رحلة مدام ديولافوا من المحمّرة إلى البصرة وبغداد

ديولافوا

رحلة مدام ديولافوا من المحمّرة إلى البصرة وبغداد

المؤلف:

ديولافوا


المترجم: علي البصري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٣

كانت تشبه إلى حد بعيد بحصير منسوج يبلغ طولها ثلاثين سنتيمترا ولكي يتخلص من مشاق تمشيطها كان يخفيها تحت ملابسه على تلك الصورة الغريبة التي لم يسبقه إليها أحد! فقلت له :

الواقع إنه شيء عجيب .. إنك تحمل فكرا عمليّا مجيدا.

أجل .. أجل. إنني متمرس بأمور الرحلات والسفرات البعيدة وخبير بشؤونها وأحمل على الدوام معي حاجاتها الضرورية. وبهذا الشكل سحت في بلاد الحبشة كلها وأمتعتي كانت منحصرة بمقوى قبعتي!!؟ لا غير.

أين كنت تضع ملابسك إذن؟

بعضها في جيبي أخرجها وقت الحاجة ، أما البقية فكنت أرتديها الواحد فوق الآخر وأذكر أنني عندما أبحرت من مرسيليا كنت أرتدي خمسة أثواب بعضها على بعض .. وما إن كنت أشعر بأن الثوب الفوقاني قد اتسخ حتى أخلعه لكي يظهر الثوب الذي خلفه نظيفا في عيون الناس. والآن لم يبق من تلك الأثواب إلّا ثوبان على جسدي وأعتقد أنهما سيوصلانني إلى فرنسا ..

وفي هذه الأثناء التي كنا نتحدث فيها وأنا مأخوذة بغرابة أطوار هذا الإنسان الذي لا أدري بما ذا أصفه دخل الخادم علينا وسأل الضيف المحترم أيحتاج إلى الماء البارد أم الساخن؟

لا أحتاج إلى كليهما .. لا الماء البارد ولا الساخن إنني منذ مدة قد تحررت من مثل هذه العادات السخيفة ..

أجاب صاحبنا المغوار ، الخادم بهذا الجواب المقتضب وكانت لهجته حادة وشديدة بعض الشيء حتى خيّل إليّ أنه قد شعر بإهانة تلحق به من سؤال الخادم المسكين!!؟ ومن ثم تابع كلامه على الفور وأخذ يسرد عليّ قصص مغامراته وغريب آرائه ومبادئه؟! كأنه لم يحدث أي شيء ..

وهنا رأيت مدام پرتيه بعد سردها هذه القصة الغريبة تقول وتعلو ثغرها ابتسامة جميلة : وهل تصدقون بعد كل ذلك أن ضيفي المحترم هذا بعد فراغه من اعترافاته وأحاديثه أمسك بيدي وقال : لنذهب معا إلى حجرة الطعام وإنني

١٠١

لم أرد بدّا ـ بالطبع ـ من مصاحبته على رغم أنني كنت قد شاهدت أكوام القمل وطفيليات صغيرة تسرح وتمرح على لحيته الكثة وملابسه القذرة .. ويغلب على الظن أن هذا الرجل الجليل كان يريد أن يحمل تلك الحيوانات الصغيرة من الحبشة إلى فرنسا كهدايا إلى أصدقائه ومعارفه!!

* * *

وهنا دخل الخادم وقال لمدام پرتيه : إن الغداء قد تهيأ ..

وقبل أن نترك مجلسنا رأيت مدام پرتيه تقول وهي تحدجني بطرف عينها والابتسامة ما زالت تعلو شفتيها : «والآن أنت الرجل الذي ينبغي أن أصاحبه وهو يمسك بيدي» ثم أردفت بقولها : «اسعوا أن تكونوا طيبي العشرة لا كضيفنا الثقيل المذكور»!!

في تلك اللحظة عرفت قصد مدام پرتيه من سردها قصة مغامرنا الغريب ذلك وانتبهت إلى أنها تعرف مشكلتي العويصة ، فاحمرت وجنتاي خجلا وأحسست جبيني يتفصد عرقا!؟ إذ إنني كنت أشكو وجود القمل والطفيليات الأخرى في جسمي بحيث لم يقض عليها استحمامي المكرر وتبديل ملابسي منذ وصلت إلى هذه المدينة ، والواقع أنني خلال سفرتي في ايران ونزولي مع زوجي في منازل قذرة في الطريق كان ذلك سببا في تلويث ملابسي وأن يجد القمل طريقه إليها وأن يتكاثر وأن يعشش فيها ..

وعلى أي حال لم أكن كصاحبنا المجهول الذي ذكرته مدام پرتيه وذكرت خوفه من الماء البارد والحار على السواء بل على العكس كنت اغتسل على الدوام ولكن المؤسف هو أنني كنت غافلة عن أن مياه البحر المالحة ـ على خلاف تقديري ـ تسبب تكثير القمل.

وإنني لم أصب بهذه «الكارثة» إلّا بفعل زيادة استحمامي بمياه الخليج في مدينة بوشهر الإيرانية التي أقمنا بها مدة طلبا للراحة وتخلصا من أوضار الطريق وقمله!

وأيّا كان الأمر فلم أر بدّا في النهاية من أن أحلق شعر رأسي كله

١٠٢

وأضحي به في سبيل أن أكون طيبة العشرة كما أرادت مدام پرتيه وأن أتخلص من هذا القمل اللعين ..

ولقد كان منظري عندئذ يبعث على الضحك والسخرية فقد كان رأسي يشبه إلى حد بعيد رؤوس المجرمين الذين يحلقون شعورهم انتظارا لتنفيذ حكم الإعدام بهم ..

