كتاب الجواهر الثمينة في محاسن المدينة

المؤلف:

محمّد كبريت الحسيني المدني


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل الشافعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

ذلك اليوم سم ولا سحر وفي الصحيحين «إن في عجوة العالية شفاء ، وانها ترياق أول البكرة (١) قال في المحيط العجوة تمر كريم ـ صلب ملزز ، متين القوة ينفع من السموم الباردة وينفع من لسعة العقرب.

قال الأزهري : والصيحاني منها وعنه عليه الصلاة والسلام «كلوا البلح بالتمر فإن الشيطان يجري إذا رأى ابن آدم يأكله (٢) ، يقول عاش ابن آدم حتى أكل الجديد بالخلق فائدة قال الشيخ أبو محمد الجوني في كتابه الفرق والجمع وفي أبواب الزكاة [كنت (٣)] بالمدينة فدخل علي بعض أصحابي فقال كنا عند الأمير فتذاكروا أنواع التمر بالمدينة فبلغت أنواع الأسود ستين ثم قالوا وأنواع الأحمر فبلغت هذا المبلغ وفي زهر الرياض بلغت أنواع التمر بالمدينة مائة وبضعا وثلاثين (٤) ، منها الصيحاني وهو نخل يعرف إلى الآن بهذا الاسم وهو بيد أولاد صفوي بن سليمان الطفيلي الحسيني قلت هو من أم عشر ، مجرى السيل بالحرة الغربية بعضه لبني السفر وبعضه لبعض بني حسين وأخرج ابن المؤيد الحموي عن جابر رضي‌الله‌عنه قال كنت مع النبي صلى الله تعالى وسلم عليه في بعض حيطان المدينة ويد علي في يده فمررنا بنخل فصاح النخل هذا محمد

__________________

ـ الأدوية الحارة ما هو أولى بذلك من التمر ، والأولى أن ذلك خاص بعجوة المدينة ، ثم هل هو خاص بزمان نطقه أو في كل زمان أهذا محتمل ويرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة نحن جرب ذلك فصح منه عرف أنه مستمر وإلا فهو مخصوص بذلك الزمان. قال : وأما خصوصية هذا العدد فقد جاء في مواطن كثيرة من الطب كحديث «صبوا على من سبع قرب» وقوله للمفؤد الذي وجهه للحارث بن كلدة أن يلده بسبع تمرات ، وجاء تعويذه سبع مرات إلى غير ذلك. وأما في غير الطب فكثير فما جاء من هذا العدد في معرض التداوي فذلك لخاصية لا يعلمها إلا الله أو من أطلعه على ذلك وما جاء منه في غير معرض التداوي فإن العرب تضع هذا العدد موضع الكثرة وإن لم ترد عددا بعينه. وقال ابن القيم : عجوة المدينة من أنفع تمر الحجاز وهو صنف كريم ملززمتين الجسم والقوة وهو من ألين التمر وألذّه قال : والتمر في الأصل من أكثر الثمار تغذية لما فيه من الجوهر الحار الرطب ، وأكله على الريق يقتل الديدان لما فيه من القوة الترياقية فإذا أديم أكله على الريق خفف مادة الدود وأضعفه أو قتله جبرا. قال الحافظ : وفي كلامه إشارة إلى أن المراد نوع خاص من السم وهو ما ينشأ عن الديدان التي في البطن لا كل السموم لكن سياق الخبر يقتضي التعميم لأنه نكرة في سياق النفي وعلى تقديم التسليم في السم فماذا يصنع في السحر. انظر فتح الباري (١٠ / ٢٥١).

(١) مسلم في الأشربة (٣ / ١٦١٩) ـ الحديث (١٥٦ / ٢٠٤) والإمام أحمد في مسنده (٦ / ١٧١) ـ الحديث (٢٤٧٩).

(٢) أخرجه ابن ماجه في الأطعمه ٢ / ١١٠٥ الحديث ٣٣٣٠. وأخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ١٢١ قال الذهبي حديث منكر ، ولم يصححه المؤلف.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب [ثمانين].

١٨١

سيد الأنبياء وهذا علي سيد الأولياء أبو الأئمة الطاهرين ثم مررنا بنخل فصاح هذا محمد رسول الله وهذا علي سيف الله فقال النبي صلى الله تعالى وسلم عليه يا علي سمه الصيحاني (١) فذلك هو السبب فيه قال ابن حجر في حاشيته الايضاح لكن رد بأنه موضوع ، وحكى القصة السيد علي في الوفا ولم ينكرها والله تعالى أعلم. قلت ورأيت مؤلفا في أنواع التمر مرتبا على حروف المعجم زاحمت الأنواع فيه المائتين ، قال في زهر الرياض وصاحب الدرادري ذكر (٢) محاسن في محاسن التمر اثني عشر سيدها البرني وغرس أهل المدينة له أكثر وعنايتهم به أتم وإذا غرس في غير المدينة لا تحسن حسنه فيها وثمره أعلى من غيره بل ولا يذكر في سلمهم غالبّا غيره ، يحمل إلى الأقطار تبركّا به ومده في الرخاء بثمانية كبار وفي الفلا بعشرين فأكثر وهو مع ذلك واحد (٣) الودى قليل القيمة وهو أزهر الزهر أحمر الرطب طوال شبيه بأصابع العذارى يلذ أكله زهوّا ورطبّا وتمرّا والبردى أعلى قيمة من البرني لقلة وديه لعل جميع ما في المدينة لا يصل إلى خمسين نخلة وهو أصفر الزهر أحمر إلى الكدرة مكبكب مسلوب من أسفله يحمل إلى الروم وغيرها في الرباب والمراطبين ، يقاربه الشقري والجعفري والطيرجلي ، والغريس متقاربة في الشكل والسكر والبيض والعذق كذلك والبربر ، والجادي متقاربان والحلي ، أحمر البسر (٤) زتوني لون الرطب وقال بعضهم أحسن أنواع الرطب وأطيبه الحلو ثم الطبرجلي ، ثم الغريس ثم السكر ثم البرني ثم الحلي ـ وأنشد عليه ـ

