رحلة مدام ديولافوا من المحمّرة إلى البصرة وبغداد

ديولافوا

رحلة مدام ديولافوا من المحمّرة إلى البصرة وبغداد

المؤلف:

ديولافوا


المترجم: علي البصري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٣

كوت العمارة لأنه يسعك هناك التصيد بسهولة. ولا سيما أنه بعد ثلاثة أيام ستمر من هذه المدينة سفينة انكليزية اسمها «خليفة» فتستطيع عندئذ أن تقلك إلى بغداد ..

صاح صديقنا الأبله فرحا بهذه النصائح وشكر الكابتن وتركنا في مدينة كوت العمارة إلى غير لقاء! ولكننا لم نكد نبتعد قليلا عنه حتى غاصت سفينتنا ثلاث مرات في الأوحال والطين. إلّا أننا لم نلق صعوبة كثيرة في إخراجها منها ومتابعة سفرها لأنه بمجرّد أن كنا نهبط منها إلى الضفة كان وزنها يخف وتتابع سيرها كالسابق.

ولقد أفدنا ـ أنا وزوجي ـ من هذه الفترات القصيرة التي كانت تتوقف فيها سفينتنا في تلك الأحوال إذ كنا نذهب إلى مضارب العشائر التي كانت في الضفتين ونطلع على نمط حياة أفرادها.

لرجال هذه العشائر سمات خشنة وتبدو عليهم مخايل الوحشية (كذا)! أمّا ألبستهم فبسيطة ساذجة وهي ثوب فضفاض طويل من الصوف بلون البلوط أو بلون أزرق ويغطّون رؤوسهم بمناديل (الكوفية) يمسكها حبل (؟) من صوف الجمال (العقال) وفي أيديهم عصي طويلة يتكئون عليها بغرور وخيلاء!

ولنساء هذه العشائر ذوات اللون الحنطي الرائق صفات الرجال ويشبهن إلى حد كبير هؤلاء الرجال في كثير من المظاهر. فلباسهن يشبه لباسهم ولا يختلفن عنهم إلا بعدة حلقات علقنها بأنوفهن من الفضة .. أو بالخلاخل التي يزين بها أرجلهن ..

٤١

ويخيل إلي أن هذه العشائر متشعبة عن قبيلة بني لام التي عرفت بتربية الجياد العربية الأصيلة وتصديرها إلى الخارج أو عشيرة ألبو محمد التي تقطن في جنوب العمارة ، والتي عرفت بتربية الجواميس أو شمر التي تضرب مضاربها قرب بغداد ويعدون من أشد أعداء الدولة العثمانية الأشداء .. وهذه القبائل معروفة بالشجاعة والبأس وبأنها تعيش على الغارة والسرقة مما يجاورها وأنها لا تجد غضاضة أو مسبة في ذلك بل على العكس قد تحسبه من المفاخر التي تعتد بها ..

يدور لغط في غرفة القيادة الآن ، ذلك لأن سائق السفينة لم يستطع في المرة الثانية التي ارتطمت فيها بالأوحال أن يخرجها دون أن يلحق بالسفينة عطبا حال الآن دون متابعة السير! وفي هذه الفترة التي توقفنا بها شهدنا فصلا ممتعا وقع بين القبطانين القديم والجديد : وأخذ الكابتن دمينيس الشجاع في توضيح الأخطاء التي وقع بها غريمه والأخطار التي تهددنا الآن كالغرق ، ما لم نتدبر الأمر ، وقال إنه لو كان هو قائد السفينة لاستطاع ـ على عطبها ـ لا أن يسيرها بسلام في نهر متلاطم الأمواج بل ليقطع بحر باتاكني (١) على خطورته وثورته دون أن يضطرنا إلى الوقوف ، ثم ظل يتكلم حتى كاد سائق السفينة يخرج من طوره ويقع بينهما ما لا يحمد عقباه .. ولكن الله سلم كما أننا لم يطل وقوفنا كثيرا ولم يقع لسفينتنا أو لنا أي مكروه فتابعنا السير عودا لا نلوي على شيء!!

١٢ ـ ديسمبر :

على رغم المشادة التي وقعت بين صديقنا الكابتن دمينيسي وقائد السفينة فقد أبدى الأخير لطفا وتوددا إلينا ونزل على رغبتنا في التوقف عند طيسفون (المدائن سلمان پاك) لمشاهدة خرائبها. ولقد قطعت السفينة مدة أربع ساعات للوصول إلى شبه الجزيرة التي كانت عاصمة كسرى برويز في حين

__________________

(١) Patagonie يقع في جنوب شيلي والأرجنتين. «المترجم»

٤٢

كان يستطيع أن يقطع طريقه في عشرين دقيقة من خلال البرزخ الذي اعترضنا.

والواقع أنه كانت فرصة سعيدة أن يتاح لنا مشاهدة طاق كسرى والتمتع برؤية هذا القصر الفارسي العظيم.

إن هذه البناية المتصدعة مبنية بالآجر وتقدر مساحة القسم الأول منها ب (٩١) م وارتفاعه (٣٥) م ويتوسطه فناء وسيع مسقف معقود عرضه ٣٥ م وهو أعلى أقسام هذه البناية التاريخية ، وعلى الجانب الأيمن والأيسر من هذا الفناء الوسيع كانت توجد حجر لإقامة الحرس وموظفي البلاط الملكي ، ومن المعلوم أن حجر الحريم لم تكن إلا في القسم الخلفي ، ذلك لأن أكاسرة الساسانيين كانوا يتحاشون أن تكون نساؤهم موضع أنظار الرجال الغرباء. وهذه العادة ما زالت متبعة اليوم في إيران.

