائشة. وهذا أجود طرقه إن كان الاسناد إلى إسحاق قويا. قال ابن أبى حاتم عن أبيه : هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه

(٤) قوله «ويجتنب الدعوة» لعله الدعرة بالراء بدل الواو. وفي الصحاح : الدعر ـ بالتحريك ـ الفساد. (ع)

٤٦٣

الاسم أن يقع على الصغار (١) والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء ، إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال ، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم ، زال عنهم هذا الاسم. وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يتيم أبى طالب ، إمّا على القياس وإمّا حكاية للحال التي كان عليها صغيراً ناشئاً في حجر عمه توضيعا له. وأمّا قوله عليه السلام «لا يتم بعد الحلم» (٢) فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة ، يعنى أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار. فإن قلت : فما معنى قوله (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)؟ قلت : إما أن يراد باليتامى الصغار ، وبإتيانهم الأموال : أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة ، حتى تأتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة. وإمّا أن يراد الكبار تسمية لهم يتامى على القياس ، أو لقرب عهدهم ـ إذا بلغوا ـ بالصغر ، كما تسمى الناقة عشراء بعد وضعها. على أنّ فيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ ، ولا ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد ، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار. وقيل : هي في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم (٣) فنزلت ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير ، فدفع ماله إليه ؛ فقال النبي عليه السلام : ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره. يعنى جنته ، فلما قبض ألفوا ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ثبت الأجر ، ثبت الأجر وبقي الوزر : قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا أنه ثبت الأجر

__________________

(١) قال محمود : «إما أن يراد باليتامى الصغار ... الخ» قال أحمد : والوجه الأول قوى بقوله بعد آيات (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم ، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد. ويقوله أيضا قوله عقيب الأولى (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ، (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره. وأما على الوجه الآخر فيكون مؤدى الآيتين واحداً ، وهو الأمر بالايتاء حقيقة ، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالجملة الثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ وإيناس الرشد ، والله أعلم.

(٢) أخرجه أبو داود عن على وإسناده حسن لأن له طريقاً أخرى عن على أخرجه عبد الرزاق أيضاً عن الثوري عن جويبر موقوفا. وصوبه العقيلي وقد تابع جويبرا عليه عبد الكريم بن أبى المخارق عن الضحاك. وعبد الكريم متروك أيضاً وله طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن سليمان الصوفي من رواية علقمة بن قيس عن على. ورواه أبو يعلى والطبراني من رواية ذيال بن عبيد بن حنظلة بن جذيم بن حنيفة. سمعت جدي حنظلة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. فذكره وفي الباب عن أنس عند البزار وفيه مرثد بن عبد الملك وهو ضعيف. وعن جابر عند عبد الرزاق والطيالسي وابن يعلى من رواية حرام بن عثمان وهو متروك. ومن طريق سعيد بن المرزبان عن يزيد الفقير عن جابر. وسعيد ضعيف جداً

(٣) ذكره الثعلبي عن مقاتل والكلبي. وسنده إليهما مذكور في أول الكتاب.

٤٦٤

كيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال : ثبت أجر الغلام ، وبقي الوزر على والده (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه. أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها (١) والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ، منه التعجيل بمعنى الاستعجال ، والتأخر بمعنى الاستئخار. قال ذو الرمّة :

فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا

عَنِ الدَّارِ وَالْمُسْتَخْلَفِ الْمُتَبَدَّلِ (٢)

أراد : ويا لؤم ما استخلفته الدار واستبدلته. وقيل : هو أن يعطى رديئا ويأخذ جيداً. وعن السدى : أن يجعل شاة مهزولة مكان سمينة ، وهذا ليس بتبدل ، وإنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ولا تنفقوها معها. وحقيقتها : ولا تضموها إليها (٣) في الإنفاق ، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم

__________________

(١) قوله «والتورع منها» لعله : عنها. (ع)

(٢) لذي الرمة. والسكن ـ بالسكون ـ : سكان الدار ، فهو اسم جمع لساكن ، كركب لراكب ، وصحب لصاحب. وفي نداء كرمهم معنى التعجب من كثرته ، أى يا كرم أصحاب الدار الذين ارتحلوا عنها ، ويا لؤم المستخلف المتبدل ، على صيغة اسم المفعول فيهما أى ما استخلفته وما استبدلته بعدهم من الوحوش. وقيل : من الذين لا يوفون بالمراد ، فالتبدل بمعنى الاستبدال. والمستخلف على تقدير مضاف دل عليه المقام.

(٣) قال محمود : «معناه ولا تضموها إلى أموالكم ... إلخ» : قال أحمد : وأهل البيان يقولون المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهى عن أدناها تنبيها على الأعلى ، كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأى مخالفا لها ، إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهى أن يأكله وهو غنى عنه ، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه ، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه ، حتى يلزم نهى الغنى عنه من طريق الأولى. وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر بوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية فنقول : أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته ، ولا شك أن النهى عن الأدنى وإن أفاد النهى عن الأعلى إلا أن للنهى عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة لا تؤخذ من النهى عن الأدنى ، وذلك أن المنهي كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد ، ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل ، فخصص بالنهى تشنيعا على من يقع فيه ، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء ، دعاه ذلك إلى الاحجام عن أكل ماله مطلقا. ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم ، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهى بأكله مع الفقر ، إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب كاعانتها عليه في الصورة الأولى. ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل ، مع أن تناول مال اليتيم على أى وجه كان منهى عنه ، كان ذلك بالادخار ، أو بالتباس ، أو ببذله في لذة النكاح مثلا ، أو غير ذلك. إلا أن حكمة تخصيص النهى بالأكل : أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل ، وتعد البطنة من البهيمة وتعيب على من اتخذها ديدنه ، ولا كذلك سائر الملاذ ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا ، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهى به ، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف ـ

٤٦٥

قلة مبالاة بما لا يحل لكم ، وتسوية بينه وبين الحلال. فإن قلت : قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلمَ ورد النهى عن أكله معها؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ـ وهم على ذلك يطمعون فيها ـ كان القبح أبلغ والذم أحق ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعليهم وسمع بهم ، ليكون أزجر لهم. والحوب : الذنب العظيم. ومنه قوله عليه السلام «إن طلاق أم أيوب لحوب (١)» فكأنه قيل : إنه كان ذنبا عظيما كبيراً. وقرأ الحسن (حُوباً) بفتح الحاء وهو مصدر حاب حوبا. وقرئ : حابا. ونظير الحوب والحاب : القول والقال. والطرد والطرد.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا)(٣)

