الكشّاف - ج ١

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ١

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٩

أنهم قالوا : لو اشترى الرجل ما لا يساوى إلا درهما بدرهمين جاز ، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين؟ قلت : جيء به على طريق المبالغة ، وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع. وقوله (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إنكار لتسويتهم بينهما ، ودلالة على أنّ القياس يهدمه النص ، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهى عن الربا (فَانْتَهى) فتبع النهى وامتنع (فَلَهُ ما سَلَفَ) فلا يؤخذ بما مضى منه ، لأنه أخذ قبل نزول التحريم (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يحكم في شأنه يوم القيامة ، وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به (وَمَنْ عادَ) إلى الربا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وهذا دليل بين (١) على تخليد الفساق (٢). وذكر فعل الموعظة لأنّ تأنيثها غير حقيقى ، ولأنها في معنى الوعظ. وقرأ أبىٌّ والحسن : فمن جاءته. (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعود رضى الله عنه : الربا وإن كثر إلى قلّ. (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) ما يتصدّق به بأن يضاعف عليه الثواب ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه. وفي الحديث «ما نقصت زكاة من مال قط» (٣) (كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار لا من فعل المسلمين.

__________________

ـ إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره ، وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح وإن كان قياسا فاسد الوضع ، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم الله أيضا في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما ، ولكن إذا استعملت الطريقتين المذكورتين استعمالا صحيحاً فقل في الأولى : النبيذ مثل الخمر في علة التحريم ، وهو الإسكار ، والخمر حرام فالنبيذ حرام. وقل في الثانية : إنما الخمر مثل النبيذ فلو كان النبيذ حلالا لكان الخمر حلالا ، وليست حلالا اتفاقا فالنبيذ كذلك ضرورة المماثلة المذكورة ، فهذا التوجيه أولى أن تحمل الآية عليه ، والله أعلم.

(١) قوله «على تخليد الفساق» وهو مذهب المعتزلة ولا يخلدون عند أهل السنة كما بين في محله (ع)

(٢) قال محمود رحمه الله : «في هذه الآية دليل على تخليد الفساق ... الخ» قال أحمد رحمه الله : وهو يبنى على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة ، ولا يساعده على ذلك الظاهر الذي استدل به ، فان الذي وقع العود إليه مسكوت عنه في الآية. ألا تراه قال : (وَمَنْ عادَ) فلم يذكر المعود إليه ، فيحمل على ما تقدم كأنه قال : ومن عاد إلى ما سلف ذكره فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، والذي سلف ذكره فعل الربا واعتقاد جوازه ، والاحتجاج عليه بقياسه على البيع. ولا شك عندنا ـ أهل السنة والجماعة ـ أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابراً في تحريمها مسنداً إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات بما يتوهمه من الخيالات فقد كفر ثم ازداد كفراً ، وإذا ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن ، وهذا لا خلاف فيه ، فلا دليل للزمخشري إداً على اعتزاله في هذه الآية ، والله الموفق. وإنما هو موكل بتحميل الآيات من المعتقدات الباطلة ما لا تحتمله ، وأنى له ذلك في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

(٣) من رواية العلاء عن أبيه عن أبى هريرة بلفظ «ما نقصت صدقة من مال ... الحديث» ورواه البزار من هذا الوجه ، فزاد فيه «قط».

٣٢١

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١)

أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا ، فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها. وروى أنها نزلت في ثقيف وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا. وقرأ الحسن رضى الله عنه : ما بقي ، بقلب الياء ألفا على لغة طيئ : وعنه ما بقي بياء ساكنة. ومنه قول جرير :

هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِى لَكُمُو

مَاضِى الْعَزِيمَةِ مَا فِى حُكْمِهِ جَنَفُ (١)

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن صح إيمانكم ، يعنى أنّ دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أمرتم به من ذلك (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به. وقرئ : فآذنوا ، فأعلموا بها غيركم ، وهو من الإذن وهو الاستماع ، لأنه من طرق العلم. وقرأ الحسن : فأيقنوا ، وهو دليل لقراءة العامّة. فإن قلت : هلا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت : كان هذا أبلغ ، لأن المعنى : فأذنوا بنوع من الحرب عظيم عند الله ورسوله. وروى أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يدىْ لنا بحرب الله ورسوله. (وَإِنْ تُبْتُمْ) من الارتباء (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ) المديونين (٢) بطلب الزيادة عليها (وَلا تُظْلَمُونَ) بالنقصان منها. فإن قلت : هذا حكمهم إن تابوا ، فما حكمهم لو لم يتوبوا قلت : قالوا : يكون مالهم فيئا للمسلمين ، وروى المفضل عن عاصم : لا تظلمون ولا تظلمون (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة أو ذو إعسار : وقرأ عثمان رضى الله عنه :

__________________

(١) أى هو المعروف بالعدل. أو هو الخليفة الكامل فارضوا ما رضى لكم من الأحكام. وتسكين آخر «رضى» ونحوه : لغة شاذة. ماضى العزيمة : نافذ الحكم ، ليس في حكمه جنف : أى ميل عن الحق إلى غيره.

(٢) قوله «المديونين بطلب الزيادة» القياس المدينين ، فلعل هذا مسموع شذوذاً ، وسيعبر به فيما بعد أيضا. (ع)

٣٢٢

ذا عسرة على : وإن كان الغريم ذا عسرة. وقرئ : ومن كان ذا عسرة (فَنَظِرَةٌ) أى فالحكم أو فالأمر نظرة وهي الإنظار. وقرئ : فنظرة بسكون الظاء. وقرأ عطاء : فناظره. بمعنى فصاحب الحق ناظره : أى منتظره ، أو صاحب نظرته على طريقة النسب كقولهم : مكان عاشب وباقل ، أى ذو عشب وذو بقل. وعنه : فناظره ، على الأمر بمعنى فسامحه بالنظرة وياسره بها (إِلى مَيْسَرَةٍ) إلى يسار. وقرئ بضم السين ، كمقبرة ومقبرة ومشرقة ومشرقة. وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كقوله :

وَأخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الَّذِى وَعَدُوا (١)

وقوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ). (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ندب إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر من غرمائهم أو ببعضها ، كقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وقيل : أريد بالتصدق الإنظار لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» (٢) (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه خير لكم فتعملوا به ، جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه. وقرئ (تصدّقوا) بتخفيف الصاد على حذف التاء (تُرْجَعُونَ) قرئ على البناء للفاعل والمفعول : وقرئ : يرجعون بالياء على طريقة الالتفات. وقرأ عبد الله : تردّون : وقرأ أبىّ : تصيرون. وعن ابن عباس أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة. وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما. وقيل أحدا وثمانين. وقيل سبعة أيام. وقيل ثلاث ساعات.

