رحلة مدام ديولافوا من المحمّرة إلى البصرة وبغداد

ديولافوا

رحلة مدام ديولافوا من المحمّرة إلى البصرة وبغداد

المؤلف:

ديولافوا


المترجم: علي البصري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٣

آرامية. وفي نهاية هذا التل من الناحية الجنوبية عدّة حفر نرى من المؤكد أنها حفرت بأيدي المنقبين وفي أطرافها عدّة مبان مشيدة من الطين والآجر ، ومن المعلوم أنه لما لم يجدوا آثارا مهمة فيها تركوها.

وعلى أي حال تبعث مناظر خرائب معبد بلوس ومدينة بابل القديمة على الأسى والحزن. والآن ما زال جماعة من العمال العرب والترك منهمكين في عمليات التنقيب وتصل إلينا همهمتهم وأغانيهم بصورة جميلة.

وتحيط بهذه الكثبان والتلال التاريخية الأشواك والنباتات الطفيلية الطبيعة من كل جانب ، وهي في الواقع غير مأهولة لا يقطنها سوى قوم من الرعاة مع خرافهم وجماعة من الحفارين والمنقبين ..

وبناء على روايات التوراة جاء على لسان الله سبحانه وتعالى قوله «بعد مرور سبعين سنة من ظلم وجور بابل سأتجه عليها مغضبا وأمحوها عن الوجود إلى الأبد».

٢٦ ديسمبر ١٨٨١ :

إنني متأسفة جدّا لأني لم أستطع أن أرى بابل منذ ألفين وستمائة سنة عند ما كانت عاصمة بختنصر وسلفه ذات جلال ورهبة. فلو كان يحدث مثل هذا لكنت أغتنم الفرصة وأعرض نفسي في إحدى الجلسات الطبية التي كانت تعقد يومئذ.

في ذلك العصر عندما كان الواحد من سكنة بابل يصاب بمرض ما كان يخرج من منزله ويوضع في ميدان من ميادين المدينة أو في متقاطع طرق يكثر العبور منه. وكان الناس في هذه الحالة يحيطون بالمريض المضطجع وكل منهم يصف له الدواء الناجع بحسب سليقته ومعلوماته وتجاريبه؟!

وهنا ودعنا الكولونيل جرارد واستودعنا الله إياه ، اتجه هو نحو «كدستان» وتوجهنا نحن نحو مدينة كربلاء التي تعد من مراكز الشيعة المهمة وفيها عدّة مدارس كبيرة مذهبية وفي بعض الأحيان يقضي طلاب هذه المدارس عشرين سنة أو أكثر في تحصيلاته الدينية.

وفي موقع خروجنا من بابل أخذنا الأدلة وعبروا بنا قناة تتوسط مدينتي

١٤١

الحلة وكربلاء وذلك بواسطة زوارق شراعية صغيرة. وعندما بلغنا اليابسة طفقنا نمر خلال أرض صفراء منبسطة ليس فيها زرع ولا نبت لأن المحصول الربيعي كان قد حصد ونقل إلى المدن للبيع .. كما أنا لم نر في طريقنا قرية ولا قصبة.

بعد ساعتين من المسير لاحت لنا عن كثب خيم جماعة من الأعراب الكبيرة مرتفعة بين الأشجار والنباتات وأمامها برك ومستنقعات. وكانت بين هذه الخيم خيمة أكبر وأوسع من سائرها وأمامها فسحة من الأرض خالية وكان يعلوها علم يخفق في الأعالي.

والواقع أن خيمة رئيس القبيلة وحدها تكون لها مثل هذه الميزات فقط. كما يكون له هو ميزات بين أفراد القبيلة خاصة به. ومن المعلوم أن ناصر الدين شاه الإيراني أخذ بهذه الرسوم والصلاحيات أيضا. إذ كانت تضرب له خيمة في مكان مستقل بعيد نوعا ما عن مضارب الآخرين ويرفع عليها علم عندما كان يخرج للصيد مع حاشيته أو للقيام بنزهة في البادية.

والخلاصة أن القافلة أخذت تحت السير إلّا أن الشمس كانت تجنح إلى المغيب ، وكان ينبغي لنا أن نقطع مسافة كبيرة لكي نصل إلى غابات النخيل التي تبدو أمامنا من بعيد وهي موضع الاتصال بين طريق الحلة وكربلاء على حسب أقوال الأدلة لنا.

أخذت السماء رويدا رويدا يملؤها الظلام والسحب تتراكم فوق رؤوسنا وأخيرا شرع المطر في الهطول وتعذرت علينا متابعة السير في ذلك الطريق الموحش الذي تختفي تحت نباتاته ومزروعاته مجاري المياه والآبار. ولا سيما أن أدلتنا لم تكن لهم المهارة والشجاعة الكافية إذ رأيناهم يقولون لنا إنه ينبغي لنا أن نتقدم القافلة لأننا نحمل السلاح دونهم لا لشيء آخر.

ولو لا أن اتفق أن رأينا في طريقنا أربعة أشباح ضخمة لم يكن في مكنتنا متابعة السير للوصول إلى غابة النخل. والواقع أن هذا المشهد أثار في نفوسنا الخوف والوحشة ودفع أدلتنا ومن كان معنا في هذه القافلة المنحوسة إلى أن يختفوا خلف الأشجار ، واضطررنا نحن في هذه الحالة إلى تجريد سلاحنا

١٤٢

والتهيؤ لإطلاق النار ، ولكن الله سلم إذ ما كدنا نقترب بضع خطوات حتى وجدنا أن هذه الأشباح التي حسبناها حيوانات مفترسة ضخمة لم تكن سوى جماعة من الحطابين يحملون فوق ظهورهم حزما من الشوك وأغصان الأشجار؟!

