كتاب الجواهر الثمينة في محاسن المدينة

المؤلف:

محمّد كبريت الحسيني المدني


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل الشافعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

فيا جيرة القبر من يثرب

أجير ومحب إليكم دنا

وقولوا قدمت على أحمد

شفيع العصاة وكنز الغنا

فبشراك ما ترتجي حاصل

ويهنيك هذا مقام الهنا

وقيل :

يا جيرة نزلوا بوادي المنحنا

ما للمتيم عن محبتكم غنا

وغيري إذا طال الزمان سلاكم

وتغيرت أحواله إلا أنا

إن صح لي ذاك الوداد ودام لي

برضاكم فتحت أبواب الهنا

وتلطف الذهبي حيث يقول :

تولى شباب كأن لم يكن

وأقبل شيب علينا تولى

ومن عاين المنحنا والنقا

فما بعد هذين إلا المصلى

[وقال آخر] :

كفى مودنا باقتراب الأجل

شباب تولى وشيب قد (١) نزل

وموت الأخلاء ما بعده

بقاء يؤمله من عقل

إذا ارتحلت قرناء الفتى

فلا شك في أنه قد رحل

[الشيخ شرف الدين بن الفارض] :

سقيا لأيام مضت مع جيرة

كانت ليالينا بهم أفراحا

وأما على ذاك الزمان وطيبة

أيام كنت في (٢) الغرب قراحا

حيث الحمى وطني وسكان النقا

سكنى ووردي الماء فيه مباحا

وأهيله أربي وظل نخيله

طربى ورمله واديه مراحا

ما رنحت ريح الصبا شيخ الربا

إلا وأهدت منهم أرواحا

وقد اشتمل النقا على حدائق ذات بهجة فمن أحسنها بئر ودى (٣) بن الأمير جمال الحسين (٤) فإنها اشتملت على الشجر المتفرع والغرس المتنوع والعمارة الحسنة والأوضاع المستحسنة وماؤها أعذب ماء هنالك قال في الوفا ولعلها بئر أبي عنبة التي عرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عسكره عليها في جيش بدر ورد من استصغر (٥) وهي على ميل من

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) في ب [من].

(٣) في ب [وادي].

(٤) في ب [الحسيني].

(٥) أخرجه البخاري في المغازي ٧ / ٣٣٩ الحديث ٣٩٥٦. والإمام أحمد في مسنده ٤ / ٣٦٥ الحديث ١٨٦٥٨. وفي موضع التخريج أن من استصغر هو البراء ـ رضي ـ

١٢١

المدينة المنورة ومن محاسن النقا زمزم فإنها حديقة ذات نخيل وأشجار وعمارة تناجت في ساحتها الأطيار قال في الوفا بئر أهاب بصق فيها النبي صلى الله تعالى وسلم عليه (١) وهي بئر زمزم ولم يزل أهل المدينة قديمّا وحديثّا يتبركون بها وينقلون إلى الآفاق من مائها وفيه أنها بئر فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم احتفرتها لما أخرجت من بيت جدتها فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها وهي الآن من أحسن الحدائق الخضرة ذوات (٢) الأشجار الأنيقة النضرة وماؤها ليس بالعذب الخالص وما أحسن ما قال :

أكرم بزمزم إذ غدا متفجرّا

بمعين ماء للمفاسد يصلح

حاوي الملاحة والعذوبة والشفا

فلذلك يحلو للقلوب ويملح

ولأبي العلا سليمان المغري فيما قال :

لك الحمد أمواه البلاد بأسرها

عذاب وخصت بالملوحة زمزم

وفي الخبر لا تقوم الساعة حتى تبلغ المساكن اهاب وفي رواية لا تقوم الساعة حتى يبلغ البناء شجرة ذي الحليفة وهي على ستة أميال من المدينة وقال الأسدي خمسة أميال ونصف ميل والميل ألف باع على المشهور وهو ثلث الفرسخ وأنشدوا :

إن البريد من الفراسخ أربع

ولفرسخ فثلاث أميال ضعوا

والميل ألف من الباعات قل

والباع أربع أذرع فتتبعوا

ثم الذراع من الأصابع أربع

من بعدها عشرون ثم الاصبع

ست شعيرات فبطن شعيرة

منها إلى ظهرها (٣) لأخرى توضع

ثم الشعيرة ست شعرات غدت

من شعر بغل ليس فيه تضعضع

وقال عمر الوزير محمد باشا بذي الحليفة : البئر المنسوبة إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على يد نقيب السادة الأشراف بالمدينة المنورة السيد أحمد بن سعد الحسيني في سنة تسعمائة واثنين وثمانين وجعل لها درجات بعرض حافتيها بحيث صارت المواشي تردها فتكرع منها وفي قبلي ذي الحليفة وادي الحساء وهو واد فيه آبار ومزارع شتى وهو المذكور في شعر أبي رواحة يخاطب ناقته.

__________________

ـ الله عنه ـ وأن ذلك وقع عند حضور القتال فعرض من يقاتل فرد من لم يبلغ ، وكانت تلك عادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المواطن. انظر فتح الباري (٧ / ٣٣٩).

(١) لم أجده.

(٢) في ب [النضرة].

(٣) في ب [ظهر].

١٢٢

إذا أدنيتني وحملت رحلي

مسيرة أربع بعد الحساء

فشأنك فانعمي وخلاك ذم

ولا أرجع إلى أهلي ورائي

ومن محاسن النقا :

المغسلة بالغين المعجمة قال المجد هي بكسر السين المهملة وكمنزله جبانة بطرف المدينة يغسل فيها كذا ذكره أهل التاريخ [ومن أوعظ ما قال](١) :

كذا عادة الدنيا فهل ناظر

خطوب تفاجينا وموت [يصادره](٢)

كفى عظة أن كلما جئت بلدة

تلقتك من قبل البيوت المقابر

وقد صارت هذه الجبانة حديقة كبيرة نضيرة وتعرف اليوم بالمغسلة بفتح السين على خلاف القياس وهي من قبلي النقا من غربي بطحان ومن محاسن بطحان حديقة أمير جليل والمسلحة وما اشتمل عليه ذلك الجزع من البساتين الفائقة والمنارة الرائقة.