__________________

(١) إن الخليط أجدوا البين وانجردوا

وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا

لأبى أمية الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب. وقيل : لزهير. والخليط : المخالط في العشرة ، وهو كالعشير. يقال للواحد والمتعدد. وأجدوا البين : اجتهدوا في الفراق. وانجردوا. مضوا. وعدا الأمر : أصله عدة الأمر ، وأصلها وعد ، فعوضت التاء عن الواو ، ثم حذفت التاء للاضافة كالتنوين على لغة ، واختلف فقيل إنها سماعية. وقيل إنها قياسية. واشتراطهم للحذف عدم اللبس ـ فيمتنع في شجرة زيد للبس بشجر زيد ـ يؤيد كونها قياسية. وفي المراح : أن حذف تاء التعويض جائز هنا اتفاقا. أما عند سيبويه فلأن التعويض عنده من الأمور الجائزة. وأما عند الفراء فلأنه لا يوجب التاء إلا عند عدم الاضافة ، وهي هنا متحققة فتقوم مقام العوض ، وعائد الموصول محذوف ، أى الأمر الذي وعدوه إياك.

(٢) رواه ابن ماجة من رواية الأعمش عن أبى داود نفيع عن بريدة رفعه «من أنظر معسراً كان له بكل يوم صدقة. ومن أنظره بعد حله كان له مثله في كل يوم صدقة» وأبو داود ضعيف وقد اختلف عليه فيه ، فرواه عبد الله ابن نمير عن الأعمش هكذا ، وخالفه أبو بكر بن عياش فرواه عن الأعمش عن أبى داود عن عمران بن حصين ، أخرجه أحمد والطبراني وقد أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني والحاكم والبيهقي في آخر الشعب كلهم من رواية عبد الوارث عن محمد بن جحادة عن ابن بريدة عن أبيه نحوه وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني.

٣٢٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٢٨٣)

(إِذا تَدايَنْتُمْ) إذا داين بعضكم بعضا. يقال : داينت الرجل عاملته (بِدَيْنٍ) معطيا أو آخذا كما تقول : بايعته إذا بعته أو باعك. قال رؤبة :

دَايَنْتُ أرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى

فَمَطَلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا (١)

__________________

(١) لرؤبة. يقول : عاملت محبوبتى أروى بدين لي عليها من لوازم المودة ، فمطلت : أى أخرت بعضا منه وأطالت مدة تأخيره ، وقضت بعضا منه ـ وقوله «والديون تقضى» جملة حالية أو اعتراضية مبينة لظلمها في المطل وأصل المطل : المط والمد.

٣٢٤

والمعنى : إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه. فإن قلت : هلا قيل : إذا تداينتم إلى أجل مسمى (١) وأى حاجة إلى ذكر الدين كما قال : داينت أروى ، ولم يقل : بدين؟ قلت : ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله (فَاكْتُبُوهُ) إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن. ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحالّ. فإن قلت : ما فائدة قوله (مُسَمًّى). قلت : ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد ، أو الدياس ، أو رجوع الحاج ، لم يجز لعدم التسمية. وإنما أمر بكتبة الدين ، لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود ، والأمر للندب. وعن ابن عباس أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الرّبا أباح السلف. وعنه : أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية (٢). (بِالْعَدْلِ) متعلق بكاتب صفة له ، أى كاتب مأمون على ما يكتب ، يكتب بالسوية والاحتياط. لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص. وفيه : أن يكون الكاتب فقيها عالما بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلا بالشرع. وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب ، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها دينا (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى تنكير كاتب (أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير. وقيل هو قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أى ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها. وعن الشعبي : هي فرض كفاية ، وكما علمه الله : يجوز أن يتعلق بأن يكتب ، وبقوله فليكتب. فإن قلت : أى فرق بين الوجهين؟ قلت : إن علقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيدة ، ثم قيل له (فَلْيَكْتُبْ) يعنى فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد ، وإن علقته بقوله فليكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ، ثم أمر بها مقيدة (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) ولا يكن المملى إلا من وجب عليه الحق ، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به. والإملاء والإملال لغتان قد نطق بهما القرآن (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ). (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ) من الحق (شَيْئاً) والبخس : النقص. وقرئ شيا ، بطرح الهمزة : وشيا ، بالتشديد (سَفِيهاً) محجورا عليه لتبذيره

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت هلا قيل إذا تداينتم ... الخ»؟ قال أحمد : الأجل المسمى هو المعلوم انتهاؤه ، ولعلم الانتهاء طرق منها التحديد بنفس الزمان كالسنة والشهر. ومنها التحديد بما يعتاد وقوعه في زمن مخصوص مضبوط بالعرف. كالحصاد ، ومقدم الحاج. وكيفما علم الأجل صح ضربه ، فمن ثم أجاز ملك البيع إلى الحصاد لأنه معلوم عندهم ، ثم المعتبر زمان وقوع هذه المسميات لا نفس وقوعها حتى لو حل زمن قدوم الحاج فمنعه مانع من القدوم مثلا لم يكن به عبرة وحكمنا بحلول أجل الدين ، والله أعلم.

(٢) أخرجه الحاكم من رواية أبى حيان الأعرج عن الأعمش عن ابن عباس ، قال «أشهد أن السلم المضمون إلى أجل مسمى أن الله أجله في الكتاب وأذن فيه» وقرأ هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ).