__________________

ـ مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها ، أكلا أو غيره. ومثل هذه الآية في تخصيص النهى بما هو أعلى قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) فخص هذه الصورة لأن الطبع على الانتهاء عنها أعون. ويقابل هذا النظر في النهى نظر آخر في الأمر ، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيهاً على الأعلى ، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ ...) الآية كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم. وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال ، فلو أمر باسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة ، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم ، بخلاف ما إذا حضروا فان النفس يرق طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم ولا يسعف ولا يساعد ، فإذا أمرت في هذه الحالة بالاسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع ، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذى الرحم مطلقاً حضر أو غاب ، فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلفى إلا في الكتاب العزيز ، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق ، نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط ، فخذ هذا القانون عمدة ، وهو أن النهي إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى ، وإن خص الأعلى فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح ، ومثل هذا النظر في جانب الأمر ، والله الموفق.

(١) أخرجه أبو داود في المراسيل وإبراهيم الحربي في الغريب من رواية أنس بن سيرين قال : بلغني أن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا أيوب. إن طلاق أم أيوب لحوب» ورواه يحيى الحماني في مسنده. والطبراني في الأوسط من طريقه. قال : حدثنا حماد بن زيد عن واصل عن محمد بن سيرين عن ابن عباس وزاد : قال ابن سيرين : والحوب الإثم. وروى الحاكم من رواية على بن عاصم عن حميد عن أنس قال : كان بين أبى طلحة وأم سليم كلاما. فأراد أن يطلقها. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إن طلاق أم سليم لحوب».

٤٦٦

ولما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير ، خاف الأولياء (١) أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى ، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم ، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست فلا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهن ، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها ، فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء فقالوا عدد المنكوحات ، لأنّ من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب ، لأنه إنما وجب أن يُتحرج من الذنب ويُتاب عنه لقبحه ، والقبح قائم في كل ذنب. وقيل : كانوا لا يتحرّجون من الزنا (٢) وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى ، فقيل : إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا ، فانكحوا ما حلّ لكم من النساء ، ولا تحوموا حول المحرّمات. وقيل : كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها ، فيتزوجها ضناً بها عن غيره ، فربما اجتمعت عنده عشر منهن ، فيخاف ـ لضعفهن وفقد من يغضب لهن ـ أن يظلمهنّ حقوقهن ويفرط فيما يجب لهنَّ ، فقيل لهم : إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور ، وهو جمع يتيمة على القلب ، كما قيل : أيامى ، والأصل : أيائم ويتائم. وقرأ النخعي (تُقْسِطُوا) بفتح التاء على أن لا مزيدة مثلها في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) يريد : وإن خفتم أن تجوروا (ما طابَ) ما حلّ (لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) لأنّ منهن ما حرم كاللاتى في آية التحريم. وقيل (ما) ذهابا إلى الصفة. ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء : ومنه قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) معدولة عن أعداد مكررة ، وإنما منعت الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغها ، وعدلها عن تكررها ، وهي نكرات يعرّفن بلام التعريف. تقول : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ، ومحلهن

__________________

(١) قال محمود : «لما نزلت آية اليتامى خاف الأولياء ... الخ» قال أحمد : قد ثبت أن قاعدة القدرية وعقيدتهم أن الكبيرة الواحدة توجب خلود العبد في العذاب وإن كان موحدا ، ما لم يتب عنها ، فمن ثم يقولون : لا تفيد التوبة عن بعض الذنوب والإصرار على بعضها ، لأنه بواحدة من الكبائر ساوى الكافر في الخلود في العذاب ، ولا يفيد توحيده ولا شيء من أعماله. هذا هو معتقدهم الفاسد الذي يروم الزمخشري تفسير الآية عليه فاحذره. أما أهل السنة فيقولون : إذا تاب العبد من بعض الذنوب كان الخطاب بوجود التوبة من باقيها متوجها عليه ، وكأنه قام ببعض الواجبات وترك القيام ببعضها ، فأفادته التوبة محو المتوب عنه بإذن الله ووعده ، وهو في العهدة فيما لم يتب عنه ، فان كان تفسير الآية على أنهم خوطبوا بالتحرج في حقوق النساء والتوبة من الجور عليهن كما تابوا عن الحيف على اليتامى ، فالأمر في ذلك منزل على ما بيناه من قواعد السنة ، والله ولى التوفيق.

(٢) عاد كلامه. قال محمود : وقيل كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى ... الخ» قال أحمد :

وهذا التأويل الذي أخرجه جدير بالتقدم وهو الأظهر ، وتكون الآية معه لبيان حكم اليتامى ، وتحذيراً من التورط في الجور عليهن ، وأمراً بالاحتياط. وفي غيرهن متسع إلى الأربع ، وأصدق شاهد على أنه هو المراد.

٤٦٧

النصب على الحال مما طاب ، تقديره : فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا. فإن قلت : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ (قلت) : الخطاب للجميع ، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له ، كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال ـ وهو ألف درهم ـ درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قلت : فلم جاء العطف بالواو دون أو؟ قلت : كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول : اقتسموا هذا المال درهمين درهمين ، أو ثلاثة ثلاثة ، أو أربعة أربعة : أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة ، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية ، وبعضه على تثليث ، وبعضه على تربيع. وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. وتحريره : أنّ الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع ، إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاءوا متفقين فيها ، محظوراً عليهم ما وراء ذلك. وقرأ إبراهيم : وثلث وربع ، على القصر من ثلاث ورباع (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها (فَواحِدَةً) فالزموا ؛ أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا. فإن الأمر كله يدور مع العدل ، فأينما وجدتم العدل فعليكم به. وقرئ (فَواحِدَةً) بالرفع على : فالمقنع واحدة ، أو فكفت واحدة ، أو فحسبكم واحدة (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) سوّى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء ، من غير حصر ولا توقيت عدد. ولعمري أنهنّ أقل تبعة وأقصر شغبا وأخف مؤنة من المهائر ، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهن أم لم تعزل. وقرأ ابن أبى عبلة. من ملكت (ذلِكَ) إشارة إلى اختيار الواحدة والتسرى (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أقرب من أن لا تميلوا ، من قولهم : عال الميزان عولا ، إذا مال. وميزان فلان عائل ، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. وروى أن أعرابيا حكم عليه حاكم فقال له : أتعول علىّ. وقد روت عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم «ألا تعولوا : أن لا تجوروا (١)» والذي يحكى عن الشافعي رحمه الله أنه فسر (أَلَّا تَعُولُوا) أن لا تكثر عيالكم ، فوجهه أن يجعل من قولك : عال الرجل عياله يعولهم ، كقولهم : مانهم يمونهم ، إذا أنفق عليهم ، لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحال والرزق الطيب. وكلام مثله من أعلام العلم

