الكشّاف - ج ١

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ١

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٩

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً)(١٤٦)

(الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) الطبق الذي في قعر جهنم ، والنار سبع دركات ، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض ، وقرئ بسكون الراء ، والوجه التحريك ، لقولهم : أدراك جهنم. فإن قلت : لِمَ كان المنافق أشدّ عذابا من الكافر؟ قلت ؛ لأنه مثله في الكفر ، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله ومداجاتهم (١) (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) فهم أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. فإن قلت : مَن المنافق؟ قلت. هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به بالمنافق فللتغليظ ، كقوله «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» (٢) ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان (٣)» وقيل لحذيفة رضى الله عنه : مَن المنافق؟ فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وقيل لابن عمر : ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال : كنا نعدّه من النفاق. وعن الحسن : أتى على النفاق زمان وهو مقروع فيه (٤) ، فأصبح وقد عمم وقلد وأعطى سيفاً ، يعنى الحجاج.

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً)(١٤٧)

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) أيتشفى به من الغيظ ، أم يدرك به الثار ، أم يستجلب به نفعاً ، أم يستدفع به ضرراً كما يفعل الملوك بعذابهم ، وهو الغنىّ الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك. وإنما

__________________

(١) قوله «ومداجاتهم» في الصحاح : المداجاة : المداراة. (ع)

(٢) تقدم في آل عمران والبقرة.

(٣) أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ «آية المنافق ثلاث إلى آخره ، وفي رواية «من علامات المنافق ثلاث».

(٤) قوله «وهو مقروع فيه» لعله يريد القرع بالعصا. وفي الصحاح «القارعة» الشديدة من شدائد الدهر ، وهي الداهية ، يقال : قرعتهم قوارع الدهر ، أى أصابتهم. وقرعت رأسه بالعصا ، مثل قرعت. (ع)

٥٨١

هو أمر أوجبته الحكمة أن يعاقب المسيء ، فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب (وَكانَ اللهُ شاكِراً) مثيبا موفيا أجوركم (عَلِيماً) بحق شكركم وإيمانكم. فإن قلت : لم قدم الشكر على الإيمان؟ قلت : لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع ، فيشكر شكراً مبهما ، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلا ، فكان الشكر متقدما على الايمان ، وكأنه أصل التكليف ومداره.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً)(١٤٩)

(إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) إلا جهر من ظلم (١) استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم. وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء. وقيل : هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) وقيل : ضاف رجل قوما فلم يطعموه ، فأصبح شاكيا ، فعوتب على الشكاية فنزلت ، وقرئ (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للفاعل للانقطاع. أى ولكن الظالم راكب ما لا يحبه الله فيجهر بالسوء. ويجوز أن يكون (مَنْ ظُلِمَ) مرفوعا ، كأنه قيل : لا يحب الله الجهر بالسوء ، إلا الظالم على لغة من يقول : ما جاءني زيد إلا عمرو ، بمعنى ما جاءني إلا عمرو. ومنه (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ثم حث على العفو ، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار ، بعد ما أطلق الجهر به وجعله محبوبا ، حثا على الأحب إليه والأفضل عنده والأدخل في الكرم والتخشع والعبودية ، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيبا (٢) للعفو ، ثم عطفه عليهما اعتدادا به وتنبيها على منزلته ، وأن له مكانا في باب الخير وسيطا (٣). والدليل على أن العفو هو الغرض المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) أى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام ، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ

__________________

(١) قال محمود : «تقديره لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا جهر من ظلم ، وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه ... الخ» قال أحمد : «ووجه التغاير أن الظالم لا يندرج في المستثنى منه كما أن الله تعالى مقدس أن يكون في السموات أو في الأرض ، فاستحال دخوله في المستثنى منه. وكذا لا يندرج المستثنى في المستثنى منه في قولك : ما جاءني زيد إلا عمرو. وكلام الزمخشري في هذا الفصل لا يتحقق لي منه ما يسوغ مجازيته فيه لاغلاق عبارته ، والله أعلم بمراده.

(٢) قوله «تشبيها» لعله محرف وأصله «تنبيها» فحرر (ع)

(٣) قوله «وسطا» أى متوسطا. (ع)

٥٨٢

وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(١٥١)

جعل الذين آمنوا بالله وكفروا برسله أو آمنوا بالله وببعض رسله وكفروا ببعض كافرين بالله ورسله جميعا لما ذكرنا (١) من العلة ، ومعنى اتخاذهم بين ذلك سبيلا : أن يتخذوا دينا وسطا بين الإيمان والكفر كقوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أى طريقا وسطا في القراءة وهو ما بين الجهر والمخافتة. وقد أخطؤا ، فإنه لا واسطة بين الكفر والإيمان (٢) ولذلك قال (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) أى هم الكاملون في الكفر. و (حَقًّا) تأكيد لمضمون الجملة ، كقولك : هو عبد الله حقا ، أى حق ذلك حقا ، وهو كونهم كاملين في الكفر ، أو هو صفة لمصدر الكافرين ، أى هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لا شك فيه ،

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٥٢)

فإن قلت : كيف جاز دخول (بَيْنَ) على (أَحَدٍ) وهو يقتضى شيئين فصاعدا؟ قلت : إن أحدا عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما ، تقول : ما رأيت أحدا ، فتقصد العموم ، ألا تراك تقول : إلا بنى فلان ، وإلا بنات فلان ؛ فالمعنى : ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة ومنه قوله تعالى : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) ، (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) معناه : أنّ إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتثبيته لا كونه متأخرا ،

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ

__________________

(١) قوله «لما ذكرنا» أى في تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) الخ». (ع)

(٢) قوله «فانه لا واسطة بين الكفر والايمان» هذا عند أهل السنة. أما عند المعتزلة ففاعل الكبيرة الذي يموت بلا توبة لا هو مؤمن ولا كافر ، بل منزلة بين المنزلتين. فتدبر. (ع)

٥٨٣

بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩)

روى أنّ كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا وغيرهما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبيا صادقا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى (١). فنزلت. وقيل : كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان أنك رسول الله ، وقيل : كتابا نعاينه حين ينزل. وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت ، قال الحسن : ولو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم ، وفيما آتاهم كفاية (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى) جواب لشرط مقدر (٢). معناه : إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى (أَكْبَرَ

__________________

(١) لم أجده هكذا. ورواه الطبري من طريق أسباط عن السدى قال «قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم :

إن كنت صادقا أنك رسول الله فائتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى. فنزلت.