٣٢٥

وجهله بالتصرف (أَوْ ضَعِيفاً) صبيا أو شيخا مختلا (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعىّ به أو خرس (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) الذي يلي أمره من وصىّ إن كان سفيها أو صبيا ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه. وقوله تعالى (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) فيه أنه غير مستطيع ولكن بغيره ، وهو الذي يترجم عنه (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين (مِنْ رِجالِكُمْ) من رجال المؤمنين. والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام عند عامة العلماء. وعن على رضى الله عنه : لا تجوز شهادة العبد في شيء. وعند شريح وابن سيرين وعثمان البتىّ أنها جائزة ، ويجوز عند أبى حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض على اختلاف الملل (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) فإن لم يكن الشهيدان (رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) فليشهد رجل وامرأتان ، وشهادة النساء مع الرجال مقبولة عند أبى حنيفة فيما عدا الحدود والقصاص (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) ممن تعرفون عدالتهم (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) أن لا تهتدى إحداهما للشهادة بأن تنساها ، من ضل الطريق إذا لم يهتد له. وانتصابه على أنه مفعول له أى إرادة أن تضل. فإن قلت : كيف يكون ضلالها مرادا لله تعالى؟ قلت لما كان الضلال سببا للإذكار ، والإذكار مسببا عنه ، وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما ، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار ، فكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت. ونظيره قولهم : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعه. وقرئ (فَتُذَكِّرَ) بالتخفيف والتشديد ، وهما لغتان. وفتذاكر. وقرأ حمزة : إن تضل إحداهما ، على الشرط. فتذكر : بالرفع والتشديد ، كقوله : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) وقرئ أن تضل إحداهما على البناء للمفعول والتأنيث. ومن بدع التفاسير : فتذكر ، فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا ، يعنى أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر (إِذا ما دُعُوا) ليقيموا الشهادة. وقيل : ليستشهدوا. وقيل لهم شهداء قبل التحمل ، تنزيلا لما يشارف منزلة الكائن. وعن قتادة : كان الرجل يطوف الحواء (١) العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت. كنى بالسأم عن الكسل ، لأنّ الكسل صفة المنافق. ومنه الحديث : لا يقول المؤمن كسلت» (٢) ويجوز أن يراد من كثرت مدايناته ؛ فاحتاج أن يكسب لكل دين صغير أو كبير كتابا ، فربما مل كثرة الكتب. والضمير في (تَكْتُبُوهُ) للدين أو الحق (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) على أى حال كان الحق من صغر أو كبر. ويجوز أن يكون الضمير للكتاب ؛ وأن يكتبوه مختصراً أو مشبعاً لا يخلوا بكتابته (إِلى أَجَلِهِ) إلى وقته الذي اتفق

__________________

(١) قوله «يطوف في الحواء» في الصحاح : الحواء جماعة بيوت من الناس مجتمعة. (ع)

(٢) يأتى في براءة

٣٢٦

الغريمان على تسميته (ذلِكُمْ) إشارة إلى أن تكتبوه ، لأنه في معنى المصدر ، أى ذلكم الكتب (أَقْسَطُ) أعدل من القسط (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) وأعون على إقامة الشهادة (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) وأقرب من انتفاء الريب. فإن قلت : مِمَّ بنى أفعلا التفضيل ، أعنى : أقسط ، وأقوم؟ قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام ، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذى قسط ، وأقوم من قويم. وقرئ : ولا يسأموا أن يكتبوه بالياء فيهما. فإن قلت : ما معنى (تِجارَةً حاضِرَةً) وسواء أكانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة؟ وما معنى إدارتها بينهم؟ قلت. أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال. ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد. والمعنى : إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا بأس أن لا تكتبوه ، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين. وقرئ : تجارة حاضرة بالرفع على كان التامّة. وقيل : هي الناقصة على أنّ الاسم «تجارة حاضرة» والخبر «تديرونها» وبالنصب على : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب :

بَنِى أسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بلَاءَنَا

إذَا كانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا (١)

أى إذا كان اليوم يوما (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ، ناجزا أو كالئا لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز أن يراد : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعنى التجارة الحاضرة ، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة. وعن الحسن : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد. وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل (٢) (وَلا يُضَارَّ) يحتمل البناء للفاعل والمفعول. والدليل عليه قراءة عمر رضى الله عنه : ولا يضارر ، بالإظهار والكسر. وقراءة ابن عباس رضى الله عنه : ولا يضارر ، بالإظهار والفتح. والمعنى نهى الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما. وعن التحريف والزيادة والنقصان ، أو النهى عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم ، ويلزا ، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد (٣). وقرأ الحسن : ولا يضار ، بالكسر (وَإِنْ تَفْعَلُوا) وإن تضارّوا (فَإِنَّهُ) فإنّ الضرار (فُسُوقٌ

__________________

(١) من أبيات الكتاب. والمراد من هذا الاستفهام الوعيد والتهديد وتذكير ما سبق أو التقرير ، أو هل بمعنى قد. والبلاء : الحرب وكل مكروه. أى يا بنى أسد ، هل تعلمون حربنا إذا كان اليوم يوما صاحب كواكب ، فاسم كان محذوف. ويجوز أن اسم كان ضمير البلاء ، ويوما ظرف متعلق بالخبر المحذوف. وكنى بذي الكواكب عن المظلم ، لأن الكواكب المتعددة لا تظهر إلا ليلا ، فالمعنى : إذا كان اليوم يشبه الليل في الظلمة من اشتداد الحرب وإثارة الغبار فيحجب الشمس ، فكأن النجوم ترى فيه. وأقرب من ذلك أنه استعار الكواكب لأطراف الرماح ، وسيوف للمعانها وانتشارها ذلك اليوم كالنجوم على طريق التصريحية ، والأشنع : القبيح.

(٢) قوله «على باقة بقل» حزمة منه. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «مؤنة مجيئه من بلد» لعله من بلد بعيد. (ع)

٣٢٧

بِكُمْ) وقيل : وإن تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه (عَلى سَفَرٍ) مسافرين. وقرأ ابن عباس وأبىّ رضى الله عنهما كتابا. وقال ابن عباس : أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة. وقرأ أبو العالية : كتبا. وقرأ الحسن : كتابا ، جمع كاتب (فرهن) فالذي يستوثق به رهن. وقرئ فرهن بضم الهاء وسكونها ، وهو جمع رهن ، كسقف وسقف. وفرهان. فإن قلت : لم شرط السفر في الارتهان ولا يختص به سفر دون حضر (١) وقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه في غير سفر (٢). قلت : ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة ، ولكن السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد ، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر ، بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد. وعن مجاهد والضحاك أنهما لم يجوّزاه إلا في حال السفر أخذا بظاهر الآية. وأما القبض فلا بدّ من اعتباره(٣). وعند مالك يصح الارتهان