قصر طيسفون الملكي يختلف كثيرا عن قصر پرسبليس من حيث الشكل ولكنهما يتشابهان كثيرا من حيث التقسيم إلى قسمين الأول يختص بدوائر

٤٣

البلاط ومحل جلوس الشاه للنظر في شؤون الرعية والثاني لإقامة الشاه الخاصة وما يتبع ذلك من حجر الحريم والخدم والحشم .. هذا ما اعتقدوه ولعلي على صواب!

جانبا القصر متهدمان تماما ولم يبق منهما شيء وبصعوبة يستطيع المرء أن يتمثل الحيطان والأبهاء الضخمة التي كانت تحيط بهذين الجانبين.

أما عمارة الحريم والأبنية الفرعية الأخرى فيظهر أنها كانت مبنية بالآجر والطين كما هو الحال في قصر پرسبليس الذي شاهدناه. ولكن لم يبق من هذه العمارة وتوابعها شيء وهي اليوم تبدو للناظر كأنها كثب من الرمل أو التراب! ولقد أجريت فيها حفريات قليلة غير منظمة دون أن تصل إلى نتيجة أو فائدة تذكر. على أنه عثر فيها على شيء من المسكوكات البارثية وقطع من الخزف. والملحوظة المهمة هنا هي أن المسكوكات الساسانية المعثور عليها كانت أقل مما عثر عليه من المسكوكات البارثية ، وهذا يؤيد رأي بعض المؤرخين

٤٤

القدماء من أن تأسيس هذه المدينة كان بواسطة (واردان)(Vardane) الذي لم يعرف عنه أي شيء ويظن أنه من سلسلة ملوك الاشكانيين.

وليس للقسم الأول هذا من القصر منفذ إلى الخارج ما عدا بابين صغيرين في الطبقة التحتانية وبوابة كبيرة في مقدمة البناية تكون بمثابة المدخل الرئيسي. على أن لهذا القسم أربع طبقات تزين كلّا منها أعمدة صغيرة جميلة ، وهذه تتصل بالطبقة العليا بعضها مع بعض بواسطة حنايا متقاربة ..

ويخيل للمرء أن هذه الأعمدة لم تنشأ إلا للزينة للوهلة الأولى ، إلا أنها في الحقيقة أنشأت لأجل استحكام البناية والثبات إزاء العوارض التي تصيبها كالزلازل وما شابهها.

وتذكر روايات المؤرخين القدامى أن هذه الأعمدة كانت مغطاة بصفحات من الفضة ، غير أنني لا أعتقد ذلك بل ربما كانت صفحات من معدن آخر مطلية بالفضة فقط لا غير .. مثل القبب المطلية في قم والشاه عبد العظيم في إيران اليوم. ولكن من المسلّم على أي حال أن آجر هذه الأعمدة كانت مغطاة بمعدن من معادن الفضة أو ما سواها ، ذلك لأنها غير متناسقة وغير مصقولة.

عند ما يدخل الإنسان في هذا البهو العظيم يؤخذ برهبة منه ، ويستولي عليه العجب العجاب لضخامته وعظمته على رغم مرور تلك العصور المتلاحقة من تاريخ إنشائه. وبعض أجزاء الطاق العلوية قد أصابها التصدع فانهدم ويبدو اليوم على شكل خرابة تقذي البصر!

ويعتقد المسلمون أنه لم يصب الإيوان التصدع إلا في يوم مولد النبي محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وذلك بالاهتزاز الذي تولاه فرحا بهذه المناسبة السعيدة .. على أنه ما زالت أقسام من سليمة لم تمتد إليها يد الهدم ، وما زالت تحتفظ برونقها القديم وشكلها الأول.

يشاهد في هذه الأقسام السليمة أنابيب كثيرة من الفخار ، ويقول العرب إنها كانت تستعمل في إنارة مصابيح البهو الكبير التي كانت تحيله إلى صباح نير في ديجور الليل المظلم! وفي نهاية هذا البهو كانت بوابة تصل القسم الثاني بالأول من القصر وما زال محلها ظاهرا. ولقد كان الشاه يعبر خلالها

٤٥

إلى محل العرش ويجلس على الأريكة للنظر في أمور الرعية وشؤون الامبراطورية!

ومن الطرائف التي تذكر عن هذا القصر أنه كانت تعلق قبالة الطاق ستارة طويلة عريضة ، وعند ما كانت الشمس تبزغ وتصل إلى سمت تعبر أضواؤها خلال الستارة يكون ذلك موعد قدوم الشهنشاه ، فتتخذ الترتيبات اللازمة ويستعد الجميع لاستقباله ، ويشير الشاعر الفارسي المعروف الفردوسي إلى هذا المعنى أيضا فيما يؤثر عنه في الأخبار والأشعار.

وتذكر الروايات أن ستائر أخرى كانت تزين حيطان البهو العظيم وهي مزركشة بالذهب الخالص البرّاق وأن الأعمدة كانت مغطاة بصفحات من الفضة المطلية ، وأرض الفناء قد فرشت بالسجاجيد النفيسة وأقمشة حرير علقت هنا وهناك للزينة أيضا .. وفي صدر المكان كان موضع أريكة العرش المرتفعة المصنوعة من العاج الأبيض الرائق وعندما كان الشاهنشاه يتربع عليها بملابسه الملونة الجميلة يتحلّق حوله أفراد الحاشية الملكية وموظفو البلاط فيضاف إلى روعة المنظر وجلاله!

