رحلة مدام ديولافوا من المحمّرة إلى البصرة وبغداد

ديولافوا

رحلة مدام ديولافوا من المحمّرة إلى البصرة وبغداد

المؤلف:

ديولافوا


المترجم: علي البصري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٣

يجرّب في لبس زوج من أحذيتي النسائية ولمّا لم يوفق لصغرها تركها جانبا وأخذ يفتش عن شيء مناسب آخر ... والرابع رأيته يتقدّم مني ويسألني أن أهديه ما كان معنا من أقلام التلوين ودهان التصوير!

وعلى أي حال وكيفما كان فقد أرضينا موظفي الكمرك الأتراك وأجبنا طلباتهم كلها وتابعنا سيرنا مبتعدين عنهم حتى كان أن دخلنا نهر البصرة غير مصدقين ولا مكذبين!!

ها نحن أولا نخترق شط العرب فرحين مسرورين دون أن يعكّر صفونا شيء .. فليس ثمة «كرنتينة». ولا موظف من موظفي الكمرك المخيفين! ننظر إلى ضوء القمر الفضي بروعة وافتنان كأننا في البندقية .. ولكن لا. ليست هذه بندقية ايطاليا بل هي بندقية الأقاليم الاستوائية. فالسماء صافية رائقة لا تجد فيها قطعة صغيرة من الغيوم والبيوت مختفية تحت ظلال غابات النخيل الكثيفة وأشجار الليمون المثقلة بأثمارها ذات اللون الأحمر الجميل وأشجار الموز

٢١

بأوراقها العريضة التي تزيد هذا المشهد روعة وإبداعا.

والدور الواقعة على الضفاف يخيّل للمرء تارة أنها تسبح في مياه النهر وتارة أخرى كأنها منتصبة على جانب سد ضيّق بإباء وإغراء!

وأمام صف هذه الدور المترامية تجد الزوارق الجميلة وقد ربطت بالساحل بشكل رائق أخاذ. والخلاصة أنه لا يوجد شيء هنا إلّا وهو جميل فاتن من بساط أخضر زاه ومن أشجار الفاكهة ومجاري المياه الهادئة وسماء شفافة مرصعة بالنجوم المتلألئة!

وأخيرا توقف زورقنا وهبطنا منه إلى ضفة النهر ، وكانت عليها كميات كبيرة من الحنطة وخلال مرورنا بها شاهدنا حارسين مدججين بالسلاح يحملان بأيديهما فانوسين خافتين وبعد لأي أوصلنا الدليل الذي استأجرناه ، إلى دار القنصلية (١) وكان أن طرقنا الباب ودخلنا إلى حجرة صغيرة أحكمنا رتاجها خلفنا ، لكي نستطيع أن نغيّر ملابسنا التي كانت مبتلّة بفعل رطوبة الجوّ لدرجة يظن معها بأننا قد خضنا بها مياه النهر!!

٤ ـ سبتمبر ١٨٨١

الواقع أن البصرة مدينة غريبة ، إنها تريك مشاهد مختلفة في اليوم الواحد ، ففي حالة المد عند ما ترتفع المياه وتغطي الساحل يخيّل إلى المرء أنه

__________________

(١) القنصلية الفرنسية.

٢٢

في الجنة الموعودة! وعند ما تهبط المياه وترجع إلى حالتها الأولى فيتصوّر أنه قد ترك الجنة ووقع في غدران نتنة!!

عصر هذا اليوم خرجت للنزهة .. وإذا أنا بمنظر الليلة الماضية الجميل قد تغيّر تماما. كان النهر قد صار منطقة أو حال عفنة تزكم ريحها الأنوف ، والقوارب والزوارق تبدو من بعيد وكأنها قطع من الأخشاب المتناثرة وقد غاصت في الوحل والطين. أمّا الهواء فقد كان عفنا فاسدا يمنع الإنسان من أن يتمتّع بمناظر النخل وأشجار الليمون الأخاذة!

وفساد الهواء هذا الذي يتسبّب عن تتابع حالتي المد والجزر وارتفاع درجة الحرارة وزيادة نسبة الرطوبة كل ذلك يعمل على انتشار أمراض خطيرة في هذه المدينة يذهب ضحاياها عدد عظيم من أهلها. وهناك سبب آخر لانتشار هذه الأوبئة وهو عدم اهتمام السلطات التركية بصحة السكان والعناية بهم ... فالسدود التي أنشئت منذ ستين سنة أمام هذه المدينة قد تهدمت اليوم الواحد

٢٣

بعد الآخر ولم يجشم أحد نفسه ترميم هذه السدود المهدمة التي اخترقتها المياه وغمرت أراضي واسعة كوّنت منها أهوارا ومستنقعات تتولّد عنها الأمراض الخطيرة. وإذا سألت أحد الموظفين الترك عن علّة سكوتهم عن هذا الأمر أجابك بقوله : ليس هذا بمهم والله كريم!!!