فائدة [شجر](٣) البان [شجر](٤) يقارب الاتل ومنه نوع قصير دون شجر الرمان يدخل في الغوالي والأطياب كان ينبت بنواحي النقى [وبارق](٥) والابرق ورامه مواضع بالعقيق.

وأنشد لنفسه الشيخ عبد اللطيف التكريتي :

ما شاقه البان ولا يشوقه

مذ لمعت ببارق بروقه

حن إلى المعنى القديم فانثنى

وشوقه إلى اللوى يسوقه (٦)

يهوى باكتاف الحمى محجبا

حكاه من غصن النقا وريقه

بدر خبايا أضلعي بروحه

ظبي وسفح مدمعي عقيقه

ملكته طرفي [وقلبي](٧) فغدا

أسيره هذا وذا طليقه

يا أهل ذياك الحمى نزيلكم

يحمل أن ترى له حقوقه

هلا سألتم بالغضا عزواله

فارقه يوم النوى فريقه

مزق ثوب الصبر يوم بينكم

ولذ في حبكم تمزيقه

وحقكم ما أم غير بابكم

ولا سرت إلى سواكم نوقه

كلا ولا راق له منذ نأى

عن حبكم مغنا ولا يروقه

__________________

(١) في ب [وقد قال].

(٢) في ب [يصدر].

(٣) سقط من أ.

(٤) سقط من ب.

(٥) سقط من ب.

(٦) في ب [يشوقه].

(٧) في ب [قلبي وطرفي].

١٢٣

ولا تعني بكم حادي السرا (١)

إلا انثنى (٢) ودمعه خلوقه

يود لو زاد على أحداقه

سعيا وأحكام القضى تعوقه

يا طيبا منزله بطيبة

ومن صميم هاشم عريقه

صلى عليك الله ما انهل الحيا

وما سرى في فلك عتوقه (٣)

ومن محاسن المدينة. العقيق وهو واد على ثلاثة أميال من المدينة وقيل على ميلين منها كذا في كشف المناهج للشرف (٤) الناوي وفي القاموس العقيق الوادي جمعه اعقه وكل مسيل (٥) [شقه](٦) ماء السيل وموضع بالمدينة انتهى وقد وصف بأنه الوادي المبارك وفي خبر يحبنا ونحبه وهواء سجسج (٧) لا حر فيه ولا برد ومن شعر الزبير فيه :

قم بنا يا أنيس قبل الشروق

نحتسيها (٨) على رياض العقيق

يحكى عن أعرابي أنه قال : دخلت العقيق فوجدت قلبي يمتلأ سرورا (٩) لا أعرف له سببّا غير طيب ترابه وعذوبة هوائه وانفلاج (١٠) جوه.

[ومن أحسن ما قال](١١) :

ولقد صبوت إليه حتى

كدت من فرط التصابي

يجد الجليس إذ دنا

ريح الصبابة من ثيابي

قال في الدرة الثنية في أخبار المدينة : وادي العقيق اليوم ليس فيه ساكن وفيه بقايا أبنية مندرسة تجد النفس برؤيتها أنسّا كما قال أبو تمام وما زرنا من تود :

ما ربع ميه معمورّا يطيف به

غيلان أبهى ربا من ريعها (١٢) الهذب

ولا الجدود وإن أدمين من حجل

أشهى إلى قلبه من خدها الترب

فائدة : حاجر موضع بغربي (١٣) النقا من وادي العقيق وهو المذكور في الأشعار وأنشد لنفسه الشيخ عبد السلام بن يوسف ولله دره :

على ساكني بطن العقيق سلام

وإذا أسهروني بالفراق وناموا

__________________

(١) في ب [الثوى].

(٢) في ب [اثنى].

(٣) في ب [عبوقه].

(٤) في ب [المشرف].

(٥) في ب [ميل].

(٦) في ب [سميح].

(٧) في ب [نحسها].

(٨) في ب [نورا].

(٩) في ب [وأنفس وانفساح].

(١٠) سقط من ب.

(١١) في ب [وما زرنا من تود].

(١٢) في ب [رامها].

(١٣) في ب [بقربي].

١٢٤

خطرتم على النوم وهو محلل

وحللتم التعذيب وهو حرام

إذا نبتم عن حاجر وحجرتم

على السمع أن يدنو إليه كلام (١)

فلا ميلت ريح الصبا فرع بانه

ولا سجعت فوق الغصون حمام

ولا قهقهت فيه الرعود ولا بكى

على حافتيه بالعشاء غمام

فما لي وما للربع قد بان أهله

وقد فوضت من ساكنيه خيام

ألا ليت شعري هل إلى الرمل عودة

وهل لي بتلك البانتين لمام

وهل تهله (٢) من بئر عروة عذبة

أداوي بها قلبّا يراه أرام

ألا يا حمام الأراك إليكم

فما لي في تغريد كن مرام (٣)

فوجدي وشوقي مسعد ومؤانس

ونوحي ودمعي مطرب ومدام

قال في الخلاصة : بئر عروة هذه ميمونة مأثورة ، وكان الزوار لا يتجاوزون العقيق حتى يتزودوا من مائها وفيها يقول السري بن عبد الرحمن الأنصاري :

كفنوني إن مت في درع اروى

واستقوا لي من بئر عروة مآى

سخنه في الشتاء بارده في الصيف

سراج في الليلة الظلماء

وقال إبراهيم بن موسى الزبيري :

ليت شعري هل العقيق فسلع

فقصور الجمآء فالعرصتان

فإلى مسجد الرسول فما حا

زا لمصلى فجانبا بطحان

فبنوا مازن على العهد أم

ليس كعهدي في سالف الأزمان

قال أبو قطيفة :

القصر ذو النخل فالجمآء بينهما

أشهى إلى النفس من [أبواب جبرون](٤)

والمراد القصر الذي ابتناه سعيد بن العاص بن أمية أحد مشاهير الأجواد بصره عرصة العقيق وكان بنوا أمية يمنعون البناء في العرصة خنا بها فاحتفر بها سعيد وغرس النخيل والبساتين وكان نخلها أبكر شيء بالمدينة وتسمى عرصة الماء وابتنى مروان بن الحكم بعرصة البغل قصرّا واحتفر بها عينّا.