أمّا في الليل فكانت ثمة ألوف من المصابيح من الفضة والذهب الجميلة معلّقة في سقف البهو وهي تضاهي النجوم بفتنتها وإضاءتها وتحيل المكان إلى نهار مشرق.

ولكن المؤسف أن تقلب الزمان ومرور تلك الأعوام الطويلة وغارات اللصوص ، كل ذلك لم يبق شيئا من نفائس هذا المكان وروعته وعظمته اليوم ، إلّا أن هيكل القصر العام ما زال قائما محافظا على شكله الأول على رغم حملات الروم والعرب والتتر الذين لم يستطيعوا أن يمسوه بسوء ومحاولاتهم المكررة لهدمه ومحوه من وجه الأرض ، وكل ما استطاعوا أن هدموا بعض أقسامه وحملوا نفائسه ومجوهراته وقسما من آجره التي كانت تزينها المعادن المختلفة.

٤٦

١٣ ـ ديسمبر :

عند ما أرتقي السلّم المتهدم للمنائر سواء منها القصيرة أو الطويلة لا يلفت نظري شيء. ذلك لأنه يضيق نفس المرء في تلك الأحوال ويصاب بالزكام. وبعد أن يصعد أربعمائة أو خمسمائة درجة (١) يصل إلى قمة السطح وهناك يتعرّض للهواء البارد ، وفي أقصى درجات الخوف والهلع ينقل بصره في المشاهد التي تترامى أمامه وهي لا تعدو مناظر سطوح الدور التي تعلوها المداخن وقطع من أراض معشوشبة خضر وصحارى رمادية قاحلة يستخفى عندها كل شيء .. ولكم تكون هذه المناظر باعثة على الضجر والقرف لمن أتيح له أن يتمتع بمناظر الجبال الشاهقة والبحار الزرق البعيدة ..

وعلى أي حال وبعد لأي ونصب شديد يهبط المرء ، والشيء الوحيد الذي يسره في تلك الحالة هو أنه استطاع أن يضع رجله على الأرض مرّة ثانية ، ويتخلّص من الكابوس الذي كان جاثما على صدره!!

تذكرت كل ذلك وأنا أرتقي خرائب قصر طيسفون على يدي ورجلي وألقى في ذلك الأمرّين فترحمت على الأتعاب التي كنت ألقاها في صعود تلك المنائر ..

أنا الآن في محل يرتفع عشرين مترا عن سطح الأرض وعلقت نفسي برواق مظلم ليس فيه سوى الخفافيش والطيور أي لا يوجد غير سكنة هذا المكان المقفر من تلك الحيوانات ..

وأخيرا وبتعب شديد استطعت أن أواصل نفسي إلى السطح وأرى هذا القصر التاريخي العظيم من أعلى بعد أن رأيته من أسفل.

من هذا المكان المرتفع أستطيع أن أرى بادية ممتدة يشقها نهر دجلة من الوسط. وبواسطة المنظار الصغير الذي أحمله معي في الرحلات لا أستطيع أن أرى مكان مدينة طيسفون القديمة التي يضرب فيها أفراد من القبائل العربية

__________________

(١) أرادت بالدرجة الآجرة أو الآجرتين. «المترجم»

٤٧

خيامهم المسمرة الآن فحسب بل أرى مقبرة سلمان الفارسي .. كما أستطيع أن أرى على الضفة الأخرى من النهر كثبانا وتلالا هي من بقايا آثار مدينة «سلوقية» المشهورة ، ويخيل إليّ الآن في هذه الحالة أن هاتين المدينتين وأقصد طيسفون وسلوقية كانتا كأختين عاشتا معا بغيرة وحسد وقضيا نحبهما معا أيضا ..

إذا كانت مدينة طيسفون قد أنشئت بأيدي البارثيين أو أنشأها المتأخرون من ملوك الهخامنشيين ولها الحق أن تفتخر بقدمها التاريخي ، فمدينة سلوقية التي وجدت في زمن أولياء الاسكندر استطاعت بمدّة قصيرة أن تنافس غريمتها طيسفون وأن تحتل مكانها بين المدن الفارسية وأن تتقدّم وتترقى يوما بعد آخر على حين ظلّت طيسفون يخيّم عليها الأسى والحزن وتعسكر فيها جيوش «سيت» الغازية.