__________________

(١) قال محمود رحمه الله : «إن قلت : لم شرط السفر في الارتهان ولا يختصّ به سفر ... الخ» قال أحمد رحمه الله : فالتخصيص بالسفر على هذا جرى على وفق الغالب فلا مفهوم له. وفي هذه الآية دليل بين لمذهب مالك رضى الله عنه في إقامة الرهن عند التنازع في قدر الدين مقام شاهد للمرتهن إلى تمام قيمته ، حتى لو تنازعا فقال الراهن : رهنتكه بمائة ، وقال المرتهن : بل الرهن بمائتين ، لكان الرهن شاهداً بقيمته. خلافا للشافعي رضى الله عنه فانه يرى القول قول الراهن مطلقاً ، لأنه غارم ، ووجه الدليل لمالك رضى الله عنه من الآية : أن الله تعالى جعل الرهن في التوثق عوضاً من الاشهاد والكتابة ، وخصه بالسفر لإعوازهما حينئذ ، ولو كان القول قول الراهن شرعا لم يكن قائما مقام الاشهاد ولا مفيداً فائدته بوجه ، إذ لو لم يكن الرهن لكان القول قول المديان في قدر الدين فلم يزد وجود الرهن فائدة على عدمه باعتبار نيابته عن الاشهاد ، ولا يقال : إن فائدته الامتياز به على الغرماء ، لأن تلك فائدة الاشهاد حتى يكون نائباً عنه عند تعذره ، ولا فائدة إذ ذاك إلا جعل القول قول المرتهن في قدر الدين عند التخالف وهو مذهب مالك المقدم ذكره. ومن ثم لم يجعله شاهداً إلا في قيمته لا فيما زاد عليها ، معتضداً بالعادة في أن رب الدين لا يقبل في دينه إلا الموفى بقيمته. فدعوه أن الدين أكثر من القيمة مردودة بالعادة ، والمديان أيضاً لا يسمح بتسليم ما قيمته أكثر فيما هو أقل ، فدعواه أن الدين أقل من القيمة مردودة بالعادة ، ولا يبقى إلا النظر في أمر واحد ، وهو أن المعتبر عند مالك في القيمة يوم الحكم ، حتى لو تصادقا على أن القيمة كانت يوم الرهن أكثر أو أقل لم يلتفت إلى ذلك زادت أو نقصت ، وإنما يعتبر يوم القضاء. ولقائل أن يقول : إذا جعلتم الرهن مقام الشاهد عند عدمه لأن العادة تقتضي أن الناس إنما يرهنون في الديون المساوى قيمته لها ، فينبغي أن تعتبروا القيمة يوم الرهن غير معرجين على زيادتها ونقصانها يوم القضاء ، وعند ذلك يتجاذب أطراف الكلام في أن المقتضى لاقامته مقام الشاهد هو المعنى المتقدم أو غيره. وليس غرضنا إلا أن الآية ترشد إلى إقامته مقام الشهادة في الجملة. وأما تفاصيل المسألة فذلك من حظ الفقه.

(٢) منفق عليه من رواية الأسود بن يزيد عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودى طعاما إلى أجل ورهنه درعا من حديد» وللبخاري من رواية قتادة عن أنس. قال «ولقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعا له بالمدينة عند يهودى ، وأخذ منه شعيراً لأهله» اه.

(٣) قال محمود : «وأما القبض فلا بد من اعتباره ... الخ» قال أحمد رحمه الله : ليس بين مالك والشافعي خلاف في صحة الارتهان بالإيجاب والقبول دون القبض ، ولكنه عند مالك رضى الله عنه يصح بذلك ، ويلزم الراهن بالعقد تسليمه للمرتهن. وعند الشافعي لا يلزم بالعقد ولكن للقبض عند مالك اعتبار في الابتداء والدوام ، ولا يشترط ـ

٣٢٨

بالإيجاب والقبول بدون القبض (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين (١) لحسن ظنه به. وقرأ أبىّ : فإن أومن ، أى آمنه الناس (٢) ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن الارتهان من مثله (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه منه وائتمانه له ، وأن يؤدّى إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه. وسمى الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه. والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذال أو ياء ، فتقول : الذي اؤتمن ، أو الذي تمن. وعن عاصم أنه قرأ : الذي اتمن ، بإدغام الياء في التاء ، قياساً على اتسر في الافتعال من اليسر ، وليس بصحيح ، لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة ، فهي في حكم الهمزة و «اتزر» عامىٌّ ، وكذلك ريا في رؤيا (آثِمٌ) خبر إن. و (قَلْبُهُ) رفع بآثم على الفاعلية ، كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه. ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء. وآثم خبر مقدّم ، والجملة خبر إن. فإن قلت : هلا اقتصر على قوله : (فَإِنَّهُ آثِمٌ)؟ وما فائدة ذكر القلب ـ والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ـ؟ قلت : كتمان الشهادة : هو أن يضمرها ولا يتكلم بها ، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه ، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عينى ، ومما سمعته أذنى ، ومما عرفه قلبي ، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء

__________________

ـ الشافعي كثيراً من أحكامه عند مالك ، وذلك أنهما لو تقاررا على القبض ثم قام الغرماء انتفع بالرهن عند الشافعي وامتاز به ، ولم ينتفع به عند مالك وكان أسوة الغرماء فيه ، حتى ينضاف إلى الشهادة عليهما بالقبض معاينة البينة لذلك ، لأنه يتهمهما بالتواطؤ على إسقاط حق الغرماء فلا يعتبر إقرارهما إلا بانضمام المعاينة ، فالقبض من هذا الوجه أدخل في الاعتبار على رأى مالك منه على رأى الشافعي ، هذا في الابتداء. وأما في الدوام فمالك رضى الله عنه يشترط بقاءه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أجره منه أو أعاره إياه إعارة مطلقة فقد خرج من الرهن ، ولو قام الغرماء وهو بيد الراهن بوجه من الوجوه المذكورة كان أسوة الغرماء فيه ، والشافعي رضى الله عنه لا يشترط دوام القبض على هذا الوجه ، بل للراهن عند الشافعي أن ينتفع بالرهن ولو كره المرتهن إذا لم يكن الانتفاع مضراً بالرهن ، كسكنى الدار ، واستخدام العبد. وله أن يستوفى منافعه بنفسه على الصحيح عنده المنصوص عليه في الأم ولا يؤثر ذلك في الرهن بطلانا ولا خللا ، فقد علمت أن القبض أدخل في الاعتبار على مذهب مالك ابتداء ودواماً ، والآية تعضده فان الرهن في اللغة هو الدوام. أنشد أبو على :

فالخبز واللحم لهم راهن

وقهوة راووقها ساكب

ولعل القائل باشتراط دوام الرهن في يد المرتهن تمسك بما في لفظ الرهن من اقتضاء الدوام ، وله في ذلك متمسك. وما طولت في حكاية مذهب مالك في القبض ، إلا لأن المفهوم من كلام الزمخشري إطراح القبض عند مالك لأنه فهم من قول أصحابه أن القبض لا يشترط في صحة الرهن ، ولا في لزومه أنه غير معتبر عنده بالكلية ، والله أعلم ،

(١) قوله «المديونين لحسن ظنه به» لعله مسموع شاذ ، والقياس المدينين ، وكذا المديون قياسه المدين. (ع)

(٢) قوله «أى آمنه الناس» الظاهر أنه من الافعال بالكسر ، لا من المفاعلة ، أى جعل الناس البعض وهو الدائن بحيث يأمن البعض الآخر وهو المدين ، وذلك بأن وصفوا له المدين بالأمانة الخ ، فصار الدائن بحيث يأمن المدين. (ع)