لا يستطيع علماء الآثار أن يفيدوا أي شيء في هذه المدينة ، لأنها حديثة البناء ولكن على العكس فالرسامون يجدون بغيتهم فيها لاقتباس «موديلات» جميلة للملابس؟!

في هذه المدينة الموبوءة طبقات مختلفة متفاوتة كما فيها أنماط شتى من الأهلين كل له خصائصه المميّزة من حيث طرز اللباس والمعتقدات!!

فالنساء التركيات يلففن أنفسهن ـ بدل العباءة ـ بقطعة رقيقة من القماش تسمى «ايزار» (١) وهي منسوجة من الحرير الأزرق أو الوردي أو الأبيض المصفر موشاة بأسلاك رقيقة من الفضة أو الذهب. ويلبسن تحت «الإيزار» عادة ثوبا قصيرا قد وشي بالفضة والذهب أيضا. وفوق هذه الأثواب القصيرة يرتدين في الغالب سترة دائرية الشكل (!) ويحتز من بحزام عريض صنع من الفضة محلّى بالجواهر النفيسة. وفي مقدمته قطعة كبيرة من الفضة. أمّا في أرجلهن فتجد (جزمات) صغيرة مثل التي تلبسها المرأة في مدينة بوشهر الواقعة في إيران!

__________________

(١) تصحيف «إزار» العربية. المترجم

٢٤

أما النساء الأرمنيات فإنهنّ يلبسن أثوابا فضفاضة يسحبنها على أتربة الشوارع وأقذارها إذا ما سرن بها خارج منازلهن! والمرأة الأرمنية لا تخرج سافرة ، كالمسلمة بيد أنها في أغلب الأحيان تضع على وجهها قطعة رقيقة من القماش الأسود أو تلفّ رأسها بمنديل حريري وتكتفي بهذا فقط. وهي في الوقت نفسه تحلي يديها بالأسورة الذهبية وصدرها بالحلي النفيسة وشعرها بجواهر ثمينة متلألئة .. أما حذاؤها فيبعث شكله على القرف والاشمئزاز لقبحه وأبشع ما فيه أزراره الزجاجية أو المعدنية!! وأكثر نساء البصرة الحسناوات يرتدين مثل هذه الأحذية الدميمة التي تستورد من المملكة المتحدة!!

وإذا كانت النساء الأوروبيات هنا قد تطبّعن ببعض طباع نساء المدينة البلديات فالرجال منهم ـ أعني الأوروبيين ـ فما زالوا يحتفظون بملابسهم الخاصة المتكونة من بنطلون خاكي يميل إلى الصفرة وسترة لا يستطيع المرء أن يعين لها شكلا ولونا واحدا. وقد علمت أن هذا اللباس غير الجميل يقلّل من قيمة ومقام هؤلاء بين السكان الأصليين الذين يرتدون الكوفية والعقال والعباءة دائما تلك الملابس التي يعتزّون بها ويعتبرونها من مظاهرهم القومية الكريمة.

٢٥
٢٦

الصابئة ، الذين يقبرون الأحياء!!

٧ ـ سبتمبر

عادت الحمى إلينا مرّة أخرى ـ منذ يومين ـ ولقد استعنا بكافة أطباء هذه المدينة من محليين وأوروبيين لكي نقضي على دابر هذا المرض الخبيث قبل أن يستفحل خطره ويتمكّن منّا!

والواقع أنه لو لا جهود ومساعي رسل الإنسانية أولئك ولا سيما طبيب القنصلية الخاص ما استطعنا أن ننجو من قبضة هذه الحمى الخطيرة (١). ولقد بذل طبيب القنصلية جهودا جبّارة سنذكرها له دائما بلسان يلهج بالشكر لإخلاصه ومودّته. فلقد كان يزورنا كل يوم مرتين ويعالجنا بتدقيق وعناية فائقة ولعلمه بأضرار الكنين الكثيرة ـ وهو الدواء الوحيد لمعالجة الحمى هذه ـ فقد كان يستعين في أغلب الأحايين بمعالجتنا نفسيّا وبتقوية أرواحنا المعنوية لتحمّل آلام ومشاق هذا المرض. إن إصابتنا بهذا المرض كان محتملا. إن بقاء مدّة خمسة عشر يوما في الفيلية تلك المنطقة القذرة بغير عمل ولا رغبة منا والتقلّب على أمواج شط كارون وتغير المناخ فجأة وقرب فصل المطر وعدم الوصول إلى بساتين هسپريد (٢) كان كافيا في أن يبعث اليأس في نفوس من هم أكثر منّا صبرا

__________________

(١) هي حمى الملاريا.

(٢) Hespriedds إشارة إلى بنات «انلاس» الثلاث اللاتي كان لهن بستان خرافي أثماره تفاح من الذهب وفيه ثعابين كل منها له مائة رأس. وهذه الثعابين تقوم بحراسة هذه الأثمار الثمينة لذلك لم يجرأ أحد على التقرّب من هذه المحاصيل الذهبية حتى إذا جاء البطل هركول أبدى شجاعة خارقة واستطاع أن يدخل هذا البستان ويقتل الثعابين ويتصرّف

٢٧

واحتمالا للشدائد وأن يدعو إلى إصابتهم بأخطر من هذا المرض.