(٢) قال محمود : «فقد سألوا موسى : جواب لشرط مقدر ... الخ» قال أحمد : وهذا من المواضع التي استولى عليه فيها الاغفال ، ولوح به اتباع هواه إلى مهواة الضلال ، لأنه بنى على أن الظلم المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد كونهم طلبوا الرؤية وهي محال عقلا دنيا وآخرة على زعم القدرية ، لما يلزم عندهم لو قيل بجوازها من اعتقاد التشبيه ، فلذلك سمي أهل السنة المعتقدين لجوازها ووقوعها في الآخرة وفاء بالوعد الصادق مشبهة ، وغفل عن كون اليهود اقترحوا على موسى عليه السلام خصوصية علقوا إيمانهم بها ، ولم يعتبروا المعجز من حيث هو كما يجب اعتباره فقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فهذا الاقتراح والتعنت يكفيهم ظلما. ألا ترى أن الذين قالوا لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء ، أو حتى تفجر الأرض ، أو يكون لك بيت من زخرف ، كيف هم من أظلم الظلمة؟ وإن كانوا إنما طلبوا أمورا جائزة ، ولكنهم اقترحوا في الآيات على الله ، وحقهم أن يسندوا إيمانهم إلى أى معجز اختاره الله ـ دل ذلك دلالة يلجأ على أن ظلمهم مسبب عن اقتراحهم ، لا عن كون المقترح ممتنعا عقلا. والعجب بتنظير هذا السؤال لو كان المسئول جائزاً كسؤال إبراهيم عن إحياء الموتى على زعم الزمخشري ، غفلة منه عما انطوى عليه سؤال ابراهيم عليه السلام من صريح الايمان حيث قال له تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) وعما انطوى عليه سؤال هؤلاء الملاعين من محض الكفر والإصرار عليه في قولهم : لن نؤمن لك. فصدروا كلامهم بالجحد والنفي. وأما دعاء الزمخشري على أهل السنة بالتب والصواعق ، فالله أعلم أى الفريقين أحق بها ، ويكفيه هذه الغفلة التي تنادى عليه باتباع الهوى الذي يعمى ويصم ، نسأل الله العصمة من الضلالة والغواية.

٥٨٤

مِنْ ذلِكَ) وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى وهم النقباء السبعون ، لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت (جَهْرَةً) عيانا بمعنى أرناه نره جهرة (بِظُلْمِهِمْ) بسبب سؤالهم الرؤية. ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة ، كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصاعقة ، فتبا للمشتبهة ورميا بالصواعق (١) (آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) تسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه ، واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيا لك من سلطان مبين (بِمِيثاقِهِمْ) بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه (وَقُلْنا لَهُمُ) والطور مطل عليهم (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) ولا تعدوا في السبت ، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك ، وقولهم سمعنا وأطعنا ، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه ثم نقضوه بعد. وقرئ : لا تعتدوا. ولا تعدّوا ، بإدغام التاء في الدال (فَبِما نَقْضِهِمْ) فبنقضهم. «وما» مزيدة للتوكيد. فإن قلت : بم تعلقت الباء؟ وما معنى التوكيد؟ (٢) قلت : إما أن يتعلق بمحذوف ، كأنه قيل : فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا ، وإما أن يتعلق بقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) على أنّ قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بدل من قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) وأما التوكيد فمعناه تحقيق أنّ العقاب أو تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك. فإن قلت : هلا زعمت أن المحذوف (٣) الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) فيكون التقدير :

__________________

(١) قوله «فنبا للمشبهة ورميا بالصواعق» يعنى أهل السنة ، حيث أجازوا على الله الرؤية كما حقق في محله ، وغفر الله للمؤمن يسيء المؤمنين. (ع)

(٢) قال محمود : «إن قلت بم تعلقت الباء في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) قلت : إما أن تتعلق بمحذوف كأنه قيل : فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا. وإما أن تتعلق بقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) على أن قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بدل من قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) انتهى كلامه». قلت : ولذكر البدل المذكور سر ، وهو أن الكلام لما طال بعد قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ) حتى بعد عن متعلقه الذي هو حرمنا ، قوى ذكره بقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) حتى يلي متعلقه ، وجاء النظم به على وجه من الاقتصار في إجمال ما سبق تفصيله ، لأن جميع ما تقدم من النقض ، والقتل ، وقولهم قلوبنا غلف ، وكفرهم ، وقولهم على مريم بهتانا عظيما. ودعواهم قتل المسيح ابن مريم قد انطوى عليه الإجمال المذكور آخرا انطواء جامعا ، مع التسجيل على أن جميع أفاعيلهم الصادرة منهم ظلم. وقد تقدم لهذا التقرير نظائر والله الموفق.

(٣) عاد كلامه. قال : «إن قلت هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) فيكون التقدير : فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم. قلت : لم يصح هذا التقدير ؛ لأن قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) رد وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فكان متعلقا به ، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أن الله خلقها غلفا ، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين وقالوا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) وكمذهب المجبرة أخزاهم الله ، فقيل لهم : بل خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها» انتهى كلامه. قال أحمد : هؤلاء قوم زعموا أن لهم على الله حجة بكونه خلق قلوبهم غير قابلة للحق

٥٨٥

فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم ، بل طبع الله عليها بكفرهم. قلت : لم يصح هذا التقدير لأنّ قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ردّ وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فكان متعلقاً به ، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أنّ الله خلق قلوبنا غلفاً ، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين وقالوا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) وكمذهب المجبرة (١) أخزاهم الله ، فقيل لهم : بل خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها ، لا أن تخلق غلفاً غير قابلة للذكر ولا متمكنة من قبوله. فإن قلت : علام عطف قوله (وَبِكُفْرِهِمْ)؟ قلت : الوجه أن يعطف على : (فَبِما نَقْضِهِمْ) ويجعل قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) كلاماً تبع قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) على وجه الاستطراد ، يجوز عطفه على ما يليه من قوله : (بِكُفْرِهِمْ). فإن قلت : ما معنى المجيء بالكفر معطوفاً على ما فيه ذكره ، سواء عطف على ما قبل حرف الإضراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) وقوله : (بِكُفْرِهِمْ)؟ قلت : قد تكرّر منهم الكفر ، لأنهم كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد صلوات الله عليهم ، فعطف بعض كفرهم على بعض ، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه ، كأنه قيل : فيجمعهم بين نقض الميثاق ، والكفر بآيات الله ، وقتل الأنبياء ، وقولهم قلوبنا غلف ، وجمعهم