__________________

(١) أخرجه ابن حبان وابراهيم الحربي والطبري وابن أبى حاتم وغيرهم من رواية عمر بن محمد بن زيد عن هشام عن أبيه عنها ، قال ابن أبى حاتم : الصواب موقوف.

٤٦٨

وأئمة الشرع ورؤس المجتهدين ، حقيقى بالحمل على الصحة والسداد ، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا ، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه : لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا (١). وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافي العىّ ، من كلام الشافعي» شاهداً بأنه كان أعلى كعبا وأطول باعا في علم كلام العرب ، من أن يخفى عليه مثل هذا ، ولكن للعلماء طرفا وأساليب ، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. فإن قلت : كيف يقل عيال من تسرّى ، وفي السرائر نحو ما في المهائر؟ قلت : ليس كذلك ، لأن الغرض بالتزوّج التوالد والتناسل بخلاف التسرى ، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهنّ ، فكان التسرى مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوّج ، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقرأ طاوس : أن لا تعيلوا ، من أعال الرجل إذا كثر عياله. وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي رحمه الله من حيث المعنى الذي قصده.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٤)

(صَدُقاتِهِنَ) مهورهن ، وفي حديث شريح : قضى ابن عباس لها بالصدقة. وقرئ : (صَدُقاتِهِنَّ) بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن. وصدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة. وقرئ : صدقتهن ، بضم الصاد والدال على التوحيد ، وهو تثقيل صدقة ، كقولك في ظلمة ظلمة (نِحْلَةً) من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا. ومنه حديث أبى بكر رضى الله عنه : إنى كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية (٢). وانتصابها على المصدر(٣)

__________________

(١) أخرجه المحاملي. حدثنا زياد بن أيوب. حدثنا محمد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر عن سليمان أن عبدة قال : قال عمر فذكره. وإسناده منقطع ورواه الجوهري في مشيخته والأصبهانى في الترغيب في قصة طويلة أولها عن سعيد بن المسيب قال «وضع عمر بن الخطاب للناس ثمان عشرة كلمة كلها حكمة» فذكر فيها ذلك وفي الاسناد ضعف وروى البيهقي في الشعب من وجه آخر عنه قال «كتب إلى بعض إخوانى من الصحابة أن ضع أمر أخيك على أحسنه ـ الحديث» موقوف أيضاً.

(٢) أخرجه مالك بإسناد صحيح أتم منه.

(٣) قال محمود : «نحلة منصوب على المصدر لأنها في معنى الإيتاء ... الخ» قال أحمد : هذا الفصل بجملته حسن جداً ، غير أن في جملة تذكير الضمير في منه على الصداق ، ثم تنظيره ذلك بقوله «فأصدق نظراً» وذلك أن المراعى ثم الأصل ، وهو عدم دخول الفاء والجزم وتقدير ما هو الأصل ، وإعطاؤه حكم الموجود ليس ببدع ، ولا كذلك إفراد الصداق المقدر ، فانه ليس بأصل الكلام ، بل الأصل الجمع : وأما الافراد فقد يأتى في مثله على سبيل الاختصار استغناء عن الجمع بالاضافة ، ولا يرد أنهم قد راعوا ما ليس بأصل في قوله :

بدا لي أنى لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا

٤٦٩

لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قيل : وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة ، أى أعطوهنّ مهورهنّ عن طيبة أنفسكم ، أو على الحال من المخاطبين ، أى آتوهنّ صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء ، أو من الصدقات ، أى منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل : نحلة من الله عطية من عنده وتفضلا منه عليهن ، وقيل : النحلة الملة ، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينتحل كذا : أى يدين به. والمعنى : آتوهن مهورهن ديانة ، على أنها مفعول لها. ويجوز أن يكون حالا من الصدقات ، أى دينا من الله شرعه وفرضه. والخطاب للأزواج. وقيل : للأولياء ، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم ، وكانوا يقولون : هنيئا لك النافجة ، لمن تولد له بنت ، يعنون : تأخذ مهرها فتنفج به مالك أى تعظمه. الضمير في : (مِنْهُ) جار مجرى اسم الإشارة كأنه قيل عن شيء من ذلك ، كما قال الله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) بعد ذكر الشهوات ، ومن الحجج المسموعة من أفواه العرب ما روى عن رؤبة أنه قيل له في قوله:

كَأنَّهُ فِى الْجِلدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ (١)

فقال : أردت كأن ذاك. أو يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات وهو الصداق ، لأنك لو قلت : وآتوا النساء صداقهن ، لم تخل بالمعنى ، فهو نحو قوله : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) كأنه قيل : أصدّق. و (نَفْساً) تمييز ، وتوحيدها لأنّ الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه. والمعنى : فإن وهبن لكم شيئا من الصداق وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم (فَكُلُوهُ) فأنفقوه. قالوا : فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة ، علم أنها لم تطب منه نفسا ، وعن الشعبي : أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع ، فقال شريح : ردّ عليها. فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) قال لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وعنه : أقيلها فيما وهبت ولا أقيلة ، لأنهنّ يخدعن. وحكى أن رجلا من آل معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه ، فلبث شهرا ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرجل : أعطتنى طيبة بها نفسها ، فقال عبد الملك : فأين الآية التي بعدها فلا تأخذوا منه شيئا؟ اردد عليها. وعن عمر رضى الله عنه أنه كتب إلى قضاته : إن النساء يعطين رغبة ورهبة. فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها» (٢)

__________________

ـ لأن دخول الباء وإن لم يكن أصلا ، إلا أنها قد توطنت بهذا الموضوع وكثر حلولها فيه ، فصارت كأن الأصل دخولها في الخبر ، والله أعلم. والأمر في ذلك قريب

(١) مر شرح هذا الشاهد بصفحة ١٤٩ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه

(٢) أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من طريق محمد بن عبيد الله الثقفي قال كتب عمر نحوه.