٣٢٩

والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط ، وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه ، واللسان ترجمان عنه. ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر ، وهما من أفعال القلوب ، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى : (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة. وقرئ : قلبه ، بالنصب ، كقوله : (سَفِهَ نَفْسَهُ) وقرأ ابن أبىعبلة : أثم قلبه ، أى جعله آثما (١)

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٨٤)

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) يعنى من السوء يحاسبكم به الله (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمره (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن استوجب العقوبة بالإصرار. ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان : الوساوس وحديث النفس ، لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنه تلاها فقال : لئن آخذنا الله بهذا لنهلكنّ (٢) ، ثم بكى حتى سمع نشيجه (٣) فذكر لابن عباس فقال : يغفر الله لأبى عبد الرحمن ، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد فنزل (لا يُكَلِّفُ اللهُ) وقرئ : فيغفر ويعذب ، مجزومين عطفاً على جواب الشرط ، ومرفوعين على : فهو يغفر ويعذب. فإن قلت : كيف يقرأ الجازم؟ قلت : يظهر الراء ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا. وراويه عن أبى عمرو مخطئ مرّتين ، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم. والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. وقرأ الأعمش : يغفر ، بغير فاء مجزوما على البدل من يحاسبكم ، كقوله :

__________________

(١) قوله «أثم قلبه أى جعله آثما» يحتمل أنه بمد الهمزة من الافعال ، وأنه بتشديد التاء من التفعيل ، فليحرر. (ع)

(٢) أخرجه الطبري من طريق الزهري عن سعيد بن مرجانة عن ابن عمر به. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن ابن عمر

(٣) قوله «حتى سمع نشيجه» في الصحاح : نشج الباكي نشجا ونشيجاً ، إذا غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب. (ع)

٣٣٠

مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِى دِيَارِنَا

تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأجَّجَا (١)

ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، لأنّ التفصيل أوضح من المفصل ، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل أو بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيداً رأسه ، وأحب زيداً عقله. وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٢٨٥)

(وَالْمُؤْمِنُونَ) إن عطف على الرسول كان الضمير ـ الذي التنوين نائب عنه في كل ـ راجعاً إلى الرسول والمؤمنين ، أى كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من المذكورين (٢). ووقف عليه. وإن كان مبتدأ كان الضمير للمؤمنين. ووحد ضمير كل في آمن على معنى : كل واحد منهم آمن ، وكان يجوز أن يجمع ، كقوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ). وقرأ ابن عباس : وكتابه ، يريد القرآن أو الجنس (٣) وعنه : الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت : كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس ـ والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها ـ لم يخرج منه شيء. فأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع (لا نُفَرِّقُ) يقولون لا نفرق. وعن أبى عمرو : يفرق بالياء ، على أن الفعل لكل. وقرأ عبد الله : لا يفرقون. و (أَحَدٍ) في معنى الجمع ، كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) ولذلك دخل عليه بين. (سَمِعْنا) أجبنا (غُفْرانَكَ) منصوب بإضمار فعله. يقال : غفرانك لا كفرانك ، أى نستغفرك ولا نكفرك. وقرئ (وكتبه ورسله) بالسكون.

__________________

(١) «تلمم» بدل مما قبله ، أى متى تنزل عندنا تجدنا موقدين النار بحطب غليظ ، وهذا كناية عن كرمهم. وتأججا : مسند لضمير الحطب والنار ، أى اشتعلا ، واستدل بهما. وإسناده للنار حقيقى ، وللحطب من باب الاسناد للسبب ، فهو مجاز عقلى وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز في الاسناد.

(٢) قوله «ورسله من المذكورين» لعل قبله سقطا تقديره : أى كل من المذكورين. (ع)

(٣) قال محمود : «نقل عن ابن عباس أنه قرأ وكتابه ... الخ» قال أحمد : وقد قال مالك : إن التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور ، فان التمر استرسل على الجنس لا بصيغة لفظية ، والتمور يرده إلى تخيل الوحدان ، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع وفي صيغة الجمع مضطرب. وهذا الكلام من الامام لو ظفر له بقول ابن عباس هذا لأشهر الفرضية في الاستشهاد به على صحة مقالته هذه فلا نعيده.

٣٣١

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٨٦)

الوسع : ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه ، أى لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلى أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة. وقرأ ابن أبى عبلة وسعها بالفتح (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر ، لا يؤاخذ بذنبها غيرها ولا يثاب غيرها بطاعتها. فإن قلت : لم خص الخير بالكسب ، والشر بالاكتساب؟ قلت : في الاكتساب اعتمال ، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمّارة به ، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. أى لا تؤاخذنا بالنسيان أو الخطأ إن فرط منا. فإن قلت : النسيان والخطأ متجاوز عنهما ، فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ (١) قلت : ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال. ألا ترى إلى قوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) والشيطان لا يقدر على فعل النسيان ، وإنما يوسوس فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ، ولأنهم كانوا متقين الله حق تقاته ، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به ، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به ، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. ويجوز أن يدعو الإنسان بما

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت النسيان والخطأ متجاوز عنهما ... الخ» قال أحمد : ولا ورود لهذا السؤال على قواعد أهل السنة ، لأنا نقول : إنما ارتفعت المؤاخذة بهذين بالسمع كقوله عليه الصلاة والسلام : «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان» وإذا كان كذلك فلعل رفع المؤاخذة بهما كان إجابة لهذه الدعوة ، فقد نقل أن الله تعالى قال عند كل دعوة منها : قد فعلت. وإنما التزم الزمخشري ورود السؤال على قواعد القدرية الذاهبين إلى استحالة المؤاخذة بالخطإ والنسيان عقلا ، لأنه من تكليف ما لا يطيق ، وهو المستحيل عندهم تفريعا على قاعدة التحسين والتقبيح ، وكلها قواعد باطلة ومذاهب ماحلة. فالله تعالى يجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب ، ويلهمنا المعتقد الحق والقول المصيب ، إنه سميع مجيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٣٣٢

علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه. والإصر : العبء الذي يأصر حامله أى يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله ، استعير للتكليف الشاقّ ، من نحو قتل الأنفس ، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك. وقرئ : آصاراً على الجمع. وفي قراءة أبىّ : ولا تحمل علينا بالتشديد. فإن قلت : أىّ فرق بين هذه التشديدة والتي في : (وَلا تُحَمِّلْنا)؟ قلت : هذه للمبالغة في حمل عليه ، وتلك لنقل حمله من مفعول واحد إلى مفعولين (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات النازلة بمن قبلنا ، طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم ، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. وقيل : المراد به الشاقّ الذي لا يكاد يستطاع من التكليف. وهذا تكرير لقوله : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً). (مَوْلانا) سيدنا ونحن عبيدك. أو ناصرنا. أو متولى أمورنا (فَانْصُرْنا) فمن حق المولى أن ينصر عبيده. أو فإنّ ذلك عادتك. أو فإنّ ذلك من أمورنا التي عليك توليها. وعن ابن عباس «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات ، قيل له عند كل كلمة : قد فعلت» (١) وعنه عليه السلام «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (٢) وعنه عليه السلام «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهنّ نبىٌّ قبلي» (٣) وعنه عليه السلام «أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» (٤)

__________________

(١) أخرجه مسلم من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما نزلت هذه الآية (إن تبدوا ما في أنفسكم ـ الآية) قال : دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم. فقال : قولوا : سمعنا وأطعنا ـ الحديث ، وفيه : قد فعلت. في مواضع ، وغفل الحاكم فاستدركه.