أعود إلى ذكر الطبيب العطوف فأقول إنه كان من أجل أن يخلصنا من أفكارنا السوداء اليائسة يلهينا بسرد القصص الطريفة والأخبار عن مدينة البصرة وأهليها.

كان يقول : إن البصرة قد شيدت فوق أرض رسوبية جديدة وإنها لم تكن من المدن القديمة جدّا إذ لم تنشأ إلّا بعد وفاة النبي العربي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بأمر من الخليفة الثاني عمر (رضي‌الله‌عنه) فقد اتخذ منها مركزا تجاريّا وعسكريّا مهمّا في العراق وإن تاريخ هذه المدينة الحديث مليء بأخبار الحروب المستعرة بين الترك والفرس للاستيلاء عليها أو التصرّف بها. ولقد كانت هذه الحروب سجالا بين الطرفين فكانوا يتناوبون في احتلال البصرة ، وأخيرا ، وفي نهاية القرن الماضي وبعد محاصرة دامت أكثر من أحد عشر شهرا دخلها الفرس ظافرين وبقيت تحت النفوذ الفارسي حتى زمن السلطان كريم خان الزند .. أما بعد هذا العهد فلم يستطيع خلفاء هذا السلطان أن يحافظوا عليها ضمن ممتلكات فارس لأنهم كانوا ضعافا وإن أخطارا كثيرة أخذت تهدّد البلاد في الصميم فدفعهم ذلك إلى أن يصرفوا النظر عن الممتلكات البعيدة ويدعوها للدول المجاورة! وهكذا انتقلت البصرة إلى نفوذ الحكم العثماني .. وأخذت تمر بها أخطار وأحداث تركت فيها أسوأ الآثار .. فنفوسها مثلا أخذت بالتناقص وهي اليوم نصف ما كانت عليه في السابق وتقدّر بأقل من أحد عشر ألف نسمة.

ولكن البصرة على رغم ذلك كله ما زالت تحتفظ بمركزها التجاري الممتاز القديم ولها اليوم روابط وعلاقات سوقية مع الهند.

وأردف الطبيب ذلك بقوله : وإن كميات الحنطة الكبيرة التي حدثتماني برؤيتها عند وصولكم البصرة ما هي ـ في الواقع ـ إلّا بعض الكميات التي يرسل بها التجار إلى الهند (١).

__________________

بالتفاح الذهبي وهذا العمل كان الحادي عشر من خوارق هركول المعروفة!! «م»

(١) كانت البواخر حينذاك تنقل يوميّا آلاف الأكياس من حبوب العراق إلى الهند ـ والخليج ، أمّا الآن وبالرغم من تقدّم الزراعة واختراع الآلات فإننا نستورد الحنطة من الخارج؟؟!!

٢٨

والتمر من محاصيل هذه المدينة المهمّة الأخرى يصدّر منها سنويّا ألوف الأطنان إلى الخارج أيضا ، وهذه الثمرة الغريبة تحوي شيئا كثيرا من المادة السكرية كما تحوي مقادير من الكحول التي لها شهرة عالمية لذا تكون لها أسواق رائجة خارج البلاد فتصدّر في سلال وأقفاص تصنع من الجريد وسعف النخل اللين تحملها السفن الشراعية والبخارية!!

والنخل ـ زيادة على أثمارها تلك ـ لها فوائد جمّة أخرى إذ يستفاد من جذوعها في إقامة الأبنية ومن أوراقها في صناعة الحصران والحبال المحكمة والزنابيل.

والخلاصة أنّ الطبيب بدل أن يذكر (٣٦٠) فائدة للنخل كأي حمال شيخ ايراني ثرثار .. فقد اختصر القول بأنها النخل .. والنخل وحدها هي التي يدين لها الشرقيون في حياتهم .. ولا سيما المسلمين الذين يعدون وجودها مفخرة في بلادهم .. ولا غرو في ذلك إذ إن ثمرها يكوّن العنصر الأهم في طعامهم وشرابهم!

يقول المؤرّخ المعروف القزويني (١) : «إن للنخل فوائد جمّة وإنها رمز الخير والبركة ولا تنمو إلّا في الأقطار الإسلامية».

ويؤثر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قوله : «أن أكرموا عماتكم النخل فإنها خلقت من فضلة طينة آدم (٢)».

وممّا ذكره الطبيب لنا أيضا قوله : إن البصرة تكاد تكون مجمع المذاهب

__________________

(١) المعروف أن القزويني صاحب عجائب المخلوقات كان قاضيا وجغرافيّا لا مؤرخا.