وبعد أن استعدنا اطمئناننا والتقطنا أنفاسنا اللاهثة أجبر أحد أفراد قافلتنا هؤلاء الحطابين أو بالحري جامعي الشوك أن يرافقنا إلى محل نطمئن إليه وتأمن فيه القافلة في ظلام هذا الليل الموحش. وأخيرا بلغنا قرية صغيرة كانت تبعد كيلومترين من هذه الأهوار ووقفنا أمام باب هشمت خشبه النمل ودام وقوفنا ربع ساعة لكي يسمح لنا بالدخول إلى هذا المنزل الذي لا ندري ماذا ينتظرنا فيه.

وبعد لأي وصبر فتحت الباب ودخلنا فإذا هو خان بين ـ بين لا بالواسع ولا الصغير تحيط به من الجوانب عدّة دكاكين. وكان هذا الخان يضاء بفوانيس نفطية وكذلك الدكاكين الصغيرة القذرة. لقد أمضينا ليلتنا هنا مضطرين بسبب هطول الأمطار بغزارة في ذلك الوقت الأخير من الليل.

٢٧ ديسمبر :

أفقنا اليوم قبل أن تبزغ الشمس وتابعنا سفرنا إلى كربلاء وبعد أن عبرنا جسرا صغيرا يقع على شط الفرات بلغنا الطريق الموصل إلى هذه المدينة الدينية. ولقد تغيّرت المناظر منذ وطئت أقدامنا هذه الطرق فبدل تلك الصحراء القاحلة الكئيبة ، أخذت تطالعنا بساتين وحدائق مزدهرة يانعة مكتظة بأشجار الليمون وبالنخل والأزهار البديعة المختلفة الألوان.

وفي الطريق كنا نرى حركة المرور نشيطة ودائبة ، وقسم من هؤلاء كان من النسوة إما ممتطيات ظهور الدواب وإما ماشيات على أرجلهن ، وكن يسمعننا بعض العبارات الجارحة والسباب الذي لا ندري علته وسببه (١) بيد أن

__________________

(١) لعلّ ذلك كان إنكارا منهن لحالة السائحة في استرجالها وترحالها ، وستذكر السائحة ذلك. «المترجم»

١٤٣

الرجال منهم لم يقولوا شيئا على ما كان يظهر لنا.

ولقد وضح لدينا أن هاته النسوة كن ينفعلن من رؤيتنا بحيث لا يستطعن إخفاء شعورهن المعادي لنا أو إسماعنا الكلمات الجارحة. ولعل مردّ ذلك تحديقنا في وجوههن أو الكراهية المتأصلة في قلوبهن ضد الأوروبيين.

وعلى أي حال لم يمنعنا ذلك من التطلع إليهن وإن كانت وجوههن دميمة تبعث على القرف والاشمئزاز وأجسامهن قذرة تقذي العين. كان اشمئزازهن لنظراتنا عظيما لدرجة أنهن كن يتمنين لو اتصفن بمزايا وخصائص «مدوز» (١) حتى يستطعن تجميد نظراتنا والتخلص منها.

وقبل أن تتحقق أمنية هاته القرويات لفت نظرنا منظر غابات النخيل والليمون المتناثرة على جانبي الطريق ، وغمرنا جوها الرائع الجميل بحيث نسينا السائرين جميعا النساء والرجال على حد سواء إلّا أنه لم يطل تمتعنا كثيرا بهذه المناظر المزدهرة فسرعان ما رأينا أنفسنا على عتبة باب المدينة.

وأمام هذا الباب الذي يقال إنه من المباني العتيقة ساحة واسعة كان يشغلها عدد من الحجارين المنهمكين في قطع وصقل الأحجار والصخور المستعملة في تشييد المقابر وما شابه ذلك. وكان قسم من هذه الصخور مصقولة ومهيأة للبيع ، والقسم الآخر في طريق إكمالها وعرضها على الطالبين.

ولقد علمت أن هؤلاء الحجارين اتخذوا هذا المكان لاستقبال القادمين من أفراد القوافل الذين كثيرا ما يقدمون الى هذه المدينة لدفن موتاهم فيها. وبمجرد أن يطأ هؤلاء الغرباء أرض هذه الساحة يحيط بهم أولئك الحجارون من كل جانب ، فيعرضون عليهم بضاعتهم بإلحاح وإلحاف مملين مزعجين. وبعد مساومة تطول في أكثر الأحيان يتفق الجانبان على الثمن ، وعلى الأثر

__________________

(١) Meduse شخصية خرافية تمثّل عذراء كانت على جانب كبير من الجاذبية والجمال إلّا أنها أهانت إله العقل فغضب عليها غضبا شديدا ، وقلب خيوط شعرها الجميل الرائع الذهبي إلى أفاع خطرة موحشة ، ووضع في عينيها قوة تحوّل كل من تنظر إليه إلى أحجار وصخور جامدة؟!

١٤٤

يأخذ الحجار في تدوير اسم الميت وأبيه وجده على الصخرة.

وبعد أن قطعنا هذا الميدان الواسع وصلنا إلى الباب بيد أن الحراس رفضوا دخولنا منه وطلبوا من أدلتنا أن يأخذونا من طريق آخر ويدخلونا المدينة من خلف سور المدينة ، وينزلونا في المواضع السفلى الأخيرة من المدينة.