__________________

ـ ولا متمكنة من قبوله ، فكذبهم في قولهم لأنه خلق قلوبهم على الفطرة أى أن الايمان وقبول الحق من جنس مقدورهم كما هو من جنس مقدور المؤمنين ، وذلك هو المعبر بالتمكن ، وبخلقهم ميسرين للايمان ، متأتيا منهم قبول الحق قامت عليهم حجة الله ، إذ يجد الإنسان بالضرورة الفرق بين قبول الحق والدخول في الايمان ، وبين طيرانه في الهواء ومشيه على الماء ، ويعلم ضرورة أن الايمان ممكن منه ، كما يعلم أن الطيران غير ممكن منه عادة ، فقد قامت الحجة وتبلجت ، ألا لله الحجة البالغة ، فمن هذا الوجه اتجه الرد عليهم «لا كما يزعمه الزمخشري من أن لهم قدرة على الايمان يلحقونه بها لأنفسهم ويقرونه في قلوبهم ، وتلك القدرة موجودة سواء وجد الفعل أو لا ، كالسيف المعد في يد القاتل للقتل سواء وجد أو لا ، وأن هذه القدرة التي هي كالآلة للخلق على زعمه يصرفها العبد حيث شاء في إيمان وكفر ، وافق ذلك مشيئة الله أولا ، وأن هؤلاء صرفوا قدرتهم إلى خلق الكفر لأنفسهم على خلاف مشيئة الله تعالى ، فلذلك يعرض الزمخشري بأهل السنة ، القائلين بأن الله تعالى لو شاء من عبدة الأوثان أن لا يعبدوها لما عبدوها ، وتسميتهم لذلك مجبرة ، ويجعل قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) ردا على الأشعرية كما هو رد على الوثنية ، ويغفل عن النكتة التي نبهنا عليها ، وهي : أن الرد على الوثنية بذلك لم يكن إلا لأنهم ظنوا أن هذا المقدار يقيم لهم الحجة على الله ، ولذلك قال تعالى عقيب ذلك (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فأوضح الله تعالى أن الرد عليهم لم يكن لقولهم : إن الله لو شاء لهداكم أجمعين ، ولكن إنما كان الرد لظنهم أن ذلك حجة على الله بقوله : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فهذا التقدير هو الايمان المحض والتوحيد الصرف ، وما عداه من الاشراك الصراح فخزي ، نعوذ بالله منه.

(١) قوله «وكمذهب المجبرة أخزاهم الله» يريد بهم أهل السنة وحاشاهم أن يريدوا بمذهبهم ما أراده الكفار بما قالوا. وتحقيقه في علم التوحيد. وغفر الله لمن تعدى حد الشرع من المؤمنين ولا أخراهم يوم الدين. (ع)

٥٨٦

بين كفرهم وبهتهم (١) مريم ، وافتخارهم بقتل عيسى ، عاقبناهم. أو بل طبع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. والبهتان العظيم : هو التزنية. فإن قلت : كانوا كافرين بعيسى عليه السلام ، أعداء له ، عامدين لقتله ، يسمونه الساحر بن الساحرة ، والفاعل بن الفاعلة ، فكيف قالوا (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ)؟ قلت : قالوه على وجه الاستهزاء ، كقول فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً). روى أنّ رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم «اللهم أنت ربى وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي» فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير ، فأجمعت اليهود على قتله ، فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود ، فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم : أنا فألقى عليه شبهه فقتل وصلب. وقيل : كان رجلا ينافق عيسى ، فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه ، فدخل بيت عيسى فرفع عيسى وألقى شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : إنه إله لا يصح قتله. وقال بعضهم : إنه قتل وصلب. وقال بعضهم إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم رفع إلى السماء. وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا. فإن قلت : (شُبِّهَ) مسند إلى ما ذا؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح ، فالمسيح مشبه به وليس بمشبه ، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر قلت : هو مسند إلى الجار والمجرور وهو (قَوْلِهِمْ) كقولك خيل إليه ، كأنه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول ؛ لأنّ قوله : إنا قتلنا يدل عليه ، كأنه قيل : ولكن شبه لهم من قتلوه (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) استثناء منقطع لأنّ اتباع الظن ليس من جنس العلم ، يعنى : ولكنهم يتبعون الظن. فإن قلت : قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين (٢) ، ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما ، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن إن لاحت لهم أمارة فظنوا ، فذاك (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) وما قتلوه قتلا يقيناً. أو ما قتلوه متيقنين ، كما ادّعوا

__________________

(١) قوله «وبهتهم مريم» أى رميها بما ليس فيها ، وهو التزنية. أى الرمي بالزنا. (ع)

(٢) قال محمود : «إن قلت قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح ... الخ» قال أحمد : وليس في هذا الجواب شفاء للغليل. والظاهر والله أعلم أنهم كانوا أغلب أحوالهم الشك في أمره والتردد فجاءت العبارة الأولى على ما يغلب من حالهم ثم كانوا لا يخلون من ظن في بعض الأحوال وعنده يقفون لا يرفعون إلى العلم فيه البتة وكيف يعلم الشيء على خلاف ما هو به فجاءت العبارة الثانية على حالهم النادرة في الظن نافية عنهم ما يترقى عن الظن البتة ، والله أعلم.

