كتاب الجواهر الثمينة في محاسن المدينة

المؤلف:

محمّد كبريت الحسيني المدني


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل الشافعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

«ما من مسلم يسلم [علي](١) في شرق ولا غرب إلا انا وملائكة ربي ترد عليه‌السلام» (٢) فقيل له فما بال أهل المدينة فقال : وما يقال لكريم من جيرانه وجيرته ، إن مما أمر به من حفظ الجوار حفظ الجار.

وقال بعضهم : تأكدت وصيته صلّى الله تعالى عليه وسلم بقوله «حقيق على أمتي حفظ جيراني». وقوله «لا يزال جبريل يوصيني بالجار» (٣)(٤) ، ولم يخص جارّا دون جار وفهم منه أن سكان بلده قريبهم وبعيدهم حاضرهم وغائبهم. مليهم وعاجزهم ، على حد السواء في استحقاق الرعاية من حيث الجوار ، وإنما التفاضل بالتقوى وحسن الأدب ، فنسأل الله تعالى كما من علينا بنعمة الإسلام ، وخصنا بجوار نبيه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. أن يوفقنا سلوك [الأدب](٥) في هذا المقام وأن يرزقنا والمسلمين شفاعته في يوم الزحام وان [يلهم](٦) من ولي شيئّا من أمورنا الرفق بنا وحسن القيام.

__________________

ـ وسلم ـ بسوء اضمحل أمره كما يضمحل الرصاص في النار ، فيكون في اللفظ تقديم وتأخير ، ويؤيده قوله «أوذب الملح في الماء» ، ويحتمل أن يكون المراد لمن أرادها بسوء وأنه لا يمهل بل يذهب سلطانه عن قرب كما وقع لمسلم بن عقبة وغيره فإنه عوجل عن قرب وكذلك الذي أرسله. قال : ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالا وطلبا لغرتها في غفلة فلا يتم له أمر ، بخلاف من أتى جهارا كما استباحها مسلم بن عقبة وغيره. انظر / فتح الباري (٤ / ١١٢ ـ ١١٣).

(١) سقط من «ب».

(٢) ضعيف جدّا : أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (٦ / ٣٤٩) وفيه عبيد الله بن محمد العمري اتهمه الذهبي بالوضع. انظر / ضعيفة الألباني (١ / ٣٧١) ـ (٥).

(٣) اسم الجار يشمل المسلم ، والكافر ، والعابد ، والفاسق ، والصديق ، والعدو ، والغريب ، والبلدي ، والنافع ، والضار ، والغريب ، والأجنبي والأقرب دارّا والأبعد ، وله مراتب بعضها أعلى من بعض ، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرّا إلى الواحد وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك فيعطي كل حقه بحسب حاله ، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي. انظر / فتح الباري (١٠ / ٤٥٦).

(٤) متفق عليه : أخرجه البخاري في الأدب (١٠ / ٤٥٥) ـ الحديث (٦٠١٥) ـ ومسلم في البر والصلة (٤ / ٢٠٢٥) ـ الحديث ١٤ / ٢٦٢٤ وأبو داود في الأدب (٤ / ٣٤٠ ـ ٣٤١) ـ الحديث (٥١٥١). والترمذي في البر والصلة (٤ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣) ـ الحديث (١٩٤٢) ـ وابن ماجه في الأدب (٢ / ١٢١١) ـ الحديث (٣٦٧٣) ـ والإمام أحمد في مسنده (٦ / ٢٠٩) ـ الحديث (٢٥٥٩٤).

(٥) سقط من «أ».

(٦) في ب [يراهم].

٤١

يروى عن مالك رحمه‌الله تعالى : أنه دخل على المهدي فقال له [أوصني فقال](١) : أوصيتك بتقوى الله ، والعطف على أهل بلد رسول الله صلّى الله تعالى وسلم عليه وجيرانه ، فإنه بلغنا أنه قال «المدينة مهاجري ، ومنها مبعثي ، وبها قبري ، وأهلها جيراني وحقيق على أمتي حفظ جيراني ، فمن حفظهم كنت له شفيعّا وشهيدا يوم القيامة ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني. سقاه الله من طينة الخبال» (٢).

وما أحسن ما قال :

لي فيك يا ربع الحبيب معاهد

قلبي المقيم على العهود موادد

ولساكنيك علي حفظ مودة

ما خنتهم أبدّا وربي شاهد

ومنها الوعيد لمن لم يكرم أهلها وإن إكرامهم وحفظهم. حق على الأمة قال بعضهم : ليس المراد إكرام أهل النعم منهم والمستورين بالأداب فإن [قال](٣) أولئك تقضي بإكرامهم ، وإنما الكلام في إكرام المبتلي منهم ومن عدم الأدب والفضيلة ، وألبسته الفاقة رداء المذلة ، وكان يقال : إذا أقبلت الدنيا على قوم ، ألبستهم محاسن غيرهم ، وإذا دبرت عن قوم سلبتهم محاسن أنفسهم وهذه الدسائس أيضّا تكشف عند التأمل ، والتوفيق لمن يدعي [محبة](٤) آل النبي صلّى الله تعالى وسلم عليه. وما أحسن ما قال :

يا أهل طيبة قد سكنتم أضلعي

فودادكم نام وشوقي محكم

لا غرو أن أبغي هواكم منشدّا

من أجل عين ألف عين تكرم

[ومنها](٥) حديث «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي» (٦).

__________________

(١) سقط من «ب».

(٢) ضععيف جدّا : أخرجه الطبراني في الكبير (٢٠ / ٢٠٥) ـ الحديث (٤٧٠). وفي سنده عبد السلام بن أبي الجنوب : قال ابن المديني والدارقطني منكر الحديث. وقال أبو حاتم : شيخ متروك. وعزاه الحافظ الهيثمي للطبراني قال : فيه عبد السلام بن أبي الجنوب. انظر / مجمع الزوائد (٣ / ٣١٣) ـ (تهذيب التهذيب (٦ / ٢٧٨) ـ ٤٢١٤.

(٣) في أ [حالة].

(٤) في ب [حب].

(٥) سقط من أ.

(٦) منقطع : أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٣ / ٤٨٠) ـ الحديث (١٥٢٣٣) وفيه زيد بن أسلم وهو لم يسمع من جابر ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال الدوري عن ابن معين : لم يسمع من جابر ولا من أبي هريرة. انظر / تهذيب التهذيب (٣ / ٣٤٥) ـ (٢٢٠٦).