وأخيرا استطاعت هذه المدينة اليونانية النشأة أن تبز المدن الأخرى المجاورة من حيث الرقي والتقدّم فتمركزت فيها الثروة وأصبحت مركزا من المراكز التجارية المهمة ، كما أن نفوسها أخذت في التزايد حتى أصبحت عدّتها ستمائة ألف نسمة. وفي زمن پلين (Pline) ) كانت المدينة تتمتع بحرية واسعة وكانت العادات والتقاليد الغربية هي السائدة فيها ولم يكن شيء من الروح الشرقية المتوحشة يتحكم في أمور الناس. فلقد كان لها مجلس شيوخ يتكوّن من ثلاثين عضوا ينتخبون من حكماء القوم وسراتهم .. وباختصار أقول إن الشعب كان يشارك في إدارة أموره وكيفية حكمه كما كان فيها جيش يفوق أهالي سلوقية من حيث الحكم والإدارة وانشقوا على أنفسهم طوائف وفرقا ، كل منها تناهض الأخرى حتى انتهى بهم الأمر إلى أن يلوذ زعماء الطوائف

__________________

(١) وهذا أحد علماء الطبيعة القدامى وقد كتب في التاريخ الطبيعي (٣٧) مجلدا وظلّت معلوماته التي ضمنها في تلك المجلدات مما يعتمد عليه عدّة قرون وعند ثورة بركان جبل فيزوف في ايطاليا سنة ٧٩ تلك الثورة التي محت مدن هركولاندم وبمبئ أراد هذا العالم الجليل أن يجري بعض تجاربه العلمية لمعرفة سبب ثورة البراكين وما يمكن من معالجة ، فذهب مع السفن التي كانت تحت إمرته إلى مدينة قريبة من البركان تسمى «استاب» ولكن بعد ساعات من وصوله خنقته أبخرة البركان المتصاعدة وقضت عليه!

٤٨

الضعيفة منهم الى أعدائهم البارثيين الأشداء ليحكموا فيما بينهم من الخلافات والنزاع ، أو لكي يعينوهم على خصومهم السياسيين في الداخل. وكان هذا سببا في تدهور مدينة سلوقية العظيمة رويدا رويدا وانحطاطها وسقوطها ، على أنه في زمن مارك انطونيو (١) أحرق لوسيوس وروس (٢) المدينة ـ على خلاف المعاهدة المعقودة ـ وذلك بعد أن أباح جنده النهب والسلب والقتل .. وأدهى من ذلك أن أهالي المدينة ما كادوا يتجرعون صاب تلك المآسي والمحن حتى دهمهم وباء الطاعون فحصدهم حصدا ، وانقلبت سلوقية من تلك الحالة الزاهرة إلى حال لا تحسد عليها البتة من الفقر والعوز والخراب ولم تستطع أن تقف على رجليها منذ ذلك اليوم.

ولقد تصرّف سورا (٣) بها مدة وفي النهاية ضمّها الاسسانيون إلى امبراطوريتهم فعادت مرّة أخرى إحدى الضواحي التابعة لطيسفون ..

واليوم لم يبق من آثار مدينة سلوقية هذه شيء سوى كثيب من الرمل ، وإن الأراضي الزراعية العامرة التي كانت تحت إمرتها حوّلت إلى مناطق بور أو مستنقعات!!

وعلى أي حال .. بدأت الشمس تجنح إلى المغيب لذلك اضطررنا إلى أن نصرف النظر عن مشاهدة جزئيات آثار طيسفون وتوابعها وأن نعجل في العودة إلى الضفة لنأخذ مكاننا في السفينة كما اتفقنا مع قائدها.

ولقد كانت عودتنا من طريق ضيق شقه اللصوص والسراق إلى هذه الخرائب التاريخية وكان مملوءا بالأشواك وأعشاب الأهوار والمستنقعات ولقينا الأمرّين في العبور خلالها إلى ضفة النهر.

وبمجرّد أن اختفت الشمس وراء الأفق وحرمتنا أشعتها الضعيفة الواهنة

__________________

(١) أحد أصدقاء قيصر الروم المحاربين استطاع أن يفتح فتوحات واسعة ولكنه أخيرا حوصر في الاسكندرية واضطر إلى الانتحار (٨٣ قبل الميلاد).

(٢) أحد قياصرة الروم (١٣٠ ـ ١٦٩).

(٣) امبراطور الروم سنة (٢٠٨ ـ ٢٣٥).

٤٩

وقلبت المكان إلى ظلام ، هبطت درجة الحرارة فجأة ، وبصورة سريعة حتى أخذنا نشعر بالبرد القارس بعد أن كنا نشكو من القيظ!

جلست على الشاطئ أتقبض من البرد وأحاول أن أرى أضواء السفينة ولكن كان ذلك دون جدوى! لقد كانت عيني تعشى ولا تستطيع أن تخترق ظلمة الليل الذي هبط علينا بغتة ، كما كانت أذني قد أصابها الصمم من جرّاء التعب الذي لقيناه خلال جولتنا اليوم. لذا كنت أتمنى أن أصل إلى السفينة بأسرع ما يمكن لآخذ نصيبا من الراحة ولكن التعب كان يشدّني إلى الأرض ولا أرى أثرا لسفينتنا .. وهنا رأيت الكابتن دمينيسي يدور حولنا بضيق ينظر تارة حوالينا بخوف وحذر وتارة يشعل نارا يقربها منا ليخفف من وطأة برودة الجو ولينير أمامنا الطريق لمشاهدة السفينة التي لا ندري ما الذي حصل لها. وأخيرا رأيته يقول وهو يتلفت يمنة ويسرة بما يشبه الهمس :