في العوالي من أرض طيبة حقّا

رطب فاق من سواد فذرني

هو حلو وسكر وغريس

وحلي طبرجلي وبرني

وأشرف أنواع التمر البرني والسلبي والبردي والخضري والجعفري والجادي واللبانة وهي القسب وقال :

خير ثمر في أرض طيبة يبدر

من نخيل أسنى المحاسن تبدى

شلبي وجعفري وقسب

ثم جادي من بعد برني وبردى

قال في المحيط ومن النبات الذي يشبه النخل المقل (٥) وهو الدوم وهو نخل بري علا عليه اليبس والعنصر الشديد فقصر سعفه وصار الغالب على ثمرته الخشبية وعلى نواه الحجرية وشجر النارجيل وهو الجوز الهندي وزعم أهل الحجاز أن شجرة النارجيل هي شجرة المقل لكنها أثمرت نارجيلا لطباع النوبة وأجوده الطري الأبيض وهو حار

__________________

(١) لم أجده.

(٢) سقط من أ.

(٣) في ب [وأخذ].

(٤) في ب [البر].

(٥) سقط من ب.

١٨٢

يابس يغذى غذاء كثيرا ويزيد في الباه وينفع من تقطير البول ودهنه جيد للبواسير ولبنه لذيذ كثير الحلاوة ويجعل من قشره حبال للسفن فلا يعفن.

قال كشاحم :

وذات قشر أسود حشوها

كافورة مرموقة المنظر

قد نشرت في رأسها وفرة

تسترها عن ناظر المبصر

كأنها جمجمة ألبست

دوائيا من خالص العنبر

وشجرة الفوقل فإنها تشبه النخل وشجرة الكادي مثلها.

فائدة الكادي بالدال المهملة على ما يستفاد من كلام السيوطي قال (١) في كتابه بغية الوعاة في ترجمة البدر الدماميني وله ملغزا في كاوي!

وما شيء له نشر ذكي

لعاطره إلى الطيب انتساب

تروح له على رجليك تمشي

وتقلبه يداك فما الجواب

أنشدتها قال :

وقد نظمت جوانبها يديها

بثغر الاسكندرية في رحلتي إليها فقلت

وقد سمعت بهذا اللغز أدنى

لم يأت من تفضله الجواب

فذا طيب إذا صحفت منه

أخيديه له في الخبث باب

والمراد منه أخيديه الدال المهملة ، تصحف بالمعجمة والياء المثناة من تحت تصحف بالباء الموحدة فيكون منه كاذب ولا شك أن له في الخبث باب (ب) كما قيل :

لي حيلة فيمن ينم

وليس في الكذاب حيله

من كان يخلق ما يق

ول فحيلتي فيه قليله

وفي القاموس كذا كناية عن الشيء ، الكاف حرف التشبيه وذا للإشارة والكاذي دهن ، ونبت طيب الرائحة وفي التذكرة كادي كالنخل في ذاته وصفاته لكن لا يطول يحسن بالميزان وهو حار يابس في الثانية إذا وضع طلعه قيل أن يشق في دهن سر النفس وقوى الحواس وفرح وشد البدن ومنع الاعياء والخفقان وشربه يقطع الجذام انتهى ، وهو يوجد بالمدينة إلا أن سلطنته بأم القرى.

وعنه (٢) في الصحاح وفلان صديقي وإنما يصغر على جهة المدح كقول حباب بن

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب [تتمة].

١٨٣

المنذر أنا جديلها المحكك وعذيقها المرجب انتهى عذيق تصغير عذق وهي النخلة الكريمة على أهلها وبئر عذق حديقة بجزع قبالا لشدقم وفيها بئر عليها قبة محكمة جددت عمارتها سنة ست وأربعين وألف وهي من آبار العين الواصلة إلى المدينة المنورة والرجبه البناء حول النخلة تحفظها (١) إذا مالت أو المسوكة لحفظ ثمرتها والجذل واحد الأجذال وهي أصول الحطب العظام والجدل المحكك الذي ينصب في العطن لتحتك به الإبل الجربي كذا في الصحاح والله تعالى أعلم بالصواب (٢).

__________________

(١) في ب [لحفظها].

(٢) سقط من أ.

١٨٤

باب في ذكر أحد ومساجده ومشهده الشريف ومعاهده

مواطن أفراحي ومربى ما أربي

وأطورّا (١) وطاري وما من خيفتي

وثم وراء القول سر كتمته

فلو قيل صرح قلت يا نفس اصمت

روى من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (٢) أحد جبل يحبنا ونحبه فإذا جئتموه فكلوا من شجرة ولو من عضاهة (٣) يعني مرة (٤).

قال ابن الهمام : ومزور جبل أحد نفسه لقوله عليه الصلاة والسلام أحد جبل يحبنا ونحبه ويروى أحد على ترعة من ترع الجنة (٥) ويروى أحد على ركن من أركان الجنة ، وعير على ركن من أركان النار وعن أنس مرفوعا لما تجلى الله تعالى للجبل تشظى وطارت منه لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة وقع بمكة حراء وتيسير ونور ووقع بالمدينة وورقان ورضوى.

وفي الدرة اليتيمة : مكان رضوى وعير. وعن بعضهم : إني لا أستبعد أن يكون بالمدينة جبل من جبال النار بعد أن بدأها الله من الشرك وعير في مقابلة أحد وبينهما المدينة عند شعب علي كرم الله وجهه وسمي أحدّا لتوحده وانقطاعه عن غيره من الجبال ولما وقع لأهله من نصرة التوحيد ولا مانع من وضع الحب فيه كما وقع التسبيح من الجبال وقد خاطبه النبي صلى الله تعالى وسلم عليه مخاطبة من يعقل وقال له لما

__________________

(١) في ب [وأوطان].

(٢) سقط من أ.

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير ٦ / ١٥١ الحديث ٣ / ٥٨. وفي الأوسط ٦ / ٣١٥ الحديث ٦٥٠٥.

وقال الهيثمي في المجمع ٤ / ١٦ رواه البزار وفيه عبد المجيد بن أبي عبس لينة أبو حاتم وفيه من لم أعرفه.