٤٢

وما ألطف ما قال :

فنحن بقربه فيما اشتهينا

وأحببنا وما اخترنا وشينا

يقينّا لا نخاف وإن ظننا

به خيرّا أراناه يقينا

نميل على مكارمه كأنا

إذا قلنا نميل على أبينا

[ومنها](١) حديث «من غاب عن المدينة ثلاثة أيام جاء وقلبه مشرب جفوة» (٢).[وما أحسن ما قال](٣) :

ومسك حديثي في هواها لأهله

[يضرع](٤) وفي سمع الخلبين ضائع

سلا وهل سلا قلبي هواها وهل له

سواها إذا اشتدت عليه الوقائع

وقولا لها يا قرة العين هل إلى

لقاك سبيل ليس فيه موانع

وما أحسن ما قال :

قنعنا بنا عن كل من لا يريدنا

وإن حسنت أوصافه ونعوته

نحن جاءنا يا مرحبا بمجيئه

يجد عندنا ودّا صحيحا ثبوته

ومن صد عنا حسبه الصد والقلا (٥)

ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته

ومنها ما يوجد بها من رائحة الطيب الزكية وطيب العيش بها خصوصّا لأهلها الذين لا تغلق لهم بالدول والدنيا.

[رياض](٦) نجد عرفها ضائع

ونشرها الأرجاء قد [عمنا](٧)

ومن يقل في المسك اين الشذا

كذبه في الحال من [شما](٨)

قال القزويني :

في كتابه آثار البلاد وأخبار العباد عند ذكر المدينة المنورة :

وللطيب فيها فضل رائحة

عليه منه في غيرها

وما أحسن ما قال :

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط (١ / ٢٦٩) ـ الحديث (٨٧٦). وقال الحافظ الهيثمي بعد ما عزاه للطبراني في الأوسط : فيه علقمة بن علي ولم أعرفه. انظر / مجمع الزوائد للهيثمي (٣ / ٣١٣) ـ مجمع البحرين (١٨١٧) والصواب أنه [عقبة بن علي] قاله طارق بن عوض الله.

(٣) ثبت في ب [وقال بعضهم].

(٤) في أ [يضوع].

(٥) غاية الكره. انظر / القاموس المحيط (٤ / ٣٨٠).

(٦) ثبت في ب [ريانن].

(٧) في أ [عما]

(٨) في أ [سما].

٤٣

يا خير من دفنت في التراب أعظمه

فطاب من طيبهن [القاع](١) والاكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وقال آخر :

أكرم بها بقعة بالمصطفى شرفت

على البقاع فضمت أكرم الرسل

أجل من وطىء القبر وأفضل من

مشى على الأرض من حاف ومنتعل

ولله در القائل :

طاب الصعيد بجسمه فكأنه

روض [ينم](٢) بعرفه المثارج

ما جسمه مما يغيره الليلا

والروح منه كالصباح الأبلج

ومنها أن من عاب قرابتها أو [انتقص](٣) سكانها استحق التعزير.

وقد عزر مالك رحمه‌الله تعالى شخصّا لنقص تربتها بأنها سبخة.

وما ألطف ما قال :

دار طه هي التي أتوخى

ولطه تشتاقها الأعضاء

فعليها من المهيمن نور

وعلى التراب راية بيضاء

ولله در الأمير أبي فراس حيث يقول :

على الربع العامرية وقفة

ليملي على الشوق والدمع كاتب

ومن مذهبي حب الديار لأهلها

وللناس فيما يعشقون مذاهب

قال في الوفاء ولا يجوز لغير أهل المدينة المنورة أن يماروا أهل مكة المكرمة ، أو ينافسوهم لأن الله تعالى فضلهم على سائر البلاد.

ومن محاسن المدينة «[زيادة](٤) البركة بها على مكة» (٥) وأن المدعو به بها من البركة ستة أضعاف ما لمكة من البركة» (٦) ومنها أن خبر الواحد إذا عارضه إجماع أهل المدينة (٧) قدم إجماعهم ، كما نقل عن مالك رحمه‌الله تعالى.

وقيل : البقاع لا أثر لها في ذلك وفيه نظر.

__________________

(١) في أ [الإقاع].

(٢) سقط من «ب».

(٣) في أ [أنقص].

(٤) سقط من «ب».

(٥) تقدم تخريجه.

(٦) لم أجده في مظانه.

(٧) ليس إجماع أهل المدينة إجماعا بمعنى [اتفاق المجتهدين ... إلخ] لأنهم بعض المجتهدين ، والإجماع اتفاق كل المجتهدين الموجودين في عصر واحد ، ومن هنا قال جمهور العلماء إن إجماع أهل المدينة ليس حجة على غيرهم إذا خالفهم ـ

٤٤

وتأمل في الأرض آيات فلا تك منكرّا

وعجائب الأشياء من ملكوته

ومنها : حديث «يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدوا عالما أعلم من عالم المدينة» (١).

قيل معناه : أن العالم من أهل المدينة أعلم منه من غير أهلها ، وفيه إشارة إلى أن للبقاع أثرّا في ذلك وفي الأرض قطع متجاورات فافهم.

وقول ابن عيينة : نرى هذا العالم مالك بن أنس لا يمنع من ذلك ، لأن مالكا كان إذ ذاك من علماء المدينة [ويؤيده](٢) قول سفيان ، وقد قيل له ما قاله ابن عيينة. «إنما العالم من يخشى الله تعالى. ولا يعلم أحد كان أخشى لله تعالى من العمري قتيبة.

__________________

ـ لأن الأدلة إنما أثبتت عصمة الكل عن الخطأ ولم تثبت عصمة البعض عنه ، فكان قول الكل هو الحجة. وقال الإمام مالك ـ رضي‌الله‌عنه ـ : إن إجماعهم حجة إذا كانوا من الصحابة أو التابعين واستدل على ذل بما يأتي : أولا : قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ «إن المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد». ووجه الدلالة : أن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أخبر عن المدينة بأنها طيبة وأنها تنفي الخبث ، والمراد نفي الخبث عن أهلها فلا يقع الخبث منهم والخطأ نوع من الخبث فلا يقع من أهل المدينة خطأ ، فيجب قبول قولهم لعصمتهم وهو المدّعي. وثانيّا : ان الصحابة والتابعين ـ رضوان الله عليهم أجمعين أعرف الناس بأحوال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وخصوص من وجد منهم بالمدينة لأنهم شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل ، فإذا أجمعوا على أمر أحالت العادة أن يكون ذلك الإجماع عن دليل مرجوح وقضت بأن يكون عن دليل راجح فيقبل قولهم لذلك ويكون حجة على غيرهم. والجواب عن الدليلين : أما الدليل الأول :

فأولا : لا نسلم أن الخطأ نوع من الخبث بل هو مباين له لأن الخطأ معفو عنه والخبث منهي عنه ، يدل لذلك قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ «رفع عن أمتي الخطأن» ، وقوله «الكلب خبيث وثمنه خبيث ومهر البغي خبيث». وثانيّا : سلمنا أن الخطأ نوع من الخبث ولكن نقول : إن الأخبار عن المدينة بأنها طيبة تنفي الخبث لا ينافي أن غيرها كذلك ، وتخصيصها بالذكر لإظهار شرفها وخطرها فيكون خبر غيرهم مقبولا كخبرهم متى تحققت فيهم العصمة. ويناقش الدليل الثاني : بأن ما قيل في أهل المدينة من الصحابة والتابعين يتحقق في الصحابة والتابعين من غير أهلها كأهل البصرة والكوفة ، وكان مقتضى هذا أن يكون إجماعهم حجة مع أن مالكا لم يقل بذلك وإذا علم أن مدار الاجتهاد في الأحكام على النظر والبحث والاستدلال وذلك لا يختلف بالقرب والبعد ولا باختلاف الأماكن ، علم أن تخصيص إجماع أهل المدينة بالحجية لا وجه له. انظر / المستصفى للغزالي (١ / ١٨٧). فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت (٢ / ٢٣٢). إحكام الأحكام للآمدي (١ / ٣٤٩). أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير (٣ / ١٥٤).