ولكن المؤسف أنه على رغم كل ذلك لم تثمر محاولاتي وتضحياتي تلك شيئا في (كارثة) القمل التي أصبت بها فبقيت أشكو منها الأمرّين قبل أن تشكو مدام پرتيه وبطانتها!!

١٩ ـ ديسمبر ١٨٨١ :

قمت اليوم بزيارة المقابر الواقعة على الضفة اليسرى (١) من نهر دجلة قرب بغداد. ووجدتها منطقة واسعة تشغل مسافة كبيرة من الأراضي البور خارج هذه المدينة العظيمة. بيد أنني لم أجد فيها ما يلفت نظري ويستحق أن يذكر كالمتنزهات مثلا الموجودة في المقابر الأوروبية أو التشجير الذي يؤخذ به ليرفع عن زائر هذه الأماكن الوحشة والكآبة المخيمتين عليها!

ولكن الذي أثارني هو منظر السماء الصافية وروعة الشمس المشرقة ورأيتني أقول مع نفسي : ليس من عجب إذن كما لم يكن عبثا والشمس بهذه الروعة والإشراق ـ أن تعتقد الشعوب الشرقية في القديم بأنها رب الحياة وأن النور دليل الخير وعلمه.

وعلى أي حال كانت هذه المقبرة أقل كآبة وحزنا من اسطنبول وموتى هذه المدينة! لا يحسون بالكآبة كما يحس أبناء اسطنبول!

وتقع أوسع مناطق هذه المقابر في أطراف مقبرة أخي هارون الرشيد (٢)

__________________

(١) لعلّها الضفّة اليمنى.

(٢) لم نقف على تاريخ أخي هارون الرشيد هذا ولا مقبرته ولعل السائحة أخذت ذلك من أقوال العامة يومئذ أو لعلها تقصد تربة السيدة زمرد خاتون المعروفة في العصور

١٠٣

ويتقدمها شارع فيه عدد كبير من النخل تحط فوقها طيور ملونة جميلة وتصوت أنغاما شجية تبعث على نشاط زوار مدينة الموتى وترفع عنهم كآبة المكان ووحشته بعض الشيء بعد أن أبت السلطات التركية أن تعمل من جانبها أي شيء من هذا القبيل.

تنشأ قبور هذه المقابر بحسب جنس الميت إما مسطحة وإما محدبة وكلها مبنية بالطين والآجر «الطابوق» أو بأشياء صلبة أخرى.

وعندما كنت أقف متفرجة على برج عظيم رمادي اللون يميل إلى الزرقة قليلا في أرض معشوشبة صفراء يقع على بعد قليل منا كما أن منائر الكاظمين المذهبة تتراءى من بعيد .. عند ما كنت أتطلع على هذه المناظر الجذابة وأنقل بصري بينها مأخوذة دهشة تعالت فجأة على مقربة منا الصيحات والعويل والبكاء ، ونظرت وإذا جمع غفير من الأهلين يتقدمون بمظاهرة حزينة وهم يحملون تابوتا على أكتافهم لفوه بشال أخضر كبير وعلى مقدمته وضعوا ما يشبه التاج!!

ولقد علمت بعدئذ ان أحد أتقياء بغداد قد استدعي إلى الجنة ـ كما قيل لي ـ وبعد أن تمّت مراسيم الدفن وتفرّق الجمع الكبير عادت الطيور إلى أوكارها تغرد عودا على بدء أنغامها الشجيّة التي قطعتها مظاهرة هؤلاء الآدميين الحزينة!!

وتركنا هذه المقابر أيضا وقصدنا بناية كان فيها عدد من القبب وهي تبدو كأنها أعلى من جدرانها بعض الشيء!! طرقنا بابها الحديدي الكبير وعلى الأثر فتح باب صغير وخرج منه حارس المكان ومد يده إلينا يطلب من كل واحد منا قرانا باسم الحلوان (البقشيش) .. أجابه مارسل بسرعة إلى سؤاله لأنه لا يمكن

__________________

الأخيرة بالست زبيدة زوجة هارون الرشيد ، وستذكر السائحة فيما يأتي أنها مقبرة «زوجة هارون الرشيد» على حسب قول العامة في أيام سياحتها .. ومن الأساطير الشائعة عند بعض العامة في وقتنا هذا أن بهلول هو أخي الخليفة هارون الرشيد وهذا قبره!. «المترجم»

١٠٤

الدخول في هذا المكان ومشاهدة طرز بنائه بأقل من هذا المبلغ الزهيد لا سيما وهي مقبرة تاريخية ، كما قال لي مارسل لرجل أوقف الشمس على ما تقول الروايات. وعلى الفور سمعنا قرقرة الباب الحديدي ورأينا أنفسنا في صحن هذه المقبرة الصغيرة.

هذه المقبرة الخالية من جدث أي ميت أنشئت لحمل اسم جوزه وتخليده (١) وعلى جوانب طاق الباب الذي دخلنا منه كانت عبارات عبرية كتبت على الطابوق بلون أخضر أو أصفر وبعد مرورنا منه واجهنا باب صغير وهنا كان يقف شخص آخر وطلب الحلوان (البقشيش) كذلك (٢)؟!