«المترجم»

(٢) هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة وقد ذكره السيوطي في كتابه اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة. «المترجم»

٢٩

المختلفة التي يقارب عددها عدد ما فيها من أنواع النخل! إنك تجد النساطرة فيها والسنة والشيعة والبابية والوهابية والمسيحية الرومية والمسيحية الكلدية والصابئة واليزيدية واليهود والأرمن وغيرهم كل بجنب الآخر وقلّما يحدث نزاع بين أنصار هذه الطوائف التي تمارس كل منها شعائرها المذهبية الخاصة بمطلق الحرية والاطمئنان. ومن الجدير بالذكر أن طائفة الصابئة لها تقاليد وعادات مذهبية عجيبة جدّا. فليس لديهم مثلا معبد أو محراب للعبادة كما هو الحال في المذاهب الأخرى وأصحاب هذا المذهب يقربون من الدين المسيحي باعتقادهم يوحنا كما أنهم يعتقدون أن عيسى خلفه!!

أمّا أهم طقوس هذه الفئة فهو التعميد الذي يتم بالماء للتطهر من الذنوب والخطايا. وعملية التعميد هذه تتكرر في حياتهم وهي من الواجبات المذهبية المرعية ، وذلك كلما أحس امرؤ بآثامه .. وإن لم يقم الواحد منهم بغسل التعميد في الوقت المناسب فمن الواجب الختم عليه ـ مع بقية أفراد طائفته ـ أن يغتسل قبيل يوم العيد الكبير! ويسبق عملية الغسل هذه الاعتراف عند قساوستهم. كاعتراف المسيحيين تماما!

والصابئة لا يستطيعون أن يتزوجوا بأكثر من امرأة واحدة في حياتهم كما أنهم لا يأخذون بالختان!

وفي كل أسبوع يقوم القس عندهم بقراءة بعض الأدعية والأوراد على الخبز لكي يجعله مباركا وبعد أن يضع عليه السمسم ويأكل قليلا منه يوزّع البقية بين الذين اغتسلوا غسل التعميد للتبرك!

إن حب المحافظة على الطهر وتجنّب الأقذار عند هذه الطائفة تكاد يبلغ مبلغ الهوس والوسواس. ومن الطريف أن قسوسهم لهم حق الزواج ولكن لا يسمح لنسائهم أن يعملن في الدور حتى بمجرد أن يمددن أيديهن إلى أثاثها أو أي شيء آخر. إذ ينبغي على القسوس أنفسهم أن يقوموا بالأعمال المنزلية كلها من طبخ وغسل وتدبير. وأغرب من ذلك أنه يحظر لديهم أكل لحم البقر والجاموس والضأن والجمل. ذلك لأنهم يعدون هذه الحيوانات بسبب خلقتها العجيبة نجسة غير طاهرة بيد أنه يسمح أكل لحم الخروف وحمله الصغير فقط

٣٠

شريطة أن يتم ذبح هذين الحيوانين على أيدي القساوسة أنفسهم كما أنه يجب عند طبخ لحومها أن تراعى أصول النظافة بتدقيق وعناية فائقة وأن توضع في صحاف نظيفة جدّا. ومن عمليات التعميد والغسل الضرورية التي لا بد منها اثنتان الأولى بعد الولادة والثانية بعد الزواج. أما بعد الوفاة فلا يكون ثمة غسل قط لأن الصابئة يعدون جثة الميت أنجس الأشياء قاطبة ولذلك يتقززون ولا يتقربون منها ويعاملون المحتضر على فراش الموت معاملة وحشية لا تكاد تصدّق.

فعندما يشرف أحدهم على الموت في سكراته الأخيرة يأتي أصحابه إليه ويحملونه إلى حفرة يحتفرونها ويضعونه فيها والأنفاس تتردد في صدره ، وهم من حوله يجلسون القرفصاء ويبكون وينشجون في انتظار أن يجود بأنفاسه الأخيرة ، وعندما يحين ذلك يهيلون عليه التراب بسرعة ، ويعودون إلى منازلهم في مظاهرة طريفة!!

وإذا سألت أحدهم لماذا تقومون بهذه الأدوار المضحكة والأعمال الوحشية ، أجابك .. إنه من أجل ألّا تمس أيديهم جثة الميت النجسة ولكيلا يقربوها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا!!

وتعتقد هذه الفئة أن روح الميت تترك جسده بعد أربعين يوما من وفاته وأنها تصعد إلى الملكوت الأعلى وتمثل بحضرة ذات الجلالة بخشوع!

وطول هذه المدة ـ الأربعين يوما ـ يجتمع أقرباء وأصدقاء الميت في داره يأكلون صباح مساء من غذاء خاص يصنعه القس لهم يتكوّن من لحم الخروف وسمك وفاكهة وبعد أكل هذا الغذاء يطلب أقرب أقرباء الميت من الحضور أن يدعو الله لميتهم بالعفو والمغفرة!

ومن البديهي أن هذه الإجراءات التي تتم طول الأربعين يوما تكلّف أهل الميت الشيء الكثير من المال ، لذلك يجب على كل من يحضر هذه (الاحتفالات) أن يقدّم هدايا مناسبة إلى أهل الميت لسد تلك النفقات!!