٤٧٠

وعن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال «إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضى به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم الله به في الآخرة» (١) وروى أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحد منهم في شيء مما ساق إلى امرأته ، فقال الله تعالى إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه سائغا هنيئا. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط ، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل : فإن طبن ، ولم يقل : فإن وهبن أو سمحن ، إعلاما بأنّ المراعى هو تجافى نفسها عن الموهوب طيبة. وقيل : إن طبن لكم عن شيء منه ، ولم يقل : فإن طبن لكم عنها ، بعثا لهن على تقليل الموهوب. وعن الليث بن سعد : لا يجوز تبرعها إلا باليسير. وعن الأوزاعى : لا يجوز تبرعها ما لم تلد أو تقم في بيت زوجها سنة. ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد ، فيكون متناولا بعضه ، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله ، لأنّ بعض الصدقات واحدة منها فصاعدا. الهنيء ، والمريء : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه. وقيل : الهنيء : ما يلذه الآكل. والمريء ما يحمد عاقبته. وقيل هو ما ينساغ في مجراه. وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة «المريء» لمروء الطعام فيه وهو انسياغه ، وهما وصف للمصدر ، أى أكلا هنيئا مريئا ، أو حال من الضمير ، أى كلوه وهو هنيء مريء ، وقد يوقف على فكلوه ويبتدأ مريئا على الدعاء ، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين ، كأنه قيل : هنأ مرأ. وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(٥)

(السُّفَهاءَ) المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يدي لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها. والخطاب للأولياء : وأضاف الأموال إليهم (٢) لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم ، كما قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) الدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ). (جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) أى تقومون بها وتنتعشون ، ولو ضيعتموها لضعتم فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم. وقرئ : قيما ، بمعنى قياما ، كما جاء عوذا بمعنى عياذا. وقرأ عبد الله بن عمر : قواما ، بالواو. وقوام الشيء : ما يقام به ، كقولك هو ملاك الأمر لما يملك به. وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك ما لا يحاسبني

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي في الأوسط من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.

(٢) قال محمود : «المراد أموال السفهاء وأضافها إلى الأولياء ... الخ» قال أحمد : ويؤيد هذا المعنى أنه لما أمر باسعاف ذوى القربى على سبيل المواساة قال : وارزقوهم منه ، لأن المدفوع إليهم من صلب المال ، والله أعلم.

٤٧١

الله عليه ، خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان ـ وكانت له بضاعة يقلبها ـ : لولاها لتمندل بى بنو العباس (١). وعن غيره ـ وقيل له إنها تدنيك من الدنيا ـ : لئن أدنتنى من الدنيا لقد صانتنى عنها. وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا ، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في جنازة فقالوا له : اذهب إلى دكانك (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) واجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا ، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق. وقيل : هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء ، قريب أو أجنبى ، رجل أو امرأة ، يعلم أنه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده (قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال ابن جريج : عدّة جميلة ، إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. وعن عطاء : إذا ربحت أعطيتك ، وإن غنمت في غزاتى جعلت لك حظا. وقيل : إن لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل : عافانا الله وإياك ، بارك الله فيك. وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل ، فهو معروف. وما أنكرته ونفرت منه لقبحه ، فهو منكر.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(٦)

(وَابْتَلُوا الْيَتامى) واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم (٢) ومعرفتهم بالتصرف ، قبل البلوغ

__________________

(١) قوله «لتمندل بى بنو العباس» في الصحاح : المنديل معروف ، تقول منه : تسندلت بالمنديل ، وتمندلت. (ع)

(٢) قال محمود : «معناه اختبروا أحوالهم ... الخ» قال أحمد : الابتلاء على هذا الوجه مذهب مالك رضى الله عنه ، غير أنه لا يكون عنده إلا بعد البلوغ ولا يدفع إليه من ماله شيء قبله ، وكذلك أحد قولي الشافعي رضى الله عنه ، وقوله الآخر كمذهب أبى حنيفة ، غير أن عنه خلافا في صورته قبل البلوغ على وجهين : أحدهما أن يسلم إليه المال ويباشر العقود بنفسه كالبالغ ، والآخر أن يكون وظيفته أن يساوم ، وتقرير الثمن إذا بلغ الأمر إلى العقد باشره الولي دونه وسلم الصبى الثمن ، فأما الرشد فالمعتبر عند مالك رضى الله عنه فيه : هو أن يحرز ماله وينميه ، وإن كان فاسقاً في حاله. وعند الشافعي : المعتبر صلاح الدين والمال جميعاً ، وغرضنا الآن أن نبين وجه تنزيل مذهب مالك في هذه الآية والله المستعان. فأما منعه من الإيتاء قبل البلوغ ـ وإن كان ظاهر الآية أن الإيتاء قبله ـ من حيث جعل البلوغ وإيناس الرشد غاية للايتاء ، والغاية متأخرة عن المغيا ضرورة ، فيتعين وقوع الإيتاء قبل. ولهذه النكتة أثبته أبو حنيفة قبل البلوغ والله أعلم ، فعلى جعل المجموع من البلوغ وإيناس الرشد هو الغاية حينئذ يلزم وقوع الابتلاء قبلهما ، أعنى المجموع وإن وقع بعد أحدهما وهو البلوغ ، لأن المجموع من اثنين فصاعدا لا يتحقق إلا بوجود كل واحد من مفرديه. ويحقق هذا التنزيل أنك لو قلت : وابتلوا اليتامى بعد البلوغ ، حتى إذا اجتمع الأمران وتضاما ـ