ولا أدري هل حسبونا «روشيلر» (٣) لكي يطلبوا منا الإنعام مرة بعد مرة. إن طمع هؤلاء يفوق طمع خدم وحراس الكنائس الكبيرة في أوروبا. ولم نر بدّا من إجابة طلب الخادم هذا ، وفتح على الأثر الباب ودخلنا إلى القسم الداخلي من هذه المقبرة ولكننا تأسفنا كثيرا على أننا لم نجد هنا شيئا يستحق المشاهدة وحتى يستحق البقشيش الثاني. وكل الذي شاهدناه هو وجود صالون أنشئ من الجص ليس فيه أي فن أو جمال ، والبناية عارية من كل تزويق ولم تكن مشاهدتها تسوى ثمانية فرنكات التي دفعناها لخدمها ولا نصف الساعة الذي أمضيناه في الوصول إليها ، ولقد خيل إليّ أن حراس هذا المكان اتخذوا هذه المقبرة كمينا لسلب العابرين فرنكاتهم!!

ولكن على رغم ذلك لهذه المقبرة البسيطة منزلة جليلة في نفوس اليهود لا عند الذين يسكنون بغداد وأطرافها أو في المناطق الشمالية من بلاد بين

__________________

(١) Gosui هو الذي ادعى زعامة العبريين بعد موسى (عليه‌السلام) وقام بفتح بلاد الكنعانيين وبحسب روايات التوراة انه تحارب مع ملك بيت المقدس وأمر الشمس أن تقف ريثما ينتهي من فتوحاته وانتصاراته. واليهود يسمّونه «يشوع» أو «يوشع بن نون» أو «يوشوعا»؟!

(٢) الظاهر انها أرادت مقبرة النبي يوشع المزوّرة في الجانب الغربي من بغداد. «المترجم»

(٣) تعني الثري والصيرفي اليهودي المشهور بثروته وأمواله روتشيلر؟!

١٠٥

النهرين فحسب ، بل حتى لدى الذين هم في الأصقاع البعيدة عن العراق فيأتون لزيارتها زرافات ووحدانا في مواسم معينة خاصة من السنة.

وتدلنا كثرة الأبنية اليهودية المنشأة في العراق كمقبرة يوشع وعزرا وحرية بنائها على ما تتمتع به هذه الطائفة من القدرة وعلى كثرة عددهم (؟)! في هذه البلاد! (١) ولا أدري أهؤلاء اليهود هم من أعقاب البابليين الذين هاجروا إلى هذه البلاد في سنة (١٠٣٠) بعد الميلاد أم هم الذين هاجروا إليها في زمن الخلفاء (؟) لكي ينجوا من حقد وعداء الأمم الأوروبية ويكونوا في مأمن من سطوتهم وعذابهم.

وعلى أي حال فاليهود في هذه المدينة يتمتعون بقوة ، وتكاد شؤونها التجارية والاقتصادية تنحصر في أفرادهم لذلك تكوّنت هذه الطائفة الثرية المتمولة في البلاد.

يختلف حي اليهود عن الأحياء الإسلامية بشكل واضح بيّن في الوهلة الأولى. فلمنازل الإسرائيليين شبابيك ومشارف ذوات سياج حديدي تطل على الأزقة ، وتستطيع النسوة اليهوديات مشاهدة المارين خلالها ، دون أن يستطيع هؤلاء مشاهدتهن.

والمرأة اليهودية على العموم منزوية في البيت قلما تخرج إلى الخارج وهي لا تتبرج كثيرا ، وتنحو نحو البساطة في أمور التواليت ولكنهن في المناسبات الخاصة يزين أيديهن

__________________

(١) فات الرحالة هنا أن اليهود لم يكونوا يتمتّعون بقدرة أو سطوة ، بل كانوا يتمتّعون باحترام أهالي البلاد كما كان شأنهم مع بقية أفراد الطوائف الأخرى. «المترجم»

١٠٦

وصدورهن بأسورة وقلائد ذهب نفيسة وجواهر ثمينة. واليهود هنا يرغبون في اقتناء الجواهر والمعادن النفيسة كثيرا إلى حد الجنون ، ذلك لأنهم يستطيعون أن يخفوا ثرواتهم وقت الحاجة أو حملها معهم عند الفرار!!

وزيادة على الخواتم والأسورة والأقراط المصنوعة من الألماس أي (البرلانت) أو المرصّعة بهما التي تتزين بها البنات اليهوديات في الأعياد والمناسبات الخاصة ، وكل منها يعد غاليا جدّا ونادر الوجود فقد سمعت الشيء الكثير عن القلائد ذات الأطواق الستة المصنوعة من اللؤلؤ الناصع الذي تتزين بها بنات الصيارفة اليهود المعروفين.

وعلى أي حال فأنت إذا استطعت الدخول في مقبرة (يوشع) غير المهمة يدفع الحلوان (البقشيش) ـ كما فعلنا ـ أو بطريقة أخرى .. فلن تستطيع قط الدخول في مقبرة زوج الخليفة هارون الرشيد «الخليفة العظيم الذي أرسل هيئة تحمل الهدايا إلى بلاط شارلمان» (١) اللهم إلّا إذا كنت أحد الطيور التي تدخل فيها من خلال ثقوب قبتها المخروطية الشكل ..

ويغلب على الظن أن سبب إغلاق باب هذه المقبرة يعود إلى أمرين أحدهما احترام منزلة الست زبيدة التي كانت زوج الخليفة العظيم وعدم الإذن لكل من هب ودب للدخول إليها .. والآخر المحافظة على المقبرة من تجاوز اللصوص والسراق عليها.