وعلى هذا الأساس انعطفنا من هذا الطريق إلى آخر ومررنا بجماعات كبيرة من الناس كانوا قد أقاموا معسكرات. ولقد علمنا أن هؤلاء كانوا من الزوار الذين وفدوا إلى المدينة المقدسة ولضعف حالتهم المادية لم يستطيعوا الإقامة في الخانات والمنازل التي في الداخل ، لذلك اضطروا إلى الإقامة في الخارج على شكل معسكرات أو مضارب من الخيم. ولقد رأيت كلّا من هؤلاء الزوار المساكين يقيم بجانب أثاثه الساذج وأمام دابته الواهنة وهو في حالة تعبد وتهجد. وفريق منهم منهمك في مضغ التمر الذي نواته أكبر من شحمه ومواده.

١٤٥

وبعد مدة اجتزنا بابا إلى شارع كان يبدو أنه شق حديثا. ولقد توقف أدلتنا في وسط هذا الشارع ودخلوا منزلا قذرا مظلما يحوي حجرا ضيقة!

ولم نر نحن بدّا من قبول النزول في هذا البيت على علاته الكثيرة وقذارته ، ذلك لأن مدينة كربلاء تعد أكبر وأهم العتبات المقدسة لدى جمهور كبير من المسلمين ، ويؤمها سنويّا عدد ضخم لا قبل لها باستيعابه على رغم كثرة خاناتها ومنازلها ودورها المخصصة لإقامة الزوار. ثم إنه كان ينبغي لنا أن نبعد عن الزوار ما استطعنا؟!

وبعد أن اطمأن بنا المكان الذي وضع في تصرفنا وهو الطبقة التحتانية الرطبة ارتقيت الدرج إلى السطح وأخذت من هناك التطلع إلى منظر المدينة الرائق ومشاهدة قبة ومنائر مرقد الإمام الحسين المذهبة على الجهة اليسرى ، أما الجهة الأخرى فكانت فيها قبة صنعت من الكاشي الأزرق يغلب على الظن أنها في أواخر العهد الصفوي.

ينبغي لنا الآن أن نحسن التصرف والحكمة كالسياسيين لأنه نريد أن نزور المرقد الشريف هذا الذي لا يقل احترامه لدى الإيرانيين عن الكعبة بيت الله الحرام من دون أن يكون لنا ما يجيز لنا هذه الزيارة الخطرة. ولأجل هذه الغاية نفسها تحملنا كل هذه المصاعب والمشاق في سفرتنا ، وفضلنا أن نسكن هذا المكان الرطب القذر الذي يكاد يشبه الزريبة ، إلّا أن زوجي «مارسل» كان قد اعتبر بواقعة الكاظمين وهيأ كل ما يلزم لزيارتنا هذه ، فأخذ من بغداد عدة توصيات لرجال الدين ووجوه البلد والمسؤولين في كربلاء لمساعدتنا وتسهيل أمرنا.

وفي البداية ذهبنا لمقابلة القنصل الإيراني ، ووجدناه رجلا لطيفا يبلغ عمره أربعا وثمانين سنة متغضن الوجه حلو اللقاء. ووجدنا حوله عددا من رجال الدين والقراء والمراجعين. وما إن رآنا حتى صرف جماعة من زائريه ومراجعيه وأجل مقابلة الآخرين إلى اليوم الثاني ليتفرغ لمقابلتنا ، وبعد أن ترك الجميع المنزل ولم يبق فيه إلّا أفراد عياله أصغى إلى ما كنا قد أتينا من أجله ولقد أجاب عن ذلك بقوله : «إنه لم يتفق قبل الآن أن استطاع شخص نصراني

١٤٦

زيارة مرقد الإمام الحسين ، إلّا أنني رغم ذلك سأبذل جهدي لتحقيق رغبتكم هذه ولي أمل بأن أنجح في هذا ، وعلى أي حال ينبغي لكم أن تعتمدوا على ممثل أكبر وأليق سلاطين الإسلام .. وعلى الفور أرسل أحد خدمه إلى كليدار الصحن الشريف يخبره بوصولنا ويطلب منه الحضور إلى هنا لعرض رغبتنا عليه في هذا المجلس.

وفي فترة غياب الخادم اشتغلنا بحركات طفل كان على جانب من الذكاء والجمال وملاعبته للشيخ ومداعبته إياه ، ولقد هنأت القنصل الإيراني لحظوته بمثل هذا الطفل الذكي لأمتلك قلبه ليهيئ لنا سبيل زيارتنا للمرقد الشريف؟! وسمعته يقول ردّا على ذلك بقوله : «أجل إنه طفل جميل وذكي ، وليس من أحفادي من هو في قوته وسرعة خاطره ذلك لأنه ولد وترعرع في ظل الإمام الحسين في كربلاء» ولقد أيد أفراد عياله من النساء قوله ومن ثم أخذنا في تجاذب أطراف الحديث حتى عاد الخادم وقال : «إن الكليدار قد ترك المدينة منذ مدة لتغيير الهواء والنزهة وإنه بعد أسبوع واحد سيعود في أغلب الظن من قصبته التي ذهب إليها».

إلّا أن قول الخادم هذا لم يبعث في نفوسنا اليأس كما أننا لم نتفاءل به خيرا في نفس الوقت. لأن غياب الكليدار عن المدينة يمكن تأويله وتفسيره كل حسب خياله وفكره.