٤٧٢

حتى إذا تبينتم منهم رشداً ـ أى هداية ـ دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حدّ البلوغ. وبلوغ النكاح. أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده ، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد والتناسل. والإيناس : الاستيضاح فاستعير للتبيين. واختلف في الابتلاء والرشد ، فالابتلاء عند أبى حنيفة وأصحابه : أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى يستبين حاله فيما يجيء منه. والرشد : التهدى إلى وجوه التصرف. وعن ابن عباس : الصلاح في العقل والحفظ للمال. وعند مالك والشافعي : الابتلاء أن يتتبع أحواله وتصرفه في الأخذ والإعطاء ، ويتبصر مخايله وميله إلى الدين. والرشد : الصلاح في الدين ، لأن الفسق مفسدة للمال. فإن قلت : فإن لم يؤنس منه رشد إلى حدّ البلوغ؟ قلت : عند أبى حنيفة رحمه الله ينتظر إلى خمس وعشرين سنة ، لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسنّ ثماني عشرة سنة ، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه السلام «مروهم بالصلاة لسبع» (١) دفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وعند أصحابه : لا يدفع إليه أبداً إلا بإيناس الرشد. فإن قلت : ما معنى تنكير الرشد؟ قلت : معناه نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة ، أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايله حتى لا ينتظر به تمام الرشد. فإن قلت : كيف نظم هذا الكلام؟ (٢) قلت : ما بعد (حَتَّى) إلى (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ

__________________

ـ البلوغ والرشد فادفعوا إليهم أموالهم ، لاستقام الكلام ، ولكان البلوغ قبل الابتلاء وإن كان الابتلاء مغيا بالأمرين واقعاً قبل مجموعهما ، ونظير هذا النظر توجيه مذهب أبى حنيفة في قوله : إن فيئة المولى إنما تعتبر في أجل الإيلاء لا بعده ، وتنزيله على قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فجدد به عهداً يتضح لك تناسب النظرين ، والله أعلم. وأما اقتصاره رضى الله عنه بالرشد على المال ، فان كان المولى عليه فاسق الحال فوجه استخراجه من الآية أنه علق إيناس الرشد فيها بالابتلاء بدفع مال إليهم ينظر تصرفهم فيه ، فلو كان المراد إصلاح الدين فقط لم يقف الاختبار في ذلك على دفع المال إليهم ، إذ الظاهر من المصلح لدينه أنه لا يتفاوت حاله في حالتي عدمه ويسره. ولو كان المراد إصلاح الدين والمال معا ـ كما يقوله الشافعي رضى الله عنه ـ لم يكن إصلاح الدين موقوفا على الاختبار بالمال كما مر آنفا. وأيضا فالرشد في الدين والمال جميعاً هو الغاية في الرشد ، وليس الجمع بينهما بقيد ، وتنكير الرشد في الآية يأبى ذلك ، إذ الظاهر : فان آنستم منهم رشداً ما فبادروا بتسليم المال إليهم غير منتظرين بلوغ الغاية فيه ، والله أعلم.

(١) أخرجه أبو داود والترمذي وابن خزيمة والحاكم من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبوة الجهني عن أبيه عن جده مرفوعا «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع» ورواه أبو داود والحاكم من طريق سوار بن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأعله العقيلي في الضعفاء بسوار. ورواه البزار من رواية محمد بن الحسن بن عطية عن محمد بن عبد الرحمن عنه وأعله العقيلي بمحمد ابن الحسن وقال : الأولى رواية من رواه عن محمد بن عبد الرحمن مرسلا وذكره ابن حبان في الضعفاء عن عبد المنعم بن نعيم الرياحي عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة ورواه الدارقطني في الأوسط من حديث أنس وفيه داود بن المجير وهو متروك.

(٢) قال محمود رحمه الله : «فما وجه نظم الكلام الواقع بعد حتى إلى قوله فادفعوا إليهم أموالهم ... الخ» قال أحمد رحمه الله : هو يروم بهذا التقدير تنزيل مذهب أبى حنيفة في سبق الابتلاء على البلوغ على مقتضى الآية ، وقد أسلفنا وجه تنزيل مذهب مالك عليها بأظهر وجه وأقربه. والحاصل أن مقتضى النظر إلى المجموع من حيث هو ومقتضى مذهب أبى حنيفة النظر إلى المفردين ، والظاهر اعتبار المجموع فان العطف بالفاء يقتضيه ، والله أعلم.

٤٧٣

أَمْوالَهُمْ)جعل غاية للابتلاء ، وهي «حتى» التي تقع بعدها الجمل ، كالتي في قوله :

فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا

بِدِجْلَةَ حَتَّي مَاءُ دِجْلَهَ أشْكَلُ (١)

والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية لأن إذا متضمنة معنى الشرط ، وفعل الشرط بلغوا النكاح وقوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) جملة من شرط وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح ، فكأنه قيل : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم ، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم. وقرأ ابن مسعود : فإن أحسيتم بمعنى أحسستم قال :

أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْه شُوسُ (٢)

وقرئ : رشداً ، بفتحتين. ورشداً ، بضمتين (إِسْرافاً وَبِداراً) مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم ، تفرطون في إنفاقها ، وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيراً ، فالغنى يستعف من أكلها (٣) ولا يطمع ، ويقتنع بما رزقه الله من الغنى إشفاقا على اليتيم ، وإبقاء على ماله. والفقير يأكل قوتا مقدراً محتاطا في تقديره على وجه الأجرة ، أو استقراضا على ما في ذلك من الاختلاف ولفظ الأكل بالمعروف والاستعفاف ، مما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه عليها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أن رجلا قال له : إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال : «بالمعروف غير

__________________

(١) لجرير ، يقول : فما زالت تمج ، أى تلقى وتخرج دماءها في شاطئ دجلة. وحتى : ابتدائية تقع بعدها الجمل ، ولا تخلو من معنى الغاية. وأشكل : خبر المبتدأ ، وهو الأبيض المشوب بحمرة. وأظهر في محل الإضمار لقيد التهويل والتعظيم. أى حتى أن ماء ذلك النهر الكبير مختلط بالحمرة.