(٢) متفق عليه من حديث ابن مسعود. واختلف في معناه. فقيل : كفناه ، أجزأتاه عن قيام الليل كما في الذي قبله ، وقيل : كفتاه أجراً وفضلا ، وقيل : كفتاه من كل شيطان أو من كل آفة.

(٣) هذا طرف من حديث ، أوله عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فضلنا على الناس بثلاث: جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً ، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وأوتيت هؤلاء الآيات آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم يعط منه أحد قبلي ، ولا يعطي منه أحد بعدي : أخرجه النسائي وأحمد والبزار وابن أبى شيبة وابن خزيمة وابن حبان من رواية أبى مالك الأشجعى عن ربعي بن خراش عن حذيفة ، وقد أخرجه مسلم ، لكن قال في الثالثة وذكر خصلة أخرى : فأبهمها ، وذكرها أصحاب المستخرجات وغيرهم من طريق شيخه بإسناده فيه ، وغفل الحاكم فذكر في فضائل القرآن في المستدرك : ان مسلما أخرج هذه الجملة ، ولعل مسلما إنما أبهمها للاختلاف على ربعي فيها ، فقد رواه أحمد وإسحاق من رواية جرير عن منصور عن ربعي عن خراش عن زيد بن ظبيان عن أبى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لكن تابع أبا مالك نعيم بن أبى هند ، أخرجه الطبراني في الأوسط في المحمدين منه من طريقه.

(٤) أخرجه ابن عدى من حديث ابن مسعود ، وفي إسناده الوليد بن عباد وهو مجهول عن أبان بن أبى عياش. وهو متروك.

٣٣٣

فإن قلت : هل يجوز أن يقال : قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة. قلت : لا بأس بذلك. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم «من آخر سورة البقرة» و «خواتيم سورة البقرة» و «خواتيم البقرة(١).

وعن علىّ رضى الله عنه «خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش».

وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنهما أنه رمى الجمرة ثم قال «من هاهنا ـ والذي لا إله غيره ـ رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة» (٢).

ولا فرق بين هذا وبين قولك سورة الزخرف وسورة الممتحنة وسورة المجادلة. وإذا قيل : قرأت البقرة ، لم يشكل أنّ المراد سورة البقرة كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). وعن بعضهم أنه كره ذلك وقال : يقال قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإنّ تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة. قيل : وما البطلة؟ قال : السحرة» (٣)

__________________

(١) تقدما جميعا قريبا ، ولمسلم من حديث مرة بن شراحيل الطبيب عن ابن مسعود : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : الصلوات الخمس ، وخواتيم سورة البقرة ـ الحديث. وله عن ابن عباس : بينما جبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزل ملك ـ الحديث وفيه : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.

(٢) متفق عليه من رواية الأعمش : سمعت الحجاج بن يوسف على المنبر يقول : السورة التي يذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها آل عمران. والسورة التي يذكر فيها النساء. قال : فذكرته لإبراهيم فقال : حدثني عبد الرحمن ابن يزيد أنه كان مع ابن مسعود حين رمى جمرة العقبة ... الحديث.

(٣) ذكر أبو شجاع الديلمي في الفردوس. من حديث أبى سعيد الخدري : والمسألة في صحيح مسلم من حديث أبى أمامة مرفوعا : اقرأوا سورة البقرة فان أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة. قال معاوية أحد رواته :

المعنى أن البطلة السحرة. وفي الباب عن بريدة عند الثعلبي والبغوي.

(تنبيه) المصنف ذكر حديث أبى سعيد مستدلا به ان قال : السورة التي يذكر فيها كذا. ولما قبله على الجواز.

فانه من المرفوع ما رواه الطبراني في الأوسط في المحمدين وابن مردويه في تفسيره من حديث موسى بن أنس بن مالك عن أبيه رفعه : «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ، وكذا القرآن كله ، ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة والتي يذكر فيها آل عمران» وكذا القرآن كله ، وفي إسناد عيسى بن ميمون أبو سلمة الخواص ، وهو ساقط.

٣٣٤

سورة آل عمران

مدنية وهي مائتا آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)(٤)

(م) حقها أن يوقف عليها كما وقف على ألف ولام ، وأن يبدأ ما بعدها كما تقول : واحد اثنان : وهي قراءة عاصم. وأما فتحها فهي حركة الهمزة ألقيت عليها حين أسقطت للتخفيف. فإن قلت: كيف جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام فلا تثبت حركتها لأنّ ثبات حركتها كثباتها؟ قلت : هذا ليس بدرج ، لأنّ (م) في حكم الوقف والسكون والهمزة في حكم الثابت. وإنما حذفت تخفيفاً وألقيت حركتها على الساكن قبلها ليدل عليها. ونظيره قولهم : واحد اثنان ، بإلقاء حركة الهمزة على الدال. فإن قلت : هلا زعمت أنها حركة لالتقاء الساكنين؟ قلت : لأنّ التقاء الساكنين لا يبالى به في باب الوقف ، وذلك قولك : هذا إبراهيم وداود وإسحاق. ولو كان التقاء الساكنين في حال الوقف يوجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم ، لالتقاء الساكنين. ولما انتظر ساكن آخر. فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم ، لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء اسكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا. قلت : الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن أنه كان يمكنهم أن يقولوا : واحد اثنان ، بسكون الدال مع طرح الهمزة ، فيجمعوا بين ساكنين ، كما قالوا : أصيم ، ومديق. فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وليست لالتقاء الساكنين. فإن قلت : فما وجه قراءة عمرو بن عبيد بالكسر؟ قلت : هذه القراءة على توهم التحريك لالتقاء الساكنين وما هي بمقولة. و (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) اسمان أعجميان. وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل ووزنهما بتفعلة وأفعيل ، إنما يصح بعد كونهما عربيين. وقرأ الحسن : الإنجيل ، بفتح الهمزة ،