أما القنصل الشيخ فإنه دون أن يغيّر من حاله أخذ يسرد لنا ما يلاقيه من صعوبات ومتاعب في أداء مهمته ، وأبدى شكواه من سطوة الموظفين الترك وتجبرهم وعدم استطاعته ليكفي رغباتهم وعجزه عن التدخل في شؤونهم .. أخذ يحدثنا بأمثال هذا الحديث لكي يوحي إلينا في خلاله أنه ليس في مكنته مساعدتنا كما ليس في مكنة من سواه ما عدا الموظفين الترك.

ولقد صدق مارسل أقوال القنصل وأخرج من جيبه كتابا من والي بغداد إلى نائب الحكومة في كربلاء يطلب منه مساعدتنا وتلبية طلباتنا وحاجاتنا ووضعه بين يدي القنصل.

وبعد أن حدج الرجل الشيخ بعينيه في الكتاب قال : «لا يستطيع أحد أن

١٤٧

يقف في طريقكم ما دمتم تحملون مثل هذا الكتاب» وهنا صاح بخدمه ليهيئوا له جواده المطهم ويذهب بنفسه إلى الكليدار وعرض القضية عليه ، وقال لنا إنه سوف يعود بعد مداولته ليخبرنا بالنتيجة ..

وعند العصر دخل حجرتنا جماعة من القراء والشيوخ المعممين وأخذ كل منهم في تقديم التهنئة بوصولنا بالسلامة وقراءة التحية والترحيب بنا ، ثم تركوا الكلام لأحدهم فأخذ يخطب وبعد أن أفاض بمقدمة أدبية طويلة قال إنه من دواعي سرور القنصل أن نحل في منزله وأن نطلب مساعدته وإنه من دواعي الشرف للكليدار أن يتلقى مثل هذه التوصية من والي بغداد ، ثم راح يشرح لنا عظمة وجلالة المرقد المطهر الذي زاره شاه إيران مشيا على قدمه عند ما كان في هذه المدينة ، وبعدها قال إنه ينبغي لنا أن نكون في غاية الشكر والاعتراف لأنه لم يسمح قبلا للأجانب بزيارة الضريح الشريف وأن نعد هذه الزيارة فرصة ذهبية قيمة» .. هذه الزيارة التي لا تتم إلّا من سطح إحدى الدور القريبة من المرقد وبعد أن نضع فوق رؤوسنا طرابيش الترك الحمر كيلا نكون موضع ريبة وشك؟!

وبعد أن سكت الخطيب الذلق اللسان تكلّم مارسل فقال : إنه يسره إبداء الشكر الجزيل للعطف الذي قوبل به لزيارة المرقد المطهر من سطح إحدى الدور؟! إلّا أنه يبدي أسفه على أنه لا يستطيع في حال من الأحوال تبديل ملابسه. ولا سيما تبديلها بملابس تركية وارتداء شعار الترك الذين لا يكره أحدا بقدر كرهه إياهم».

وعلى خلاف ما كنت أنتظر ، ترك قول مارسل هذا أثرا حسنا في نفوس القوم لأنه نال به من رجال الترك وحط من أقدارهم (١) .. وبعد تبادل الابتسام والهمس بينهم ضربوا لنا موعدا في الصباح الباكر من اليوم الثاني وذلك بأن يأتوا فيأخذونا إلى دار قريبة نشاهد من سطحها مرافق وأنحاء المرقد الشريف وذلك قبل فتح أبوابه ومن دون أن نغير ملابسنا وكان ذلك حسب طلبنا.

__________________

(١) تعني السائحة : نال قوله الرضا عند أولئك الشيعة المبغضين للترك. «المترجم»

١٤٨

٢٨ ديسمبر ١٨٨١ :

جلست أنتظر قدوم القوم قبل أن تبزغ الشمس وتمحو أشعتها ظلمة الليل البهيم إلّا أن انتظاري طال وملأ النور قبة السماء وتلألأت المنائر المذهبة بالضياء ولا أثر لهؤلاء المعممين ، أي مضت ساعتان على الموعد المضروب ولم يأتوا ليأخذونا إلى المنزل القريب من المرقد المطهر لزيارته من السطح؟! وعيل صبر مارسيل فأرسل مندوب حكومة بغداد الذي كان يرافقنا إلى دار القنصل الإيراني ليستوضحه سبب تأخر القوم عن الحضور. ثم خرجنا لنتفرج على مرافق المدينة ومررنا بمقابر وسيعة. وإلى جانب مقابر المتمولين والسراة الواقعة على أطراف الصحن وضريح الإمام مقابر واسعة خارج المدينة وهي لعامة الناس والفقراء منهم. وتظلل هذه المقابر أشجار كثيرة ولها منظر جذاب جميل في هذا المكان الموحش. وأينما سرنا في هذه المدينة نلتقي برجال دين معممين بعضهم شيوخ لهم وجوه متغضنة معطبة والبعض الآخر في مقتبل العمر يموج في وجناتهم ماء الشباب.

تعد هذه المدينة بمثابة جامعة كبيرة يؤمها الطلاب من مختلف أصقاع البلاد الإسلامية لتلقي علوم الدين ، ويقضون فيها لهذا الغرض أكثر سني حياتهم. ويعيش هؤلاء الطلاب جميعا الصغير والكبير الشاب والهرم على التبرعات التي يتبرع بها الزوار ووجوه المسلمين الذين يعيشون خارج هذه المدينة. ويقدم الزوار لهذه الغاية أموالا طائلة عن طيب نفس ، وفي بعض الأحيان يتبرعون بأثاث وسجاجيد ثمينة وأوان من الفضة التي يجلبونها معهم وذلك للحصول على ثواب الآخرة.