ومن المعلوم أن قطاع الطرق كانوا يختبئون في القديم بهذه المقبرة ، وعند ما كانت القوافل تمر بهم في طريقها إلى الحلة أو بغداد أو كربلاء ، ولا سيما قوافل الزوار إلى العتبات المقدسة كانوا يهجمون عليها ويسلبونها ويقتلون من يقف في طريقهم ، وموظفو الترك على علمهم بهذه الأعمال ما كانوا يحركون ساكنا ولا يبدون أي عزم لتقليم أظفار هؤلاء الأشقياء والشطار. بل كانوا على العكس يتركون لهم الحرية في القتل والسرقة كما يشاؤون. ولقد سمعت من الكثيرين في هذه البلاد أن هؤلاء الموظفين كانوا حماة

__________________

(١) حكاية الهدايا والساعة الدقاقة أصبحت من خرافات التاريخ. «المترجم»

١٠٧

اللصوص والمشجعين لهم في حقيقة الأمر وواقعه ..

ولكن عند ما بلغ السيل الزبى وضج الجميع بالشكوى من أعمال هؤلاء اللصوص الذين اتخذوا مقبرة الست مقرّا وكمينا ، اضطرت سلطات الأمن إلى أن ترسل دورية صغيرة إلى هناك وتقبض على شخصين مجهولين يغلب على الظن أنهما لم يكونا من تلك العصبة المارقة .. وعلى أي حال فقد سيقا إلى المحاكم ، ولكن عمليات السلب والنهب والقتل لم تنته ، وعرف الجميع عندئذ أن سلطات الأمن متآمرة سرّا مع هؤلاء اللصوص وأخذت الألسن تلوك هذه الفضيحة بحيث لا تقبل الشك والريب ..

ولما رأى الوالي أن القضية بلغت مبلغا خطرا وتطورت هذا التطور غير المنتظر وجد أن خير طريقة للخروج من هذا المأزق هو أن يجرد! حملة من عمال البناء ليقيموا حائطا عند مدخل باب المقبرة ويمنعوا دخول اللصوص أو الناس الطيبين؟!.

وبعد عدّة سنين أمر الوالي بفتح ثغرة مربعة في حائط من حيطان المقبرة ، وذلك على حسب رجاء زهاد بغداد الذين رجوه لكي يستطيعوا أن يمدوا رؤوسهم خلالها ويشاهدوا ما في داخلها كالجرذان تماما. ونحن أيضا قمنا بتلك العملية نفسها فمددنا رؤوسنا داخل المقبرة وشاهدنا ما كان في المقدور مشاهدته بمثل تلك الطريقة!

يتكوّن بهو المقبرة من ثمانية أضلاع ويتلوها قبة مخروطية الشكل تزينها من الخارج بعض النقوش والمنخفضات والمرتفعات الحادثة من طرز وضع أحجارها. أما حيطانها الداخلية فبسيطة ليس فيها تزيين أو تزويق.

ولم تكن الست زبيدة وحدها ترقد في هذا المكان الأبدي بل يقال إن زوج (١) أحد شيوخ القبائل العربية الكبيرة تقاسم الأميرة العباسية هذا المكان الهادئ .. وتجد على القبرين قطعا من الآجر لم يراع في وضعها وإنشائها أسلوب فني جميل ، كما يظهر أنها لم تكن منحوتة نحتا جيدا. وعلى أي حال

__________________

(١) تراجع رحلة نيبور الألماني لمعرفة الدفينة الأخرى. «المترجم»

١٠٨

نقول يرحم الله هاتين السيدتين الجميلتين وينزل عليهما شآبيب رحمته وعفوه.

والواقع أن جمال منظر المقبرة من الخارج يخفي الشيء الكثير من سذاجة وقبح مرافقها الداخلية. ومن المعلوم أن هذه المقبرة انشئت بعد وفاة الست زبيدة بزمن طويل ، لأن أسلوب بنائها يشبه إلى حد بعيد الأساليب المعمارية التي عرفت في بدء القرن الثالث عشر فموزاييكها الذي بلون واحد وآجرها المنشأ به الطاقات البيضوية كل ذلك يشبه فن العمارة السلجوقية إلى حد كبير.

حريق بغداد ..

الذي قطع الحركة التجارية ثلاثة أيام ..

٢٠ ديسمبر ١٨٨١ :

حدث اليوم في بغداد هرج ومرج شديدان ، إذ التهمت النار البارحة «الليلة السابقة» السوق التجاري الكبير ، وتعاون الجميع من تجار وكسبة ومختلف أفراد القوات الرسمية على إطفاء النيران الملتهبة.

ولقد قام الأهلون بطريقة مبتكرة تدل على ذكائهم دلالة واضحة في سبيل إخماد لهب الحريق وصيانة بضئعهم وأموالهم من أيدي رجال الإطفائية واللصوص وأفراد سلطات الأمن ، وهي أنهم ما كادوا يرون النيران تقترب من محالهم التجارية حتى اتقوا سقوفها وهدموها إلى الداخل ، وبذلك حافظوا عليها من النيران ومن

١٠٩

تجاوز الأفراد الآخرين. وهم بعد أن يخمدوا الحرائق يغلقون المنافذ ، وعلى هذا الأساس يظهر للسوق منظر كئيب موحش. ولكن خلال يومين أو ثلاثة أيام عند ما تهمد النيران تماما ولا يخافون شيئا يعودون إلى دكاكينهم بغير اضطراب ولا قلق ، ويبدأون برفع التراب عن بضائعهم ، وفي مدة قليلة تتم هذه العملية وترجع لتلك المحال سابق عهدها كما كانت تماما!

كان الحريق قد ابتدأ من أقدم أقسام السوق أي على مقربة من البناء العظيم وأقصد «خان أرتمه» ولو لم يقوموا بإطفاء النار لكانت هذه البناية التاريخية والتي تعد من أهم المراكز التجارية لبغداد الآن أثرا بعد عين!