(٢) فباتوا يدلجون وبات يسرى

بصير بالدجى هاد عموس

إلى أن عرسوا وانحت منهم

قريباً ما يمس له مسيس

سوى أن العناق من المطايا

أحسن به فهن إليه شوس

لأبى زبيد الطائي. والإدلاج : سير أول الليل. والتدليج : سير آخره. والسرى : سير الليل. وبصير : صفة لمحذوف. وبالدجى : متعلق به. والبصير : المتبصر الخبير أو المبصر ، فالباء بمعنى في. والدجى الظلم. والهادي :

المراد به المهتدى. والعموس : القوى الشديد. وعرسوا : أى نزلوا. والحت : النتف والفرك والقطع والسرعة.

فانحت : انعزل منهم بسرعة ، أو أسرع قريبا منهم ما يمس : أى لا يسمع له مسيس ، أى صوت مسه للأرض في المشي. والعتاق : النجائب أو المسنة. وأحسن : أصله أحسسن ، نقلت فتحة السين إلى الحاء ثم حذفت. ويروى : حسين. وفي لغة : حسين ، بكسر السين. وأصله حسسن ، قلبت السين الثانية حرف علة. وزيادة الباء بعد فعل الحس كثيرة وإن تعدى بنفسه. والشوس : جمع أشوس ، أو شوساء وهو الذي ينظر بمؤخر عينه يصف مسافرين والأسد يطلب فريسة منهم ، وكثيرا ما يحذفون الموصوف كالأسد هنا ، لأن الصفة تعينه ، أو لادعاء تعينه.

(٣) قوله «من أكلها» لعله «عن» ، (ع)

٤٧٤

متأثل (١) مالا ولا واق مالك بماله» فقال : أفأضربه قال : «مما كنت ضارباً منه ولدك (٢)» : وعن ابن عباس : أنّ ولىّ اليتيم قال له : أفأشرب من لبن إبله؟ قال : إن كنت تبغى ضالتها ، وتلوط حوضها ، وتهنأ جرباها (٣) وتسقيها يوم وردها ، فاشرب غير مضرّ بنسل ، ولا ناهك في الحلب (٤) وعنه : يضرب بيده مع أيديهم ، فليأكل بالمعروف ، ولا يلبس عمامة فما فوقها. وعن إبراهيم : لا يلبس الكتان والحلل ، ولكن ما سدّ الجوعة ووارى العورة. وعن محمد بن كعب : يتقرّم تقرّم البهيمة (٥) وينزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بدّ منه. وعن الشعبي : يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه. وعنه : كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضى. وعن مجاهد : يستسلف ، فإذا أيسر أدّى. وعن سعيد بن جبير : إن شاء شرب فضل اللبن وركب الظهر ولبس ما يستره من الثياب وأخذ القوت ولا يجاوزه فإن أيسر قضاه ، وإن أعسر فهو في حلّ. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه : إنى أنزلت نفسي من مال الله منزلة والى اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، وإذا

__________________

(١) قوله «غير متأثل مالا» أى : متخذ مالا أصلا ، كما في الصحاح. (ع)

(٢) أخرجه الثعلبي من طريق معاوية بن هشام. حدثنا الثوري عن ابن أبى نجيح عن الحسن العرني عن ابن عباس قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن في حجري يتيما» بلفظ المصنف سواء ورواه عبد الرزاق في المصنف وابن المبارك في البر والصلة والطبري عن سفيان بن عيينة عن ابن دينار عن الحسن العرني «أن رجلا قال يا رسول الله» فذكره مرسلا وهو عند ابن أبى شيبة في البيوع عن إسماعيل عن أيوب بن عمرو كذلك. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا أجد شيئا وليس لي مال. ولي يتيم له مال. قال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ولا تق مالك بماله» وروى ابن حبان من رواية صالح بن رستم عن عمرو بن دينار عن جابر قال : قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم «مم أضرب يتيمى؟ قال : ما كنت ضارباً منه ولدك ، غير واق مالك بماله. ولا متأثل من ماله مالا» وأخرجه ابن عدى في الكامل في ترجمة صالح بن رستم. وهو أبو عامر الخزان وضعفه عن ابن معين. وقال : لم أجد له حديثا منكرا. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن دينار. وقال : تفرد به الخزان وهو من ثقات البصريين.

(٣) قوله «وتلوط حوضها وتهنأ جرباها» أى تصلحه بالطين بأن تلزقه به. أفاده الصحاح. وفيه : هنأت البعير أهنؤه إذا طلبته بالهناء وهو القطران اه. ونقل المناوى بهامشه عن الزجاج أنه بضم النون وأنه لم يجئ مضموم العين في مهموز اللام إلا هنأ يهنأ وقرأ يقرأ فليحرر. (ع)

(٤) أخرجه عبد الرزاق من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد. قال «جاء رجلي إلى ابن عباس» فذكره ، إلا أنه قال : بدل تبغى ضالتها «ترد نادتها» وأخرجه الطبري من طريقه والثعلبي والواحدي من وجه آخر عن القاسم. ورواه البغوي من طريق مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم وهو في الموطأ.

(٥) قوله : «يتقرم تقرم البهيمة» في الصحاح : قرم الصبى والبهيم قرما وقروما وهو أكل ضعيف في أول ما يأكل. وتقرم مثله. (ع)

٤٧٥

أيسرت قضيت» (١) واستعف أبلغ من عفّ ، (٢) كأنه طالب زيادة العفة (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت عنها ذممكم ، وذلك أبعد من التخاصم والتجاحد وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة. ألا ترى أنه إذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع اليمين عند أبى حنيفة وأصحابه. وعند مالك والشافعي لا يصدّق إلا بالبينة ، فكان في الإشهاد الاستحراز من توجه الحلف المفضى إلى التهمة أو من وجوب الضمان إذا لم يقم البينة (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أى كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض ، أو محاسبا. فعليكم بالتصادق ، وإياكم والتكاذب.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٨)