(١) أخرجه الترمذي في العلم (٥ / ٤٧) ـ الحديث (٢٦٨٠) ـ والنسائي في الكبرى في الحج (٢ / ٤٨٩) ـ الحديث (١ / ٤٢٩١). والإمام أحمد في مسنده (٢ / ٤٠٠) ـ الحديث (٧٩٩٩) ـ وابن حبان في صحيحه (ص / ٥٧٤) ـ الحديث (٢٣٠٨ / موارد الظمآن والحاكم في المستدرك في العلم (١ / ٩٠ ـ ٩١).

(٢) في أ [ويؤيد].

٤٥

ومن محاسنها : قلة المظالم بها [وشذور](١) التظاهر فيها بالمنكرات بالنسبة إلى غيرها من بلاد الإسلام.

[وما أصدق القائل](٢) :

[قل](٣) لمن أبصر حالا منكرة

ورأى من دهره ما حيره

ليس بالمنكر ما أبصرنه

إن من عاش يرى ما لم يره

وقال آخر :

قل لمن شاهد أمرّا أقلقه

ورأى ما يستحيل الفسقة

سترى هذا الذي تنكره

مستحبّا بعد تلك الطبقة

[ومن محاسنها](٤) حديث «المدينة كالكير (٥) تنفي [خبثها](٦)(٧)(٨)(٩)».

__________________

(١) في ب [وسدود].

(٢) في أ [وما أصدق ما قال].

(٣) في أ [من].

(٤) في ب [ومنها].

(٥) بكسر الكاف وسكون التحتانية ، وفيه لغة أخرى كور بضم الكاف ، والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد والصائغ. قال ابن التين : الكير هو الزق والحانوت هو الكور. وقال صاحب المحكم : الكير الزق الذي ينفخ فيه الحداد. قال الحافظ : ويؤيد الأول ما رواه عمرو بن شبة في أخبار المدينة [قيد الطبع بتحقيقنا محمد فارس] بإسناد إلى أبي مردود قال : رأى عمر بن الخطاب كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه.

انظر / فتح الباري (٤ / ١٠٥).

(٦) الخبث : بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة أي وسخه الذي تخرجه النار ، والمراد أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل ، بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده.

ونسبة التمييز للكير لكونه السبب الأكبر في اشتعال النار التي يقع التمييز بها. انظر فتح الباري (٤ / ١٠٥).

(٧) استدل بهذا الحديث على أن المدينة أفضل البلاد. قال المهلب لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها ، ولأنها تنفي الخبث. قال الحافظ ابن حجر : وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين. وعن الثاني : بأن ذلك إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ») ، والمنافق خبيث بلا شك ، وقد خرج من المدينة بعد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة ثم علي وطلحة والزبير وعمار وآخرون وهم من أطيب الخلق ، فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس ووقت دون وقت. قال ابن حزم : لو فتحت بلد من بلد فثبت بذلك الفضل للأولى للذم أن تكون البصرة أفضل من خراسان وسجستان وغيرهما مما فتح من جهة البصرة وليس كذلك. انظر / فتح الباري (٤ / ١٠٥ ـ ١٠٦).

(٨) سقط من ب.

(٩) متفق عليه : أخرجه البخاري في فضائل ـ

٤٦

قيل : معناه تصفي أهلها من الكدورات ، حتى يكونوا محلا للفيض الرحماني.

وقيل هو على بابه ويكون إخراج الخبيث منها زيادة في [حسرته](١) وهذا بعيد مما أعتقده. أو هو من باب الترهيب.

فهذا اختياري فوافق ان رضيت به

او لا فدعني ومن أهوى واختاره

وما أحسن ما كتب به بعضهم إلى أبي الوفا :

أيجوز أن أظمأ وماء غديركم

عذب وفيه من الزلال (٢) رحيق

ويضيمني دهري وفي عتباتكم

تلقى الرجال وتستريح النوق

«فكتب له الجواب»

أهلا وسهلا إن أتيت ومرحبّا

ما في حمى كرم الأحبة ضيق

لا [تيأس](٣) من روح من أحببته

فعلى الأحبة [للمحب](٤) حقوق

وما أحسن ما قال :

وبعد ذاك الجفا إن جئت معتذرّا

إلى حمانا تجد عفوّا وغفرانا

حتى تظن بأن الوصل ما برحت

أيامه وكأن الهجر ما كانا

ومن محاسنها أنه عليه‌السلام. «رأى أنه أصبح على بئر من آبار الجنة». فأصبح على بئر غرس. و «رؤيا الأنبياء حق» [عليهم الصلاة والسلام](٥)(٦).

__________________

ـ المدينة (٤ / ١١٥) ـ الحديث (١٨٨٣). ومسلم في الحج (٢ / ١٠٠٦) ـ الحديث (٤٨٩ / ١٣٨٣). والإمام أحمد في مسنده (٣ / ٤٧٩) ـ الحديث (١٥٢٢٥). والإمام مالك في الموطأ (٢ / ٨٨٦) ـ الحديث (٤).

(١) سقط من «ب».

(٢) الماء الزلال : البارد العذب الصافي. انظر / القاموس المحيط (٣ / ٣٨٩).

(٣) في أ [تنأس].

(٤) سقط من «ب».

(٥) سقط من أ.

(٦) بلفظ «رؤيا النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حق» أخرجه : الإمام أحمد في مسنده (٥ / ٢٧٦) ـ الحديث (٢٢٠٩٦).

٤٧

ومنها [أن](١) العجوة من الجنة (٢). فقد اشتملت المدينة المنورة على شيء من أرض الجنة [ومياهها](٣) وثمارها ... وما أحسن ما قال :

رياض نجد بكم جنان

فضية حورها حسان

وترب واديكم بنجد

مسك وحصباؤها جمان

والجار في ربعكم عزيز

والحد في أرضكم مصان

والريح من [شعبكم](٤) عبير

والزهر ورد وزعفران

يا من لهم في الفؤاد مثوى

عذابه يشهد الجنان

كم حن قلبي إلى لقاكم

[وبيننا](٥) الغور والرعان

وكنت أخفي الهوى ودمعي

من شدة الوجد ترجمان

وبالجملة فقد اشتملت المدينة الشريفة على محاسن تعشقها العقول وأوانس ما بين القلب وهمومه تحول. ولطائف تعطر أندية الأفكار طيبا ، وتعطى من تعرض لنفحاتها من عرفها الطيب نصيبّا.