٣٣٥

وهو دليل على العجمة ، لأن أفعيل ـ بفتح الهمزة ـ عديم في أوزان العرب. فإن قلت : لم قيل (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) (١) (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)؟ قلت : لأن القرآن نزل منجماً ، ونزل الكتابان جملة. وقرأ الأعمش : نزَل عليك الكتابُ بالتخفيف ورفع الكتاب (هُدىً لِلنَّاسِ) أى لقوم موسى وعيسى. وقال نحن متعبدون بشرائع من قبلنا فسره على العموم. فإن قلت : ما المراد بالفرقان؟ قلت : جنس الكتب السماوية (٢) ، لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل ، أو الكتب التي ذكرها ، كأنه قال بعد ذكر الكتب الثلاثة : وأنزل ما يفرق به بين الحق والباطل من كتبه ، أو من هذه الكتب ، أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور ، كما قال : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) وهو ظاهر. أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس ، تعظيما لشأنه وإظهاراً لفضله (بِآياتِ اللهِ) من كتبه المنزلة وغيرها (ذُو انْتِقامٍ) له انتقام شديد (٣) لا يقدر على مثله منتقم.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٦)

(لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض ، فهو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه (كَيْفَ يَشاءُ) من الصور المختلفة المتفاوتة. وقرأ طاوس : تصوّركم،

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت : لم قيل في القرآن نزل ... الخ» قال أحمد : يريد لأن «فعل» صيغة مبالغة وتكثير ، فلما كان نزول القرآن منجما كان أكثر تنزيلا من غيره لتفرقه في مرار عديدة ، فعبر عنه بصيغة مطابقة لكثرة تنزيلاته ، وعبر عن الكتابين بصيغة خلية عن المبالغة والتكثير والله أعلم.

(٢) (عاد كلامه) قال : والفرقان يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل ، أو الكتب التي ذكرها أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور. كما أفرده وأخر ذكره في قوله : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له ومدح من كونه فارقا بين الحق والباطل ، بعد ما ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه وإظهارا لفضله والله أعلم. قال أحمد : وقد جعل الزمخشري سر التعبير عن نزول القرآن بصيغة «فعل» تفريقه في التنزيل كما تقدم آنفا ، ثم حمل الفرقان على أحد تأويلاته على القرآن والتعبير عنه بأفعل كغيره ، فان يكن هذا ـ والله أعلم ـ فالوجه أنه لما عبر أولا عن نزوله الخاص به ، أتى بعبارة مطابقة لقصد الخصوصية ، فلما جرى ذكره ثانيا لينعت بصفة زائدة على اسم الجنس» عبر عن نزوله من حيث الإطلاق اكتفاء بتميزه أولا وإجمالا لذلك في غير مقصوده ، ومن العبارة السائرة عن هذا المعنى : الكلام يجمل في غير مقصوده ، ويفصل في مقصوده.

(٣) قال محمود : «معناه له انتقام شديد ... الخ». قال أحمد : وإنما يلقى هذا التفخيم من التنكير وهو من علاماته مثله في قوله : (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ).

٣٣٦

أى صوّركم لنفسه ولتعبده ، كقولك : أثلت مالا ، إذا جعلته أثلة ، أى أصلا. وتأثلته ، إذا أثلته لنفسك. وعن سعيد بن جبير : هذا حجاج على من زعم أنّ عيسى كان ربا ، كأنه نبه بكونه مصورا في الرحم ، على أنه عبد كغيره ، وكان يخفى عليه ما لا يخفى على الله.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٧)

(مُحْكَماتٌ) أحكمت عبارتها (١) بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه (مُتَشابِهاتٌ) مشتبهات

__________________

(١) قال محمود : «المحكمات التي أحكمت عبارتها ... الخ» قال أحمد : هذا كما قدمته عنه من تكلفه لتنزيل الآي على وفق ما يعتقده ، وأعوذ بالله من جعل القرآن تبعاً للرأى. وذلك أن معتقده إحالة رؤية الله تعالى بناء على زعم القدرية من أن الرؤية تستلزم الجسمية والجهة ، فإذا ورد عليهم النص القاطع الدال على وقوع الرؤية كقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) مالوا إلى جعله من المتشابه حتى يردوه بزعمهم إلى الآية التي يدعون أن ظاهرها يوافق رأيهم. والآية قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) وغرضنا الآن بيان وجوب الجمع بين الآيتين على الوجه الحق ، فنقول : محمل قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) في دار الدنيا. ومحمل الرؤية على الدار الآخرة جمعا بين الأدلة. أو نقول : الأبصار وإن كانت ظاهرة العموم إلا أن المراد بها الخصوص ، أى لا تدركه أبصار الكفار كقوله : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ونقول : لا تعارض بين الآيتين ، فنقر كل واحدة منها في نصابها. وبيان ذلك : أن الأبصار عام بالألف واللام الجنسيتين ، ولا يتم غرض القدرية على زعمهم إلا بالموافقة على عمومها ، وحينئذ يكون في العموم مرادفة لدخول كل ، لأن كليهما أعنى المعرف والجنسي ، وكلا يفيد الشمول والاحاطة ، وإذا أثبت ذلك فالسلب داخل على الكلية. والقواعد مستقرة على أن سلب الكلية جزئى لغة وتعقلا. ألا ترى أن القائل إذا قال : لا تنفق كل الدراهم ، كان المفهوم من ذلك الاذن في إنفاق البعض والنهى عن إنفاق البعض ، ومن حيث المعقول أن الكلية تسلب بسلب بعض الأفراد ولو واحداً ، وحينئذ يكون مقتضى الآية سلب الرؤية عن بعض الأبصار وثبوتها لبعض الأبصار ، وهذا عين مذهب أهل السنة ، لأنهم يثبتونها للموحدين ويسلبونها عن الكفار كما أنبأ عنه قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فقد ثبت أن هذه الآية إما محمولة على إثبات الرؤية ، وإما باقية على ظاهرها ، دليلا على ثبوتها على وفق السنة. ولا يقال قد ثبت الفرق بين دخول كل على المعرف تعريف الجنس وبين عدم دخولها. ألا ترى أنهم يقولون إن قولنا : «الإنسان كاتب» مهمل في قوة الجزئية ، وإن قولنا «كل إنسان حيوان» كلى لا جزئى ، لأنا نقول إنما جارينا القدرية على ما يلزمهم الموافقة فيه ، وهم قد وافقوا على تناول الأبصار لكل واحد واحد من أفراد الجنس ، ولو لا ذلك لما تم لهم مرام ، ولكفونا مؤنة البحث في ذلك ، وهذا القدر من الكلية المتفق عليها بين الفريقين لا يثبت لما سماه أهل ذلك الفن مهملا ، بل هذا هو الكلى عندهم والله الموفق. وأما الآيتان الأخريان اللتان إحداهما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) والأخرى التي هي قوله تعالى : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) فلا ينازع الزمخشري في تمثيل المحكم والمتشابه بهما.