«أترون هذه النيران المشتعلة في أطرافنا؟ هذه نيران أبناء قبائل هذه المناطق المتوحشة وإذا علموا بمكاننا وبقلّة عددنا فإنه من المؤكد لن يتأخروا عن الإغارة علينا وسلبنا من غير أدنى تردد!!» ثمّ أضاف قائلا : «إنه لم يكد يمضي شهر ـ بعد ـ على سلبهم القنصل البريطاني هنا في هذا المكان بعينه ـ سلبوه بحيث لم يبقوا له إلّا ما كان معه من أوراق وصحف الجرائد. ولقد استطاع ـ من حسن الحظ ـ أن يصنع لنفسه ثوبا رقيقا من صفحات جريدة التايمس ـ بعد أن تركه السراق واللصوص المتوحشون ـ وأن يدخل بغداد بهذا الشكل المضحك المزري!! إلّا أنني لا أعتقد أنهم إذا حملوا علينا ونهبونا أن يكتفوا بذلك ويتركونا لسبيلنا .. لذلك أرى من الحيطة أن نطفئ نيراننا وأن نخفي رمادها في هذه الأوحال كيلا نبقي أثرا يدل علينا .. ينبغي أن نفر سريعا سريعا وأن نصل بأسرع ما يمكن إلى السفينة!! ما دام الأفق بعد لم يظلم ظلاما دامسا فإن على يميننا أرضا صعبة العبور لكثرة ما فيها من أشواك ونباتات برية وعلى يسارنا شاطئ النهر مهدّما أو ان الماء قد غطاه ولا يمكن في هذه الحالة الوصول إلى الضفة ومن ثم إلى السفينة إذا ما هبط الظلام تماما اللهم إلّا عند ما يرتفع القمر إلى كبد السماء فتنير أشعته لنا شعاب الطريق الوعر .. وحتى

٥٠

في هذه الحالة يواجهنا خطر آخر وتقابلنا صعاب غير التي ذكرت ، وأعني أنه ينبغي أن نرمي بأنفسنا في النهر ونذهب إلى السفينة سباحة إذ لم نستطع أن نجد ما يحملنا إليها»!

بعثت كلمات الكابتن في أنفسنا الخوف والرعب فنظرنا إليه مدهوشين مأخوذين ولا سيما أننا لم نملك من السلاح ما ندافع به عن أنفسنا زيادة على التعب والجوع والبرد ، كل ذلك قد أخذ منا مأخذا كبيرا ، لذا كانت كل ثانية تمرّ علينا وكأنها يوم كامل ثقيل ..

أخذنا نتشاور في أسهل وأسرع طريقة نصل بها إلى السفينة ، لنتخلص مما استولى علينا من الخوف الذي أخذ يتزايد ثانية بعد ثانية .. وفي هذه الأثناء ارتفع صوت أمواج ماء النهر يقطع صمت الليل البهيم وبدّد بغير تردّد ركض الكابتن دمينيسي إلى جهة الضفة ورأى قاربا شراعيا قادما من كوت العمارة وهو يعبر خلال هذا الساحل. وهنا تكلّم الكابتن مع ركابه ورجاهم أن يحملونا إلى السفينة وكان ذلك!

وبعد مسيرة ساعة كاملة أخذت مصابيح السفينة تتراءى لنا خافتة واستطاع القارب أن يوصلنا إليها فامتطيناها ونحن بين مصدقين ومكذبين! وما كادت السفينة تسير قليلا حتى غاصت في الأوحال وتوقفت عن الحركة ، ولم يستطع عمالها من تخليصها وتسييرها مرّة أخرى إلّا بعد جهد جهيد بذلوه في عدّة ساعات مضنية! لذلك لم أستطع أن أذهب إلى صالون السفينة إلّا في منتصف الليل. وهذا الصالون هو غرفة النوم وغرفة العمل والأكل والاستراحة لجميع المسافرين!! وعليك بعد الآن أن تقدّر الراحة التي يصيبها راكب مثل هذه السفينة اللعين!!

على أي حال فرشنا سفرة الطعام وازدردنا عدّة لقيمات على مضض ثم تمددنا بقصد الاستراحة نتجاذب أطراف الحديث ولكن لا ذكر عن أفراد القبائل المتوحشين والأثواب التي تصنع من جرائد التايمس. ولقد شكرت الله عدّة مرات لنجاتنا مما كان يتهددنا من تلك الأخطار والمصائب!

وبعد أن أخذنا نصيبنا من الراحة والتقط الكابتن ديمينيسي أنفاسه رأيناه

٥١

يتحامل على نفسه وينادي قائد السفينة ويقول له بشيء من الحدّة : «انني كنت يائسا من العشاء هذه الليلة في السفينة .. ماذا اتفق لكم حتى حال دون مجيئكم إلى الساحل؟

لا شيء.

كيف لا شيء .. ألم نتفق على أن تعودوا إلينا بعد ثلاث ساعات من نزولنا على الشاطئ؟ فما علّة تأخّركم عن ذلك؟

أجاب القائد بعدم مبالاة ، وهو يدير رأسه بقوله : «إنني تأخرت؟! أبدا أبدا .. إنني لم أتأخر. عليك أن تثبت تقصيري.

٥٢

بغداد أجمل من اسلامبول

ودجلة أروع من البسفور

١٤ ـ ديسمبر ١٨٨١ :

عمّال السفينة يروحون ويغدون بعجلة واضطراب في الصالون ، هذا يمسك بأذيال ذلك وهذا يصرخ بأعلى صوته ينادي آخر ..

وهنا يجب عليّ أن أقول إن سفينة «الموصل» لها ميزة أخرى غير التي ذكرتها من قبل وهي أن صالونها لم يكن في الواقع إلّا الممرات الجانبية الضيقة وإن هذا الصالون هو محل راحة المسافرين الوحيد فعليك تقدير ما كنا نحن المساكين فيه ..