وفي ذلك يقول الوليد :

لم أنس بالعرصتين مجلسنا

بالسفح بين العقيق والسند

__________________

(١) في ب [أزيدوا نواله كلام].

(٢) في ب [قهلة].

(٣) في ب [مكرم].

(٤) في ب [إيوان جيرون].

١٢٥

وفي الخبر : يا عائشة جبنا من هذا العقيق فما ألين موطأه وأعذب ماؤه قالت : يا رسول الله أفلا تنتقل إليه قال «كيف وقد ابتنى الناس» (١).

وعنه عليه‌السلام «نعم المنزل العرصة ، لو لا كثرة الهوام» (٢).

قال المطري : العقيق ما بين الحرم إلى غربي بئر رومة ، ومنه الجرف وسيأتي ولم يزل العقيق نخلا وأعنابا ، حتى خربت تلك العيون ، ولم يبق من عمارات العقيق إلا بعض الآثار وبقايا رسوم الآبار وما زالت النفوس ترتاح برؤيتها والأرواح تنتعش بطيب نسمتها ومن أحسن بساتين العقيق بئر مهدي فإنها حديقة غرسها زاهر وأنسها باهر وماؤها عذب وهواؤها رطب وفيها للنفوس مسرة ولأهلها بها أكرم مبرة انتهى (٣) وأما سيل العقيق فإنه أعظم سيول المدينة وأحلاها وأجملها وأجلاها [منا](٤) بحر النيل عند إقباله إلا كثمرة وأوشاله وما الفرات وحلاوته عندما ترون العين طلاوته لقد اختصت به أهالي المدينة حتى كان عندهم يوم الزينة وبالجملة فإنه إذا سال بالسلسال واديه وتعطر بأزهار بساتينه ناديه هرعت وجوه الناس إليه وعولت في صفاء الوقت وترادف المسرات عليه فتضرب حوله الخيام ولا سيما إن تحجبت الشمس بالغمام فترى الناس حوله ينتهزون فرصة اللذات وينتهبون أوقات المسرات.

قال أبو عبيدة : العقيق ينفق من قبل الطائف ويروى أنه أقام في بعض الأعوام نحو خمسة عشر يوما وهو في قوة الجريان بحيث لا يمكن سلوكه ومن المعميات في السيل :

إذا ركب البيدآء يخشى ويتقى

ولم يثنه طعن ولم يلوه ضرب

ويأكل ما يلقاه عند لقائه

ومن أعجب الأشياء ليس له قلب

وله أيضا :

ما اسم شيء إذا تصحف جمع

وهو يصطاد ما من البحر يجلب

وهو لا طائر وليس بوحش

ثم إن رمت قلبه ليس بقلب

يريد ان هذا الاسم وهو لفظ سيل إذا تصحف كان شبكّا جمع شبكة وهو معدود لصيد السمك في البحر وهو غير الطير والوحش وقلب سيل ليس وهو مادة النعمية (٥) ولابن المعلم (٦).

__________________

(١) لم أجده.

(٢) لم أجده.

(٣) سقط من أ.

(٤) في ب [ماء].

(٥) في ب [التعمية].

(٦) سقط من ب.

١٢٦

كم قلت إياك العقيق فإنه

ضربت (١) جاذره بصيد أسوده

وأردت صيد مها الحجاز فلم يس

اعدك القضا فرحت بعض صيوده

واختصره آخر فقال :

أبصرت ظبيا في الحمى

بين اللوى وزروده

أملت أن أصطاده

فغدوت بعض صيوده

وقال غيره :

قلبي الخفوق ومدمعي الجاري دم

مهما جرى ذكر العقيق أو اللوى

وإذا تألف بارق من بارق

فهناك ينشر من هواه ما انطوى

لطيفة :

في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني نقلا عن الهيثم بن عدي قال : حدثني عبد الله بن العباس الهذلي عن رجل من بني عامر قال مطرنا مطرا شديدا ارتبعناه ودام المطر ثلاثا ثم أصبحنا في اليوم الرابع على صحوه فخرج الناس يمشون على الوادي فرأيت رجلا جالسا على حجر فقصدته فإذا هو المجنون جالسا يبكي فكلمته طويلا وهو مطرق ثم رفع رأسه وأنشد بصوت حزين لا أنسى حرقته :

جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى

وفاضت له من مقلتي غروب

وما ذاك إلا حيث أيقنت أنه

يكون بواد أنت منه قريب

يكون اجاجا دونكم فإذا انتهى

إليكم تلقى طيبكم فتطيب

فيا ساكني أكناف نخلة كلكم

إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

زاد مغلطاي

أظل غريب الدار في أرض عامر

ألا كل مهجور هناك غريب

وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمى

إلي وإن لم آته (٢) لحبيب

ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر

حبيبا (٣) ولم ينظر إليك حبيب

قال وهي من قصيدة أولها :

ألا أيها البيت ألذي لا أزوره

وهجرانه مني إليه ذنوب

هجرتك مشتاقا وزرتك خائفا

وفيك علي الدهر منك قريب

__________________

(١) في ب [ضرب].

(٢) في ب [آية].

(٣) في أ [حبيبنا].

١٢٧

سأستعطف الأيام فيك لعلها

بيوم سرور في هواك تثيب

قلت

ولعل تكرار اسم الحبيب في القافية غير مذموم فإنه لا يضر شيء مع اسمه وعلى ذكر المطر في التهنية به.