وخان أرتمه عبارة عن بناء مستطيل الشكل له سقوف جميلة مهيبة تدل على فن معماري عريق ، وتزينه من الخارج بعض الأعمدة التي تكون بمثابة سند للحنايا الكبيرة الثقيلة ، وهذه الأعمدة يفصل الواحد عن الآخر مسافة ثلاثة أمتار! أما الحنايا فعلى نوعين كبيرة وصغيرة وكل منها تتصل بالأخرى. وعلى النوع الأخير بعض القبب المشبكة بحيث يكون للقسم المرتفع منها اتصال بالحنايا الكبيرة وينفذ خلالها النور!

وفي نهاية هذا البناء الضخم جدار طويل متكوّن من طبقتين لهما سياج مشبك وهذا السياج يعمل على إضاءة الخان وتنويره!!

وفي القسم السفلي من الحنايا أيضا منافذ تمر خلالها أشعة الشمس وتساعد ذلك السياج والقبب الصغيرة المذكورة على التنوير. والموزاييك ذو اللون الواحد الذي أنشئ به السقف وبعض المرافق الأخرى له منظر جميل جذاب يأخذ بألباب النظار ، ولا سيما عند ما يسقط عليه نور الشمس الوهاج!

وأكثر أقسام هذا البناء روعة هو الإيوان الذي يحيط بجوانبه من الأعلى ، الذي بذل مصممه جهدا جهيدا لإخراجه بهذه الروعة الأخاذة. ومن البديهي أنه إذا أراد المعمار أن يزين أبنيته بقطع صغيرة من الآجر بشكل ظاهر فلا يكون في مكنته أن يجعل من تلك التزيينات الظاهرة محكمة قوية ، إلّا أن المعامير (١)

__________________

(١) المعامير : جمع المعمار. «المترجم»

١١٠

الإيرانيين المتفننين ضربوا بسهم وافر في هذا الميدان وتمكنوا من تحقيق ذلك في الأبنية التي أنشأوها إلى أبعد حد ، أمثال خلايا النحل والمقرنصات وما شابهها!! ومن الناس من يتصور أن الغرض من تلك المقرنصات ما يشبه خلايا النحل الظاهرة هي تزيين البناء فقط وأنها من خصائص الفن المعماري العربي ، في حين أن ذلك من سمات الفن الإيراني للعمارة وأن الإيرانيين يعملون ذلك للزينة ولإحكام الأبنية وتقويتها في الوقت عينه. فهذه الخلايا التي في بناء خان أرتمه لها علاقة وصلة بأقسامه ومرافقه الأخرى ، أي أنها لم توجد عبثا ولغرض الزينة حسب. فالمعمار الفنان استطاع بحذقه وطول باعه أن يوجد أمثال هذه الخلايا المتوالية وأن يصل بعضها ببعض بحنايا صغيرة. وبهذه الطريقة استطاع أن يوجد إيوانا مدورا يحيط بالبناية من مختلف جهاتها بعرض متر واحد وثلاثين سنتيمترا وأن يضع أمامها سياجا خشبيّا جميلا وغير ثقيل كيلا يؤثر في بقية أقسام البناية من حيث التوازن!!

والآجر المستعمل في بناء أعالي ومداخل هذا الخان يشبه الطابوق الذي أنشئت به مقبرة الست زبيدة ، وهو من النوع الذي كان يستعمل في بناء عمارات العهد السلجوقي في إيران.

ولخان أرتمه درج عريض ينتهي إلى سطحه الذي يعد أعلى أقسام الأبنية التي في بغداد اليوم. ومن الجدير بالذكر هنا أن أمثال هذا الدرج قليلة الوجود في الممالك الإسلامية لذلك يصبح لهذا الخان ميزة معمارية أخرى!

والواقع أنه لم يكن خان أرتمه وحده هو الذي أنشأه المعامير الإيرانيون الفنانون فحسب ، بل رأينا على مقربة من هذه البناية التاريخية العظيمة منارة جميلة ضخمة تسمى بمنارة سوق الغزل ، فهي أيضا من آثار المهندسين الإيرانيين ولها خصائص وسمات الفن الإيراني في القرن الثاني عشر. وعلى مسافة أبعد توجد مدرسة عتيقة (١) اتخذها الترك اليوم مخزنا للكمرك. وبناية هذه المدرسة جميلة جدّا وتزينها نقوش وكتابات كتبها خطاطون معروفون.

__________________

(١) تعني المدرسة المستنصرية. «المترجم»

١١١

والواقع أن الشخص يؤخذ بروعة تلك الكتابات والنقوش على سذاجتها!!

والنقطة الأخيرة التي أود أن أختم بها هذا البحث الآثاري هي أن أبنية بغداد العتيقة وآثارها التاريخية مع قيمتها الفنية تكاد تشكل متحفا يسهل على الباحث دراسة الفن المعماري الإيراني من العهد السلجوقي حتى الآن فيها ـ أي في بغداد ـ من دراسته في داخل بلاد إيران نفسها ، ذلك لأن كل عهد من تلك العهود الإيرانية قد ترك أثرا من آثارها المعمارية في بغداد ، في حين أنه لم يبق من تلك الآثار في بلاد إيران نفسها التي تعد معين ومصدر هذه الفنون المعمارية بسبب أن العاصمة الإيرانية كانت تتغيّر بين فترة وأخرى بحسب تغير العائلات المالكة فيها وأنها كانت تنشأ عودا على بدء ، لذلك لا يمكننا أن نرى في مدينة واحدة الأساليب الفنية المختلفة للعمارة الإيرانية كما هي عليه في بغداد مثلا!