ومما يكن من أمر فإننا بلغنا بغداد والسفينة ألقت مرساتها في المحل المعيّن وكان ذلك مع بزوغ الشمس وارتداد جحافل الليل البهيم ، ولقد قمت من النوم استعدادا للهبوط وما كدت أتجاوز الصالون إلى الخارج حتى وجدت على مقدمة السفينة وعلى أقفاص الدجاج ندى متكاثفا يخيّل إلى الرائي أنه بقايا برد متساقط .. ولقد قيل لنا إن هذه هي المرّة الأولى التي يتجمد فيها الماء ويكون ذلك بمثابة إعلان لقدوم فصل الشتاء. بيد أنني كنت فرحة جذلة لا لشيء إلّا أنني نجوت من قضاء مثل هذه الليلة في طيسفون.

الواقع أن مناخ البلدان الشرقية يبعث على العجب والدهش ، حتى الشتاء لا يستطيع أن يلبس الأرض لباس الأسى ، وكل ما يحدث هو أن يتغير منظرها بعض الشيء فقط. ومع أن الهواء بارد فما زالت الأشجار مخضرة ـ كما تبدو وكأن الفصل فصل ربيع لا شتاء!! ها هي أشعة الشمس تملأ السماء رويدا رويدا وتبدو على الساحل الأبنية والقبب المصنوعة من الكاشي بصورة

٥٣

واضحة. والطيور زرافات زرافات تحط على القبب كيما تجفف بأشعة الشمس الأولى أجنحتها المبللة!! والنخيل تتساوق مع المنائر السامقة ومدارس وأبنية الكمرك على مقربة منا وأمامها جمع غفير من اليهود والأرمن والعرب بألبستهم الملوّنة ، وعن كثب تبدو بساتين مزدهرة بينها بناية القنصلية الانكليزية تظهر بشكل أخاذ .. كل هذه المناظر الخلابة كانت غارقة بين طبقات من الضباب والأبخرة المتصاعدة من دجلة ، يخيّل للرائي أن الساحل الأيمن من نهر دجلة أجمل وأن سكنته الذين يعيشون تحت ظلال النخل الوارفة والأشجار المخضرة الأخرى هم أسعد وأكثر راحة ممن سواهم وأن حياتهم التي يقضونها في منازلهم تلك هادئة رضية وأنهم بعد ذلك لا اتصال لهم بالدوائر والمحال التجارية والخانات من قريب ولا بعيد!! ولكن الواقع خلاف ذلك ..

ما إن ملأ الضياء السماء حتى بدا ـ واضحا جليّا عن كثب ـ جسر عائم لم يكن عرضه بمستوى واحد في جميع جهاته كما لم يكن على استقامة

٥٤

واحدة .. ويظهر عليه كتل من الناس بألبستهم المختلفة وهم في حالة رواح ومجيء دون أن يلووا على شيء ، وكأنهم يذهبون إلى دوائرهم الرسمية أو إلى متاجرهم. كما هناك ثمة عدد كبير من النساء ـ يظهرن ـ أيضا بعباءاتهن الحمر أو الزرق أو الخضر. يذهبن ويجئن مع الرجال وهم يرتدون الألبسة البيضاء أو الصفراء كتفا إلى كتف!! وزيادة على كل هؤلاء الناس فثمة حيوانات كقوافل من الجمال والحمير والجياد تعبر على هذا الجسر الذي لا سياج ولا دعائم تمسكه!! وخلاصة القول أن ألبسة هؤلاء الرجال والنسوة الزاهية الملونة بألوان مختلفة كانت تشكل منظرا خلابا وكأني بها قد قبست ـ ألوانها تلك ـ من قوس قزح!!

ليس من الممكن أن نقيس بغداد بإسلامبول ودجلة بالبسفور فلا وجه للمقارنة بين ذلك قط!! إنني لم أر على جسور إسلامبول أو (سر عسكرية) أو (الطوبخانة) مثل هذا المنظر الجميل الذي رأيته اليوم على جسر بغداد! .. لم أر مثل ذلك الجمع الغفير بالملابس الزاهية المختلفة وهم في دأب ونشاط!!

والواقع لم يكن ذلك الازدحام مقصورا على خيط الجسر الذي يبدو من بعيد بل كان أينما وجهت بصري أراه .. هنا في المحل الذي رست فيه سفينتنا وهناك على الضفاف النائية .. ويبدو على هذه الضفاف قوارب كثيرة ربط كل منها بحبل بالأرض الصلبة .. كما أرى في وسط النهر زوارق أخرى بأشكال وأحجام مختلفة وهي في حركة دائبة!! وثمة سفن شراعية تحمل الحبوب والبضائع الأخرى وتصنع مثل هذه السفن ـ في العادة ـ من جذوع النخل (١) وتطلى بطبقة كثيفة من القار من الداخل والخارج ..