(٤) سقط من أ.

(٥) أخرجه الطبراني في الأوسط ٨ / ١٥٨ الحديث ٨٢٦٣ قال لم يرو هذا الحديث عن عطاء إلا طلحة بن عمرو. وأورده السيوطي في الدر المنثور ٣ / ١١٩ وعزاه للطبراني.

١٨٥

اضطرب اسكن أحد (١) وبقمته سقيفة وعندها صهريج يصعد إليه بعض الزوار بجهد جهيد.

وأنشد أبو عبد الله الفيومي لنفسه في ذلك :

هام بأشجانه إلى أحد

حتى إذا ما رأى به عجزه

صار إذا قيل هل تعود له

يقول وبيني وبينه حمزه

وعنه عليه الصلاة والسلام أنه صعد أحدا فأقبل على المدينة وقال ويل أمها (٢) قرية تدعها أهلها كأينع ما تكون (٣) وفي أحد غار زعموا أن النبي صلى الله تعالى وسلم عليه اختفى فيه (٤) وعن جابر مرفوعا أقبل موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام حاجين فمرا بالمدينة فخافا من يهود وكان بها (٥) فخرجا مستخفيين فنزلا أحدا فغشى هارون الموت فقام موسى فحفر له ولحد ثم قال يا أخي إنك تموت فقام هارون فدخل في لحده فقبض عليه فحثا عليه موسى بالتراب ويعرف قبره بشعب هارون (٦).

وما المرء إلا راكب ظهر عمره

على سفر يغنيه باليوم والشهر

يبيت ويمسي كل يوم وليلة

بعيدا عن الدنيا قريبا من القبر

والشهداء بأحد سبعون رجلا وكان عليه الصلاة والسلام يقول إذا زارهم سلام عليك بما صبرتم فنعمى عقبى الدار (٧) وأما الوقوف على أحوالهم وسماع كلامهم وهو بحسب الاستعداد وكثير من سمع رد سلامهم وأما المشهد الشريف فيروى أن أم الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء هي التي بنته (٨) في سنة سبعين وخمسمائة وجعلت عليه قبة متقنة وبابه كله مصفح بالحديد والقبر مجصص وعليه تابوت عليه ثوب من الحرير من خليع كسوة الضريح النبوي ثم زاد فيه الأشرف قايتباي زيادة أدخل فيها البئر (٩) من الجانب الغربي وذلك في سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة واحتفر خارج البناء بئرا بدرج تصل إلى (١٠) الماء وذلك على يد شيخ الخدام بالحرم

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ٧ / ٦٦ الحديث ٩٩. والإمام أحمد في المسند ٣ / ١٣٨ الحديث (١٢١١٣).

(٢) في ب [لها].

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٤٢٧ وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي. وأورده السيوطي في الدر المنثور ٦ / ٦٠. وذكره الهيثمي في المجمع ٩ / ٣٦٢ وعزاه للطبراني وقال : رجاله رجالا لصحيح غير رجاء بن أبي رجاء ، وقد وثقه ابن حبان.

(٤) لم أجده.

(٥) زائدة في ب.

(٦) لم أجده.

(٧) لم أجده.

(٨) في ب [جنته].

(٩) في ب [القبر].

(١٠) سقط من ب.

١٨٦

النبوي شاهين الشجاعي وقد أشرفت على الدمار لهجرها وكانت فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها تزور قبر حمزة رضي‌الله‌عنه وترمه وتصلحه وقد علّمته بحجر. وليحيى : أنها كانت تختلف بين اليومين والثلاثة إلى قبور الشهداء بأحد فتصلي هناك وتدعوا وتبكي حتى ماتت.

مسألة : قال في الجوهر المنظم : زيارة مشهد السيد حمزة عم الرسول في يوم الخميس لأن الموتى يزيد عليهم بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبله ويوما بعده ولما كان يوم السبت لزيارة مسجد قباء ويوم الجمعة يوم التبكير تعين لزيارة المشهد يوم الخميس وينبغي أن يسلم على علي ابن أخيه عبد الله بن جحش ومصعب بن عمير لأنهما عل قول هنالك.

فائدة : قال الزركشي : ينبغي أن يتثنى من منع نقل تراب الحرم تربة السيد حمزة المأخوذ من السيل (١) الذي به مصرعه لاطباق السلف والخلف على نقله للتداوي من الصداع كذا في الجوهر المنظم وهذا مبني على أن المدينة حرم كما هو مذهبه وحمزة رضي‌الله‌عنه أحد أعمام سيد المرسلين واخوه من الرضاعة وأسن منه بسنتين قيل وأفضلهم لحديث سيد الشهداء يوم القيامة حمزة وفي رواية سيد الشهداء عند الله يوم القيامة (٢) حمزة بن عبد المطلب والحديث «خير أعمامي حمزة» (٣) وعن السدي في قوله تعالى (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ) [القصص : ٦١] انها نزلت في حمزة وجاء أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع أسد الله وأسد رسوله وقد اختلف في عدة أعمام النبي صلى الله تعالى وسلم عليه فقيل عشرة وقيل تسعة عشر وأما عماته فست ويكنى حمزة بأبي يعلى وبأبي عمارة وهما أبناءه وأولاده خمس ولم يعقب إلا من يعلى فإنه ولد له خمسة رجال لكنهم لم يعقبوا وانقطع نسل حمزة وكانت وفاته سنة ثلاث أو أربع وله سبع وخمسون ولما شهد النبي صلى الله تعالى وسلم عليه حمزة اشتد وجده عليه وقال لئن ظفرت لأمثلن بسبعين منهم فأنزل الله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [النمل : ١٢٦] فقال صلى الله تعالى وسلم عليه بل نصبر وكفر عن يمينه (٤) وعنه عليه الصلاة والسلام

__________________

(١) في ب [المسيل].

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ١٢٠ وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي وأورده الهيثمي في المجمع ٩ / ٢٧١ وقال فيه ضعف. وأخرجه الطبراني في الأوسط ٤ / ٢٣٨ الحديث ٤٠٧٩.