وحدثتني يا سعد عنها فزدتني

شجونّا فزدني من حديثك يا سعد

فما أحلى ذاك الحديث وهو حبيب النفس وعشيق الطبع وسمير ضمير الجمع. تتولع به الأرواح لا الرياح ، وتزهى به الألسن لا الأغصن ، وتبدو به طلعة البئر لا الشجر [ويحلو](٦) بجناه. الجنان لا الجنان [يجلو به](٧) المنطق السحار لا الأسحار.

أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره

هو المسك ما كررته [يتضوع](٨)

فإن قر قلبي فاتهمه وقل له

بمن أنت بعد العامرية [تولع](٩)

قال المجد الشيرازي في المغانم المطابة في مقام طابة : وبعد فإن العناية بالمدينة

__________________

(١) سقط من «ب».

(٢) أخرجه الترمذي في الطب (٤ / ٤٠١) ـ الحديث (٢٠٦٨). وابن ماجه في الطب (٣ / ١١٤٣) ـ الحديث (٣٤٥٥).

والدارمي في الدقاق (٢ / ٤٣٦) ـ الحديث (٢٨٤٠). والإمام أحمد في مسنده (٣ / ٥٢٠) ـ الحديث (٤ / ١٥٥). والبغوي في شرح السنة (١١ / ٣٢٦).

(٣) في أ [وميائها].

(٤) في ب [أرضكم].

(٥) في أ [وبغينا] هكذا رسمت.

(٦) في أ [ويسمح].

(٧) في أ [ويجلوه].

(٨) في أ [ينضوع].

(٩) في أ [مولع].

٤٨

الشريفة متعينة والرعاية لتعظيم حرمتها لكل خير متضمنة والوسيلة [تبشر](١) شرفها شائعة والفضيلة لا شتات معاهدها جامعة لأنها طابة ذات الحجر المفضلة ، ودار الهجرة المكملة وحرم النبوة المشرف بالآيات المنزلة والبقعة التي تهبط الإملاك عليها «والمدينة التي يأرز (٢) الإيمان إليها» (٣)(٤) والمشهد التي تفوح أرواح نجد من ثياب زائريه والمورد الذي لا تروى من الشوق إليه غلة واردية والبقعة التي خصها الله تعالى بالنبي الأطهر «والحومة التي فيها الروضة المقدسة بين القبر والمنبر» (٥) والتربة التي سمت على الآفاق بساكنها وفضلت على جميع بقاع الأرض بالبقعة [التي](٦) هي أفضل أماكنها.

بقعت ضمت الرسول تسامت

وعلا قدرها على الآفاق

فهي عند الجميع لا شك خير

من جميع الثرى على الإطلاق (٧)

وجدير [لمواطن](٨) عمرت بالوحي والتنزيل. وتردد فيها الأمين جبريل [عليه

__________________

(١) في ب [تنشر].

(٢) بفتح أوله وسكون الهمزة وكسر الراء ، وقد تضم بعدها زاي ، وحكى ابن التين عن بعضهم فتح الراء وقال : إن الكسر هو الصواب ، وحكى أبو الحسن بن سراج بضم الراء ، وحكى القابسي الفتح ومعناه ينضم ويجتمع. انظر / فتح الباري (٤ / ١١١).

(٣) قال الحافظ ابن حجر : كل مؤمن له في نفسه سائق إلى المدينة لمحبته في النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيشمل ذلك جميع الأزمنة لأنه في زمن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ للتعلم منه ، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم ، ومن بعد ذلك لزيارة قبره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والصلاة في مسجده والتبرك بمشاهدة آثاره وآثار أصحابه. وقال الداردي أكان هذا في حياة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والفرق الذي كان منهم والذين يلونهم والذين يلونهم خاصة. وقال القرطبي : فيه تنبيه على صحة مذهب أهل المدينة وسلامتهم من البدع وأن عملهم حجة كما رواه الإمام مالك اه. قال الحافظ : وهذا إن سلم اختص بعصر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والخلفاء الراشدين وأما بعد ظهور الفتن وانتشار الصحابة في البلاد ولا سيما في أواخر المائة الثانية وهلم جرّا فهو بالمشاهدة بخلاف ذلك. انظر / فتح الباري (٤ / ١١٢).

(٤) أخرجه البخاري في فضائل المدينة (٤ / ١١١) ـ الحديث (١٨٧٦). ومسلم في الإيمان (١ / ١٣١) ـ الحديث (١٤٧ / ٢٣٣). والترمذي في الإيمان (٥ / ١٨) ـ الحديث (٢٦٣٠). وابن ماجه في المناسك (٢ / ١٠٣٨) ـ الحديث (٣١١١).

(٥) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٣ / ٧٩) ـ الحديث (١١٦١٦). والبيهقي في الكبرى في الحج (٥ / ٤٠٤) ـ الحديث (١٠٢٨١). والطبراني في الكبير (١٢ / ٢٩٤) ـ الحديث (١٣١٥٦).

(٦) سقط من «ب».

(٧) في أ [عمرت].

(٨) سقط من «أ».

٤٩

السلام] لمواطن صح واشتملت تربتها على جسد سيد البشر ، وانتشر عنها من دين الله تعالى ما انتشر. مدارس آيات ومساجد صلوات ، ومشاهد خيرات ، ومعاهد معجزات ، مناسك دين ، ومسالك تمكين ، مواقف سيد المرسلين ، ومتبوء خاتم النبيين ، حيث انفجرت النبوة وفاض عبابها ومواطن [مهابط](١) الرسالة وأول [أرض](٢) مس جلد المصطفى ترابها ، أن تعظم حوماتها وتستنشق نفحاتها ، وتقبل ربوعها وساحاتها.

دار خير المرسلين ومن به

هدى الأنام وخص بالآيات

عندي لأجلك لوعة وصبابة

وتشوق متضاعف الزفرات

وعلي عهد إن ملأت محاجري

من تلكم الحومات والساحات

لأعفرن مصون وجهي [بينها](٣)

وأقبل الآثار والحجرات

قال في المواهب اللدنية : وقد أطلت في الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة ، وإن كان مذهب إمامنا الشافعي تفضيل مكة لأن هوى كل نفس حيث حل حبيبها على أن للقلم في أرجاء تفضيل المدينة مجالا واسعا ومقالا جامعا ، لكن الرغبة في الاختصار تطوي أطراف بساطه والرهبة من الإكثار [تصدق](٤) وعن تطويله وإفراطه وأنت إذا تأملت قوله عليه‌السلام «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والذي نفسي بيده لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه» (٥) ظهر لك أن فيها [إشعارا يذم](٦) الخروج من المدينة بل نقل المحب الطبري عن قوم انه عام أي مطلقّا [أبدا](٧) وقال انه ظاهر [اللفظ](٨) انتهى.