لله يوم قد همت سحبه

بسفح روض طيب النسمه

وظبي أنس حن قلبي له

إذ قال لي تهنيكم الرحمه

فائدة :

سيل الحجاب كان بمكة المشرفة واحتجب دورا كثيرة وأحاط بالكعبة وكان في إمارة عبد الملك بن مروان سحر يوم التروية من عام ثمانين وحكى السيوطي في تاريخ الخلفاء ، انه جاء سيل في أيام عبد الله بن الزبير طبق البيت الحرام فكان يطوف سجاته وهو أول من كسى الكعبة الديباج وكان له مائة غلام لكل غلام لغة ليست لصاحبه فكان يكلم كل غلام بلغته وللصيفي الحلي :

بقدر لغات المرء يكثر نفعه

وتلك له عند الممات أعوان

فهافت على حفظ اللغات مجاهدا

فكل لسان في الحقيقة إنسان

وفي سنة إحدى وسبعين وتسعمائة ، طاف بالبيت سيل عظيم خرب الدور وأخلى البقاع وعلا على الركن اليماني مقدار ذراع وفي سنة ٩٧١ وفي سنة تسع وثلاثين ألف دخل مكة سيل لم يعهد مثله بحيث هدم الدور وذهب بالمال والرجال ودخل إلى المسجد وطاف بالبيت بحيث كان تاريخه رقى إلى قفل بيت الله وبسببه انهدمت الكعبة وعمل الناس في ذلك التواريخ والاشعار وكثر اللغط في عام تاريخه غلط وفي سنة أربعين بعد الألف كان بناء البيت الشريف ومن التواريخ المنثورة (١) فيه ورفع الله قواعد البيت وكانت هذه الفضيلة مما اختص بها السلطان الأعظم والخاقان المكرم واسطة عقد آل عثمان والمخصوص بالمناقب التي يعجز عنها البيان المسدد في الاصدار والايراد ، مولانا السلطان مراد أصلح الله تعالى بما مضى اهتمامه فساد العباد وعم بعدل سيرته البلاد ولا انفك منشور عزه مكتوبا على جبهة الشمس وجماجم أعدائه مندرسة كأن لم تفن بالأمس فيا له من أثر نعفو دونه المآثر ويا له من تاريخ خير يبقى مع الدهر الداهر وأكرم بها فضيلة اختصه الله تعالى بها دون آبائه وشرفا يسطر خبره في صدر قرطاس أبنائه :

__________________

(١) في ب [المنشورة].

١٢٨

هكذا هكذا وإلا فلا [لا](١)

طرق الجد غير طرق المزاح

ومن تاريخ الفاسي لغيره :

بنى الكعبة الغراء عشر وكرتهم

ورتبتهم حسب الذي أخبر الثقه

ملائكه الرحمن آدم ابنه

كذلك خليل الله ثم العمالقه

وجرهم يتلوهم قصى قريشهم

كذا بن زبير ثم حجاج لا حقه

ومن يعد من آل عثمان قد بنى

مراده حماه الله من كل طارقه

وذيل بعضهم فقال :

وخاتمهم من آل عثمان بدرهم

مراد المعالي أسعد الله شارقه

فائدة :

الخلائق جمع خليقة ، مزارع وقصور لغير واحد من آل الزبير يمر بها سيل العقيق كذا في تاريخ الوفاة ومن بعدهم من آل عثمان قد بنا مراد حماه الله من كل طارقه صح.

أنشد أبو حيان الشاطي لنفسه :

ترمون الحجاز وما علمتم

بأن القلب بينكم العتيق

والفاظي العذيب وفي ضلوعي الحمى

ودموع مقلتي العقيق

وقال آخر :

ولقد أتيت إلى العقيق فشاقني

عين بها روض النعيم منعم

[فلأجلها ومن أهلها](٢) أنا مكرم

ولأجل عين ألف عين تكرم

ومن كتاب زهر الربيع وباب

حدثاني عن قامت ورضاب

أشغلاني عن كل غصن وفريق

وصفا لي ثغر الحبيب فإني

ذو اشتياق إلى النقا والعقيق

الشاهد :

في قوله صفا لي ثغر الحبيب ، فإنه أدمج فيه وصفه بالنقا والعقيق.

وما أحلى قول ابن نباتة :

إذا لم تغض عيني العقيق فلا رأت

منازله بالقرب تبهى وتبهر

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب [فلأهلها من أجلها أنا مكرم].

١٢٩

وإن لم تواصل عادة السفح مقلتي

فلا عادها عيش بمعناه أخضر

قال ابن حجة في كتاب كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام بعد إيراد البيتين فيه انظر أيها المتأهل إلى صحة الاشتراك في الاستخدامين وانسجام البيت الأول مع الثاني ، وسيلان الرقة من هذا القطر النباتي والتشبيب المرقص بالمنازل الحجازية والغزل الذي يليق أن تصدر به المدائح النبوية ومن الشعر المنسجم المحرك للأشجان.

أبكي إذا ذكر العقيق بمثله

لعهود جيرته وحسن [المعهد](١)

فسقى الحيا تلك البقاع فتربها

لجلاء عن القلب مثل الأثمد

السري الرفا :

إذا ذكر العقيق لنا سرنا

عقيق الدمع سحا وإنهمالا

وسال من معالمه محيلا

فتطلب من إجابته محالا

سعد الدين بن عربي :

هذا العقيق فما لقلبك يخفق

أتراه من طرب إليه يصفق

بانت له بانات سلع فانثنى

وله إلى نسماتهن تشوق

ومن محاسن المدينة :

البركة المباحة وهي بركة الأمير بيري وهي في قبلي جادة العقيق وعندها حديقة وكان عليها بناء حسن لعبت به الرياح وبركة الأمير قاسم على بئر الأعجام وهي من قبلي مسجد السقيا وعندها سبيل ومشربه على حديقة لطيفة وكانت مقيلا للأعيان ومنتزهّا لمن تناءت به الأوطان فدارت بها الليالي ، حتى صارت كالرسم الخالي وكل عمارة تغدو خرابا ، عمارتها بتكرار الرياح العسيرية (٢) وهي بركة عظيمة عليها عمارة حسنة وايوان لطيفة وهي من قبلي جادة النقا وبركة الوزير داود باشا وهي في غربي عمارته عند مقسم العين الزرقا وهي منهل الركب المصري وبركة المصلى وهي الكائنة في شرق حوسن عمر أنفدي وبركة الوزير مصطفى باشا وهي الكائنة في غربي بستانه في شمال باب السور الشامي وهي منهل الركب الشامي ولكل واحدة من هذه البرك أوقاف وخدمة وناظر ومن محاسن المدينة عمارة السلطان مراد عليه رحمة الله ، رب العباد ، فإن عليها مدار المهاجرين ، والفقراء والمجاورين وكان لها خبز يصلح للقرا وكان يطبخ فيها اللحم ويفرق على الفقراء ، وكان الفقير إذا نال نصيبه من الأرز المطبوخ في ليلة الجمعة

__________________

(١) في ب [العهد].