عند نزولنا من سطح خان أرتمه رأيت عددا من بائعي السجاد من الترك والإيرانيين وحاولت أن أقتني أنواعا جيدة منها ، ولكني لم أجد في كل ما عرض عليّ هي بغيتي إذ كانت جميعها ذات ألوان باهتة أو خشنة مما يعرف بسجاد فراهان أو الأزميري!!

١١٢

ولقد رأيت بجانب السجاد من المعروضات في المحال التجارية أقمشة حريرية من صنع دمشق ، وأخرى من الململ وقد زينت حواشيها بالحرير وملاءات مذهبة الأكتاف يرتديها الرجال ، وعباءات نسوية بألوان مختلفة وحاجات نسوية أخرى كالأحذية المزينة بالأزهار وما شابه ذلك .. كما أني وجدت بين تلك البضائع أدوات حربية من الأنواع التي تستعمل في البلاد الشرقية وهي بحالة جيدة. أي لم تكن من التحف الثمينة .. ولا تستطيع أن تجد أسلحة عتيقة أو أقمشة مذهبة تاريخية هنا في بغداد ولكنك تستطيع أن تجدها في مدينتي كاشان وأصفهان من أعمال إيران وفي اسطنبول.

لن تجد في بغداد غير البضائع المعتادة ولن ترى من البائع البغدادي غير الانفعال السريع والحدة والخشونة إذا لم تشتر منه شيئا!!

أما صنائع بغداد البلدية فلا تستطيع أن تشتري منها شيئا ما لم توص عليه سلفا لدى الصانع ، وتسلفه بعض قيمته كما هو الحال في إيران. وتكلف أمثال

١١٣

هذه المعاملات الزوار والسياح كثيرا من المشاق والمتاعب بل في أكثر الأحيان تحرمهم اقتناء قسم من المصنوعات البلدية باسم الذكرى من هذه البلاد ، إذ إنهم يسافرون في أيام معينة خاصة وكثيرا ما يخلف هؤلاء الصناع مواعيدهم فيتسبب عن ذلك كثير من المشاجرات والمنازعات لا بالنسبة لهؤلاء السياح الأجانب فحسب ، بل حتى للأهلين.

ولقد أرتني مدام پرتيه عددا من الستائر المذهبة التي أوصت بصنعها وأسلفت الحائك بعض ثمنه مقدما ومع ذلك لم تكن جميعها باللون الذي أرادته وبالشكل الذي أوصت به .. ولقد سألتها عن علّة ذلك فأجابتني بقولها : إنني أول وصولي إلى بغداد طلبت من «حاجي بابا» أشهر النساجين في المدينة أن ينسج لي عددا من الستائر بلون وبحجم واحد وعلى حسب الأصول المرعية في هذا الشأن ، أسلفته نصف أثمانها على أن أعطيه النصف الآخر عند ما يبدأ بإتمام النصف الثاني من تلك الستائر بعد إبدائي رضاي عنها ، وبعد شهرين جاءني حاجي بابا ودعاني إلى محله لمشاهدة الستائر التي أنجز النصف الأول منها ولقد لبيت دعوته وذهبت إلى معمله وأبديت رضائي وأعطيته النصف الثاني من أثمانها ورجعت إلى منزلي وأنا فرحة جذلة. وبعد ستة أشهر جاء حاجي بابا مع عماله إلى بيتنا وهم يحملون الستائر الكاملة وما إن فتحوها بحضرتي حتى رأيتها جميعا ذات لونين مختلفين بشكل منفر!!

وبعد أن أنّبت حاجي بابا ولمته على فعلته هذه أجابني بقوله : «إنك أعطيتني أثمانها على دفعتين لذلك اضطررت أن أصبغ الحرير مرتين وإذا كان اللون مختلفا في الستارة الواحدة فالذنب ذنبك لا ذنبي فلو كنت قد أخذت المبلغ منك مرة واحدة لصبغت الحرير كله جملة ولما تباين لونها هذا التباين الذي أنت مسؤولة عنه ولست أنا»؟!

وبعد أن انتهى من كلامه هذا ترك الستائر وخرج مغضبا. وإنني لم أجد بدّا من قبولها على علاتها لأنني كنت قد دفعت أثمانها سلفا .. هذا هو حال المعاملات هنا وعليك التقدير؟!

لا تستطيع أن ترد علّة المعاملات على هذه الطريقة البدائية إلى عدم

١١٤

وجود رأس المال عند الصناع ، ذلك لأن في بغداد عدد كبير من الصيارفة وذوي رؤوس الأموال الكبيرة وهم على استعداد أن يمدوا هؤلاء الصناع بالمال. يضاف إلى ذلك أن لأفراد هذه الطبقة امتيازات خاصة بهم منها أن الحكومة لا ترهقهم برسوم وضرائب كثيرة وذلك لتشجيعهم والأخذ بيد الصناعة البلدية ، ثم إنها لا تطلب منهم شهادات وشروطا معينة لكي يقوموا بصناعاتهم تلك أو فتحهم معاملهم سواء في ذلك الكبيرة والصغيرة. وكل الذي تأخذه الحكومة هو رسوم يسيرة على تلك المصنوعات في حالة إصدارها إلى الخارج فقط. وحتى هذه الرسوم الزهيدة من الممكن تداركها وتقليلها بعد الاتفاق مع موظفي الكمرك فهم يبدون مساعدة في مثل هذه الأمور التي تتم بمنفعتهم الخاصة وتزيد من ثرائهم الفاحش غير المشروع؟!!

وأعتقد أن علّة استسلاف هؤلاء الصناع أثمان المصنوعات هي أولا للتصرّف بها كما يشاؤون وتأخير إنجاز ما أوصوا بصنعه ما استطاعوا ذلك فيفيدون بذلك من المال والوقت معا وثانيا لأن الصناع يخافون أن يستغني المشتري عما أوصى به بعد إتمام العمل أو يتعنت في قبول البضاعة وينتحل بعض المآخذ عليها!!