وأقول [في المعنى](٩)

أيا ساكني أكناف طيبة حسبكم

من السعي [للعليا](١٠) جيرة أحمد

__________________

(١) في ب [مرابط].

(٢) في ب [جلد].

(٣) في ب [بنيها].

(٤) سقط من «ب».

(٥) أخرجه مسلم في الحج (٢ / ١٠٠٥) ـ الحديث (٤٨٧ / ١٣٨١). والإمام مالك في الموطأ في الجامع (٢ / ٨٨٧) ـ (٧).

والإمام أحمد في مسنده (٢ / ٦١١) ـ الحديث (١٠٠٦).

(٦) كشط في «أ».

(٧) سقط من «أ».

(٨) في أ [اللغة].

(٩) سقط من «أ».

(١٠) في ب [للعمياء].

٥٠

فمن يبتغي عنها بلادا وإن سمت

لأمر من الدنيا فليس بمهتد

وما أحسن ما قال [الناظمي](١) محمد بن مسدد

علي عهود عن دياركم لا [أخطو](٢)

ولو [طال](٣) فيها العيش أو طاول القحط

على أنني فيها على خير حالة

عزيز جناب لا يزاولني البسط

أبى الله أن ترضى سواها [حيلتي](٤)

[فتنتقل](٥) أقدامي إلى غيرها الوخط (٦)

أأرحل عمن لا يضام نزيله

ومن لا يطيق الخطب في جاره [يسط](٧)(٨)

[أأضرب](٩) صفحا عن شفيعي ونافعي

إذا أعرضت عن الأقارب [والرهط](١٠)

فما أسعد القوم الذين [رضوا](١١) به

معينا وفي أكنافه أبدا حطو

أولئك يمحو الله عنهم ذنوبهم

ولو عظمت فحشا ولم يمحوها ضبط

[فكم](١٢) عسرات إلي أقيلت ببائه

ومن شدة حلت وقد أحكم الربط

ولى هفوات قد كثرت ولا أرى

لها غير جاه المصطفى نافعا قط

فيا سيدي سل لي من الله عطفة

وطيب رضى لا يختشى بعده سخط

وجبر الكسير ظالما قد شكوته

إليك فداركني ليجبر الوهط (١٣)

وخذ بيدي يا أكرم الخلق عند ما

أقدم يوم العرض إذ ينصب القسط

هناك لك العليا هناك لك الرضا

هناك لك العز الذي ماله خلط

عليك صلوات الله ثم سلامه

وآلك والأصحاب ما اضطرب الخمط (١٤)

__________________

(١) في أ [النظمى].

(٢) في ب [أحل].

(٣) في أ [ضاق].

(٤) في أ [جيلتي].

(٥) في أ [فتنقل].

(٦) الوخط : خفق النعال. انظر / القاموس المحيط (٢ / ٣٩٠).

(٧) السط : الجور. انظر / القاموس المحيط (٢ / ٣٦٤).

(٨) في أ [يسطو].

(٩) في أ [أأطرب].

(١٠) في أ [الرمط] وهو مجتمع. انظر / القاموس المحيط (٢ / ٣٦١).

(١١) في ب [ارتضوا].

(١٢) في ب [فلم].

(١٣) الوهط : الطعن أو الخصومة. انظر / القاموس المحيط (٢ / ٣٩٢).

(١٤) الخمط : كل شجر لا شوك له وثمر الأراك وثمر قسوة الضبع. انظر / القاموس المحيط (٢ / ٣٥٩).

٥١

باب فيما يتعلق بالحجرة المعطرة

والمنبر الشريف وذكر فضل الروضة [المطهرة](١) والمسجد المنيف [نفائس هذا الباب](٢) أنفاس روضة. ونظم المعاني سلسبيل وسلسل.

لما بنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجده بنى لنسائه حجرا على نعت بناء المسجد من اللبن وجريد النخل وهي تسعة أبيات على أبوابها مسرح الشعر الأسود طول كل ستر ثلاثة أذرع [و](٣) والعرض ذراع ، فلما كانت أيام الوليد بن عبد الملك أمر بإدخالها في المسجد ولم تكن منه قبل بنائها.

[وعن](٤) سعيد بن المسيب انه قال «وددت انهم لو تركوها على حالها ينشأنا شيء من المدينة ويقدم قادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلّى الله تعالى وسلم عليه ، في حياته فيكون ذلك فيما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر.

قلت : وحيث قامت بأوصاف هذه الحجر أقلام الأعلام فهي بأبصار التصور لذي الاعتبار مشاهدة ولكن المحسن والمقبح كما يقال هو العرف فيا ليت شعري ما الفائدة :

أرى الصمت خيرا من [عظات](٥) بليغة

إذا لم يكن للسامعين قبول

وأما الحجرة الشريفة النبوية فقد بنيت مرات ومن أحسن ما [حكي](٦) في ذلك أن السلطان نور الدين [الشهيد](٧) حفر حولها خندقا إلى الماء وملأه بالرصاص المذاب وذلك في سنة سبع وخمسين وخمسمائة بسبب واقعت النصرانيين. فصار [ذلك](٨) صورّا محكمّا على الحجرة واما المقصورة الآن والقبة المشرفة ففي غاية الاتقان والاحكام وهي ملحوظة بعناية الله تعالى للولادة والحكام [ولسنا](٩) في صدد اخبار

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب [في].

(٤) بياض في أ.

(٥) في ب [أخبار].

(٦) في ب [ذكر].

(٧) سقط من ب.

(٨) سقط من أ.

(٩) في أ [ولنا].

٥٢

عمارتها والقيام عليها بل في التعرض لذكر بعض محاسنها فمن ذلك الزيارة التي هي الغنيمة والنعمة السنية العظيمة.

هنيئا لمن زار خير الورى

وحط عن النفس أوزارها

فإن السعادة مضمونة

[لمن](١) حل طيبة أو زارها

قال العلامة في الجوهر المنظم : نقل المطوعي عن السلف أنهم كانوا قبل إدخال الحجر في المسجد يقفون في الروضة مستقبلين الرأس الشريفة ، لتعذر استقبال الوجه الكريم وإذا سن استدبار القبلة في الخطبة لأجل مواجهة السامعين فلأجله أولى.

[وأي](٢) بلاد الله حلت به فما

أراها وفي عيني حلت غير مكة

وأي مكان ضمها [حرم](٣) كذا

أرى كل دار أوطنت دار هجرة

والوقوف أفضل فإن قعد [جثا](٤) على ركبتيه. ناظرّا إلى الأرض أو إلى أسفل ما يستقبله من جدار القبر الشريف. [ويغض](٥) طرفه عما هنالك من الزينة وغيرها. ويمثل ذاته الشريفة بين عينيه حتى كأنه يراه مع ملاحظة الأدب [والاستغاثة](٦).