٥٨٧

ذلك في قولهم (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) أو يجعل (يَقِيناً) تأكيداً لقوله : (وَما قَتَلُوهُ) كقولك : ما قتلوه حقا أى حق انتفاء قتله حقا. وقيل : هو من قولهم : قتلت الشيء علماً ونحرته علماً إذا تبلغ فيه علمك. وفيه تهكم ، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفياً كليا بحرف الاستغراق. ثم قيل : وما علموه علم يقين وإحاطة لم يكن إلا تهكما بهم (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمننّ به. ونحوه : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) ، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) والمعنى : وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمننّ قبل موته بعيسى ، وبأنه عبد الله ورسوله ، يعنى : إذا عاين قبل أن تزهق روحه (١) حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف. وعن شهر بن حوشب : قال لي الحجاج : آية ما قرأتها (٢) إلا تخالج في نفسي شيء منها (٣) يعنى هذه الآية ، وقال إنى أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك ، فقلت : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا يا عدوّ الله ، أتاك موسى نبيا فكذبت به فيقول : آمنت أنه عبد نبىّ. وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله ، فيؤمن أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. قال : وكان متكئاً فاستوى جالساً فنظر إلىّ وقال : ممن؟ قلت : حدثني محمد بن علىّ بن الحنفية ، فأخذ ينكت الأرض بقضيبه ثم قال : لقد أخذتها من عين صافية ، أو من معدنها. قال الكلبي : فقلت له : ما أردت إلى أن تقول حدثني محمد بن علىّ بن الحنفية. قال : أردت أن أغيظه ، يعنى بزيادة اسم علىّ ، لأنه مشهور بابن الحنفية. وعن ابن عباس أنه فسره كذلك ، فقال له عكرمة : فإن أتاه رجل فضرب عنقه قال : لا تخرج نفسه حتى يحرّك بها شفتيه. قال : وإن خرّ من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع قال : يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن (٤) به. وتدل عليه قراءة أبىّ : إلا ليؤمننّ به قبل موتهم ، بضم النون على معنى : وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم ، لأنّ أحداً يصلح للجمع. فإن

__________________

(١) قال محمود : «يعنى إذا عاين قبل أن تزهق روحه ... الخ» قال أحمد : كقول فرعون لما عاين الهلاك : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل.

(٢) عاد كلامه. قال محمود : «وعن شهر بن حوشب قال لي الحجاج آية ما قرأتها ... الخ». قال أحمد : ويبعد هذا التأويل قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) فان ظاهره التهديد ، ولكن ما أريد بقوله في حق هذه الأمة (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) والله أعلم.

(٣) لم أجده. قلت : هو في تفسير الكلبي ، رواه عن شهر. ورأيته قديما في كتاب المبتدإ وقصص الأنبياء لوثيمة بسنده من هذا الوجه.

(٤) لم أجده هكذا. وأخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى قال : قال ابن عباس رضى الله عنهما «ليس من يهودى يموت حتى يؤمن بعيسى بن مريم. فقال له رجل من أصحابه : كيف والرجل يغرق أو يحترق ، أو يسقط عليه الجدار أو يأكله السبع؟ فقال : لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الايمان بعيسى عليه الصلاة والسلام

٥٨٨

قلت : ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت : فائدته الوعيد ، وليكون علمهم بأنهم لا بدّ لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم ، بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به ، وليكون إلزاما للحجة لهم ، وكذلك قوله (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) يشهد على اليهود بأنهم كذبوه ، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله. وقيل : الضميران لعيسى ، بمعنى : وإن منهم أحد إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى ، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روى أنه ينزل من السماء في آخر الزمان ، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به ، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات ، ويلبث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه (١). ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به ، على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ، ويعلمهم نزوله وما أنزل له ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم. وقيل : الضمير في : (بِهِ) يرجع إلى الله تعالى. وقيل : إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (١٦٢)

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) فبأى ظلم منهم. والمعنى ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه ، وهو ما عدّد لهم من الكفر والكبائر العظيمة. والطيبات التي حرّمت عليهم : ما ذكره

__________________

(١) أخرجه ابن حبان وأبو داود من رواية همام عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبى هريرة في حديث أوله «الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إخوة أولاد علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإنى أولى الناس بعيسى ابن مريم ، لأنه لم يكن بيني وبينه نبى ، وإنه نازل. فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فانه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر ، كأن رأسه يقطر وإن لم يمسه بلل ، بين محصرين ، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يملكه الله في زمانه الملك كلها إلا الإسلام إلى آخره» وأما قوله في أوله هنا «لا يبقى أحد من أهل الأرض إلا يؤمن به» فرواه الطبري من قول ابن عباس رضى الله عنهما.

٥٨٩

في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وحرّمت عليهم الألبان ، وكلما أذنبوا ذنبا صغيراً أو كبيراً حرّم عليهم بعض الطيبات من المطاعم وغيرها (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) ناسا كثيراً أو صدّاً كثيراً (بِالْباطِلِ) بالرشوة التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) يريد من آمن منهم ، كعبد الله بن سلام وأضرابه ، والراسخون في العلم الثابتون فيه المتقنون المستبصرون (وَالْمُؤْمِنُونَ) يعنى المؤمنين منهم ، أو المؤمنون من المهاجرين والأنصار. وارتفع الراسخون على الابتداء. و (يُؤْمِنُونَ) خبره. و (الْمُقِيمِينَ) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسع ، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم. وقيل : هو عطف على : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أى يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد الله : والمقيمون ، بالواو ، وهي قراءة مالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى الثقفي.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦)

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحى إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا. وقرئ (زبورا) بضم الزاى جمع زبر وهو الكتاب (وَرُسُلاً) نصب بمضمر في معنى : أوحينا إليك وهو : أرسلنا ، ونبأنا ، وما أشبه ذلك. أو بما فسره قصصناهم. وفي قراءة أبىّ : ورسل

٥٩٠

قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم. وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب : أنهما قرءا (وَكَلَّمَ اللهُ) بالنصب. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم (١) ، وأن معناه وجرّح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الأوجه أن ينتصب على المدح. ويجوز انتصابه على التكرير. فإن قلت : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل (٢) ، وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة ، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة ، ولا عرف أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت : الرسل منبهون عن الغفلة ، وباعثون على النظر ، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد (٣) مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع ، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة ، لئلا يقولوا :لو لا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له. وقرأ السلمى :