(٢) في ب [العتيرية].

١٣٠

والاثنين استخرج منه من السمن ما يكفيه إلى يومين وبالجملة فلا غير الله تعالى بها الحال ولا أخلاها من الخيرات والنوال ، إذ لكل زمان مجال ولكل دهر دولة ورجال وقد أفرد بعض الفضلاء مؤلفّا بخصوصها وبين فيه تفاصيل جملها بنصوصها وفي معنى هذه العمارة ، العمارة الخاصكية ومن محاسنها الرباط وضعا ونفعا فلا زالت بالخيرات عامرة وللفقراء بجزيل (١) الإحسان غامرة ومن محاسن المدينة حمام الوزير داود باشا فإنه حسن في وصفه عام في نفعه وعنده حديقة لطيفة متينة (٢) وعمارة ظريفة ، منازل ليلى كلهن منارة لطرفي وقلبي في حماها مخيم.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من أ.

١٣١

باب في ذكر سلع ومساجد الفتح

وما اشتمل عليه ذلك السفح

حديث الغواني لست أنكر طيبه

ولكن كلام العامرية أطيب

سلع بالفتح ثم السكون آخره عين مهملة ، جبل بالمدينة المنورة قال الأصمعي غنت حياله جارية يزيد بن عبد الملك وكانت من أحسن الناس وجها ومسموعا وكان شديد الكلف بها وكانت نشأت بسلع.

لعمرك إني لأحب سلعا

لرؤيته كذا أكتاف سلع

تقر بتربته عيني وإني

لأهوى أن يكون يريد نجعي

فتنفست الصعدا فقال لها لما تتنفسين والله لو لا رؤيته لنقلته إليك حجرا حجرا فقالت له وما أصنع به ، إنما أردت ساكنيه :

وما كنت أهوى الدار إلا بأهلها

على الدار بعد الصاغين سلام

وكان العباس رضي‌الله‌عنه يقف على سلع فينأى غلمانه وهم بالغابة وذلك من آخر الليل وبينهما ثمانية أميال قال المجد ، الغابة ماء على بريد من المدينة في سافلتها وهو محمول على أثناء الغابة لا أدناها وقبل هي على ستة أميال وعليه ، فالمراد أولها وهي مفيض أودية المدينة وكانت بها أملاك لأهل المدينة استولى عليها الخراب وبيعة في تركة الزبير بألف بألف وستمائة ألف.

لنا ملك ينادي كل يوم

لدوا للموت وابنوا للخراب

وكم لله من ملك ينادي

صبيحة كل يوم للمعاد

يقول لأهل دنيانا جميعا

لدوا الموت وابنو للخراب

ويروى أنه عليه‌السلام قصر الصلاة في الغابة (١) وإليها تنتهي عين معاوية ولم يبق منها اليوم غير مجاريها وعلى ذكر صوت العباس (٢) قال في القاموس أبو عروة رجل كان

__________________

(١) لم أجده.

(٢) في ب [صدت].

١٣٢

يصيح بالأسد فيموت فيشق بطنه فيوجد قلبه قد زال عن موضعه وللطبراني في الكبير سيبلغ البنيان سلعا ثم يأتي على المدينة زمان تمر السفر على بعض أقطارها فتقول [قد كانت](١) مرة عامرة وذلك من طول الزمان وعفو الأثر وفي خبر ليخرجن أهل المدينة ، خير ما كانت تصفا زهوا وتصفا رطبّا ، قيل من يخرجهم منها قال أمراء السوء وفي رواية [اعمر ما كانت](٢) وذلك في آخر الزمان.

يا صاح إن اسود الغاب همتها

يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

وأما سليع بالتصغير ، وهو جبل صغير وعليه اليوم القلعة السلطانية وكان عليه قبل ذلك ، حصن أمير المدينة الشريف جماز بن شيخة الحسيني وفي حدود السبعين وستمائة كذا في زهر الرياض وأما كهف سلع ، فقد كان عليه‌السلام يبيت فيه ليالي الخندق (٣) وهو على يمين المتوجه من المدينة إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية في مقابل الحديقة النقيبية على يمين الصاعد عليه وأعلى منه كهف صغير في جهة المشرق وتقدم ذكر العينية وكانت بسلع قصور مشيدة ومساكن عديدة ، ومنارة حسنة الأوضاع والمسالك وللشعراء فيها تشبيب فمن ذلك:

قصور لعمري حباة مضت

ولم نر بالنخل تلك القصورا

سقى الله سلعا وما حولي

وسلني تجدني بسلع خبيرا

ومن القصائد النبوية في ذلك :

بين سلع والمصلى عرب

حبذا قربهم لو وجدا

حيث ساروا ففؤادي معهم

اتهم السير بهم أو أنجدا

يا سقى الغيث ربوعّا باللوى

كلها راح عليها وغدا

بعدت عيني وفي تلك المنى

قرب الله لنا ما بعدا

وحياة الحب لو لا قمر

حل في ذاك الحمى ما قصدا

أنشدوا قلبي في معهدهم

فهو لا يترك ذلك المعهدا

ودعوا جفني وإن برح بي

ودعوا شوقي إلى أن يقدا

ربنا سلعّا وسل عن جيرة

مثلهم لم تر عيني أحدا

فإذا جئت فعرض عندهم

فحديثي ولك النفس فدا

ورد الماء ألذي في حيهم

فهو الماء ألذي يروي الصدا

__________________

(١) في ب [كان].

(٢) في ب [أشهر ما كانت].

(٣) لم أجده.