(٣) لم أجده.

(٤) أورده الهيثمي في المجمع ٦ / ١٢٢ وعزاه للبزار والطبراني وقال فيه صالح بن بشير المزني ضعيف.

١٨٧

لو لا أن تجد صفية لتركته حتى يحشر من بطون الطير والسباع (١) وصفية شقيقته وهي أم الزبير بن العوام ، ولما عاد إلى المدينة سمع النوح على قتلى الأنصار قال لكن حمزة لا بواكي له فسمع الأنصار فأمروا نساءهم أن يندبن حمزة قبل قتلاهم ففعلن ذلك قال الواقدي فلم يزلن يبدأن بالندب لحمزة حتى الآن.

وقال كعب بن مالك يرثيه :

بكت عيني وحق لها بكاها

وما يغني البكاء ولا العويل

على أسد الإله غداة قالوا

لحمزة ذاكم الرجل القتيل

أصيب المسلمون به جميعا

هناك وقد أصيب به الرسول

أبا يعلى لك الأركان هدت

وأنت الماجد البر (٢) الوصول

عليك سلام ربك في جنان

يخالطها نعيم لا يزول

وأما المساجد الذي هنالك فمنها مسجد الفسيح وهو لاصق بأحد على يمين الذاهبي في الشعب (٣) للمهراس نزلت فيه آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا) ومسجد جبل الرماة (٤) ، طعن فيه حمزة رضي‌الله‌عنه وهو في شرقي الجبل ومسجد الوادي على شفير الجبل قريب من الذي قبله ويسمى المصرع لأن حمزة رضي‌الله‌عنه صرع به وصلى به صلى الله تعالى وسلم عليه الصبح أو على حمزة رضي الله تعالى عنه (٥) ومسجد السافلة في شرقي الطريق إلى مسجد السيد حمزة بين النخيل طوله ثمانية أذرع ويقال انه مسجد أبي ذر الغفاري صلى فيه النبي صلى الله تعالى وسلم عليه (٦) ويعرف هذا الوادي بالشظاه (٧) بفتح الشين المعجمة وفي الوفا الشظاه اسم لوادي قباء أو لما يلي السد من الوادي وسيل وادي قناة يأتي من وج الطائف ومصبه بحر القلزم من ناحية (٨) اكرا وبالجملة فإن هذا الوادي من أطيب الأودية وأعذبها وفيه يحصل لمن حله كمال المسرة وصفاء الخاطر وسيلة من أعظم السيول وأصفاها وإذا انقطع بقيت منه غدران من أحسنه الغدير الكبير وهو شمالي المصرع ربما أقام فيه الماء الغزير نحو الشهرين صافيا مفرحا وإذا صادف أيام الزيارة كان السرور أتم والانتفاع أعم وما أحسن ما قال :

__________________

(١) أورده الهيثمي في المجمع ٦ / ١٢١ وعزاه للبزار والطبراني وقال فيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف.

(٢) في ب [البر الماجد].

(٣) سقط من أ.

(٤) زائدة في ب.

(٥) لم أجده.

(٦) لم أجده.

(٧) في ب [بالشطة].

(٨) في أ [نايحة].

١٨٨

لله يوم في الشظا قضيته

خلف الزمان بمثله لا يغلط

الطير يقرأ والغدير صحيفة

والريح تكتب والسحاب ينقط

وقال آخر :

غدير كالحسام له صقال

ولكن فيه للرائي (١) مسرة

رأيت به البدور تجيد عوما

كأنهم الكواكب في المجرة

وقال آخر :

يا حبذا زمن الشطآء وحيدا

بغضائه عيش لنا ملذوذ

ولسيد الشهداء حمزة مشهد

حكم السرور به له تنفيذ

ومن محاسن هذا الوادي ، الصهريج الذي ابتناه (٢) الوزير سنان باشا ومساحته ثمانية عشر ذراعا ، في عشرين بذراع الكرباس وهو يمتلىء من السيل إذا كان قويا وإلا فمن شرائع (٣) الجبل فيحصل به مدد كبير للزوار والبادية (٤) وعلى ظهر الصهريج سقف من عقود وطواحن بحيث يحصل به كمال المنفعة للزائرين والواردين.

لله آثار بطيبة إن بدت

لاح السرور وفاح نشر عاطر

ما زرتها إلا وزالت كربتي

وهما على جذبي سحاب ماطر

__________________

(١) في ب [المرائي].

(٢) في أ [ابناه].

(٣) في ب [سرائع].

(٤) سقط من ب.

١٨٩

باب من ذكر الصدقة والسوافل

وآبار العريض الكثير النوافل

منازل طيبة فيها لقلبي

منارة لم تزل فيها الأوانس

فمن لي أن أكون بها مقيما

عيوبي تجتلي فيها العرائس

الصدقة حدائق ، ونخيل خارج المدينة في الجهة الشمالية منها أملاك ومنها أوقاف وهو جزع متسع الأرجاء والرحاب.

جزع فسيح الرحاب منتزه

يروق بالأنس والبها الحدقة

لا تنكروا رغبتي إليه فقد

أمسيت أهوى محاسن الصدقة

والجزع الذي يتصل بمسجد الإجابة يقال له ملحة (١).

وعليه أنشد لنفسه السراج عمر الأشهر الأنصاري :

يا محنة إلا وفي طيها

لكل عبد مؤمن منحة

الحمد لله وشكرا له

المنبت السكر في ملحه

والجزع الذي يلي الصدقة من جانب الشمال والمغرب بين قناة والجرف يقال يثرب بالثاء المثلثة وكسر الراء واطلاقه على المدينة المنورة من قبيل إطلاق الجزء على الكل.

وقال آخر :

وهذا رسول الله فارق مكة

على حفوة لم ترضها فيه يثرب

وليس هذا المذكور في قوله :

وعدت وكان الخلف منك سجية

مواعيد عرقوب أخاه بيثرب

__________________

(١) في ب [مليحة].