__________________

(١) قال محمود : ومن بدع التفاسير أن كلم من الكلم ... الخ» قال أحمد : وإنما ينقل هذا التفسير عن بعض المعتزلة لانكارهم الكلام القديم الذي هو صفة الذات ، إذ لا يثبتون إلا الحروف والأصوات قائمة بالأجسام ، لا بذات الله تعالى ، فيرد عليهم بجحدهم كلام النفس إبطال خصوصية موسى عليه السلام في التكليم ، إذ لا يثبتونه إلا بمعنى سماعه حروفا وأصواتا قائمة ببعض الأجرام ، وذلك مشترك بين موسى وبين كل سامع لهذه الحروف ، حتى المشرك الذي قال الله فيه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فيضطر المعتزل إلى إبطال الخصوصية الموسوية بحمل التكليم على التجريح ، وصدق الزمخشري وأنصف : إنه لمن يدع التفاسير التي ينبو عنها الفهم ولا يبين بها إلا الوهم ، والله الموفق

(٢) عاد كلامه. قال محمود : «فان قلت كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل ... الخ» قال أحمد : قاعدة المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين تجرهم وتجرؤهم إلى إثبات أحكام الله تعالى بمجرد العقل وإن لم يبعث رسولا ، فيوجبون بعقولهم ، ويحرمون ويبيحون على وفق زعمهم. ومما يوجبونه قبل ورود الشرع : النظر في أدلة المعرفة ولا يتوقفون على ورود الشرع الموجب ، فمن ثم يلزمون بعد خبط وتطويل ، أن من ترك النظر في الأدلة قبل ورود الشرع ، فقد ترك واجباً استحق به التعذيب ، وقد قامت الحجة عليه في الوجوب وإن لم يكن شرع ، وإذا تليت عليهم هذه الآية وهي قوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقيل لهم أما هذه الآية تناديكم يا معشر القدرية أن الحجة إنما قدمت على الخلق بالأحكام الشرعية المؤدية إلى الجزاء بإرسال الرسل لا بمجرد العقل ، فما تقولون فيها؟ صمت حينئذ آذانهم وغيروا في وجه هذا النص وغيروه عما هو موضوع له ، فقالوا : المراد أن الرسل تتمم حجة الله وتنبه على ما وجب قبل بعثها بالعقل ، كما أجاب به الزمخشري ، وقريبا من هذا التعسف يقولون إذا ورد عليهم قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وربما يدلس على ضعفة المطالعين لهذا الفصل من كلام الزمخشري قوله : إن أدلة التوحيد والمعرفة منصوبة قبل إرسال الرسل ، وبذلك تقوم الحجة فنظن أن ذلك جار على سنن الصحة ، إذ المعرفة باتفاق ، والتوحيد بإجماع ، إنما طريقه العقل لا النقل الذي يلبس عليه أن النظر في أدلة التوحيد هو فعل المكلف ليس بالحكم الشرعي ، بل الحكم وجوب النظر ، والمعرفة متلقاة من العقل المحض ، والوجوب متلقى من النقل الصرف ، وبه تقوم الحجة ، وعليه يرتب الجزاء. والله سبحانه ولى التوفيق والمعونة.

(٣) قوله «كما ترى علماء أهل العدل» أى كما ذهب إليه المعتزلة. وذلك أنهم حكموا العقل وجعلوه كافيا في معرفة الأحكام ، كوجوب العدل وحرمة الظلم. وقال أهل السنة : لا حكم قبل الشرع. والمسألة مشهورة في علم الأصول ، فالسؤال مبنى على مذهب المعتزلة. (ع)

٥٩١

لكنّ الله يشهد ، بالتشديد. فإن قلت : الاستدراك لا بدّ له من مستدرك (١) فما هو في قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ)؟ قلت : لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء وتعنتوا بذلك واحتج عليهم بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال : لكن الله يشهد ، بمعنى أنهم لا يشهدون لكن الله يشهد. وقيل : لما نزل (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قالوا : ما نشهد لك بهذا ، فنزل (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه : إثباته لصحته بإظهار المعجزات ، كما تثبت الدعاوى بالبينات. وشهادة الملائكة :شهادتهم بأنه حق وصدق. فإن قلت : بم يجابون لو قالوا : بم يعلم أن الملائكة يشهدون بذلك؟ قلت : يجابون بأنه يعلم بشهادة الله ، لأنه لما علم بإظهار المعجزات أنه شاهد بصحته علم أن الملائكة يشهدون بصحة ما شهد بصحته ؛ لأنّ شهادتهم تبع لشهادته. فإن قلت : ما معنى قوله (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) وما موقعه من الجملة التي قبله؟ قلت : معناه أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة ، وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة. وقيل : أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه. وقيل : أنزله مما علم من مصالح العباد مشتملا عليه. ويحتمل : أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة ، والملائكة يشهدون بذلك ، كما قال في آخر سورة الجنّ. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) والإحاطة بمعنى العلم (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) وإن لم يشهد غيره ، لأنّ التصديق بالمعجزة هو الشهادة حقاً (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(١٦٩)

(كَفَرُوا وَظَلَمُوا) جمعوا بين الكفر والمعاصي (٢) ، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت الاستدراك لا بد له من مستدرك ... الخ» قال أحمد : ورود هذا الفصل في كلامه مما يغتبط به.

(٢) قال محمود : «أى جمعوا بين الكفر والمعاصي ... الخ» قال أحمد : يعدل من الظاهر ، لعله يتروح إلى بث طرف من العقيدة الفاسدة في وجوب وعيد العصاة ، وأنهم مخلدون تخليد الكفار. وقد تكرر ذلك منه. وهذه الآية تنبو عن هذا المعتقد ، فانه جعل الفعلين أعنى الكفر والظلم كليهما صلة للموصول المجموع ، فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده. ألا تراك إذا قلت : الزيدون قاموا ، فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع ، فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة ، والله الموفق.