١٣٣

بعد ذاك المورد العذب لقد

بت لا تطلب نفسي موردا

قل لهم لا صبر عنكم فإذا

كان بعد لا تطيلوا الأمدا

بيننا موعد وصل وهم

عرب لا يخلفون (١) الموعدا

ما رأينا أحدا إلا انثنى

طربّا يوم رأينا أحدا

وبدا من دون سلع قمر

حبه في جلدي قد خلدا

أشرقت من نوره الأرض لنا

فكان الليل صبح قد بدا

كيف صبري على حبيب قد غدا

بالمعالي والمعاني مفردا

إن عيشا قد مضى في قربه

لست أنساه ولو طال المدا

أيها الحادي دع العيس ونم

[قد كفاها سوقها](٢) عمن حدا

رقد القوم عليها وهي من

شوقها قد منعت أن ترقدا

لو تراها راقصات في الفلا

قد شجاها صوت حاد أنشدا

ذكرت سلعا وسلع منتهى

أمل الساري إذا ما اجتهدا

ليس من يسهر في كسب العلا

مثل من يرقد فيمن رقدا

لا تقل ما لي زاد فالذي

أنت ترجوكم فقيرا زودا

ختم الرسل به رب الورى

وبه في رتبة الفضل ابتدا

وهو عنهم خير في بعثه

وهو في الفضل عليهم مبتدا

وجد الناس وهم في حاجة

فنوى كل نوال وجدا

وجلا عن كل قلب وجلا

وفدا من ذنبه من وفدا

سلم الله على خير الورى

وعلى أصحابه أهل الندا

وعلى الآل سلام عاطر

وثناء من محب سرمدا

وقال الشيخ أبو بكر الرداد :

لي باكناف طيبة بين سلع

والقوالي مسامر وشجون

وحبيب إذا نألف برق

من سنا أرضه تفيض العيون

يا أهيل الحمى وبان المصلى

وقباب النقا بكم استعين

طال فقدي وباع جهدي قصير

وبكم أصعب الأمور يهون

فالدراك المدراك يا أهل نجد

قبل أن تذهب البقايا الغبون

وعسى عطفه تسكن جانبي

وعسى عودة بها أستكين

__________________

(١) في ب [يخلفوا].

(٢) في ب [كفا عاشقوها].

١٣٤

وقال القيراطي :

عرض إلى ركب الحجاز اسائله

في عهده بسكان سلع

فاتني أن أرى الديار بطرفي

فلعلي أرى الديار بسمعي

وأما مساجد الفتح وهي من غربي سلع ، فالأول المرتفع على قطعة منه يسمى مسجد الأحزاب ، ومساحته عشرون ذراعا في سبعة عشر صح أنه صلى الله تعالى وسلم عليه صلى فيه ودعا فيه عليهم يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء (١) وهذا هو الأصل في تخصيص هذا اليوم بزيارة هذه المساجد ، وسمى مسجد الفتح لقوله عليه‌السلام ابشروا بفتح الله ونصره (٢) ، لأن سورة الفتح به نزلت والمسجد الذي يلي الأعلى قبله مسجد سلمان رضي الله تعالى عنه ويعرف بمسجد علي كرم الله وجهه ومساحته ثلاثة عشر في ستة عشر ، والثالث مسجد الصديق رضي الله تعالى عنه والرابع في قبلة الثالث ، على قطعة من جبل سلع ، ويعرف بمسجد أبي ذر رضي الله تعالى عنه ، صح أنه عليه‌السلام صلى في كل من هذه المساجد (٣) وفي غربي المسجد الثالث صهريج يمتلي من سبل أبي جيدة وعليه ايوان لطيفة يقال له من عمارة إبراهيم آغا وفي غربي الصهريج ، حديقة لطيفة وسبيل عمر في سنة ثمان وأربعين وألف وخلفه إلى جانب المغرب حدائق وبساتين ومزارع وفي شرقي سلع حول مناخ الراكب الشامي ، حدائق ذات بهجة من أحسنها الزكي وهي حديقة ذات نضارة وعمارة وهي عند مشهد السيد محمد الزكي وبه عرفت وهي في قبلة ثنية الوداع وعلى ذكر الثنية فما أحسن ما قال :

جلا ثغر أو اطلع لي نيابا (٤)

يسوق بها المحب إلى المنايا

وأنشد ثغره الأصحاب فخرا

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

وقال صدر الدين بن الفيومي :

جلا مسواك خير در

فجل بذاك واكتسب المزايا

وأنشد صحبة تيها وعجبا

أنا بن جلا وطلاع الثنايا

ومن الحدائق المعتبرة هنالك الحديقة القيرسلية وهي قبلة مسجد الراية والحديقة المكارمية والحديقة السنانية والحديقة الحمامية والحديقة الفيرزوية وعمارة الوزير مصطفى باشا منارة كأنها جنان يسلوا بها عن همه الجنان.

__________________

(١) لم أجده.

(٢) ورد في دلائل النبوة للبيهقي ٣ / ٤٠٣.

(٣) لم أجده.

(٤) في ب [ثيابا].

١٣٥

باب في ذكر قباء ومحاسن هاتيك الربا

يقولون لي صفها فأنت بوصفها

خبير أجل عندي بأوصافها علم

قبا بالضم يمد ويقصر ، على ميلين من المدينة المنورة وفي آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني ، قبا قرية لطيفة على ثلاثة أميال من المدينة بها ما يلد العين من حسن منظر وما ترضيه النفس من شهواتها.