١٩٠

لأن المجد قال اجمعوا فيه على تثنية التاء وفتح الراء وهي مدينة بحضرموت وقيل قرية باليمامة وقيل غير ذلك وأنشدوا :

يا ابن الكرام اعد في الدهر فكر فتى

له بشطر به تحويل وتقليب

لا تعتبن على عرقوب واحدة

وكل من فوقها في الوعد عرقوب

وحكى ابن حجر في الجوهر حديث أريت (١) دار هجرتكم بسبخة بين ظهراني حرتين اما أن تكون هجرا ويثرب وفي الصحيحين انه عليه الصلاة والسلام قال هي يثرب (٢).

قال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض ، ومدينة النبي صلى الله تعالى وسلم عليه في ناحية منها. وقال ابن زبالة : كانت يثرب أم قرى المدينة وهي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف وبين المال الذي يقال له البرني إلى زبالة.

فائدة : قيل : إن تبعا لما قدم المدينة بعث رائده ينظر إلى مراعي المدينة فأتاه فقال : أما قناة فحب ولا تبن وأما الجرار فلا حب ولا تبن وأما الجرف فالحب والتبن والمختار اليوم للزرع عند أهل المدينة أرض العريض.

قصة : قيل : إن العماليق سكنت مكة والمدينة وكانت الحجاز أشجر بلاد الله وأطهر ماء ثم إنها عثت فبعث [الله](٣) موسى عليه‌السلام إليهم [بعث موسى](٤) جندا من بني إسرائيل فقتلوهم بالحجاز ويروى ان ضبعا رؤيت مع أولادها رابضة في عجاج عين رجل من العماليق وفي تاريخ المقريزي يحكى أن سبعة عشر رجلا استظلت في قحف رجل من بني إسرائيل وكان يمضي في ذلك الزمان أربعمائة سنة ولم يسمع بجنازة كذا في الدرة اليتيمة (٥) وأما مسجد الإجابة فهو لبني معاوية في شمالي البقيع على يسار السالك إلى العريض وسط تلول وفي مسلم انه صلى الله تعالى وسلم عليه ركع فيه ركعتين وصلينا معه فدعى ربه طويلا ثم انصرف (٦) إلينا فقال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بالسنة (٧) فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي

__________________

(١) في ب [أرأيت].

(٢) لم أجده.

(٣) سقط من أ.

(٤) سقط من أ.

(٥) في ب [الثمينة].

(٦) في ب [التفت].

(*) أي لا أهلكهم بقحط يعمهم بل ان وقع قحط فيكون في ناحية يسيرة بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام فلله الحق والشكر على جميع نعمه.

انظر شرح صحيح مسلم للنووي (١٨ / ١٤).

١٩١

بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها (١) انتهى وقد علمت أنهم مخاطبون في حال هبوطهم بقوله تعالى (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦] [وفي بعض الأخبار لا سلامة من الناس ولا غنى عنهم ولا شفاعة من الموت](٢) وأما العريض بضم أوله وكسر ثانيه مصغر العرض بالكسر فهي قرية على أربعة أميال من المدينة كذا في العقد النبوي وهي في الجهة الشرقية وتشتمل على آبار ومزارع شتى [وكان بها نخل ولم يبق اليوم منه شيء](٣) من أحسنها البحيرة الكبرى وبحيرة ابن سعد وذات الحصن وفي شرقيه بئر مطوية قطرها ذراعان والهندية وهي معدود لزرع الحنطة والشعير فإذا كانت أيام الخريف فهي الزمردة الخضراء لاتصال مزارعها وحولها آبار قديمة لم يبق منها إلا الرسوم ومزارع صارت منابت الحمص لهجرها ولكمال الضعف في أهلها (٤) وهناك أطام قديمة زعم بعضهم انها تشتمل على كنوز ومطالب وما أغرب ما يحكى في هذا الباب أن رجل من القبط جاء إلى عبد العزيز بن مروان عامل مصر فقال إن في مكان كذا كنزّا ومصداق ذلك أن توجد بلاطة من مرمر خلفها باب من نحاس خلفه عمود من ذهب فوقه ديك من ذهب له عينان من الياقوت الأحمر وجناحان من المرجان والزمرد فلما سمع ذلك منه عبد العزيز بعث معه ألف رجل فلما حفروا وظهر لهم الديك ظهرت قناطر معقودة ولاحت منها تماثيل وأشخاص من ذهب فأخبر بذلك فحضر ونزل بعض الرجال فلما وضع قدمه داخل الباب نزل عليه سيفان تركاه قطعّا وصفر ذلك الديك فسمعت أصوات بحفرة (٥) مزعجة فهلك بالرجفة ممن حضر ثلاثة آلاف فطموهم بالرمال في تلك الحفرة فكانت قبرّا لهم ورجع من بقي مقطوع الرجاء وقال لسان الحال :

هي الدنيا تقول بملء فيها

حذار حذار من بطشي وفتكي

ولا يغركم مني ابتسام

فقولي مضحك والفعل مبكي

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفتن ٤ / ٢٢١٦ الحديث ٢٠ (٢٨٩٠). وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ١ / ٢٣٠ الحديث ١٥٧٩. وأخرجه الطبراني في الكبير ١ / ١٠٧ الحديث ١٧٩.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) زائدة من أ.

(٥) سقط من ب.

١٩٢

باب في ذكر بقيع الفرقد ومعاهده ، ومزاراته ومشاهده

تعجبت من أمر البقيع وقد غدا

على وحشة الموتى له مهجتي تصبو

فألفيته مأوى الأحبة كلهم

ومستوطن الأحباب يصبو له القلب

بقيع الفرقد بالغين المعجمة كبار العوسج كان نابتّا به فقطع واتخذ مقبرة ومن كلام عمر بن النعمان يرثي من قتل من قومه الذين اغلقوا عليهم حديقة واقتتلوا حتى لم يبق منهم أحد.