وإذا أغضينا عن هذا العمل الوحشي الذي تقدم عليه الصابئة للمحتضر فإننا نراهم يتميّزون بشيء كثير من سمو الخلق وكرم الطباع حتى ليضرب

٣١

بأمانتهم وصدقهم المثل في تلك البلاد. ويكاد عمل وحرفة هذه الطائفة ينحصران في صياغة الحلي الفضة وفي مصنوعات فلزية من الفضة مزينة بالمينا والرسوم الأخاذة. والحق أن لهم براعة حقا يدعو للعجب في تلك المصنوعات (المينه)!!

والصابئة ـ بعد كل ذلك ـ يتميّزون بتعصبهم لمذهبهم ومحافظتهم على شعائرهم بحيث لم يستطع قسوس الموصل ورهبان البروستانت بمواعظهم الطويلة وجهودهم الجبارة التي بذلوها طوال سنوات عديدة أن يتركوا أي أثر محسوس في عقائدهم وعاداتهم المتغلغلة في نفوسهم تغلغلا عجيبا!!

سألت الدكتور عن محل إقامة هذه الطائفة وهل في استطاعتي زيارتهم والاطلاع على حياتهم الخاصة من قرب؟

فأجابني مستنكرا بقوله : أتريدين أن تذهبي لزيارة هؤلاء القوم ولم تبرحي الفراش بعد .. وكيف تستطيعين والمياه تغطي السبل المؤدية إلى مدينتهم في هذا الفصل الذي تفيض فيه المياه ، ولو كان لك جناح لقدرت على الطيران ولم تلقي كبير عناء في الوصول إلى منازل الصابئة ، ولكن الآن عليك أن تقطعي الأهوار والمستنقعات ثمانية أيام كاملة لكي تبلغي قصدك وليس هذا في مكنتك وأنت على ما فيه من خور وضعف وما زالت الحمى تهدّدك بالعودة ، إذ إن حمى هذه المدينة لا يستطيع المصاب بها أن ينجو من براثنها مرّة واحدة وبسهولة ، وقد يخيل إليه أنه قضى عليها ولكنه سرعان ما يرى نفسه طريح الفراش يتجرّع أوصاب ألمها وسخونتها.

وهنا رأيتني أقول فجأة وبغير وعي منّي : أيتها الصابئة ليحفظكم الله إنما أزهد في لقائكم مخافة أن تضعوني حيّة في اللحد كما تعملون بمحتضريكم وإلى اللقاء!!

٨ ـ ديسمبر

ما إن تركنا الفراش واستطعنا أن نسير على أقدامنا حتى أخذنا نفكر جدّيا في السفر من البصرة بأسرع ما في الإمكان لننجو بجلودنا من جو هذه المدينة

٣٢

الرطب الخانق!

ولقد سألنا عن طرق المواصلات التي تربط البصرة ببغداد فقيل لنا إن ثمة شركتين تقومان بتسيير السفن البخارية بينهما الأولى شركة «لنج لندن» التي تسير سفينة كل أسبوع وهي قذرة جدّا لأنه يترك للمسافرين فيها حرية القيام بعمليات الطبخ والغسل في ممراتها وعنابرها. والشركة الثانية يديرها جماعة من الأتراك وتسيّر شهريّا سفينتين بين بغداد والبصرة.

ولقد شاء الحظ والقدر أن تتأخر إحدى سفن هذه الشركة في البصرة بسبب عطب أصابها منذ أسبوع. واغتنمنا هذه الفرصة فأسرعنا في حجز مكان لنا فيها ولكننا ندمنا كثيرا على ذلك ولقينا في سفرتنا هذه الأمرين بحيث لا تكاد تقل عن سائر أيام سفرتنا من الساحل الفارسي إلى هنا! من حيث المتاعب والمشاق.

تسير الأمور في هذه السفينة حسب مشيئة الشيطان أو الترك إنهم على الدوام يتقاضون مبالغ مختلفة من المسافرين بحجج وأسباب واهية ولم يكتفوا بذلك فحسب بل إنهم أخذوا يستعينون بأي طريقة لا بتزاز المال وإن كان في ذلك ما يسيء إلى الركاب ويضايقهم. فإنهم مثلا ملأوا ممرات السفينة بأقفاص الدجاج التي اشتروها من البصرة لبيعها في بغداد بربح زهيد لا يسوى شروى نقير! كما أن الموظفين الترك المغرورين ملؤوا مخازن السفينة بأمتعتهم وحوائجهم كلها لدرجة أنهم لم يدعوا لمن سواهم مكانا يضعون فيه حقائبهم!!

ولكن الذي يعزينا ويسرنا في هذه السفرة الموحشة وجود رفيق طريق معنا يدعى الكابتن ديمينيس من أهل (كرسي). ولقد كان هذا لمدة قريبة ربان هذه السفينة بالذات التي تدعى باسم الموصل ، وبقي يشغل هذا المنصب مدة طويلة حتى كان أن فضل عليه عملا آخر في بغداد منذ ما يقرب من عام.