وما أحسن ما قال :

[بمثلك](٧) الشوق الشديد لناظري

فاطرق أجلالا كأنك حاضر

وقال آخر :

واطراق طرف العين ليس بنافع

إذا كان [طرف](٨) القلب ليس بمطرق

مسألة : إذا وقف وضع يمينه على يساره. على ما قاله الكرماني وروى الإرسال ولكل [وجه](٩).

وجه الأول : أنه يستلزم أن يكون الإمساك محاذيا للقلب ، ويستفاد منه أنه لا يمسك كذلك إلا [النفيس](١٠) ومنه ينتقل إلى أنه لا أنفس من القلب ، فيمسك عن الخواطر المذمومة فكان الإمساك الحسي وسيلة إلى الإمساك المعنوي الذي هو روح الصلاة ، وسرها المقصود منها.

__________________

(١) في أ [من].

(٢) في أ [وأرى].

(٣) في أ [حرام].

(٤) بياض في أ.

(٥) في [ويغض].

(٦) في أ [والاستعانة].

(٧) في ب [يمن لك].

(٨) في أ [طراق].

(٩) ثبت في ب [وجهه].

(١٠) ثبت في أ [النفس].

٥٣

ووجه الثاني : أن الإرسال صورة الانطراح ، بل الموت المشار إليه بموتوا قبل أن تموتوا. فحقيقة الحركات والسكنات لله الواحد القهار. [وبملاحظة](١) ذلك يكون الإرسال أولى ، وهو سنة أهل البيت فتأمله.

مسألة : يسن للزائر أن يقصد الروضة المطهرة مع الوقار والافتقار فيصلي تحية المسجد ، بمصلاة عليه [الصلاة](٢) السلام وهو المحراب النبوي ويسجد للشكر على نعمة الوصول إلى هذا المقام. ثم يقصد القبر المكرم نحو الرأس الشريف كما هو المأثور عن أهل البيت. مع أن فيه إيثار الأشراف فهو [اللائق](٣) بالأدب ولأنه عليه [الصلاة](٤) والسلام «لما فرع من دفن إبراهيم قال عند رأسه : «السلام عليكم» وهو ظاهر في أن السلام من جهة الرأس ويختم بوقوفه عند القبر الشريف عند نهاية الصفة مما يلي القبلة بصف [اسطوانة](٥) التوبة. إذ هو موقف السلف فيدعو ويصلي ويسلم.

وعن المجد اللغوي : السلام عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند قبره أفضل من الصلاة للأخبار الواردة(٦).

وينبغي بعد زيارة اللقاء أن يجمع بين الصلاة والتسليم وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لا ينبغي الصلاة من أحد إلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

__________________

(١) في ب [وملاحظة].

(٢) سقط من أ.

(٣) في ب [الأليق].

(٤) سقط من أ.

(٥) في ب [اسطوان].

(٦) قال الإمام أحمد في رواية عبد الله بن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة مرفوعا «ما من أحد يسلم عليّ عند قبري إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه‌السلام» ، ويروى عن العتبي قال : كنت جالسا عند قبر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعّا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهم القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي فحملتني عيني فنمت فرأيت النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في النوم فقال : يا عتبى إلحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له. وروى البيهقي عن نافع أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر دخل المسجد ثم أتى القبر فقال : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه. انظر / شرح المهذب (٨ / ٢٧٢). المغني لموفق الدين (٣ / ٥٨٨ ـ ٥٨٩).

٥٤

وقيل : يقصرها على الأنبياء.

وقيل عليه دونهم.

وقيل : بجوازها مطلقّا بلا كراهة.

وقيل : تبعا ومثلها السلام ، إلا إذا كان تحية لحاضر أو طي غائب حكاه ابن حجر.

مسألة : من استودع السلام قال : السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان.

وإبلاغه سنة لأنه للاستمداد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف إرسال السلام للغائب فإن إبلاغه واجب على من لم يصرح بعدم قبول تحملة عقب التحميل لأن في تركه وسيلة إلى المقاطعة المحرمة (١).

مسألة : نقل ابن الهمام أن مذهب أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى استقبال القبر الشريف قال : وما نقل عنه يعني قول الكرماني من استقبال القبلة مردود بما رواه في مسنده عن ابن عمر رضي [الله تعالى](٢) عنهما مرفوعّا أنه قال : «من السنة استقبال القبر المكرم وجعل الظهر إلى القبلة ويقف على نحو أربعة أذرع من جدار القبر الشريف» وذلك أقل من مراتب [البعد](٣). وأما الإطالة وخلافها فهي بحسب الحضور فمن فقده فالانصراف أولى به ويسلم على الصديق الأكبر ، والفاروق الأطهر ، وإفراد كل بالسلام أولى.

[وعن](٤) مالك رحمه‌الله تعالى : السلام عليكما يا صاحبي رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٥) وهكذا في بعض مناسك الحنفية. وهل يشير بأصبعه إذا أراد الزيارة إلى الصاحبين كما هو صنيع أهل البادية. قال في مناسك السروجي نعم يشير بيديه إليهما ، إذا أراد أن يسلم عليهما ولا أدري ما معنى التخصيص لأنهم يسلمون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك.

مسألة : كره مالك رحمه‌الله تعالى وغيره من الأئمة دون الثلاثة كلما دخل الرجل المسجد وخرج [الوقوف با](٦) لقبر الشريف. قال : وإنما ذلك [للغرباء](٧) وذلك كله

__________________

(١) انظر / شرح المهذب للنووي (٨ / ٢٧٤).

(٢) سقط من ب.

(٣) ثبت من ب [العبد].

(٤) بياض في أ.

(٥) سقط من «أ».

(٦) بياض في «أ».

(٧) كشط في أ.

٥٥

قد يفضي إلى [الملل](١) وقلة الأدب والحكم يدور مع العلة وعنه عليه [الصلاة](٢) والسلام «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» (٣).

مسألة : قال في الجوهر المنظم : مذهب أهل البيت تقبيل القبر ومسه وقال أحمد بن حنبل رحمه‌الله تعالى : لا بأس به (٤) وعليه المحب الطبري وابن أبي الصيف وغيرهم من الأجلا كالسبكي وأضرابه (٥).

وقال الغزالي في الأحياء. مس المشاهد وتقبيلها عادة اليهود والنصارى (٦) ، ولما رجع بلال رضي‌الله‌عنه من الشام جعل يبكي ويمرغ وجهه على القبر.

__________________

(١) بياض في «أ».

(٢) سقط من أ.

(٣) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في قصر الصلاة (١ / ١٧٢) (٨٥). قال ابن عبد البر : لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث. والإمام أحمد في مسنده (٢ / ٣٣٠) ـ الحديث (٧٣٧٦).