خلت الديار فسدت غير مسود (١)

ومن العناء تفردي بالسؤدد

أين الذين عهدتهم في غبطة

بين العقيق إلى بقيعه الفرقد

قوم هم سفكوا دماء سراتهم

بعض لبعض فعل من لم يرشد

فائدة : اشتهر على ألسنة كثيرين فتح سين السؤدد وليس إلا الضم مع فتح الدال أو ضمها مع الهمز وعدمه والبقيع بالياء الموحدة كل موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال من دفن في مقبرتنا هذه شفعنا له أو شهدنا له (٢) وقال من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها (٣) وقال من مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة (٤) وعنه عليه الصلاة والسلام ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم (٥) وعن الحسن أتى النبي صلى الله تعالى وسلم عليه

__________________

(١) في ب [سود].

(٢) لم أجده.

(٣) أخرجه الترمذي في المناقب ٥ / ٧١٩ الحديث ٣٩١٧. قال : هذا حديث حسن غريب من حديث أيوب السختياني. وأخرجه ابن حبان في موارد الظمآن ص ٢٢٥ الحديث ١٠٣١.

(٤) أخرجه الدار قطني في السنن ٢ / ٢٧٨ الحديث ١٩٣. وأورده العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس ٢ / ٣٦٨ برقم ٦١٩.

(٥) وأخرجه ابن ماجه في الجنائز ١ / ٤٩٣ الحديث ١٥٤٦ وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ٦ / ١٢٤ الحديث ٢٤٨٥٥.

١٩٣

على بقيع الفرقد فقال السلام عليكم يا أهل القبور ثلاثّا لو تعلمون ما الذي نجاكم الله منه مما هو كائن بعدكم ثم التفت فقال هؤلاء خير منكم قالوا يا رسول الله إنما هم اخواننا آمنا كما آمنوا وأنفقنا كما أنفقوا وجاهدنا كما جاهدوا وأتوا على أجلهم ونحن ننتظر فقال إن هؤلاء قد مضوا لم يأكلوا من أجورهم شيئا وقد أكلتم من أجوركم ولا أدري كيف تصنعون بعدي (١) وعنه عليه الصلاة والسلام أنه خرج إلى المقبرة فقال وددت أني قد رأيت اخواننا قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك قال أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وانا فرطهم على الحوص قالوا يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك قال أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة من خيل دهم ، بهم ألا يعرف خيله قالوا بلى قال إنهم يأتون يوم القيامة غرّا محجلين من الوضوء وانا فرطهم على الحوص رجال عن حوض كما يزاد والبعير الضال فأناديهم ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا (٢) فأقول فسحقّا فسحقّا فسحقا (٣).

وعنه عليه الصلاة والسلام «يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفّا يدخلون الجنة بغير حساب كان وجوههم القمر ليلة البدر فقام رجل فقال يا رسول الله وأنا منهم فقال وأنت

__________________

(١) لم أجده.

(٢) أخرجه مسلم في الطهارة ١ / ٢١٨ الحديث ٣٩ (٢٤٩). والنسائي في الطهارة ١ / ٧٩. وابن ماجه في الزهد ٢ / ١٤٣٩ الحديث ٤٣٠٦.

(*) قال الشيخ النووي : هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال : أحدها : أن المراد به المنافقون والمرتدون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسيما التي عليهم. فيقال : ليس هؤلاء مما وعدت بهم إن هؤلاء بدلوا بعدك. أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم. الثاني : أن المراد من كابد في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم ارتد بعده فيناديهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء لما كان يعرفه صلى الله عليه وآل وسلم في حيات من إسلامهم فيقال : ارتدوا بعدك. والثالث : أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين يزادون بالنار بل يجوز أن يزادوا عقوبة لهم ثم يرحمهم‌الله سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب. قال أصحاب هذا القول : ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل ، ويحتمل أن يكون ، كانوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ولكن عرفهم بالسيما. وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر : كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء. قال : وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق والمعلنون بالكبائر قال : وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا مما عنوا بهذا الخبر. انظر شرح صحيح مسلم للنووي (٣ / ١٣٦ ـ ١٣٧).

١٩٤

منهم فقام آخر فقال يا رسول الله وأنا منهم فقال سبقك بها عكاشة (١)(٢).

قيل وكأنه كان منافقّا فلم يقل وأنت وفيه أدب كبير.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق ١١ / ٤١٣ الحديث ٦٥٤٢. ومسلم في الإيمان ١ / ١٩٧ الحديث ٣٦٧ (٢١٦). والإمام أحمد في المسند ٢ / ٤٠٥ الحديث ٨٠٣٦. والدارمي في الرقاق ٢ / ٤٢٢ و ٤٢٣ الحديث ٢٨٠٧.