٥٩٢

أصحاب كبائر ، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما (١) إلا بالتوبة (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم. أو لا يهديهم يوم القيامة طريقا إلا طريقها (يَسِيراً) أى لا صارف له عنه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١)

(فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) وكذلك (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) انتصابه بمضمر ، وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث ، علم أنه يحملهم على أمر فقال : (خَيْراً لَكُمْ) أى اقصدوا ، أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث. وهو الإيمان والتوحيد (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) غلت اليهود في حط المسيح عن منزلته ، حيث جعلته مولودا لغير رشدة (٢). وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلها (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وهو تنزيهه عن الشريك والولد. وقرأ جعفر بن محمد (إِنَّمَا الْمَسِيحُ) بوزن السكيت. وقيل لعيسى (كلمة الله) (وكلمة منه) لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير ، من غير واسطة أب ولا نطفة. وقيل له : روح الله ، وروح منه ، لذلك ، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذى روح ، كالنطفة المنفصلة من الأب الحىّ وإنما اخترع اختراعا من عند الله وقدرته خالصة. ومعنى (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أوصلها إليها وحصلها فيها (ثَلاثَةٌ) خبر مبتدإ محذوف ، فإن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون : هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم ، أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس. وأنهم يريدون بأقنوم الأب : الذات ، وبأقنوم الابن : العلم ، وبأقنوم روح القدس : الحياة ، فتقديره الله ثلاثة ؛ وإلا فتقديره : الآلهة ثلاثة. والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح

__________________

(١) قوله «في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فقد تغفر الكبيرة بالشفاعة ، أو بمجرد الفضل. (ع)

(٢) قوله «مولودا لغير رشدة» أى لزنية ، وفي الصحاح : تقول «هو لرشدة» خلاف قولك «لزنية». (ع)

٥٩٣

ومريم ثلاثة آلهة ، وأنّ المسيح ولد الله من مريم. ألا ترى إلى قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون : في المسيح لاهوتية وناسوتية من جهة الأب والأم. ويدل عليه قوله : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) فأثبت أنه ولد لمريم اتصل بها اتصال الأولاد بأمّهاتها ، وأن اتصاله بالله تعالى من حيث أنه رسوله ، وأنه موجود بأمره وابتداعه جسدا حيا من غير أب ، فنفى أن يتصل به اتصال الأبناء بالآباء. وقوله : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) وحكاية الله أوثق من حكاية غيره. ومعنى (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) سبحه تسبيحا من أن يكون له ولد. وقرأ الحسن : إن يكون ، بكسر الهمزة ورفع النون : أى سبحانه ما يكون له ولد. على أنّ الكلام جملتان (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بيان لتنزهه عما نسب إليه ، يعنى أنّ كل ما فيهما خلقه وملكه ، فكيف يكون بعض ملكه جزأ منه ، على أن الجزء إنما يصح في الأجسام وهو متعال عن صفات الأجسام والأعراض (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) يكل إليه الخلق كلهم أمورهم ، فهو الغنى عنهم وهم الفقراء إليه.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً)(١٧٢)

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة (١) من نكفت الدمع. إذا

__________________

(١) قال محمود معناه لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة ... الخ قال أحمد : وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة ، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء. وذهب القاضي أبو بكر منا والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة ، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري. ونحن بعون الله نشبع القول في المسألة من حيث الآية فنقول : أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة : أحدها : أن سيدنا محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام ، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح أن تكون أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام ، وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة ، وبين طائفتنا في هذا الطرف خلاف. السؤال الثاني : أن قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة ، فهذا يقتضى كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح ، ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح. وفي هذا السؤال أيضاً نظر ؛ لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال : يلزم القول بأنه أفضل من الكل ، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء كان أفضل من كلهم ، ولم يفرق بين التفضيل على التفصيل والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى. وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين وادعى أنه لا يلزم منه على التفصيل تفضيل على الجملة ، ولم يثبت عنه هذا القول. ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف ، وهو أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة. والأحاديث متوافرة بذلك. وحينئذ لا يخلو ، إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم ، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه. لا سبيل إلى الأول ، لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل ، فتعين الثاني – وهو ارتفاع ـ

٥٩٤

نحيته عن خدك بإصبعك (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً

__________________

ـ درجة الأفضل على درجات المجموع ـ ضرورة ، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعاً.

الثالث أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو ، وهي لا تقتضي ترتيبا. وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبداً يكون أعلى رتبة ، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك ، كقول القائل : ما عابنى على هذا الأمر زيد ولا عمرو. قلت : وكقولك : لا تؤذ مسلما ولا ذميا ، فان هذا الترتيب وجه الكلام. والثاني أدنى وأخفض درجة ، ولو ذهبت تعكس هذا فقلت : لا تؤذ ذميا ولا مسلما ليجعل الأعلى ثانياً ، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة. وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر ، ولكن الحق أولى من المراء ، وليس بين المثالين تعارض. ونحن نمهد تمهيداً يرفع اللبس ويكشف الغطاء فنقول : النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة ، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى ، وفي مواضع تأخيره. وتلك النكتة مقتضى البلاغة النائى عن التكرار والسلامة عن النزول ، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله ، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده ، وأنت مستغن عن الآخر ، فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول ، مثاله الآية المذكورة ، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة ، لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه ؛ لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبداً لله غير مستنكف من العبودية ، لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبداً لله وهم الملائكة على هذا التقدير ، فلم يتجدد إذاً بقوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) إلا ما سلف أول الكلام. وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة ، فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبداً له ، إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك ، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل ، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة ، إذ لم يستلزم الأول الآخر ، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد ، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز ، لأنه الغاية في البلاغة. وبهذه النكتة يجب أن تقول لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً ، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية ؛ لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم ، فقد يقال : ذاك من خواصه ، احتراما للإسلام. فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية ، فإذا قلت : ولا ذمياً ، فقد جددت فائدة لم تكن في الأول ، وترقيت من النهى عن بعض أنواع الأذى إلى النهى عن أكثر منه ، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية فقلت : لا تؤذ ذمياً ، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهى ، إذ يساوى الذمي في سبب الاحترام وهو الانسانية مثلا ، ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام ، فيقنعه هذا النهى عن تجديد نهى آخر عن أذى المسلم. فان قلت : ولا مسلماً ، لم تحدد له فائدة ولم تعلمه غير ما علمه أولا ، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحياناً تأخيره ، ولا يميز لك ذلك إلا السياق. وما أشك أن سياق الآية يقتضى تقديم الأدنى وتأخير الأعلى. ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقدير الأدنى ، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهيا عن أعلى من التأفيف والأنهار ، لأنه مستغنى عنه وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهداً سواها (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ولما اقتضى الانصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة ، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك ، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف. وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار. قال : وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية ؛ لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام ، مستندين إلى كونه أحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة ، فناسب ذلك أن يقال : هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق

٥٩٥

وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش ، كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، ومن في طبقتهم. فإن قلت : من أين دلّ قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على أنّ المعنى : ولا من فوقه؟ قلت : من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضى غير ذلك. وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوّهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية ، فوجب أن يقال لهم : لن يترفع عيسى عن العبودية ، ولا من هو أرفع منه درجة ، كأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقرّبون من العبودية ، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة ، تخصيص المقرّبين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة. ومثاله قول القائل :

وَمَا مِثْلُهُ مِمَّنْ يُجَاوِدُ حَاتِمٌ

وَلَا الْبَحْرُ ذُو الْأَمْوَاجِ يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ (١)

لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذى الأمواج : ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) حتى يعترف بالفرق البين. وقرأ علىّ رضى الله عنه : عُبيداً لله ، على التصغير. وروى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم :

__________________

ـ لا يستنكف عن عبادة الله تعالى ، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثاراً كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام ، وقد بلغ من قوته وإقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلب عاليها سافلها ، فيكون تفضيل الملائكة إذاً بهذا الاعتبار ، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش ، وأن خوارقهم أكثر. وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء. وليس في الآية عليه دليل. ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقا أى موجوداً من غير أب ، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله ، بل ولا الملائكة المخلوقين من غير أب ولا أم ، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى. ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام ، فنظر الغريب بالأغرب ، وشبه العجيب من قدرتهبالأعجب ؛ إذ عيسى مخلوق من أم ، وآدم من غير أم ولا أب ؛ ولذلك قال : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها ، فمتى استقام اشتمال المذكور أياما على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأى طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد ، فقد استد النظر وطابق صيغة الآية ، والله أعلم. وعلى الجملة فالمسألة سمعية والقطع فيها معروف بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وما أحسن تأكيد الزمخشري لاستدلاله ببعث الملائكة المعنيين بأنهم المقربون ، ومن ثم ينشئ ظهور من فصل القول في الملائكة والأنبياء ، فلم يعمم التفضيل في الملائكة ولا في الأنبياء ، بل فضل ثم فصل. وليس الغرض إلا ذكر محامل الآية ، لا البحث في اختلاف المذاهب ، والله الموفق.

(١) «يلتج» أى تضطرب لجته وهي معظم مائه. و «الزاخر» المرتفع. يقول : وليس مثل ممدوحى من الناس الذين يجاودهم حاتم ، ولا من الذين يجاودهم البحر الزاخر ، أى يضاهيهم في الجود. فالبحر : عطف على «حاتم» بالغ في وصف ممدوحه بأن مثله لا يضاهي في الكرم ، فيلزم أنه هو لا يضاهي أيضا ، فنفى المضاهاة عن المثل كناية عن نفيها عن الممدوح. وفيه مبالغة أيضا من جهة ترقيه من نفى مجاودة أكرم الناس إلى نفى مجاودة أنفع الأشياء. والفعل بالنسبة للبحر مجاز أو مشاكلة. أو شبه البحر بإنسان وأثبت له المجاورة على طريق المكنية وهذا على أن «يجاود» مبنى للفاعل ، فان كان مبنيا للمجهول فالمعنى أن حاتم ليس مثله ممن يضاهي في الجود ، كما أن البحر لا يضاهي في النفع. فقد شبهه بالبحر ضمنا.

٥٩٦

لم تعيب صاحبنا؟ قال : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى. قال : وأى شيء أقول؟ قالوا : تقول : إنه عبد الله ورسوله. قال : إنه ليس بعار (١) أن يكون عبداً لله. قالوا : بلى ، فنزلت : أى لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه ، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأنّ العار ألصق به. فإن قلت : علام عطف قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ)؟ قلت : لا يخلو إمّا أن يعطف على المسيح ، أو على اسم «يكون» أو على المستتر في : (عَبْداً) لما فيه من معنى الوصف ، لدلالته على معنى العبادة ، كقولك : مررت برجل عبد أبوه ، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض ، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية ، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه. فإن قلت : قد جعلت الملائكة وهم جماعة عبداً لله في هذا العطف ، فما وجهه؟ قلت : فيها وجهان : أحدهما أن يراد : ولا كل واحد من الملائكة أو ولا الملائكة المقرّبون أن يكونوا عباداً لله ، فحذف ذلك لدلالة (عبد الله) عليه إيجازاً. وأمّا إذا عطفتهم على الضمير في : (عَبْداً) فقد طاح هذا السؤال. قرئ (فَسَيَحْشُرُهُمْ) بضم الشين وكسرها وبالنون.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً)(١٧٥)

فإن قلت : التفصيل غير مطابق للمفصل (٢) ؛ لأنه اشتمل على الفريقين ، والمفصل على فريق واحد. قلت : هو مثل قولك : جمع الإمام الخوارج ، فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ، ومن خرج عليه نكل به ، وصحة ذلك لوجهين ، أحدهما : أن يحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه ،

__________________

(١) أخرجه الواحدي في الأسباب عن ابن الكلبي.

(٢) قال محمود : «إن قلت التفصيل غير مطابق للمفصل ... الخ» قال أحمد : المراد بالمفصل : من لم يستنكف ومن استنكف ؛ لسبق ذكرهما. ألا ترى أن المسيح والملائكة المقربين ومن دونهم من عباد الله لم يستنكفوا عن عبادة الله وقد جرى ذكرهم. ويرشد إليه تأكيد الضمير بقوله : (جَمِيعاً) فكأنه قال فسيحشر إليه المقربين وغيرهم جميعاً. ووقوع الفعل المتصل به الضمير جزاء لقوله : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ) لا يعين اختصاص الضمير بالمستنكفين ؛ لأن المصحح لارتباط الكلام قد وجد مندرجا في طى هذا الضمير الشامل لهم ولغيرهم. وحينئذ يكون المفصل مشتملا على الفريقين ، وتفصيله منطبق عليه ، والله أعلم.