(٤) ليس هذا مذهب الإمام أحمد فقد قال شيخ الإسلام موفق الدين : ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولا تقبيله. قال الإمام أحمد : ما أعرف هذا. قال الأثرم : رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون قبر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقومون من ناحية فيسلمون. قال أبو عبد الله : وهكذا كان ابن عمر يفعل. أما المنبر : فقد جاء فيه ما رواه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ انه نظر إلى ابن عمر وهو يضع يده على مقعد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من المنبر ثم يضعها على وجهه. انظر / المغني لموفق الدين (٣ / ٥٩١).

(٥) قال الشيخ النووي : لا يجوز أن يطاف بقبره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر قاله أبو عبيد الله الحليمي وغيره قالوا : ويكره مسحه باليد وتقبيله بل الأدب أن يبعد عنه كما يبعد منه لو حضره في حياته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه ولا يغتر بمخالفة كثير من العوام وفعلهم ذلك ، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة ، وأقوال العلماء ، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم. وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ مرفوعّا «من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية لمسلم «من عمل عملا ليس عليه عملنا فهو رد». وعن أبي هريرة ـ رضي‌الله‌عنه ـ مرفوعّا : «لا تجعلوا قبري عبدّا وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» أخرجه أبو داود بإسناد صحيح. قال الشيخ النووي : وقال الفضل ابن عياض ـ رحمه‌الله ـ ما معناه : اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين ، ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وكيف ينبغي الفضل في مخالفة الصواب. انظر / شرح المهذب (٨ / ٢٧٥).

(٦) قال حجة الدين الغزالي : وليس من السنة أن يمس الجدار ، ولا أن يقبله بل الوقوف من بعد أقرب للاحترام. انظر / إحياء علوم الدين للغزالي (١ / ٢٦٠).

٥٦

وعن الزهراء البتول رضي الله تعالى عنها لما قبر عليه [الصلاة](١) والسلام أخذت قبضة من تراب قبره [عليه الصلاة والسلام](٢) وجعلته على عينيها وبكت وأنشدت :

ما ذا علي من شم تربة أحمد

أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت علي مصاب لو أنها

صبت على الأيام صرن لياليا

وفي حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن مروان أقبل فرآه ملتزم من القبر المكرم ، فأخذ برقبته. وقال : هل تدري ما تصنع قال : نعم لم آت الحجر وإنما أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله

ولكن أبكوا عليه إذا وليه غير أهله

وعن بعضهم :

اتبع طريق الهدى

ولا يضرك قلة السالكين

وإياك وطرق الضلالة

ولا تغتر بكثرة الهالكين

وهذا الحق ليس به خفاء

فدعني من بنيات الطريق

[مسألة](٣) : إن قيل : ما [حكمة](٤) دفنه عليه [الصلاة](٥) والسلام بالمدينة المنورة وقد جاء أن كل أحد إنما يدفن في المحل الذي خلق منه وإنما خلق عليه [الصلاة](٦) والسلام [من الطينة التي خلقت منها الكعبة](٧).

[قيل](٨) : حكمة افراده عن مكة [المشرفة](٩) بمحل بعيد منها ليكون متبوعّا لا تابعّا ، ولتتمايز الناس في شد الرحال إلى [نصوصه](١٠).

[وقد](١١) حكى صاحب عوارف المعارف أن الطوفان لما علا الكعبة موج منها موجة إلى كل محل قبره الشريف فهو في الحقيقة لم يدفن إلا في أصل الكعبة.

وحكى السهروردي أن سليمان عليه‌السلام زار محل قبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبر بأنه سيقبر فيه ، واختصاص المدينة بذلك من بين قرى الحجاز لأنها باعتبار ذاتها لا بما عرض لها من نحو [حماها](١٢) مع أنها نقلت إلى الحجفة أعذب أرض في تهامة

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) سقط من أ.

(٣) بياض في أ.

(٤) في ب [حكم].

(٥) سقط من ب.

(٦) سقط من أ.

(٧) في ب هكذا [من طينة الكعبة].

(٨) سقط من أ.

(٩) في ب [الشريفة].

(١٠) ثبت في ب [بخصوصه].

(١١) سقط من أ.

(١٢) في ب [حمامها].

٥٧

[وأعدلها](١) وأكثرها ماء ونخيلا ، وأحسنها أهلا ومقيلا سيما وفيها أخوال نبينا صلّى الله تعالى وسلم عليه وأنصاره [إلى](٢) غير ذلك من محاسنها ومحاسنهم الجمة التي لا تكاد توجد في غيرهم.

وما أحسن ما قال :

زر أشرف الرسل الكرام وإن بنا

بك [منزلا](٣) وشط قرب مزاره

فعليك بالتاريخ يا [مغرم](٤) به

لتشاهد الأخبار من آثاره

مسألة : قال العلامة ابن حجر في كتابه الجوهر [أن](٥) النبي صلّى الله تعالى وسلم عليه حي يرزق ، أي من المعارف الربانية والكرامات الرحمانية ما يليق بعلي مقامه ويتلذذ [به](٦) في قبره. كما كان يتلذذ به قبل وفاته ولكونه غذاء لروحه الشريف عبر عنه بالرزق.

مسألة : النفس كلما كان استيلاؤها على ما ليس من شأنه الدخول تحت حيازتها ، لو لا ما اختصت به من ضروب مقاهرته كانت به أشد ابتهاجّا وأنشدوا :

رأيت النفس تسأم ما لديها

وتطلب كل ممتنع عليها

وقد أجمعوا على أن إحساس النفس بالملائم والمناقي بعد مفارقة البدن أشد وأقوى للتخلي له ، فيكون الإدراك بالحواس الباطنة أقوى لشبهها عند خلوها بهذه الحواس بحالة المفارقة وقالوا [بتصور](٧) الذات المحمدية بما وصفت به سبب لمشاهدتها التي هي من أسنى المطالب [إشارة في ضمن بشارة](٨) روى عنه عليه الصلاة والسلام «من رآني في المنام فقد رآني في اليقظة (٩) ولا يتمثل بي

__________________

(١) في ب [وأهلها].

(٢) في ب [و].

(٣) في ب [تزل].

(٤) في أ [مغرى].

(٥) سقط من أ.

(٦) سقط من أ.

(٧) في ب [تصور].

(٨) سقط من أ.