لهذه الأمور نرى العمال والصناع يفضلون أمثال هذه الأساليب في المعاملات التجارية والسوقية على ما سواها وإن كان في ذلك الضرر والغبن للطرف الآخر!

ومما يلفت النظر في أسواق هذه المدينة المملوءة بالبضائع الثمينة على اختلاف أنواعها عدم ازدحام المشترين والعابرين وبرودة الحركة التجارية ، وذلك لأن البضائع الثمينة والأشياء النفيسة يحملها الدلالون إلى منازل الشارين وفي بعض الأحيان يحملها أصحابها أنفسهم إلى المحتاجين إليها أو الذين يتوسمون فيهم تصريف تلك البضائع عليهم. ويمكننا أن نستثني من هذه الأسواق ، تلك التي تعرض الأقمشة القطنية الانجليزية أو البضائع الروسية ، فإنك ترى فيها عددا كبيرا من الناس في حركة دائبة ، وترى أمام تلك الدكاكين النساء القرويات وقد عرضن أمامهم اللبن والدجاج والبيض التي جلبنها من

١١٥

ديارهن القروية القريبة. وإذا تأملتهن رأيتهن يدمجن بضائع الزينة النسوية المعروضة في تلك الدكاكين كالأساور والأقراط وما سواها بكثير من الدهش والتمني والرغبة.

وهاته النسوة يسرن في الشوارع سافرات الوجوه لا يحجبها شيء سوى (المقنعة) السوداء الصوفية التي تحيط برؤوسهن ويضم قسما من جبينهن وذلك على ما أعتقد ـ لكي يكون حجابهن رمزيّا وتشبها بالنساء البغداديات إلى حد ما!

وتستطيع أن ترى من قرب وجوه وأجسام هذه النساء بكل وضوح على خلاف من سواهن من نساء هذه البلاد ، ولكن الشيء الجدير بالذكر هو أنك لا تجد فيهن سمات الجمال والجاذبية التي وجدتها في نساء قبائل الفيلية العربية (١). وأعتقد أن مردّ ذلك هو الأعمال الشاقة والمسؤوليات الضخمة التي ألقيت على عواتق هذه النساء القرويات اللاتي يأخذن في العمل سحابة نهارهن وطرفا من الليل حتى أودى ذلك بصحتهن وامتص رونق الجمال من أوجههن السمر.

ولعلك تسأل ـ بعدئذ ـ عن وظائف أو بالأحرى عن أعمال رجال هذه القرى فأقول لك إنها تنحصر في الصيد أو الغارة والسرقة من مزارع وحقول الآخرين؟!!

والخلاصة .. إن رحلتي في عاصمة الخلفاء وأعني بغداد قد انتهت بزيارة الميادين الواسعة التي تباع فيها الحبوب. وفي اعتقادي ليس ثمة منظر أبهى وأجمل من تلك الميادين التي تشبع كل يوم الآلاف من أصحاب البطون الخاوية. إذ تطالعك مشاهد جذابة من أكوام تلك المزروعات في تلك الميادين والناس في ذهاب وإياب بعد أن أخذوا حاجاتهم منها.

.. والواقع أن لهذه الميادين مناظر جذابة رائعة ولا سيما عند بزوغ الشمس ففي هذا الوقت يشتد ازدحام الناس للشراء والبيع هناك حتى يضطر

__________________

(١) الفيلية من قبائل الأكراد لا قبائل العرب. «المترجم»

١١٦

الإنسان الذي يعبر خلال تلك الأسواق أن يستعمل العصا في عبوره وفي شق الطريق له.

إن من يعتاد أكلات أهالي بغداد لا يجد في تهيئة غذائه صعوبات مادية إذ يستطيع أن يشتري الدجاج المنزلي وأنواع الطيور الأخرى بأسعار زهيدة جدّا. والخروف الجيد لا يزيد ثمنه على ستة فرنكات. والأسماك كثيرة ومبتذلة لدرجة تدعو إلى الدهشة ، والخضراوات والفواكه أمثال البطيخ والرقي التي تجلب من المناطق العليا من بلاد بين النهرين كثيرة بحيث تملأ الخانات أكواما فوق أكوام حتى أنها تكاد تشكّل هضابا ولا تستطيع بسهولة أن تعبر بينها.

وأحجام الزوارق التي تحمل هذه الفواكه والخضراوات لا تقاس طبعا بأحجام الزوارق المعروفة لدينا في أوروبا ..

ومن الطبيعي أنه ينبغي أن ننظر بدهشة وإكبار لهؤلاء الناس الذين قبل أن يحل الغروب تستوعب أجوافهم كل هذه الكميات الكبيرة من الفواكه والخضروات. أما أنا إذا ضعت ولم أستطع أن أجد محلي فلا أرضى بأي حال من الأحوال أن أعيش في هذه الناحية التي تتميّز بكثرة نعمتها وبثروتها ، اللهمّ إلّا إذا طهرت من الموظفين الترك ومخاطر مرض الطاعون و «الأخت البغدادية» ولا يفوتني أن أقول إن البلاءين الأخيرين عندي هما أسهل تحملا ـ أي الطاعون والأخت البغدادية ـ من وجود الموظفين الترك؟!

٢١ ديسمبر ١٨٨١ :

صرفنا النظر عن زيارة قصور سارجن وسنحاريب (١) التي تبعد كثيرا عن بغداد ولكنا لا نستطيع بحال أن نصرف النظر عن زيارة برج بابل وحيطان هذه المدينة العظيمة وحدائقها المعلقة التي نسمع عنها منذ طفولتنا الأولى فتثير اهتمامنا وشغفنا.