٥٩٧

ولأنّ ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني ، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) والثاني ، وهو أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم ، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ، فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله. البرهان والنور المبين : القرآن. أو أراد بالبرهان دين الحق أو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالنور المبين : ما يبينه ويصدقه من الكتاب المعجز (فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) في ثواب مستحق وتفضل (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) إلى عبادته (صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو طريق الإسلام. والمعنى : توفيقهم وتثبيتهم.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٧٦)

روى أنه آخر ما نزل من الأحكام (١). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع ، فأتاه جابر بن عبد الله فقال : إنّ لي أختا ، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ (٢) وقيل : كان مريضا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنى كلالة فكيف أصنع في مالى؟ (٣) فنزلت (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر. ومحل (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) الرفع على الصفة لا النصب على الحال. أى : إن هلك امرؤ غير ذى ولد. والمراد بالولد الابن وهو اسم مشترك يجوز إيقاعه على الذكر وعلى الأنثى ؛ لأن الابن يسقط الأخت ، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس ، وبالأخت التي هي لأب وأم دون التي لأم ، لأنّ الله تعالى فرض لها النصف وجعل أخاها عصبة وقال (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وأما الأخت للأم فلها السدس

__________________

(١) قوله «روى أنه آخر ما نزل من الأحكام» أى قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ ...) الخ. (ع)

(٢) أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس.

(٣) متفق عليه من رواية ابن المنذر عنه. وأخرجه أصحاب السنن ، لكن ليس في رواية أحد منهم فنزلت (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) إلا عند مسلم ، من رواية ابن عيينة عنه بلفظ فنزلت (يَسْتَفْتُونَكَ) ـ الآية (فائدة) روى النسائي من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ـ الآية وفي البخاري من رواية الشعبي عن ابن عباس «آخر آية نزلت آية الزنا» وروى الطبري من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس عن أبى بن كعب قال : آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ـ الآية.

٥٩٨

في آية المواريث مسوّى بينها وبين أخيها (وَهُوَ يَرِثُها) وأخوها يرثها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أى ابن ؛ لأن الأبن يسقط الأخ دون البنت. فإن قلت : الابن لا يسقط الأخ وحده فإن الأب نظيره في الإسقاط ، فلم اقتصر على نفى الولد؟ قلت : بين حكم انتفاء الولد ، ووكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة ، وهو قوله عليه السلام «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» (١) والأب أولى من الأخ ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة. ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد ، لأن الولد أقرب إلى الميت من الوالد ، فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب ، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد : ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعا ، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالا على انتفاء الآخر. فإن قلت : إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع (٢) في قوله (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) وإن كانوا إخوة؟ قلت : أصله : فان كان من يرث بالأخوة اثنتين ، وإن كان من يرث بالأخوة ذكوراً وإناثاً : وإنما قيل : فان كانتا ، وإن كانوا ، كما قيل : من كانت أمّك. فكما أنت ضمير «من» لمكان تأنيث الخبر ، كذلك ثنى وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا ، لمكان تثنية الخبر وجمعه ، والمراد بالإخوة. الإخوة لا الأخوات ، تغليباً لحكم الذكورة (أَنْ تَضِلُّوا) مفعول له. ومعناه : كراهة أن تضلوا. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدّق على كل مؤمن ومؤمنة ورث ميراثاً ، وأعطى من الأجر كمن اشترى محرّراً ، وبريء من الشرك وكان في مشيئة الله من الذين يتجاوز عنهم (٣).

__________________

(١) متفق عليه ، من حديث ابن عباس بلفظ «فلأولى رجل ذكر» وأخرجه كذلك الترمذي والحاكم وأبو يعلى والبزار (فائدة) قال ابن الجوزي : لفظ «عصبة» لا يحفظ في هذا الحديث

(٢) قال محمود : «إن قلت إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع ... الخ»؟ قال أحمد : وقد سبق له هذا التمثيل في مثل هذا الموضع ولو مثل بقول القائل : حصان كانت دابتك ، لكان أسلم إذ في لفظ «من» من الإبهام ما يسوغ وقوعها على الأصناف المختلفة من مذكر ومؤنث وتثنية وجمع. ومثل الآية سواء قوله تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) فيمن جعل الجملة مفعولا ثانياً للحسبان ، فان أصل الكلام : هي العدو ، إذ الضمير على هذا الاعراب للصيحة ، ولكنه ذكره وجمعه لمكان الخبر ، والله أعلم.

(٣) تقدم الكلام على أسانيده في آخر سورة آل عمران.

٥٩٩

سورة المائدة

مدنية [إلا آية ٣ فنزلت بعرفات في حجة الوداع]

وهي مائة وعشرون آية [نزلت بعد الفتح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)(١)

يقال وفى بالعهد وأوفى به (١) ومنه : والموفون بعهدهم. والعقد : العهد الموثق ، شبه بعقد الحبل ونحوه ، قال الحطيئة :

قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمِ

شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا (٢)

وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. وقيل : هي ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات ويتحالفون عليه ويتماسحون من المبايعات ونحوها. والظاهر

__________________

(١) قال المصنف : «يقال وفي بالعهد وأوفى به ومنه الموفون بعهدهم» قال أحمد : ورد في الكتاب العزيز (وَفَّى) بالتضعيف في قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وورود أو في كثير. ومنه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وأما (وفى) ثلاثيا فلم يرد إلا في قوله تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) لأنه بنى أفعل التفضيل من وفي ، إذ لا يبنى إلا من ثلاثي

(٢) قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم

شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم

ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا

للحطيئة. والعناج ـ ككتاب ـ : حبل يشد في أسفل الدلو ، ثم في العراقي جمع عرقوة ، وهي الخشبة التي في فم الدلو. والكرب ـ كسبب ـ : حبل يشد على طرف العرقوة والعناج ليربطهما. وهذا استعارة تمثيلية شبه حالهم في توثيقهم العهد بوجوه متعددة بحال من يوثق الدلو بحبال متعددة. أو شبه حال عهدهم في وثاقته الزائدة بحال الدلو الموثقة «وأنف الناقة» لقب جعفر بن قريع ، ذبح والده ناقة لنسائه فأرسلته أمه ليأخذ نصيبها فلم يجد إلا الرأس ، فقال والده : عليك به ، فجعل يجره من الأنف فلقب بذلك ، فكانت قبيلته تأنف من ذلك اللقب ، فاستعار الشاعر الأنف : للخيار العالين المقدار على طريق التصريح. أو شبه القوم به تشبيها بليغاً ، وشبه غيرهم بالذنب في الخسة والضعة. والاستفهام إنكارى ، أى لا أحد يسوى بين الأنف والذنب في الدفعة ، فصار هذا اللقب مدحا من حينئذ. وفيه تورية في غاية الحسن.

٦٠٠