وبعد أن رجعنا إلى المنزل كان في انتظارنا رسول جاء ليبحث معنا مسألة تبديل شعار الرأس عودا على بدء؟!. بيد أن مارسل ضاق ذرعا بهذه السياسة وكان متعبا لهذه المعاملة فلم يصغ إلى حديث الرسول وصاح بالخدم أن يهيئوا الجياد لترك هذه المدينة في أسرع ما يمكن.

والخلاصة أننا خرجنا من كربلاء ويممنا وجهنا شطر بغداد ..

١٤٩

٢٩ ديسمبر :

نحن الآن في بغداد ، الشمس على وشك المغيب إلّا أن أشعتها الذهبية ما زالت من خلال السحب المتناثرة تضيء جوانب أفق المدينة ولا سيما أعالي النخل الخضر؟! ولقد تكوّن من ذلك منظر رائع جميل يأخذ بمجامع القلوب.

وأوحى إليّ هذا المنظر الجذاب هذه الفكرة وهي أن مدينة بابل في عصرها الذهبي المزدهر عند ما كانت فيها تلك العمارات السامقة والحدائق المعلقة والقصور العجيبة الغريبة والأسوار الطويلة المحكمة والأبواب الضخمة الكبيرة ، أقول إن مدينة بابل في عصرها ذاك ، أي جلال كان لها وأية أبهة لها وأي تأثير عميق في نفس زائرها أول مرة.

ومن المؤسف حقّا أن تنقلب عاصمة بختنصر العظيمة إلى كثبان وتلال من التراب .. ولا أدري ماذا يكون مصير هذه المدينة (بغداد) عاصمة الخلفاء

١٥٠

المسلمين في المستقبل؟ هل تمتد إليها أيدي الأقدار كأختها مدينة بابل أم تكون في نجوة من السوء الذي يحوق بها؟!

هذه هي عاصمة أولئك الخلفاء العظماء الذين استطاعوا أن يفتحوا بلدانا كثيرة وأن يرفعوا علمهم على أعالي مدن أسبانيا وأن يخضعوا لحكمهم مدن العالم الكبيرة الأخرى ، ترى هل قرب أجلها هي الأخرى وهل تنهدم هذه المدينة عن قريب؟!

إنني لا أريد لها هذا المصير المؤلم أبدا ، بل أتمنى على العكس لها كل خير. بيد أن الذي أطلبه إلى الله سبحانه وتعالى هو أن يطهّر هذه المدينة من أولياء أمورها وقضاتها وموظفي كمركها الأتراك الذين ينخرون جسمها نخرا وأن يحفظ عليها آثارها التاريخية الثمينة من تطاول أيدي الزمان الذي هو أعدى أعداء العمران ..

١٥١
١٥٢

السنة الثانية من الرحلة

١ جنويه ١٨٨٢ ـ العمارة ـ

لا أدري ماذا أتمنى اليوم بعد أن أبت الظروف أن يتحقق أي حلم من أحلامي السابقة؟ يا ليتني كنت أستطيع أن ألقي نظرة على وطني الحبيب فرنسا. ولكن أين أنا الآن من أرض أجدادي وملعب صباي .. إنني لم أود أن أتابع القيام بهذه الرحلة المتعبة المملة ولكن ماذا بيدي وإنني أحترم رأي مارسل الذي يرى أن نذهب إلى خوزستان.

هكذا ينبغي لي أن اتجه إلى تلك البلاد وأتحمّل كل ما ينتظرني من منغصات ومتاعب وآلام .. بل من يدري لعلي أسعد فيها على خلاف ما أنتظر وعلى خلاف أيام سفرتي السابقة ولكن لا .. لا .. إن ظواهر الأمور تدل عكس ذلك.

هذه أول سفرة أقوم بها وأنا راغبة عنها ضجرة يائسة مما أجد فيها من متعة وسلوة. وأقول مرة أخرى ماذا بيدي ومارسل يريد ذلك وليكن ما يكون ..

وإذ كنا نريد أن نقضي عدّة أيام في طيسفون فلم نقم بتوديع بلاد ما بين النهرين الوداع الأخير ولقد تركنا بغداد ظهيرة يوم ٣٠ ديسمبر وكنا ونحن في طريقنا نرى المزارعين وهم منهمكون في زراعة أراضيهم ، وبعد مدة قصيرة رأينا أنفسنا فجأة في صحراء قاحلة ليس فيها سوى أشواك طويلة احتمت بظلالها عدّة قطعان من الخراف وكان لرعاتها بخلاف المزارعين الوادعين عيون ضارية وحشية مضطربة. ولم تمض إلّا فترة وجيزة حتى تراءت لنا

١٥٣

خرائب قصر طيسفون التي تشبه شبحا أسود ضخما ، ولكن الظلمة ما فتئت أن ملأت المكان وتعالت أصوات الثعالب (١) من بعيد.

ولقد أمضينا يومين كاملين في مشاهدة خرائب طيسفون عاصمة أكاسرة إيران بتدقيق وإنعام ، كما زرنا مرة أخرى خرائب مدينة سلوقية التي تنافس طيسفون ، وزرنا مقبرة سلمان باك ثم ركبنا بعدئذ سفينة باسم «الخليفة» وهي من السفن الجيدة لشركة لنج تعمل في نهر دجلة.