إن مثل هذه الوسائط للنقل لا يكلف صنعها مبلغا كبيرا من المال كما أن إصلاحها إذا ما أصابها عطب سهل ميسور وهو أن يتم طليها مرّة أخرى بالقار. وأرى من مكاني هنا عدّة أشخاص منهمكين في صنع واسطة كهذه الوسائط

__________________

(١) غير معروف ولا مشهور أن تصنع السفن الشراعية من الجذوع بل المعروف أنها مصنوعة من ألواح الخشب. «المترجم»

٥٥

النقلية!! كما أرى قسما منها على وشك الانتهاء ، تعالت رؤوسها إلى أعلى وفوق سطحها يذيب العمال القار بواسطة النار ويطلون به جذوع النخل التي صنعت منها السفينة كما نفعل نحن تماما في تبليط شوارع باريس! .. وتستخدم هذه السفن عادة في السفرات الطويلة بين بغداد والبصرة وموضعها تحت الجسر القائم قرب ضفة النهر. أمّا على الجانب الآخر من الجسر فتوجد وسائل للنقل أخرى تسمى «الكلك» وهذه تستخدم في العادة في أعلى النهر لأنها لا تسير إلّا مع مجرى الماء وبمعاونته.

ويصنع «الكلك» هذا من جمع عدد من القرب بعد نفخ الهواء فيها وربط كل منها بالآخر بحبال. وتوضع فوقها ألواح من الخشب وتغطى هذه بطبقة من الأشواك لكي تحفظ البضائع التي توضع فوقها من البلل!

ويقف على جوانب «الكلك» هذا عماله وبأيديهم قطع طويلة من الأخشاب يجذفون بها الماء ليسير بيسر وسهولة مع مجرى النهر نحو بغداد. ومن الممكن أن يحدث ما يمزق بعض هذه القرب في الطريق ولكن مهارة القائمين عليه وشدّة مراسهم يحول دون توقف «الكلك» عن السير أو الغرق!

وما إن يصل هؤلاء (بكلكهم) إلى بغداد ، حتى يبيعوا تلك الأخشاب والأشواك ولا يبقون شيئا سوى القرب فإنهم يفرغونها من الهواء ويحملونها معهم على دواب يستأجرونها إلى بلدهم ليعيدوا الكرة منها إلى بغداد!

أسعار الكلك تتناسب عادة مع عدد القرب التي تستخدم فيه ، يتفق بعض الأحيان أن تستخدم أكثر من ثمانين قربة وفي هذه الحالة يحمل الكلك المسافرين فضلا عن البضائع ولكن بعد أن يرفع عليه قطعة ثخينة من المشمع ليقيهم من عوارض الجو ومن القيظ والقر!!

أما في الحالات التي لا يحمل فيها الكلك شيئا سوى البضائع التجارية كالخراف والدجاج والطيور والفواكه وقوالب الجبن الكبيرة والبرغل التي يطبخ منها أكلة لذيذة ، فلا يستخدم فيه إلّا خمسون قربة كما أنه لا يحتاج إلى قطعة المشمّع!!

٥٦

وتأتي هذه الأكلاك عادة من النواحي البعيدة جدّا التي يكثر فيها الخشب والغابات لأن ذلك من المواد الأولية في صنعها والتي لا توجد منها في بغداد. هذا ما يستخدم في السفرات البعيدة بين الأصقاع الواقعة في الشمال. أمّا ما يستخدم بين العاصمة وضواحيهما والقرى القريبة فبوسيلة أخرى تسمى «القفة» وهذه تكون على شكل دائري مقعر وتصنع عادة من سعف وجذع النخل وذلك بعد أن تطلى بطبقة كثيفة من القار. والقفة يديرها شخصان ويسيرانها بواسطة مجاذيف طويلة يحركانها تارة هنا وأخرى هناك! لذلك هي أقل الوسائط الأخرى سرعة ولكنها آمنها وأكثرها اطمئنانا من التعرّض لأخطار الغرق ، وإن شحنت ببضائع ثقيلة ولم يفصل حافتها عن مستوى الماء إلّا خمسة عشر سنتيمترا فقط .. مع ذلك لا تخترقها قطرة واحدة من مياه النهر! والقفة هذه تكاد تختص بحمل أنواع الفواكه المختلفة مثل الرقي والبطيخ في فصل الصيف إلى بغداد.

٥٧

ولا أدري أين أضع الزوارق التي ذكرها «هردوت» (١) في كتابه التاريخي بين وسائل النقل هذه التي ذكرتها فيما سلف؟

خلال أيام سفرتي من البصرة إلى هنا استطعت أن أجد وقتا أقضيه بالمطالعة وأن ألمّ بطرز الملاحة على أيام البابليين في هذا النهر. ولكم تعجبت من الخطأ الذي وقع فيه بعض الكتاب من عدهم القفص الذي شرحه «هردوت» زورقا اعتياديا لا يختلف عن الزوارق الأخرى.

وإنني أستطيع أن أثبت ادعائي هذا من غير أن احتاج لكثير استدلال أو إزجاء وقت طويل! لأن هردوت نفسه يقول ما نصّه : «يستخدم البابليون في الهبوط من أعالي نهر دجلة إلى المدينة وسائط نقل دائرية مقعرة تصنع من أغصان وجذوع أشجار الصفصاف التي تكثر في بلاد الأرمن وأعالي المدن الآشورية على شكل الأقفاص المدورة .. ويغطى عادة سطح هذه الوسائط من الخارج بجلود الحيوانات. وهذه الزوارق تشبه الدروع الدائرية التي تستخدم في الحروب. وتوضع تحت هذه الزوارق القرب والجلود وتحمل البضائع التجارية. وجلّ هذه هي دنان الخمر الفخار ـ الخمر المصنوعة من التمور ويقف في هذه الزوارق عادة شخصان يسيرانها بمجاذيف في أيديهما بالتناوب وبحركة دائبة!