٣٣٧

محتملات (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أى أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وتردّ إليها ، ومثال ذلك (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، (لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ). (أَمَرْنا مُتْرَفِيها). فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكما؟ قلت : لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به ، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله ، ولأنّ المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف ، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوّة في إيقانه (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) هم أهل البدع (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) وطلب أن يأوّلوه التأويل الذي يشتهونه (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أى لا يهتدى إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله (١) وعباده الذين رسخوا في العلم ، أى ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع. ومنهم من يقف على قوله إلا الله ، ويبتدئ والراسخون في العلم يقولون. ويفسرون المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، وبمعرفة الحكمة فيه من آياته ، كعدد الزبانية ونحوه : والأوّل هو الوجه. ويقولون : كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أى بالمتشابه (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أى كل واحد منه ومن المحكم من عنده ، أو بالكتاب كل من متشابهه ومحكمه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمّل. ويجوز أن يكون

__________________

(١) قال محمود : معناه لا يهتدى إلى تأويله ... الخ» قال أحمد رحمه الله : وقوله «لا يهتدى إليه إلا الله» عبارة قلقة ، ولم يرد إطلاق الاهتداء على علم الله تعالى ، مع أن في هذه اللفظة إيهاما إذ الاهتداء لا يكون في الإطلاق إلا عن جبل وضلال ـ جل الله وعز ـ حتى إن الكافر إذا أسلم أطلق أهل العرف عليه : فلان المهتدى ، ذلك مقتضى اللغة فيه فانه مطاوع هدى. يقال : هديته فاهتدى ، والإجماع منعقد على أن ما لم يرد إطلاقه وكان موهما لا يجوز إطلاقه على الله عز وجل. ولذا أنكر على القاضي إطلاقه المعرفة على علم الله تعالى حيث حد مطلق العلم بأنه معرفة المعلوم على ما هو عليه. فلأن ينكر على الزمخشري إطلاق الاهتداء على علم الله تعالى أجدر. وما أراها صدرت منه إلا وهما حيث أضاف العلم إلى الله تعالى وإلى الراسخين في العلم ، فأطلق الاهتداء على الراسخين ، أو عقل عن كونه ذكرهم مضائين إلى الله تعالى في الفعل المذكور والله أعلم.

٣٣٨

(يَقُولُونَ) حالا من الراسخين. وقرأ عبد الله : إن تأويله إلا عند الله. وقرأ أبىّ : ويقول الراسخون.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٩)

(لا تُزِغْ قُلُوبَنا) لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا (١) (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) وأرشدتنا لدينك. أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا (مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) من عندك نعمة بالتوفيق والمعونة. وقرئ لا تزغ قلوبنا ، بالتاء والياء ورفع القلوب (جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) أى تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) : وقرئ : جامع الناس ، على الأصل (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) معناه أنّ الإلهية تنافى خلف الميعاد كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله والميعاد : الموعد. قرأ على رضى الله عنه. لن تغنى بسكون الياء ، وهذا من الجدّ في استثقال الحركة على حروف اللين.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢))

(مِنَ) في قوله (مِنَ اللهِ) مثله في قوله : (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) والمعنى : لن تغنى عنهم من رحمة الله أو من طاعة الله (شَيْئاً) أى بدل رحمته وطاعته وبدل الحق : ومنه «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» أى لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بدلك ، أى بدل طاعتك وعبادتك وما عندك

__________________

(١) قال محمود : «معناه ربنا لا تبلنا ببلايا ... الخ» قال أحمد : أما أهل السنة فيدعون الله بهذه الدعوة غير محرفة ، لأنهم يوحدون حق التوحيد ، فيعتقدون أن كل حادث من هدى وزيغ مخلوق لله تعالى. وأما القدرية فعندهم أن الزيغ لا يخلقه الله تعالى وإنما يخلقه العبد لنفسه ، فلا يدعون الله تعالى بهذه الدعوة إلا محرفة إلى غير المراد بها كما أولها المصنف به ، وإن كنا ندعو الله تعالى مضافا إلى هذه الدعوة بأن لا يبتلينا ولا يمنعنا لطفه آمين ، لأن الكل فعله وخلقه ، ولا موجود إلا هو وأفعاله ، التي نحن وأفعالنا منها.

٣٣٩

وفي معناه قوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) وقرئ : وقود ، بالضم بمعنى أهل وقودها. والمراد بالذين كفروا من كفر برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس : هم قريظة والنضير. الدأب : مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله ، والكاف مرفوع المحل تقديره : دأب هؤلاء الكفرة كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم. ويجوز أن ينتصب محل الكاف بلن تغنى ، أو بالوقود. أى لن تغنى عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك أو توقد بهم النار كما توقد بهم ، تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك تريد كظلم أبيك ومثل ما كان يظلمهم ، وإنّ فلانا لمحارف كدأب (١) أبيه ، تريد كما حورف أبوه (كَذَّبُوا بِآياتِنا) تفسير لدأبهم ما فعلوا وفعل بهم ، على أنه جواب سؤال مقدّر عن حالهم (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) هم مشركو مكة (سَتُغْلَبُونَ) يعنى يوم بدر. وقيل : هم اليهود. ولما غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قالوا : هذا والله النبىّ الأمىّ الذي بشرنا به موسى ، وهموا باتباعه. فقال بعضهم لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى ، فلما كان يوم أحد شكوا. وقيل : جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في سوق بنى قينقاع فقال يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش (٢) وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أنى نبى مرسل ، فقالوا لا يغرّنك أنك لقيت قوما أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ، فنزلت وقرئ : سيغلبون ويحشرون ، بالياء ، كقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) على قل لهم قولي لك سيغلبون. فإن قلت : أى فرق بين القراءتين من حيث المعنى؟ قلت : معنى القراءة بالتاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجرى عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم. فهو إخبار بمعنى سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ : ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكى لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه ، كأنه قال : أدّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون.

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(١٣)

__________________

(١) قوله «وإن فلانا لمحارف كدأب أبيه» في الصحاح : رجل محارف ـ بفتح الراء ـ أى محدود محروم ، وهو خلاف قولك : مبارك. (ع)

(٢) أخرجه أبو داود والطبري ، من رواية ابن إسحاق عن محمد بن أبى محمد عن سعيد بن جبير ، وعكرمة عن ابن عباس قال «لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر وقدم المدينة جمع اليهود ـ الحديث»

٣٤٠