(٢) قد اختلفت أجوبة العلماء في الحكمة في قوله : [سبقك بها عكاشة] : فأخرج ابن الجوزي. في [كشف المشكل] من طريق أبن عمر الزاهد انه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب عن ذلك فقال : كان منافقا ، وكذا نقله الدار قطني عن القاضي أبي العباس البرتي بكسر الموحدة وسكون الراء بعدها مثناة فقال : كان الثاني منافقا وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يسأل في شيء ، إلا أعطاه فأجابه بذلك ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل العلم نحو قول ثعلب وقال ابن ناصر : قول ثعلب أولى من رواية مجاهد لأن سندها واه واستبعد السهيلي قول ثعلب بما وقع في مسند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة ... فقام رجل من خيار المهاجريين ، وسنده ضعيف جدا مع كونه مخالفا لرواية الصحيح أنه من الأنصار. وقال ابن بصأل : معنى قوله [سبقك] ، أي إلى إحراز هذه الصفات وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه وعمل عن قوله [لست منهم أو لست على أخلاقهم تلطفا بأصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسن أدبه معهم. وقال ابن الجوزي : يظهر لي أن الأول سأل عن سبق علمه فأجيب. وأما الثاني : فيحتمل أن يكون أريد به جسم المادة ، فلو قال للثاني نعم لأوشك أن يقوم ثالث ورابع إلى ما لا نهاية له وليس كل الناس يصلح لذلك. قال القرطبي : لم يكن عند الثاني من تلك الأحوال ما كان عند عكاشة. فلذلك لم يجب إذا لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل فسد الباب بقوله ذلك ، وهذا أولى من قول من قال كان منافقا لوجهين : أحدهما : ان الأصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح. والثاني : أنه قال أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح ويقين بتصديق الرسول وكيف يصدر ذلك من منافق. قال الحافظ ابن حجر : وإلى هنا جنح ابن تيمية. وصحح النووي : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ علم بالوصي انه يجاب في عكاشة ولم يقع ذلك في حق الآخر. وقال السهيلي : الذي عندي في هذا أنها كانت ساعة أجابه عليها ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ واتفق أن الرجل قال بعد ما انقضت بينه ما وقع في حديث أبي سعيد «ثم جلسوا ساعة يتحدثون» في رواية ابن إسحاق بعد قوله سبقك بها عكاشة وبررت الدعوة» أي انقضى وقتها. قال الحافظ ابن حجر : قلت : فتحصل لنا من كلام هؤلاء الأئمة على خمسة أجوبة ، والعلم عند الله تعالى. قال الحافظ : ثم وجدت لقول ثعلب ومن وافقه مستندا وهو ما أخرجه الطبراني ومحمد بن سنجر في مسنده وعمر بن شبة في أخبار المدينة من طريق نافع مولى جفنه عن أم قيس بنت محصن وهي أخت عكاشة إنما خرجت مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى البقيع فقال : يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفا بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر ، فقام رجل فقال : يا رسول الله وأنا؟ قال : وأنت. فقام آخر فقال : أنا؟ قال : سبقك بها عكاشة. قال : قلت لها : لم لم يقل للآخر؟ فقالت : أراه كان منافقا» كان هذا أصل ما جزم به من قال كان منافقا فلا يدفع تأويل غيره إذ ليس فيه إلا الظن. انظر فتح الباري (١١ / ٤٢٠ ـ ٤٢١).

١٩٥

إذا أمسيت في قاع البقيع

مجاور رحمة الباري السميع

فهنوني بما لقيت إني

أراني في حمى حرز منيع

وقال آخر :

إذا أمسى فراشي من ترابي

وصرت مجاور الرب الرحيم

فهنوني أحبابي (١) وقولوا

لك البشرى قدمت على الكريم

أنشد لنفسه الشيخ جمال الدين العصامي :

يا أهل دار المصلى (٢) والبقيع سقت

ربوعكم سحب منهله الديم

لو أن روحي في كفي لزرتكم

سعيّا على الرأس لا سعيّا على القدم

فائدة : قال الملا على القاري في شرح لباب المناسك المعلى بفتح الميم واللام ضد المسفلة واشتهر بين العامة بضم الميم وتشديد اللام المفتوحة وله وجه في القواعد العربية وهي أفضل مقابر المسلمين بعد البقيع بالمدينة انتهى وعن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله تعالى وسلم عليه قال بعثني رسول الله صلى الله تعالى وسلم عليه من جوف الليل فقال إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها الآخرة أشر من الأولى ثم أقبل علي فقال يا أبا مويهبة إني قد أوتيت خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة والخلد فيها ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فقلت بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا فقال لا والله لقد اخترت لقاء ربي والجنة ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدا به وجعه الذي قبض فيه (٣) موعظة في كتاب مباهج التوسل كان عسكر سليمان عليه الصلاة والسلام مائة فرسخ خمسة وعشرون للأنس ومثلها للجن ومثلها للطير ومثلها للوحش وكان حرسه ستمائة ألف وكان ينام بين الفقراء في خلقان مرقعة ولقد قال رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (٤) ففعل له ذلك ثم اضمحل حتى كأن لم يكن قال بعضهم :

__________________

(١) في ب [أصحابي].

(٢) في ب [المصلي].

(٣) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٣ / ٥٩٣) ـ الحديث (١٦٠٠٣). والحاكم في المستدرك (٣ / ٥٦) وأورده الهيثمي من مجمع الزوائد (٣ / ٦٢) وقال : رواه أحمد والبزار وكلاهما ضعيف.

(٤) زائدة في ب.

١٩٦

إذا لم تملك الدنيا جميعّا

كما تختار فاتركها جميعّا

مر داود عليه‌السلام بمفازة ، فرأى فيها حجرّا على رأس قبر ، مكتوب فيه عشت ألف سنة وفتحت ألف مدينة وهزمت ألف جيش وأفضضت ألف بكر ثم صرت إلى ما ترى من سكان الثرى :

فإن كنت لا تدري متى الموت فاعلمن

بأنك لا تبقى إلى آخر الدهر

وقال آخر :

الموت بحر يهاب المرء (١) مورده

وكل يوم له من كأسه جرع

لا صحة المرء في الدنيا تؤخره

ولا يقدم يومّا موته الوجع

وكل يوم علينا في فجائعة

طير تحوم فلا ندري بمن تقع

وقال :

إن الحبيب من الأحباب مختلس

لا يمنع الموت بواب (٢) ولا حرس

فكيف تفرح بالدنيا ولذتها

يا من يعد عليه (٣) النوم والنفس

لا يرحم الموت ذا جاه لعزته

ولا الذي كان العلم منه يقتبس

وقال :

المرء يطلب والمنية تطلبه

ويد الزمان تديره وتقلبه

أي امرىء إلا عليه من البلى

في كل ناحية رقيب يرقبه

من لم يزل متعجبّا من حادث

تأتي به الأيام طال تعجبه (٤)

وقال آخر :

أمل يقربه الرجاء إلى المنى

كم تسخر الآجال بالآمال

كذبتهم الأطماع حتى أنهم

أيسوا بها إذا واعدت بمحال

أنشد لنفسه ابن المعتز :

خليلي ولى العمر منا ولم نتب

وننوى فعال الصالحين ولكنا

فحتى متى نبني قصورّا مشيدة

وأعمارنا منا تهد وما بنا

نكتة : مررت في رحلتي ببعض قرى الروم ، فرأيت قبرا عليه بنيان قد أظهرت فيه الحكمة زخارف صنعة البنا وعلى رأسه مكتوب.

__________________

(١) في ب [الناس].

(٢) في ب [بواد].

(٣) في ب [علينا].

(٤) هذا البيت سقط من ب.