وهذه الزوارق منها أحجام وأنواع مختلفة وأكبرها يستطيع حمل ما يزن خمسة آلاف تالان (٢) وبعد أن تصل هذه إلى المدينة يبيع أصحابها البضائع المحمولة كما يبيعون ألواح الخشب ومن ثم يعودون إلى أمصارهم على ظهور الدواب وهم لا يحملون مما كان معهم غير القرب ، ذلك لأنهم لا يستطيعون أن يعودوا بزوارقهم تلك بعكس اتجاه مجرى النهر السريع ، لذا نراهم يصنعون زوارقهم من جلود الحيوانات وبمجرد وصولهم إلى بلادهم ـ أرمنستان ـ

__________________

(١) مؤرخ يوناني عاش قبل الميلاد.

(٢) Talent من المقاييس اليونانية القديمة ويقابل كل منها ٢٥ كيلوغرام. وكان هذا يستعمل في العملات أيضا إذ كان تالان ذهب يقابل عشرة أضعاف ـ عشر تالانات ـ من الفضة. «المترجم»

٥٨

يعيدون صناعة تلك الزوارق عودا على بدء»! هكذا ذكر هردوت زورقا ليس له مقدمة ولا مؤخرة ، ولا يضيف إلّا أنه يشبه القفص أو الدرع الدائرية وأنه مصنوع من أغصان وجذوع شجر الصفصاف وحوافه من هذه الأغصان الطرية ..

يتّضح مما ذكره هردوت إذن أن القفة التي يذكرها ـ ولا يسميها ـ هي على نمط قفة اليوم وتشبهها إلى حد بعيد. علاوة على ذلك فإني اكتشفت في الآثار الآشورية صورة منحوتة على حائط من حيطان نينوى تمثّل شكل القفة القديمة التي تناظر ما عليها اليوم في بغداد ، وأراه الآن أمامي يخطر كل منها على سطح مياه النهر الرائقة .. وهذا الأثر المكتشف يرجع تاريخه إلى ثمانمائة سنة قبل الميلاد. فهل يبقى ـ بعد ذلك ـ شك من أن زوارق هردوت لا تختلف عن الزوارق الاعتيادية كما خيّل إلى الكتاب المؤرخين!

ولكن ـ مع ذلك ـ ينبغي ألّا ننكر أن ثمة تباينا بين (قفة) هردوت و (القفة) المستعملة اليوم ، وذلك هو أن الأخيرة مطلية من الخارج والداخل

٥٩

بطبقة كثيفة من القار ، أما التي كانت معروفة على زمن البابليين فكان يعتاض بجلود الحيوانات عن القار. ومن ناحية أخرى فإنه يقول ـ أي هردوت ـ «إنهم بعد وصولهم إلى المدينة المقصودة وبيعهم بضائعهم التجارية يعودون إلى أمصارهم وهم يحملون معهم القرب والجلود فقط على ظهور الحمير»! ..

يحتمل ممّا تقدّم أنه كان يقصد ـ بأقواله تلك ـ الكلك ولكنني أشك في ذلك لأن الملاحين اليونان قد ذكروا الكلك والقرب المنفوخة بالهواء ولكنهم لم يذكروا شيئا عن مقدمتها ومؤخرتها .. وأعتقد أنه ينبغي أن نأخذ بأقوال هردوت تلك دون زيادة أو نقصان ، وأن نعد زوارق البابليين على شكل قفة اليوم إلّا أنها كانت من أسفل محاطة بجلود خيط كل منها بالآخر وأن الصورة التي اكتشفت في نينوى تؤيّد رأيي هذا ولا تدع مجالا للشك!!

لنعد إلى ما كان من أمر سفرتنا .. فأقول ان المرّة الأولى التي ركبت بها القفة في دجلة كانت مزعجة .. فما كدنا نقعد فيها حتى راحت تدور بنا على صفحة مياه النهر بسرعة حتى خيّل إليّ أننا على وشك الغرق. وبعد لأي بلغنا ضفة النهر ووضعنا أرجلنا أوّل مرّة على أرض مدينة الست زبيدة وهارون الرشيد. ومن حسن الحظ أن القنصل الفرنسي في بغداد كان قد علم بخبر وصول السفينة وأرسل أحد خدمه لاستقبالنا ومساعدتنا!

والقنصل الفرنسي في بغداد اليوم هو مسيو پرتيه (Peretie) ابن أحد علماء الآثار المعروفين الذي قام بحفريات كثيرة واستطاع أن يكتشف أشياء مهمة ألقت ضوءا ساطعا على كثير من الحوادث التاريخية القديمة ..

وخلاصة القول أننا بعد فترة مديدة من التغرّب عن وطننا الحبيب استطعنا أن نرى مرّة ثانية حياة عائلة فرنسية قابلنا أعضاؤها بود وحنان. ولقد وضعت مدام پرتيه غرفة بناتها تحت تصرفنا. وكنت أبدو مسرورة جدّا لأنني سأنام هذه الليلة نوما هادئا على سرير مريح نظيف بعد أن حرمت ذلك منذ أن خرجنا من طهران حتى اليوم اللهم إلّا في مدينة جلفا التي نمنا في بيت صديقنا «پرپساكال» وإذا أردت أن أقول الحقيقة فمن هناك لم أنم بأمان واطمئنان ، ذلك لأن السرير الذي وضعه لنا صديقنا پرپساسكال ـ عفا الله عنه ـ كان خشنا يشبه

٦٠