كانت هذه السفينة مكتظة بالزوار كسفينة الموصل. وبين أثاث هؤلاء الزوار الفقراء رأيت سجادة ذات لون ثابت جميل ونقوش بديعة. وبعد أن أنهى صاحبها الصلاة سألته عن سعرها فطلب مبلغا كبيرا لبيعها ، والواقع أنه لم يكن يتناسب مع زهده الذي كان يظهر عليه وأطماعه التجارية ، لذلك صرفت النظر عنه وعدت إلى حجرتي. وبمجرد أن دخلتها رأيت من يطرق الباب ولما فتحته وجدت نفسي أمام زائر آخر يتأبط صرة كبيرة وقال بتردد وحذر وهو يلتفت إلى أطرافه : «لقد جئت إليك بشيء نفيس» ومد يده إليها وأخرج زوجا من (البوتين) كان لكثرة استعماله قد اهترأ وتمزّق؟!

نظرت إليه بتعجّب ودهش وقلت له باستنكار : أو تريد أن تبيعني هذا الحذاء؟

أجل .. أما أردت أن تشتري سجادة تقي العتيقة إن هذه الأحذية أعتق وأكثر قدما من تلك السجادة.

لقد تعجب البائع الأبله السخيف أني لم أشتر بضاعته العتيقة التي لا يشك فيها أحد؟! وقبل أن يتركني أخذ يغلظ الأيمان بأن هذا الحذاء قديم وعتيق وله في هذه الحالة أهمية وأي أهمية ..

وفي اليوم الثاني توقفت السفينة في العمارة وهبطنا نحن منها مع من هبط فيها.

__________________

(١) الصحيح : بنات آوى أي الواوية لا الثعالب. «المترجم»

١٥٤

تقع هذه المدينة الحديثة البناء على ضفاف النهر وبجانبها سد طبيعي مرتفع يستطيع فيه الملاحون بواسطة قطعة كبيرة من الخشب ربط سفنهم بالساحل. وبمجرد أن يقوم هذا الجسر الصناعي تهجم السفن نحو الساحل.

بقينا نحن في الصالون بانتظار أن ينزل جميع الركاب لكيلا نلاقي صعوبة في تركنا السفينة في هذا الزحام الشديد. وفي هذه الأثناء دخل رجل تركي عليه ملابس نظيفة تدل على كرم محتد وعلو مقام ، على خلاف الآخرين ويحيط به جماعة من الخدم والحشم إلى السفينة وانتحى بربانها يتكلّم معه بصورة خافتة ..

لم تكن القضية هنا قضية حذاء عتيق كما مرّ ، بل كانت قضية من نوع آخر إن هذا التركي الفظّ طلب من الربان المسكين رطلين من الشراب بإلحاح وإلحاف. فقال له الربان : ألست مسلما متدينا .. ماذا تريد أن تفعل بهما؟

قال : أعلم أن ماء العنب حرام إلّا أن لي فرسا أصيلة مريضة منذ مدة ولأصالتها وجودة جنسها أحبها كثيرا ، ولقد أشار أحد السحرة عليّ تدليك بطنها بأحسن خمور أوروبا.

ولما لم يكن على الربان أن يرد مثل هذا الطلب أشار إلى أحد الملاحين بإعطائه قنيتين من الشراب المعتق؟! أخذهما هذا الرجل الوقح وأخفاهما بين

١٥٥

طيات ثيابه دون أن يعطيهما لخدمه لأنه لم يكن ليثق بهم ويأمن جانبهم كما قيل لي دون أن أعلم لماذا؟!

وعندما أراد التركي الانصراف حاول التعبير عن شكره للربان فقال : «أرجو أن تصبح إنكلترا مثل تركيا دولة كبيرة معظمة». بيد أن هذا التعبير مس شعور الربان ونال من كبريائه الوطني فقال بانفعال شديد : «لم أسمع ماذا قلت؟ أنت تريد أن تجعل من تركيا في رتبة الدولة الإنكليزية العظيمة؟

أجاب (الأفندي التركي) : لا .. إلّا أنني تمنيت أن يكون لإنكلترا نفس نفوذ وسطوة تركيا ..

وعلى أي حال .. إننا تركنا الرجلين في جدالهما ومناقشتهما وهبطنا من السفينة متوجهين إلى المدينة.

وهذه المدينة ـ التي أسست منذ ثلاثين سنة في موضع تكثر فيه عواقيل ومنعطفات نهر دجلة المتعددة وقرب حدود إيران ـ ليس فيها وسائل الحياة البتة ، ولو لم يعرفنا قنصلنا في بغداد قبل وصولنا إليها بأحد التجار النصارى لكان من المتعذر علينا أن نمكث فيها ولو لساعات معدودات.

كان مضيفنا يدعى (عيسى) وهو أحد سراة المدينة المعروفين ولقد وضع تحت تصرفنا أحسن حجر منزله إلّا أنه مهما بذل من جهد لكي يهيئ لنا جيادا نمتطيها في سفرتنا لم يصل إلى نتيجة تذكر قط. إذ لم يكن في هذه المنطقة ما عدا عند بعض العوائل التي تملك فرسا أصيلة وذات نسب وحسب حجازي معروف ، فليس من المعقول أن يسمح لنا أن نمتطي ظهورها على ما هي من الأصالة والنسب العريق؟! ولا سيما انه من الممكن أن يتعرض لنا في سفرتنا هذه أفراد من قبيلة بني لام التي تقطن بين دجلة ومدينة دزفول الإيرانية.