زمردة خضر أتدرين قرطها

بلؤلؤة بيضاء من زهراتها

وأقول في ذلك ، وإن لم أكن هنالك :

ما أطيب الأيام فيها تنقضي

والعين قد قرت بوصل حبيبها

ما للعيش إلا في حماها ليت لي

مأوى ولو في سفحها ورحيبها

وبالجملة ، فإنها رياض رق أديمها ، وراق نسيمها ، ونم طيبها وترنم عندليبها وتحركت عيدانها ، وتمايلت أغصانها وتفوقت أزهارها وصوت هزارها تسلسلت (١) جداولها وتبلبلت بلابلها وهذا ما أملته الخمائل يغمرها والنسمات برمزها وأشارت إليه الأزهار بلسان حالها وترحمت عنه الأطيار في حلولها وارتحالها وقال الماء الذي جعل منه كل شيء حي ، ألا يا أهل الحي ، من طالع مثالي فهم ضرب أمثالي ومن أعجم عليه اشكالي فليس من اشكالي والحمد لله البعيد في قربه ، القريب في بعده [المتعالي في جده عن هزل القول وجده الموجد ما كان عدما](٢) المودع كل موجود كلما جاعل العقل ، حكمّا يميز بينه الشيء وضده ، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، فلله أول مسجد أسس على التقوى وفي الله قلوب على الطاعة تقوى ، في حضرة ما أبهاها وروضة ما أشهاها الجداول قد سلت بأيديها كل عصب صقيل صيغ فضة بيد الضحى وذهبا بيد الأصيل والأغصان كأنما خلقت منابر لخطباء الحمام وصورت أوراقها محاجر لدموع الغمام والطير ما بين متطلع من وكنه وقائم على غصنه من كل مغوف الطيلسان ، ومطوق ، يزهو طوقه على طوق العقيان :

__________________

(١) في أ [وتسلست].

(٢) سقط من أ.

١٣٦

يصلن بنوحي نوحهن وإنما

بكيت بشجوي لا بشجو الحمائم

فلله هاتيك الحدائق ، وقد سقاها ماءه النعيم ، وألبسها نعماءه النسيم ونقل الشمال إلى الشميم طيبها وتحركت بالأشواق إليها قلوب العشاق ولا تحرك الأغصان حين حرك رطيبها ولقد طالت حيرة البليغ في وصفها وما عسى أن تحمل الشمال من طيب عرفها :

فيا حسن هاتيك الرياض وطيبها

فكم قد حوت حسنا يجل عن الجد

ولا سيما تلك السواني فانها

تجدد حزن الواله المدنف الفرد

أطارحها شجوي وصارت كأنما

تطارح شجواها بمثل الذي أبدي

وما بين هاتيك النخيل منارة

تجدد ما قد فات من (١) سالف العهد

وفي سفح ذاك الجزع أي كواكب

تلوح وتبد من قريب ومن بعد

سقى سفحها وبل من الغيث هاطل

وحتى حماها بالعبيير وبالند

فكم قد نعمنا في ظلال رياضها

بعيش هنيء في أمان وفي سعد

فمن لي بها مع من ود دنوه

ومن لي بها في غير بلوى ولا جهد

أنشد لنفسه الشيخ أبو عبد الله الفيومي :

لله يوم في قبا قد مر لي

في جمع أحباب وبسط زائد

وتمتعت في روضة أحداقنا

بحدائق تسقى بماء واحد

وقال العفيف التلمساني :

يا سائق العيس نحو كاظمه

بلغ سلامي لساكنين قبا

وقل قضى ذلك المشوق بكم

وما قضى من وصالكم إربا

ومن سحريات الحدائق :

ما نلت ليلة وصلي طيب السمر

حتى مررت بنا نسمة السحر

لقد أتيت على ما كان في خلدي

وجئت يا عذبة المحيا على قدر

لله ليلة أنس بات معتنقي

فيها السرور ينادي طلعة القمر

ذاك الذي أوتي القرآن معجزة

واختص بالمدح في الآيات والسور

لولاه ما فاز بالفخر الجميل قبا

وخص بالذكر في التنزيل والخبر

أكرم به مسجدا ظل الفخار به

فنال فيه النداما أطيب السهر

والروض قد لعبت أيدي النسيم به

ومالت الغضب والأغصان بالثمر

__________________

(١) في ب [في].

١٣٧

والعذب قد راق والساقي يطوف به

على الجداول فما روض من الزهر

والطير قد رقصت في وكرها طربا

أغنت برنتها عن زخمة الوتر

يهنيك يا قلب هذا الوصل وابتهجي

يا نفس واغتنمي من صحة العمر

وانت يا فيه الإسلام ما برحت

روحي فداك تقر عن سائر الغير

وأنت يا ليلة الأنس التي لطفت

لقد حللت محل السمع والبصر

ما أطيب العيش لو لا بن حاسدة

ما أطول الليل لو لا فرحة الظفر

الليل ما بين أهل الوصل مختصر

لو طال ما طال منسوب إلى القصر

ومن ذلك في هذه المسالك :

نشر الريح ما طوى كم زهر

فزكا عرف ما شدا كل نشر

وتغنت سواجع الايك فيها

وكذا الدوح هزه صوت ممري

في رياض الجزع تزهو وتزهى

قد بدا من كمامها نشر زهر

وكذا الملفحات جادت وأبدت

يا نديمي من طلعها خير بشر

يستوي في المصيف عند استواها

كل ضيف لها وعبد وحر

ما ألذ الحياة فيها وأحلى

خطر أتى بين أثل وسدر

ونديم من الصفا ومدام

من وداد يروق من صفو صدر

[ومدبر من الوفا كاس حب

مع طيب يفوق أطيب عطر]

ومغن من العين وسماع

من لسان الثنا بحمد وشكر

وأمان من الرقيب وقرب

من وقار وبعد ما كان يزرى

هذه عيشة الكرام وفيها

فأقبلوا يا أولى الصبابة عذري

واسألوا إن بلغتموها أمانا

من صروف الردى ومن سوء غدري

ومن تلك الأوصاف في هاتيك الأصناف :