١٩٧

وما ينفع الإنسان بنيان قبره

إذا كان فيه جسمه يتهدم

يمسي ويصبح والأشواق تغره

ولا طمع في الدنيا وليس منهدم (١)

موعظة : نظر سليمان بن عبد الملك إلى وجهه في المرآة فقال أنا الملك الشاب فقالت له إحدى جواريه :

ليس فيما بدا لنا منك عيب

قد علمناه غير أنك فإني

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للإنسان

وقال ابن غانم :

أنوح على ذهاب العمر مني

وحقي أن أنوح وأن أنادي

واندب كلما عاينت ركبّا

حدا بهم لو شك البين حادي

يعنفني العذول إذا رآني

وقد ألبست أثواب الحداد

فقلت له اتعظ بلسان حالي

فإني قد نصحتك باجتهاد

وما من شاهد في الكون إلا

عليه من شهود الغيب بادي

فكم من رائح فيه وغاد

ينادي من دنو أو بعاد

لقد أسمعت لو ناديت حيّا

ولكن لا حياة لمن تنادي

وقال غيره :

إذا اشتد شوقي جئت قبرك زائرّا

أنوح وأبكي لأراك مجاوبي

فيا ساكن الغبراء علمتني البكا

وبعدك انساني جميع مصابي

لطيفة : قال الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه المسامرة : لكل مقال مجال (٢) أخبرني أحمد بن مسعود بن شداد المقري بالموصل قال كان لي صاحب يقال له علي الذهاب وكان يمر بي كل ليلة بعد مضي هذيع من الليل وأنا بهذه المنظرة على شاطىء دجلة ، فنادى يا زكي وأقول لبيك.

فيقول وما أحسن ما قال :

بالله يا ركب الحجاز تحملوا

مني تحية مغرم ومشتاق

وقفوا على شط الفرات وخبروا

إني قتيل محاجر الأحداق

فلم يلبث أن مات ، فرأيته في منامي فقلت يا علي ما أحسن ما كنت تأتيني به في

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) في ب [ولكل حال].

١٩٨

حياتك كل ليلة وتنشدني وأنشدته البيتين فتبسم وقال يا زكي كيف لو سمعتني أنشدهما اليوم ، فقلت له كيف فأنشد :

بالله يا ركب الحجاز تحملوا

مني تحية مغرم مشتاق

وقفوا على شط الفرات وخبروا

إني رهين جنادل وطباق

قد كان في موت الذين أحبهم

ذكرى اللبيب وعبرة العشاق

وما أحسن ما قال :

فاخلع محبة من يموت وخذ بنا

يا قلب في عشق الجمال الباقي

وقال غيره :

تنزهت عن دار تؤل إلى الفنا

وملت إلى دار بها جنة المأوى

وقلت لتلك الدار لما تركتها

سلام على الفاني فلست له أهوى

مسألة : يسن للزائر أن يزور البقيع في كل يوم متطهرّا تأسيّا صلى الله تعالى وسلم عليه ويقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون (١) وإنا بكم إن شاء الله لا حقون اللهم اغفر لأهل بقيع الفرقد ، اللهم اغفر لنا ولهم أنشد لنفسه الشيخ أبو عبد الله القيومي مقتبسّا على لسان الموتى :

تأمل ما الذي كنا عليه

بأيام الحياة وما بقينا

وقل لما تمر بنا سلام

عليكم دار قوم مؤمنينا

والمعروف المشهور بالبقيع من القبور ، قبر العباس بن عبد المطلب ، عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليه ملبن ساج.

(وسكان دار لا تزاور بينهم

على قرب بعض في التجاور من بعض

كأن خواتيما من الطين فوقهم

فليس لها حتى القيامة من فض

نساق بنو الدنيا إلى الحتف عنوة

ولا يشعر الباقي بحالة من يمض

وقال آخر :

وما (٢) الدهر إلا ساعة ثم تنقضي

بما كان فيها من نعيم ومن خفض

فهون ولا تحفل بحال مساءة

ولا مزحة تأتي فكلتاهما تمض

وقال :

__________________

(١) سقط من أ.

(١) سقط من أ.

١٩٩

ما الدهر إلا ليلة ويوم

ويقظة بينهما ونوم

يموت قوم ويعيش قوم

والدهر قاض ما عليه لوم) (١)

نكتة : قال الحسن البصري : يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة فإذا ذهب يوم منها ذهب بعضك وقال آخر : ما انقضت ساعة من أمسك إلا ببضعة من نفسك. أنشد لنفسه الوزير بن مقلة :

إذا مات بعضك فابك بعضا

فإن البعض من بعض قريب

أنشد لنفسه ابن الشبل البغدادي :

صحة المرء للسقام طريق

وطريق الفناء هذا البقاء

بالذي نغتذي نموت ونحي

أقتل الداء للنفوس الدواء

ما لقينا من غدر دنيا فلا كان

ت ولا كان أخذها والعطاء

صلف تحت راعد وسراب

كرعت منه مومس خرقاء

راجع جودها عليها فمهما

يهب الصبح يسترد المساء

ليت شعري حلم تمر به الأ

يام أم ليس تعقل الأشياء

من مفاسد يكون في عالم الكس

وف فما للنفوس منه اتقاء

وقليلا ما تصحب المهجة الجس

م ففيم الشقاء وفيم الفناء

قبح الله لذة لشقاء

نالها الأمهات والآباء

نحن لو لا الوجود لم نألم الف

قد فإيبادنا علينا بلاء

وقال آخر :

تسير إلى الآجال في كل ساعة

وأيامنا تطوى وهن مراحل

ولم أر (٢) مثل الموت حقّا كأنه

إذا ما تخطته الأماني باطل

وقال عمارة :

وما هذه الأيام إلا صحائف

نؤرخ فيها ثم تمحى ونمحق

وأعجب شيء من ذا أن دائرة المنى

توسعها الآمال (٣) والعمر ضيق

وقال آخر :

(وما هذه الأيام إلا مرامل

لأن بها داء المنية قاصد

_________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) من ب [الأيام].

٢٠٠