وإن لم تدون على جلود هذه الفرس شجرات نسبها والجوائز التي أحرزتها في المسابقة فذلك لا يفوت الأعراب أبدا ، فبمجرد رؤيتهم إياها يذكرون لك كل ذلك كأنهم يحفظونه عن ظهر قلب ..

ولقد ذكر لي أن أحد حكام العمارة كان قد قام بخدمة لشيخ من شيوخ

١٥٦

هذه القبائل الذين يمتلكون مثل هذه الفرس الأصيلة ، فطلب الحاكم في مقابل خدمته الكبيرة تلك أن يهب له إحدى أفراسه التي لم تكن تعدل في فكره تلك الخدمة ، وكم كان دهشه عظيما عندما قال له شيخ القبيلة : إنني أستطيع أن أمنحك ابنتي مع مائة ألف مجيدية جهازا لها ولا أستطيع أن أهب لك فرسا من أفراسي العزيزة»؟!

ولقد علمت أن شيخ القبيلة العربي إذا ما حدث له وسرقت أمواله ومواشيه في غارة أو ما شابه واحتاج إلى المال فإنه يبيع كل ما يملك من عقار وأثاث دون أن يفكر في بيع فرس من أفراسه البتة ، وإذا اضطر وهذا في حالات قليلة جدّا فإنه يبيع ربعها على الأكثر وذلك بشروط قاسية منها عدم السماح بامتطائها في سفرات واحتفاظه بحقه في استرجاع ما باعه منها. وعندما تلد الفرس مهرا فعلى صاحبها الأول أن يتحمل مشاق ومتاعب تربيته لمدة سنة كاملة. وبعدئذ يخير الشريك في اختيار حصته من الفرس أو المهر. هذه الشروط متبعة ومعروفة عند جميع شيوخ القبائل العربية وإنهم يحكمون بموجبها في الحوادث التي تظهر عند إجراء هذه المعاملات عادة. وسكنة الصحارى في هذه المناطق لا يطلبون في الأغلب أفراسا تتميز بسرعة الجري لأن الصحارى التي يعيشون فيها مملوءة بالأحراش والأشواك أو الأهوار. ففي هذه الحالة يرغبون في أفراس تتحمل مشاق السير في تلك الطرق الوعرة وتقاوم صعوبة تلك المظاهر الجغرافية. وتوجد أفراس من هذا القبيل تستطيع أن تجري لمسافات شاسعة وأن تتحمل العطش والجوع ساعات أو أياما.

ولقد ذكر أحدهم أن بعض هذه الأفراس استطاعت أن تجري مدة ثلاثة أيام مع لياليها من غير انقطاع ودون أن تقتات شيئا أو تشرب ماء ، والعجيب أنه بعد قطع تلك المسافة لم تصب بأذى أو أي مكروه حتى في قوائمها أو حوافرها.

والفرس على أي حال ليس باستطاعتها أن تحملنا إلى خوزستان التي نقصد إليها ، بل إن الذي يناسب هذا الطريق الوعر هو اليابو أو عدد من البغال التي في مكنتها أن تتحمل أمثال تلك المتاعب والمشاق.

١٥٧

٤ جنويه :

طلب عصر هذا اليوم مضيفنا «عيسى» منا أن نذهب غدا معه إلى الكنيسة للصلاة فيها فقبلنا على الفور القيام بهذه الزيارة. إن مراسيم العبادة تجرى بصورة بسيطة في هذه الكنيسة التي أنشئت حديثا بمساعدة الطائفة النصرانية في العمارة ويتعهد أمورها الآن راهب كلداني واحد.

وعند ما جنحت الشمس للمغيب دخلنا بهوا ضيقا صغيرا لا يتجاوز ارتفاعه أكثر من ثلاثة أمتار وهو مشيد بالطين والآجر وسطحه مشيد بأعمدة من خشب ولا منفذ له سوى بابه الصغير. ولقد مررت بستين مؤمنا مقدسا قبل أن أصل المحراب الذي كان قد بني بالطين أيضا.

كان المحراب مغطى بقطعة من قماش مورد (من الچيت) إلّا أنها لم تكن بعرضه وطوله فكانت بعض أقسامه عارية بشكل سمج قبيح. كما أني رأيت على جانب منه صندوقا من الخشب بمثابة محفظة ، وبمجرد دخولنا المحراب رأينا الخدم يشعلون ما يقرب من عشرين شمعة وتنحصر مراسم استقبال وترحيب النصارى الشرقيين في المناسبات الدينية بزيادة الإضاءة وإشعال الشموع والمصابيح.

وعلى أي حال فقد بدأت الصلاة الكلدانية. كان الراهب بعض الأحيان يتلو أدعية بصوته الأجش وأحيانا أخرى يقرأ الأطفال الأناشيد الشجية الأخاذة بأصواتهم الرقيقة. والواقع أنني لم أحس في هذه التشريفات أي تعب أو ملل قط لأنها لم تكن طويلة كالتي تحدث عندنا في أوروبا ، حتى خيل إليّ أنني أرجع القهقرى إلى عدة قرون وأشهد المراسيم الدينية على بساطتها وسذاجتها. أي أنني تمثلت العصر الذي كان فيها الأباطرة يعذبون النصارى لزجرهم وردعهم عن الديانة الجديدة والمؤمنون الجدد الذين يتخفون بين الجدر الضخمة في دار مؤمن منهم لأداء شعائرهم المقدسة بصورة سرية أو تحت سقوف الكهوف والجحور المظلمة. ولقد أوحت مشاهدتي لهذه المناظر البسيطة فكرة أنه قد يكون لهذه الطائفة في هذه المدينة النائية بعض المشكلات التي لم تستطع أن تذللها وتحلها. ولقد علمت فيما بعد أن هذه الطائفة لم يكن