إذا غرد القمري بكيت وإن بكى

أموت وأفنى ان تغنى مع السحر

وإن سجعت فوق الغصون سواجع

أطارت فؤادي حيث كانت من الشجر

وإن صوتت بين الأراك بلابل

بليت بأنواع الشجون وبالفكر

وإن هب نشر الروض زاد بي الهوى

وكنت متى هب النسيم على خطر

أبى العيش صفوا والمحبة راحة

وأني بها طول الحياة على حذر

رعى الله أهل الجزع لو علموا الذي

أصبت به لم يغفلوني من النظر

وكنت بهم في طيب عيش ولذة

ونلت بهم كل الأماني مع الظفر

١٣٨

فيا قلب صبرا علي أخطي وصلهم

واسلم في باقي الزمان من الغير

ومن كتاب الحدائق الغالية ـ في قبا والعالية الحمد لله الذي كرمني بوصال من الهوى وشرفني بمسجده المؤسس على التقوى ، وفضلني على جميع الضواحي وكلمني دون سائر النواحي [وأحمده على](١) ما منحني به من حلول الرسول وأشكره لما نحلني من آثاره غاية السؤال ، والصلاة والسلام على من تشرفت به البطاح والربا وعمرت بحلوله حلة قبا وعلى آله وأصحابه وشيعته وأحزابه وعنه عليه الصلاة والسلام صلاة في مسجد قبا كعمرة (٢) وفي الأثر لأن أصلي في مسجد قبا ركعتين أحب إلي أن أتى بيت المقدس مرتين وكان عليه الصلاة والسلام يأتي قباء راكبا وماشيا فيصلي فيه ركعتين (٣) والأولى أن يزار يوم السبت لأنه عليه‌السلام كان يأتيه كل سبت (٤) وسبب اختصاصه به انه عليه‌السلام كان يفقد بعض أهل قبا يوم الجمعة ، فيسأل عن المفقود فيقال له انه مريض فيذهب يوم السبت لزيارته (٥) وفيه رد لمن منع زيارة المريض في يوم السبت.

وأنشد في اجارة لنفسه بجلب المحروسة الشيخ فتح الله البيلوني :

السبت والاثنين والأربعا

تجنب المرضى بها أن تزار

بطيبة يعرف هذا فلا

تقيل فان العرف على المنار

وما أوقع ما قال :

__________________

(١) في ب [الحمد لله رب العالمين].

(٢) * أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة ١ / ٤٥٢ الحديث ١٤١١. والحاكم في المستدرك ١ / ٤٨٧ وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٣) أخرجه البخاري في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ٣ / ٨٣ الحديث ١١٩٤. وأخرجه مسلم في الحج ٢ / ١٠١٦ الحديث ٥١٦ (١٣٩٩). اعلم أن قباء : بضم القاف ثم موحدة ممدودة عند أكثر أهل اللغة وأنكر السكون قصره لكن حكاه صاحب العين. قال البكر : من العرب من يذكره فيصرفه ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه. وفي المطالع : هو على ثلاثة أميال من المدينة. وقال ياقوت : على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة وسمى باسم بئر هناك. انظر فتح الباري (٣ / ٨٢). وقوله [راكبا وماشيا] : أي بحسب ما تيسر ، والواو بمعنى أو. انظر : فتح الباري ٣ / ٨٣.

(٤) أخرجه البخاري في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ٣ / ٨٣ الحديث ١١٩٣. ومسلم في الحج ٢ / ١٠١٧ الحديث ٥٢٠ / ١٣٩٩. ومن فضائل مسجد قباء ما رواه عمر بن شبّة في [أخبار المدينة قيد الطبع بتحقيقنا محمد فارس] بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص «لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين ، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل». انظر فتح الباري (٣ / ٨٣).

(٥) لم أجده.

١٣٩

وللناس عادات وقد ألفوا بها

لها سنن يدعونها وفروض

فمن لم يعاشرهم على العرف بينهم

فذاك ثقيل عندهم وبغيض

وفيه حكمة زيادة أهله فيه ، لزيادة علم المؤتى فيه ، لأنه يزيد علمهم يوم الجمعة ويوما قبله ويوما بعده مسئلة في سنة أربع وثمانمائة جدد برسباي على يد شيخ الخدام قاسم المحلي غالب مسجد قبا وسقطت منارته. سنة سبع وسبعين وثمانمائة فجددت مع عمارة المسجد النبوي على يد الشمس بن الزمن بعد هدم المنارة للأساس مع ما يليها من سور المسجد إلى آخر بابه الغربي وأعيد مع سد الطيقان التي كانت مفتوحة فيه مما يلي السقف تشبه طيقانه الباقية وجدد بعض سقفه (١) وفي حدود الثلاثين [بعد الألف](٢) جددت أيضا عمارته على يد شيخ الحرم النبوي محمد مجد (٣) وهو الآن في نضارة هذه العمارة فلا زال معمورا بدوام الإسلام ولا برح مغموم الأكتاف بالغمام.

تتميم : لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة نزل في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم فمكث عندهم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأخذ مربد كلثوم فعمله مسجدا وأسسه وصلى فيه إلى بيت المقدس وهو مسجد قباء (٤).

وجاء في الأثر أن الخضر عليه‌السلام يصلي في كل جمعة في خمس مساجد المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس ومسجد قباء ويصلي في كل ليلة جمعة في مسجد الطور.

وصلى عليه‌السلام إلى الاسطوان الثالث من مسجد قباء في الرحبة ولم يزل يزور المسجد مدة حياته وصح أنه عليه الصلاة والسلام كان يستقبل بيت المقدس (٥) حتى نسخ ذلك فأتى آت قبا وهم في صلاة الصبح فأخبرهم وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة وكانت القبلة قبل صرفها عند الاسطوانة الثالثة في الرحبة. فائدة قال السهيلي إن الصحابة رضي‌الله‌عنهم أخذوا التأريخ بالهجرة من قوله تعالى لمسجد أسس على التقوى من أول يوم وهل هو مسجد قبا أم مسجده صلى الله تعالى وسلم عليه قولان أرجحهما الثاني ومن محاسن هذا المسجد بئره التي ماؤها من أحلى المياه وأعذبها وطيب الهواء الرطب واختلافه في أروقته.

__________________

(١) في أ [عققه].

(٢) في ب [وألف].

(٣) في ب [حجر].

(٤) لم أجده.

(٥) أخرجه البخاري في الصلاة ١ / ٦٠٣ الحديث ٤٠٣. وأخرجه مسلم في المساجد ١ / ٣٧٥ الحديث ١٣ / ٥٢٦). وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ٢ / ١٥٤ ج ١٥٥ الحديث ٥٩٣٩.

١٤٠