__________________

(١) سارجن وسنحاريب هما من ملوك آشور القدماء.

١١٧

وعلى نفورنا من الموظفين الترك الرسميين قد استعنا اليوم صباحا بهم لزيارة تلك الأماكن التاريخية ، فكان أن أرسلوا معنا أربعة من رجال الأمن لحمايتنا وتسهيل أمرنا في هذه الزيارة التي أزمعنا القيام بها ، وكان الوالي قد اختار هؤلاء الرجال الأربعة هو بنفسه. ولقد امتطيت أنا صهوة جواد هزيل ضعيف البنية خضب صاحبه جبهته وأطرافه بالحناء لكيلا تصيبه العين ، ولا يصيبه مكروه من الجان .. وبعد أن عبرنا جسرا أنشئ من زوارق عائمة قديمة سرنا في طريق بابل ميممين وجوهنا إليها ..

ولو أن الأطفال السائبين في الأزقة لم يقفوا في وجوهنا ويسمعوننا الألفاظ القارصة ويهينوننا ويسخرون منا في طريق مرورنا بأزقة المدينة ، لكان يخيّل إليّ أنني في جيش محجل عظيم على رغم قلّة عددنا ..

ولقد كان رجال الأمن الأربعة الذين رافقونا في سفرتنا هذه يرتدون ملاءات جيدة على خلاف العادة وعلى رؤوسهم الأغطية الرسمية وعلى أكتافهم

١١٨

بنادق من نوع (Sindr) سيندر التي كانوا يطلقون منها بين حين وآخر طلقات تلعلع في الأجواء على عادة فرسان العرب في إظهار فرحهم وسرورهم في حادث من الحوادث المبهجة. وكان من المقرّر أن يرافقنا ضابط خدم في جيش الهند مدة أيضا ولقد انتظرناه بعض الوقت بجانب مقبرة الست زبيدة ولكن انتظارنا طال كثيرا ولم يأت ، وليأسنا من مجيئه تركناه وذهبنا.

وفي البدء عبرنا صحراء جميلة زاهية كانت قد زرعت بالحنطة وكثرت فيها المساقي والسواقي وما كدنا نبعد عن هذه الأراضي حتى وصلنا إلى ضفاف نهر دجلة مرة أخرى وعبرناه خلال جسر عائم آخر وكان يتميّز بجماله ودقة صنعه. وفي الطريق شاهدنا سيارة كانت تعمل في هذا الطريق بين المدينتين ولكنها الآن معطبة ومتروكة على جانب الطريق. وهذه نتيجة حتمية طبعا لطرز أفكار الترك الجنونية التي لا تسعى إلى تعبيد الطرق وإقامة الجسور المتينة الصالحة وعدم وجود الفحم الحجري ، فلا غرو إذن أن تعطب وتترك

١١٩

أمثال هذه السيارات وأن يحرم بالتالي الأهلون من وسائل النقل الحديثة!!

أجل من الطبيعي أن تستطيع هذه السيارة السير في شوارع أوروبا المعبدة السليمة وأن تؤدي فوائد جزيلة للشعب ، ولكن الأمر هنا يختلف فالموظفون العثمانيون لا يجشمون أنفسهم للترفيه عن الأهلين وتيسير وسائل العيش لهم بل ولا يكلفون أنفسهم حتى مجرد التفكير في ذلك!!

ومن المعلوم أن هذه السيارة كلفت خزانة الدولة العثمانية كثيرا ولكنها الآن متروكة في هذا المكان المقفر المملوء بالطين والأوحال وإننا لا نعجب في ذلك إذا عرفنا أن الموظفين الترك الشرفاء كانوا يتقاضون رواتبهم من الفوائد التي تدرها من غير أن يفكروا في أمر إصلاحها أو المحافظة عليها وصرف أي مبلغ في هذا الشأن ، إذ إنها لم تكن تكفي رواتبهم هم فكيف يصرفون عليها ولو مبلغا صغيرا!! كما هو حالهم في الأمور العامة الأخرى؟! ومن هنا تستطيع تقدير التسيب الذي يسود حياة هذه البلاد المسكينة.

وعند عبورنا الجسر المقدم الذكر استقبلتنا صحراء واسعة ليس فيها من زرع ولا ضرع اللهم إلّا آثارا لمجاري المياه المندثرة التي كانت تسقي هذه المنطقة الزراعية المهمة. أما الآن فهي ليس أكثر من صحراء قاحلة تشاهد فيها السدود والسكور المخربة المرتفعة والمجاري المندثرة هنا وهناك!!

ويرجع تاريخ هدم هذه السدود والسكور واندثار هذه المجاري إلى أزمان بعيدة إذ إن هردوت المؤرخ القديم المعروف يقول : إن هذه المنطقة كانت تعد من أخصب مناطق إيران. وكذلك أقوال رجال الجغرافية الذين عاشوا في القرن الثاني عشر أيضا. إن ابن جبير يقول : «إن الطريق الذي يصل الحلة ببابل يقع في منطقة زراعية مهمة تدر محاصيل فاخرة كثيرة. وفي هذه المناطق تجد أبنية تتصل الواحدة بالأخرى كما أن مدنا كبيرة متعددة تقع على جوانب هذا الطريق».

وهكذا يبدو أن الجهلة في مدة قليلة حولوا هذه المنطقة الثرية التي كانت تدر كل تلك الثروات الطائلة الخيالية إلى أراضي بور معدومة ليس فيها زرع ولا ضرع!!

١٢٠