١٥٨

لها زعيم ديني إلى سنة خلت. فالأطفال يولدون والموتى يدفنون دون القيام بأي مرسوم من المراسيم الدينية المعتادة قط. اللهم إلّا في أيام العيد فقد كان يقدم راهب من الموصل أو بغداد ويقيم في هذه المدينة مدة قصيرة يقوم خلالها ببعض المهام المذهبية ويرسم الخطط العامة للإدارة الدينية ثم يقفل راجعا من حيث أتى. أما الآن فعلى العكس فالموتى قبيل أن يجودوا بأنفاسهم الأخيرة تقع أعينهم على وجه الراهب ويسمعون أدعية العزاء والتسلي ، كما يستطيعون أن يعترفوا بخطاياهم وآثامهم. وكذلك المواليد الأحداث يعمّدون على حسب الشعائر الخاصة والزواجات لا تتم إلّا عن طريق الكنيسة أيضا.

وبعد انتهاء مراسم العبادة هذه دعانا رؤساء الطائفة النصرانية أن نرافقهم إلى دار الراهب. ولبينا هذه الدعوة مسرورين دون أدنى تأخر.

ورأينا منزل الراهب الصغير المتواضع المشيد بالطين والآجر الذي لا يبعد كثيرا عن الكنيسة. والواقع أن منزله لم يكن إلّا حجرة واحدة هي محل استقباله لضيوفه وهي محل نومه في الوقت نفسه وعلى هذا الأساس لم نطلق عليه اسم منزل إلّا على سبيل المجاز ليس إلّا؟!

ومما لفت نظرنا في هذا المنزل .. عفوا .. هذه الحجرة صندوق من الخشب اتخذه الأب الجليل كرسيّا له ومخزنا لبعض أثاثه. كما وجدنا على المنضدة بعض كتب الأدعية المقدسة ، ولم نر غير هذا من أثاث هذا الراهب المسكين. والواقع أن كل ما في هذه الحجرة كان يوحي بالمسكنة والفقر ، بيد أنه بدل ذلك كان الراهب يجد فيها فراغا لا يجده في مكان آخر يساعده على الانغمار في أفكاره الروحية العلوية. كما كان يجد هدوءا وسكينة قلما يتاحان له في غير هذا المكان المتقشف النائي.

٥ جنويه :

إن رب إسحاق وإبراهيم ويعقوب رحيم عظيم. وصلت اليوم إلى هنا قافلة من دزفول كانت تحمل بعض المواد التجارية لبيعها ، ولقد أملنا كثيرا أننا نستطيع غدا أن نيمم وجوهنا شطر خوزستان. وبعد بذل جهد جهيد استطعنا أن

١٥٩

نهيئ ستة بغال و «يابو» (١) ونكتريها لأن رئيس القافلة اعتذر من السفر غدا لأن دوابه وبغاله في حالة تعب شديد ونصب عظيم. فلم نر والحالة هذه بدّا من تهيئة هذه الدواب الست نحن لنعتاض عن دوابه. ولقد قدم لنا ـ والحق يقال القنصل الإيراني بعض المساعدة في هذا الشأن. كما أن زوجي قد تعهد بأنه لو أصيبت هذه الدواب الست بأي مكروه في الطريق فهو المسؤول عن ذلك ويغرم ثمن ما يصيبها.

وبعد الوصول إلى إتمام العقد ذهب زوجي مارسل إلى المتصرف (نائب الحكومة) وطلب منه أن يرسل معنا أربعة من رجال الأمن. بيد أن هذا اعتذر من عدم تلبية طلب زوجي بقوله «إنه لو تعرضتم لأخطار القبائل هذه وأوذيتم فإن رجالي سيصابون بالسوء والمكروه ، وسيجعلني ذلك في موقف حرج كما سأسأل عن هذه المخالفة وإنني أنصحكم بأن تصرفوا النظر أنتم أيضا عن هذه السفرة الخطرة».

وخلاصة القول أن الموظفين الترك قد أقنطونا من مساعدتهم ورفضوا تقديم أي تسهيل في رحلتنا هذه.

٧ جنويه :

بدأنا بالحركة في الظهيرة مؤملين أن نقضي الليلة في مضارب قبيلة جوئريج (٢) عبرت القافلة خلال قناة طويلة زرعت جوانبها بمزروعات نضرة وبعد أربع ساعات وصلنا إلى غابة من النخيل فتوقفنا عندها ، وقال لنا حراس القافلة الذين كانوا يرافقوننا «إن الماء من الآن فصاعدا مج مالح فعليكم أن ترووا حيواناتكم بالماء ريّا جيدا» وهنا تقدموا هم وتعهدوا بالقيام بهذه المهمة فساقوا أمامهم حيواناتنا لإروائها وانشغلنا نحن في هذه الفترة بتناول طعامنا ريثما يعودون. ولقد رفعت رأسي إلى السماء في هذه الأثناء فشاهدت سحبا

__________________

(١) يابو : يعني حصان غير أصيل «كديش» وهذا الاسم شائع عند الأكراد الفيلية.

(٢) لا ندري ماذا تقصد المؤلفة بهذا الاسم وإنما ضبطناه حرفيّا.

١٦٠