ولقد قص علينا هذا الرجل الشجاع قصته الطريفة مع الترك الشياطين كما يأتي :

منذ سنة تقريبا فكّر أولياء الأمور العثمانيون أن يعاملوا المقاولين والمتعهدين مثل معاملتهم لموظفيهم الصغار القاسية وأن يقطعوا عنهم رواتبهم أو ما يستحقونه مما في ذمة الدولة العلية.

٣٣

ولم يكف ذلك أحد هؤلاء المقاولين ـ وهو يمون هذه السفينة بالفحم وله بذمة الباب العالي مبالغ مستحقة عن ذلك ـ وكان أن قطع الفحم عنا ذات يوم دون إنذار سابق ، وأبى أن يموننا بأي شيء منه إن لم تسلم ديونه السابقة وأن يتقاضى ثمن ما نحتاج إليه من الفحم سلفا كما قال. ولقد اضطرت «الموصل» بحسب هذا العمل أن تؤخر سفرها ويطول مدة وقوفها. ولكن الغريب هو أنني على رغم ذلك تلقيت أمرا بالحركة فورا. ففتّ ذلك في ساعدي واحترت فيما أعمله للخروج من هذا المأزق الحرج ولم أر بدّا من الذهاب إلى رئيس السفينة وتذكيره بأن المخزن ليس فيه من الفحم ما يمكن الحركة به والوصول بسلام إلى بغداد!

وما كدت أقول هذا للرئيس المحترم حتى رأيته يركب رأسه ويرد علي بحدّة قائلا : إننا لسنا في حاجة إلى خدماتك بعد هذا الكلام الغريب .. إذا كان يتعذّر عليك السفر بغير فحم فأرى من الأجدر أن تترك العمل وتذهب في سبيلك!

سمّرت فيه نظراتي هنيهة أتفحص هذا المخلوق العجيب ثم قلت له دون اكتراث : ليس في اللغة الفرنسية لفظة «يتعذر» ـ يستحيل ـ ثم وضعت يدي في جيبي وذهبت لحجرة قيادة السفينة.

تحركت سفينة «الموصل» وتوسطت نهر دجلة وكانت تسير بخيلاء وغرور. وبعد يومين خلا المخزن من الفحم تماما. وتعذّر عليّ عندئذ تحريك ماكنة السفينة .. فكرت لحظة ولكن سرعان ما خطرت لي خاطرة هتفت لها من أعماقي فرحا وسرورا. تذكرت أن سفينتي تحمل كميات كبيرة من السمسم فأشرت على الملاحين أن يحرقوا السمسم بدل الفحم. ونفذ هؤلاء أوامري وبعد دقائق عادت جلجلة الماكنة إلى الأسماع وكان أن تحركت تسير الهوينى كالسابق. وبعد ثمانية أيام دخلت بغداد دخول الظافرين! وكانت قيمة كميات السمسم التي استعملناها بدل الفحم تقدر بأكثر من ثلاثين ألف فرنك .. ولكم كنت فخورا ساعة وصولنا إلى بغداد ، لأنني كنت قد أطعت أوامر الامبراطورية التركية إطاعة تامة ونفذتها بحذافيرها ورفعت اسم فرنسا العظيمة في مياه دجلة!

٣٤

ومن الإنصاف القول إن رئيس السفينة هذا لم يكن غبيّا بالدرجة التي تصورتها إذ إنه بعد هذه الحادثة عرف (بثاقب بصره البعيد)!! أن أمثال هذه السفرات تكلف دولته كثيرا وأنه لا سبيل إلى الحصول على الفحم لأن الباب العالي لا يدفع دانقا واحدا ، لذلك هداه تفكيره النير إلى حل وجيه وهو أن يسد نفقات الفحم من أثمان (٨٠٠) جمل استولت عليها سلطات الأمن من قبيلة كانت خارجة عن القانون منذ وقت قريب!!

قدم هذا الاقتراح إلى المسؤولين وأخذ هؤلاء به فورا. فدفع صاحبنا الرئيس إلى المقاول بكل هذا العدد الضخم من الجمال ولما رأى هذا أنه يأخذ أكثر مما يستحق ، قدم للرئيس ما بين ٢٠٠ ـ ٣٠٠ جملا حلوانا (بقشيشا) له. وهكذا تمّت الصفقة ربح المقاول والرئيس على السواء!!

وعند ما بلغ الكابتن هذا الحد أردف قائلا : الخلاصة أن القضايا أخذت تجري على النحو المطلوب إلّا أنني وقعت في مأزق حرج إذ كان عليّ أن أزرع السمسم لكي ينضج جمالا!!

وكان لنا رفيق سفر آخر ـ إلى جانب مسيو ديمينيس ـ إلّا أن مخايل البله والجنون كانت تبدو عليه. ومما حدثنا به رأيه أن السفن التركية تغوص في الطين أكثر من السفن الإنكليزية ، وهو لهذا السبب يفضل ركوب السفن الأولى في سفراته بين البصرة وبغداد لا لشيء إلّا لأنه يتاح له فيها الصيد على سواحل دجلة؟!