(الْأَقْرَبُونَ) هم المتوارثون من ذوى القرابات دون غيرهم (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل مما ترك بتكرير العامل. و (نَصِيباً مَفْرُوضاً) نصب على الاختصاص ، بمعنى : أعنى نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا لا بدّ لهم من أن يحوزوه ولا يستأثر به. ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد كقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) كأنه قيل : قسمة مفروضة. وروى أن أوس بن الصامت الأنصارى (٣) ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات ، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهنّ ، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والأطفال ، ويقولون : لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة ، فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه ، فقال : «ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله «فنزلت ، فبعث إليهما «لا تفرّقا من مال أوس شيئا فإنّ الله قد جعل لهنّ نصيبا ولم يبين حتى يبين» فنزلت (يُوصِيكُمُ اللهُ) فأعطى أم كحة

__________________

(١) أخرجه ابن سعد وابن أبى شيبة والطبري من رواية إسرائيل وسفيان كلاهما عن أبى إسحاق عن حارثة بن مضرب قال : قال عمر ورواه سعيد بن منصور عن أبى الأحوص عن أبى إسحاق عن البراء قال : قال لي عمر. فذكره

(٢) قال محمود : «استعف أبلغ من عف ، وكأنه يطلب زيادة العفة من نفسه» قال أحمد : في هذا إشارة إلى أنه من استفعل بمعنى الطلب وليس كذلك ، فان استفعل الطلبية متعدية وهذه قاصرة. والظاهر أنه مما جاء فيه فعل واستفعل بمعنى ، والله أعلم.

(٣) قوله «روى أن أوس بن الصامت الأنصارى» في رواية ابن ثابت. وليحرر اه (ع)

٤٧٦

الثمن ، والبنات الثلثين ، والباقي ابني العم (١) (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أى قسمة التركة (أُولُوا الْقُرْبى) ممن لا يرث (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) الضمير لما ترك الوالدان والأقربون ، وهو أمر على الندب قال الحسن : كان المؤمنون يفعلون ذلك ، إذا اجتمعت الورثة حضرهم هؤلاء فرضخوا لهم بالشيء من رثة المتاع (٢). فحضهم الله على ذلك تأديبا من غير أن يكون فريضة. قالوا : ولو كان فريضة لضرب له حدّ ومقدار كما لغيره من الحقوق ، وروى أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنه قسم ميراث أبيه وعائشة رضى الله عنها حية؟ فلم يدع في الدار أحداً إلا أعطاه ، وتلا هذه الآية. وقيل : هو على الوجوب. وقيل : هو منسوخ بآيات الميراث كالوصية. وعن سعيد بن جبير : أن ناسا يقولون نسخت ، وو الله ما نسخت ، ولكنها مما تهاونت به الناس. والقول المعروف أن يلطفوا لهم القول ويقولوا : خذوا بارك الله عليكم ، ويعتذروا إليهم ، ويستقلوا ما أعطوهم ولا يستكثروه ، ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي : أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات والمساكين واليتامى من العين ، يعنيان الورق والذهب. فإذا قسم الورق والذهب وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك ، قالوا لهم قولا معروفا ، كانوا يقولون لهم : بورك فيكم.

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)(٩)

__________________

(١) هكذا أورده الثعلبي ثم البغوي بغير سند وقال الواحدي في الأسباب : قال المفسرون «إن أوس بن ثابت الأنصارى توفى وترك امرأة يقال لها أم كحة ، وله منها ثلاث بنات. فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما عافجة وسويد فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته شيئاً ولا بناته. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير ، وإن كان ذكراً. وإنما يورثون الرجال الكبار. وكانوا يقولون : لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل ، وحاز الغنيمة فجاءت أم كحة فذكره إلى آخره سواء. والظاهر أنه عنى بقوله «المفسرون» الكلبي ومقاتل وأشباههما وقد روى الطبري هذه القصة من طريق ابن جريج عن عكرمة على غير هذا السياق ولفظه «نزلت في أم كحة وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار كان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها. فقالت : يا رسول الله توفى زوجي وتركني وابنته فلم نورث. فقال عم ولدها : إن ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلا ، ولا ينكأ عدواً. فنزلت (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) الآية وروى من طريق السدى قال : في قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ـ الآية كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من العلمان ولا يورثون إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أبو حسان الشاعر. وترك امرأة يقال لها أم كحة وترك خمس أخوات. فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت أم كحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) ثم قال في أم كحة (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) ـ الآية

(٢) قوله «من رثة المتاع» في الصحاح : الرثة : السقط من متاع البيت من الخلقان ، والجمع رثث ، مثل قربة وقرب. (ع)

٤٧٧

«لو» مع ما في حيزه صلة للذين. والمراد بهم : الأوصياء ، أمروا بأن يخشوا الله (١) فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى ويشفقوا عليهم ، خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا وشفقتهم عليهم وأن يقدّروا ذلك في أنفسهم ويصوّروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة. ويجوز أن يكون المعنى : وليخشوا على اليتامى من الضياع. وقيل : هم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون : إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا ، فقدم مالك ، فيستغرقه بالوصايا ، فأمروا بأن يخشوا ربهم ، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولاد أنفسهم لو كانوا. ويجوز أن يتصل بما قبله وأن يكون أمراً بالشفقة للورثة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين وأن يتصوّروا أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين ، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخيبة؟ فإن قلت : ما معنى وقوع (لَوْ تَرَكُوا) وجوابه صلة للذين؟ قلت : معناه : وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا ، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم ، كما قال القائل :

لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إلَىَّ حُبًّا

بَنَاتِى إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ

أُحَاذِرُ أَن يَرَيْنَ الْبُؤْسَ بَعْدِى

وَأَنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِى (٢)

وقرئ : ضعفاء. وضعافى ، وضعافى. نحو : سكارى ، وسكارى. والقول السديد من الأوصياء : أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ، ويدعوهم بيا بنىّ ويا ولدى ، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له إذا أراد الوصية : لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك ، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : «إنك إن تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (٣)» وكان الصحابة رضى الله عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث وأن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث. ومن المتقاسمين ميراثهم أن

__________________

(١) قال محمود : «المراد الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله ... الخ» قال أحمد : وإنما ألجأه إلى تقدير (تَرَكُوا) بقوله : شارفوا أن يتركوا ؛ لأن جوابه قوله : (خافُوا عَلَيْهِمْ) والخوف عليهم إنما يكون قبل تركهم إياهم وذلك في دار الدنيا ، فقد دل على أن المراد بالترك الاشراف عليه ضرورة ، وإلا لزم وقوع الجواب قبل الشرط وهو باطل ، ونظيره (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أى شارفن بلوغ الأجل ، ولهذا المجاز في التعبير عن المشارفة على الترك بالترك سر بديع ، وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة ولا في الذب عن الذرية الضعاف ، وهي الحالة التي وإن كانت من الدنيا إلا أنها لقربها من الآخرة ولصوقها بالمفارقة صارت من حيزها ومعبراً عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك ، والله أعلم.