(٩) قال القاضي أبو بكر بن العربي : رؤية النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال ، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض ، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة ، وإدراك الصفات إدراك المثل ، قال : وشذ بعض القدرية فقال : الرؤيا لا حقيقة لها أصلا ، وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقة. وقال بعض المتكلمين : هي مدركة بعينين في القلب. قال : وقوله [فسيراني] : معناه فسيري تفسير ما رأى لأنه حق وغيب ألقى فيه. وقيل : معناه فسيراني في القيامة ، ولا فائدة في هذا ـ

٥٨

__________________

ـ التخصيص وأما قوله [فكأنما رآني] : فهو تشبيه ومعناه : أنه لو رآه في اليقظة لطابق ما رآه في المنام ، فيكون الأول حقّا وحقيقة ، والثاني حقّا وتمثيلا قال : وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة ، فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثال ، فإن رآه مقبلا عليه مثلا فهو خير للرائي وفيه وعلى العكس فبالعكس. انظر / فتح الباري (١٢ / ٤٠٠ ـ ٤٠١). قال الشيخ النووي : قال القاضي : ويحتمل أن يكون قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد رآني أو فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي المراد به إذا رآه على صورته المعروفة له في حياته ، فإن رأى على خلافها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة. قال الشيخ النووي : وهذا الذي قاله القاضي ضعيف بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها لما ذكره المازدي. انظر / شرح صحيح مسلم للنووي (١٥ / ٢٥). قال الحافظ ابن حجر : قال القرطبي : اختلف في معنى الحديث فقال قوم : هو على ظاهره فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء. قال : وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول ، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ، ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره ، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل. قال الحافظ : وقالت طائفة : معناه أن من رآه رآه على صورته التي كان عليها ، ويلزم منه أن من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من الأضغاث ، ومن المعلوم أنه يرى في القوم على حالة تخالف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به ، وتقع تلك الرؤيا حقّا كما لو رؤي ملأ دارّا بجسمه مثلا فإنه يدل على امتلاء تلك الدار خيرّا. ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله «فإن الشيطان لا يتمثل بي» ، فالأولى أن تنزه رؤياه ، وكذا رؤيا شيء منه أو مما ينسب إليه عن ذلك فهو أبلغ في الحرمة وأليق بالعصمة كما عصم من الشيطان في يقظته. قال : والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة ، ولا أضغاثّا بل هي حق في نفسها. ولو رؤي على غير صورته فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان بل هو من قبل الله وقال : وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره ، ويؤيده قوله [فقد رأى الحق] أي رأى الحق الذي قصد إعلام الرائي به فإن كانت على ظاهرها وإلا سعى في تأويلها ولا يهمل أمرها لأنها إما بشرى بخير أو إنذار من شر ، إما ليخيف الرائي ، وإما لينزجر عنه وإما لينبّه على حكم يقع له في دينه أو دنياه. وقال ابن بطال : قوله [فسيراني في اليقظة] يريد تصديق تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها وخروجها على الحق ، وليس المراد أنه يراه في الآخرة لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة فتراه جميع أمته من رآه في النوم ومن لم يره منهم. وقال ابن التين : المراد من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذ غائبّا عنه فيكون بهذا مبشرّا لكل من آمن به ولم يره أنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته قاله القزاز. وقال المازدي : إن كان المحفوظ [فكأنما رآني في اليقظة] فمعناه ظاهر وإن كان المحفوظ [فسيراني في اليقظة] احتمل أن يكون أراد أهل عصره ممن يهاجر إليه فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة وأوحى الله بذلك إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. وقال القاضي : وقيل معناه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها. وقيل : معنى الرؤيا في ـ

٥٩

الشيطان» (١)(٢). وعنه من «رآني فقد رأى الحق» (٣)(٤). وعنه «من رآني فلن يدخل النار»

__________________

ـ اليقظة أنه سيراه في الآخرة. وتعقب : بأنه في الآخرة يراه جميع أمته من رآه في المنام ومن لم يره يعني فلا يبقى لخصوص رؤيته في المنام مزية. وأجاب القاضي عياض : باحتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عرف بها ووصف عليها موجبة لتكرمته في الآخرة وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه والشفاعة له بعلو الدرجة ونحو ذلك في الخصوصيات قال : ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤية نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مدة. قال الحافظ ابن حجر : وحمله ابن أبي جمرة على محمل آخر : فذكر عن ابن عباس أو غيره أنه رأى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في النوم فبقي بعد أن استيقظ متفكرّا في هذا الحديث فدخل على بعض أمهات المؤمنين ولعلها خالته ميمونة فأخرجت له المرآة التي كانت للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فنظر فيها فرأى صورة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولم ير صورة نفسه ونقل عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك. قال الحافظ : قلت : وهذا مشكل جدّا ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة. ويعكر عليه أن جمعّا جمّا رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنهم رأوه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف. قال : وقد اشتد إنكار القرطبي على من قال من رآه في المنام فقد رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة قال : وقد تفطن ابن أبي جحوة لهذا فأحال بما قال على كرامات الأولياء فإن يكن كذلك تعين العدول عن العموم في كل داء ، ثم ذكر أنه عام في أهل التوفيق وأما غيرهم فعلى الاحتمال ، فإن خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء كما يقع للصديق بطريق الكرامة والإكرام وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة. قال الحافظ ابن حجر : وقال القرطبي : قد تقرر أن الذي يرى في المنام أمثلة للمرئيات لا أنفسها ، غير أن تلك الأمثلة تارة تقع مطابقة وتارة يقع معناها : فمن الأول : رؤياه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عائشة وفيه «فإذا هي أنت» ، فأخبر أنه رأى في اليقظة ما رآه في نومه بعينه. ومن الثاني : رؤيا البقر التي تنحر والمقصود بالثاني التنبيه على معاني تلك الأمور. ومن فوائده رؤيته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تسكين شوق الرائي لكونه صادقا في محبته ليعمل على مشاهدته ، وإلى ذلك الإشارة بقوله [فسيراني في اليقظة] ، أي من رآني رؤية معظم لحرمتي ومشتاق إلى مشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبة وظفر بكل مطلوبه. قال : ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته وهو دينه وشريعته ، فيعبر بحسب ما يراه الرائي من زيادة ونقصان أو إساءة وإحسان. انظر / فتح الباري (١٢ / ٤٠١ ـ ٤٠٢). شرح صحيح مسلم للنووي (١٥ / ٢٤ ـ ٢٥).

(١) قال الحافظ : قال المازري : اختلف المحققون في تأويل هذا الحديث فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن المراد بقوله [من رآني في المنام فقد رآني] أن رؤياه صحيحة لا تكون أضغاثّا ولا من تشبيهات الشيطان. قال : ويعضده قوله في بعض طرقه «فقد رأى الحق» قال وفي قوله [فإن الشيطان لا يتمثل بي] إشارة إلى أن رؤياه لا تكون أضغاثا. ثم قال المازري : وقال آخرون : بل الحديث محمول على ظاهره والمراد أن من رآه فقد أدركه ولا مانع يمنع من ذلك ولا عقل يحيله حتى يحتاج إلى صرف الكلام عن ظاهره ، وأما كونه قد يرى على غير صفته أو يرى في مكانين مختلفين معا فإن ذلك غلط في صفته وتخيل لها على غير ما هي عليه ، وقد ـ

٦٠