وعند ما وصل الحديث إلى ذكر الصيد وغوص السفينة في الطين تذكرت ما لقيناه في شط كارون من نصب وعذاب ولهذا رأيتني أسأل الكابتن عن المدة التي تستغرقها سفرتنا هذه وعمّا يحتمل أن نلاقيه من مشاق ومتاعب ..

فكّر بطل السمسم لحظة ثم قال : لا خوف على سفينتنا من الغوص في هذه الأيام التي ترتفع فيها المياه. أمّا المدّة التي تستغرقها سفرتنا فلا أرى أنها تتجاوز أسبوعا!! ولكني في الوقت نفسه لا أستطيع أن أجزم أو أقطع بقولي هذا ..

إنني أعمل في هذا الطريق منذ سنوات عدّة ولم يتفق أن وصلت إلى بغداد في سفرتين متتاليتين بمدة واحدة ، كما لم تتوقف سفينتي مرتين في محل

٣٥

واحد بفعل وجود الطين والوحل. ذلك لأن تيار الماء السريع يتغيّر من يوم لآخر ، ومن أسبوع لآخر ثم هذا التيار يأخذ معه الطين إلى محلات عميقة من النهر وفي أغلب الأحايين يتحتم على الربان أن يستعين «بالشاقول» لمعرفة مدى عمق النهر ولا سيما في فصل الصيف عند ما يهبط الماء فتصعب عندئذ قيادة السفينة. ويتفق في مثل هذه الأحوال أن تغوص السفينة في الطين عدّة أيام إن لم تمتد إلى أسابيع ولا تستطيع أن تخرج إلّا بعد تفريغها من المسافرين ومما تحمل من بضائع بزوارق إلى الساحل حتى أن هذه العملية ربما لا تجد فيها نفعا بعض الأحيان فتضطر السفينة أن تنتظر مرور سفينة أخرى بها لتنتشلها من الأوحال والطين وتكون عندئذ خالية من ركابها ومن بضائعها ..

وكثيرا ما يتفق أن تنتشل السفينة وتسير عشر كيلومترات وتضطر إلى الوقوف مرة أخرى بسبب الطين أيضا وتعاد العملية من جديد عندئذ وذلك بنقل المسافرين إلى الساحل بعد تفريغها من البضائع تفريغا يشارك فيه المسافرون أنفسهم صغارهم وكبارهم شيبهم وشبانهم نساؤهم ورجالهم!!

كان رفيقنا الصياد يصغي إلى هذا الحديث باهتمام وعند ما اتمّ الكابتن كلامه قال : إنني لمتأسف جدّا أن أسافر في هذا الفصل وعلى مثل هذه السفينة ولو كنت أعلم بكل هذه التفاصيل لأجلت موعد سفري إلى الصيف الذي تزيد فيه حوادث غوص السفن في الأوحال!!

ولقد زعقت عليه بقولي : وإني كذلك متأسفة لأنك لم تعلم ذلك قبل الآن ، وتسافر في وقت غير مناسب. ولكني أنا جد مسرورة لسفري الآن لأني لا أرغب ـ على أي حال ـ في أن أقوم بدور حمال وإن كان من مخزن السفينة إلى الساحل!

بلغت السفينة بعد عدّة ساعات قرية صغيرة تسمّى «القرنة» وهي تقع في مكان يلتقي فيه نهرا دجلة والفرات ويتكوّن من هذا الالتقاء ما يسمّى بشط العرب. تشير المعلومات التاريخية القديمة إلى أن هذه القرية كانت من أجمل بقاع العالم يومئذ حتى إنها كانت تسمى جنة الأرض. ولكنها اليوم ويا للأسف الشديد ، لم يبق من ذلك الفتون أي شيء ، ولا يطالعك فيها إلّا ساحل قذر

٣٦

تغطّيه مياه الفيضان بحيث لا يبدو منه في بعض الأيام شيء!

وبعد أن ينزاح عنها الماء تنقلب إلى منطقة واسعة من الأهوار تكون موطنا للأمراض الوبيئة كما تستخدم محلّا للجواميس فتغطي فيها أجسامها ، بحيث لا يبدو منها شيء سوى الرؤوس.

تبدو لنا عن كثب عدّة بيوت من الطين وأمامها عدد من الجواميس وهي غاطسة في مجاري قذرة للمياه. ويبدو هناك جذع شجرة قديمة يخيّل لي أن عمرها ثلاثمائة سنة ، ولا شيء غير هذا في تلك المدينة التي كانت تعد جنة الله في أرضه! ولا ريب أن أجدادنا لو رفعوا رؤوسهم ورأوا «القرنة» على ما هي عليه الآن لأنكروا عيونهم وأخذهم العجب العجاب!

٩ ـ ديسمبر ١٨٨١

وصلنا إلى مدينة بابل اليوم ، وهذه لم تكن أكثر من تل تراب بسيط ،

٣٧

ولكن «اسدراس» (١) الذي كان ضمن الأسرى الإسرائيليين واستطاع أن ينجي مواطنيه من ذل الأسر ويعود بهم إلى بيت المقدس يرقد هنا على ساحل دجلة في مرقد هادئ غير فخم.