(٢) تقدم شرح هذه الشواهد بصفحة ٤٠٤ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) متفق عليه من حديث سعد بن أبى وقاص في قصة.

٤٧٨

يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(١٠)

(ظُلْماً) ظالمين (١) ، أو على وجه الظلم من أولياء السوء وقضاته (فِي بُطُونِهِمْ) ملء بطونهم يقال : أكل فلان في بطنه ، وفي بعض بطنه. قال :

كُلُوا فِى بَعْضِ بَطْنِكُمُوا تَعِفُّوا (٢)

ومعنى يأكلون نارا : ما يجر إلى النار ، فكأنه نار في الحقيقة. وروى : أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره (٣) ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه (٤) فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا. وقرئ (وَسَيَصْلَوْنَ) بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها (سَعِيراً) ناراً من النيران مبهمة الوصف.

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ

__________________

(١) قال محمود : «معناه ظالمين ، أو على وجه الظلم ... الخ» قال أحمد : ومثله (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أى شدقوا بها وقالوها بملء أفواههم. أو يكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع ، حتى يتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير ، ولأجل تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله ، خص الأكل لأنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها ، والله أعلم.

(٢) كلوا في بعض بطنكم تعفوا

فان زمانكم زمن خميص

أى كلوا في بعض بطونكم. وأفرد البطن لأمن اللبس ، أى لا تملؤها ، فان أطعتمونى عففتم عن الطعام. وعف يعف ـ بكسر عين المضارع ـ من باب ضرب يضرب. ثم قال : فان زمانكم ، أى أمرتكم بذلك لأن زمانكم مجدب. والخميص : الضامر البطن. فشبه الزمان المجدب بالرجل الجائع على طريق الكناية ، ووصفه بالخمص تخييل لذلك.

(٣) قوله من «قبره» يروى من دبره. ويؤيده ما في الخازن من حديث أبى سعيد الخدري ، أنهم يجعل في أفواههم صخر من نار يخرج من أسافلهم اه ، فحرره. (ع)

(٤) أخرجه الطبري من طريق السدى قال «يبعث الله آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه وأنفه» إلى آخره وفي صحيح ابن حبان من رواية زناد أبى المنذر عن نافع بن الحرث عن أبى برزة رفعه يبعث الله يوم القيامة قوما من قبورهم تأجج أفواههم ناراً فقيل من هم يا رسول الله؟ فقال : ألم تر أنّ الله يقول (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية وفي إسناده زناد المذكور. كذبه ابن معين وشيخه نافع بن الحرث ضعيف أيضاً وقد أورده ابن عدى في الضعفاء في ترجمة زناد وأعل يه.

٤٧٩

فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(١١)

(يُوصِيكُمُ اللهُ) يعهد إليكم ويأمركم (فِي أَوْلادِكُمْ) في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة. وهذا إجمال تفصيله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فإن قلت : هلا قيل : للأنثيين مثل حظ الذكر (١) أو للأنثى نصف حظ الذكر ؛ قلت : ليبدأ ببيان حظ الذكر لفضله ، كما ضوعف حظه لذلك ، ولأنّ قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قصد إلى بيان فضل الذكر. وقولك : للأنثيين مثل حظ الذكر ، قصد إلى بيان نقص الأنثى. وما كان قصداً إلى بيان فضله ، كان أدلّ على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه ؛ ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث (٢) وهو السبب لورود الآية ، فقيل : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث ، فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به. فإن قلت : فإن حظ الأنثيين الثلثان ، فكأنه قيل للذكر الثلثان. قلت : أريد حال الاجتماع لا الانفراد أى إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان ، كما أن لهما سهمين. وأما في حال الانفراد ، فالابن يأخذ المال كله والبنتان يأخذان الثلثين. والدليل على أن الغرض حكم الاجتماع ، أنه أتبعه حكم الانفراد ، وهو قوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) والمعنى للذكر منهم ، أى من أولادكم ، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم ، كقولهم : السمن منوان بدرهم (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) فإن كانت البنات أو المولودات نساء خلصاً. ليس معهن رجل يعنى بنات ليس معهن ابن (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) يجوز أن يكون خبراً ثانياً لكان وأن يكون صفة لنساء أى نساء زائدات على اثنتين (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) وإن كانت البنت أو المولودة منفردة فذة ليس معها أخرى (فَلَهَا النِّصْفُ) وقرئ : واحدة بالرفع على كان التامّة والقراءة بالنصب أوفق لقوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وقرأ زيد بن ثابت (النِّصْفُ)

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت هلا قيل للأنثيين مثل حظ الذكر ... الخ» قال أحمد : لأن الأفضلية حينئذ مدلول عليها بواسطة الاستلزام لا منطوق بها. وأما على نظم الآية ، فالأفضلية منطوق بها غير محتاجة إلى ذلك.

(٢) عاد كلامه. قال : «ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث ... الخ» قال أحمد : وعلى مقتضى هذا لا يكون حكم الابن إذا انفرد مذكوراً في الآية ، لأنه حيث ذكره فإنما عنى حالة الاجتماع مع الإناث خاصة على تفسير الزمخشري. هذا ويمكن خلافه ، وهو أن المذكور أولا ميراث الذكر على الإطلاق مجتمعا مع الإناث منفرداً ، أما وجه تلقى حكمه حالة الاجتماع فقد قرره الزمخشري. وأما وجه تلقيه حالة الانفراد فمن حيث أن الله تعالى جعل له مثل حظ الأنثيين ، فان كانت معه فذاك ، وإن كانت منفردة عنه فقد جعل لها في حال انفرادها النصف ، فاقتضى ذلك أن للذكر عند انفراده مثلي نصيبها عند انفرادها ، وذلك الكامل. والله أعلم.

٤٨٠