توقفت سفينتنا قبالة المرقد بعض الوقت لكي تحمل اليهود الذين جاؤوا لزيارته ومن السهولة أن أرسم صورة لمرقد هذا النبي. بنايته متكونة من قبة صنعت من الكاشي وذلك على طراز وأسلوب الأبنية الإيرانية التي كانت معروفة في زمن الشاه عباس الكبير. ويغلب على الظن أنه أنشئ مكان بناية قديمة مندثرة إذ تذكر روايات من التوراة أن اليهود كانوا يأتون لزيارة هذا المكان بالذات في الزمن القديم كما هو اليوم حال الذين يفدون زرافات ووحدانا وفي موسم خاصة لمرقد هذا النبي!

تعتمد شركات السفر النهرية في بلاد ما بين النهرين على أمثال هؤلاء المسافرين الذين يقصدون زيارة أنبيائهم وأئمتهم المختلفين ، ولو حظر ذلك

__________________

(١) Esdras عزرا أحد أنبياء اليهود المعروفين وقد عاش في القرن الخامس قبل الميلاد واستطاع أن يحمل ٤٧٧٥ شخصا على الهجرة من بابل إلى بيت المقدس ليزيدوا من معنويات الشعب هناك. وتنسب إلى هذا النبي أربعة كتب ولكن الكنيسة الكاثوليكية تنسب إليه كتابين فقط.

٣٨

في يوم ما فإن هذه الشركات ـ ولا شك ـ ستعلن إفلاسها ولا يسعها أن تعمل البتة!

على مقربة من الجهة اليمنى توجد أشجار على أرض معشوشبة زاهية وهذه الأشجار هي أشجار غابة يعدها أهالي هذه المنطقة مقدسة لم يمتد إليها معول ولا فأس وإذا سولت لأحدهم نفسه أن يقتطع منها ساقا أو جذعا فإنهم يعتقدون أنه يموت بسبب ذلك إن عاجلا أو آجلا بما لا يقبل الشك أبدا.

وعلى جوانب هذه الغابة خيم بعض الأعراب لحراستها ومنع الاقتراب منها إن حدث ذلك. ولعل هذه الحراسة تقليدية أو أنها وضعت لحراسة مقبرة تنزل من نفوس السابلة منزلة التقديس لأحد أبناء الإمام الكاظم المدفونين هناك.

ومن الجدير بالذكر أنه أجيز لهؤلاء الحراس برفع الأغصان اليابسة والمتساقطة على الأرض فقط وإشعالها في الشتاء. أما الأغصان الطرية فمحظور عليهم الاقتراب منها حتى أنهم يفضلون الموت بردا على أن يمدوا أيديهم إليها.

وإذا سألت عن علّة هذا التقديس فلا يستطيع أحد منهم أن يجيبك. وأعتقد أن هذا التقديس من بقايا طقوس وشعائر كانت عند العيلاميين لأن الروايات القديمة تذكر أن أهالي شوش كانوا يخفون آلهتهم في هذه الغابة!

١٠ ـ ديسمبر :

من المعروف أن المصابين بالأمراض النفسية يعالجون في العادة في ركوبهم بالسفن التي تمخر عباب البحار والأنهر للاطلاع على مناظر الساحل الجميلة. ولكن الأمر يختلف هنا في نهر دجلة إذ لا يستطيع المرء أن يشاهد أي شيء على ضفتيه ذلك لأنه يقع في واد عميق ولا يبدو شيء من مناظرها الممتعة للناظر!

عبرنا هذا الصباح من نهر صغير كان يقع على جانبنا الأيسر وبعد عدّة دقائق بلغنا مدينة العمارة ووقفنا عندها. أبنية هذه المدينة جديدة وجميلة وتمر

٣٩

بها قوافل عديدة تصل إليها من مدينة كرمانشاه وششتر ، تحمل الحنطة وسائر الحبوب الأخرى إلى بغداد.

في هذه المدينة ـ العمارة ـ أفرغت حمولة سفينتنا من الدجاج والتمر أو أبدلت بغيرها من الدجاج والتمر. ولقد تعجبت كثيرا لهذا الأمر وكل من سألته لم يستطع أن يوضح لي هذا اللغز المعمى من أن يستبدل دجاج بدجاج وتمر بتمر من نفس النوع وبقدر الكمية السابقة!!

١١ ـ ديسمبر :

ارتفعت شكوى صديقنا الصياد هذا اليوم بعد مرور ثلاثة أيام ولم يتح له الصيد على الضفتين ، وأن هذه السفرة لم تفده شيئا ما ، وأي غلط ارتكبه بقيامه بهذه السفرة وراح يلعن الأولين والآخرين .. وهنا ركب الغضب الكابتن وقال محتدّا : إن كنت تريد الصيد فأنت جدير في هذه الحالة أن تهبط في مدينة

٤٠