كتاب الجواهر الثمينة في محاسن المدينة

المؤلف:

محمّد كبريت الحسيني المدني


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل الشافعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

وكان يقال :

شيئان أحلى من عناق الخرد

وألذ من شرب القراح الأسود

وأعز من رتب الملوك عليهم

حلل الحرير مطرزّا بالعسجد

سود الدفاتر أن أكون نديمها

أبد الزمان وبرد ظل المسجد (١)

ومما يتبرك به بقبا دار سعد بن خيثمة في قبلة مسجد قبا لأنه ورد أنه عليه‌السلام اضطجع فيه (٢) وخلفه من الجانب الغربي مسجد ينسب لعلي كرم الله وجهه وأمامه من الجانب القبلي مسجد ينسب لفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما مسجد الضرار بقبا فقد عفا أثره وهفا خبره وأما أهل قبا فهم الذين قال الله في حقهم فيه رجال يحبون أن يتطهروا والخلف في بركة السلف وعن عويمر بن ساعدة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأهل قبا ـ إن الله تعالى قد أحسن الثناء عليكم في كتابه العزيز فقال فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ما هذا الطهور فقالوا ما نعلم شيئّا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا (٣) وعن زيد بن أسلم الحمد لله الذي قرب منا مسجد قبا ولو كان بأفق من الآفاق لضربنا إليه أكباد الإبل وعن بعض الأكابر أن المكروب إذا نادى يا أهل قبا فرج الله تعالى عنه (٤).

وما أحسن ما قال :

يحركنا ذكر الأحاديث عنهم

ولو لا هواهم في الحشا ما تحركنا

ولو لا معانيهم تراها قلوبنا

إذا نحن أيقاظ وفي النوم إن نمنا

لدبنا أسى من لوعة وصبابة

على أن في المعنى معانيهم معنا

فقل للذي ينهى عن الوجد أهله

إذا لم تذق وشراب الهوى دعنا

وسلم لنا فيما أدعينا فإننا

إذا غلبت أشواقنا ربما بحنا

ولله در القائل :

حديث ذاك الحمى روحي وريحان

فلا تلمني إذا كررت ألحاني

روض به الدوح والريحان قد جمعا

وخضرة ما لها في حسنها تاني

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) لم أجده.

(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣ / ٥١٦ الحديث ١٥٤٩١. والحاكم في المستدرك ١ / ١٥٥ وقال هذا حديث صحيح ووافقه الذهبي.

(٤) سقط من أ.

١٤١

الماء والزهر والأطيار يرقص في

ميدان أنس على أوتار عيدان

فالوصل دان وطيب الحال ينشدنا

هذا هو العيش إلا أنه ألهاني

وقال آخر :

على تلك الربوع وساكنيها

سلام كالسلامة يستطاب

يكرره لساني بل كتابي

بل الأيام إن درس الكتاب

وأدعوا الله مع سرف المعاصي

فقد تدعوا العصاة وقد تجاب

ومن محاسن قبا الحسنية وهي في شرقي المسجد حديقة حسنا أنيقة غناء جامعة بين العمارة والنضارة رياضها زاهية زاهرة وحياضها باهية باهرة قد عذب ينبوعها وأشرقت ربوعها ورق فيها النسيم وتأرج بهاه الشميم».

والماء يخفي سجعي في التدفق صوته

والورق تسجع باختلاف لغاتها

والوقت ينشد من يحاول صفوه

خذ فرصة اللذات قبل فواتها

وما أحسن ما قال :

رعى الله أياما بها قد تصرمت

وطيب ليال ما عرفت لها قدرا

ليالي وصال لو تباع شريتها

بروحي ولكن لا تباع ولا تشرا

وفي هذه الحديقة بركة بديعة في وصفها محكمة في صنعها محفوفة بالأشجار والأزهار مباحة للفقراء والزوار وأخرى فائقة في أنسها رائعة في نفسها عليها ايوان مشيد الرواق وعمارة تروق الأحداق وعلى ذكر البركة أنشد لنفسه بن تميم :

لقد قابلتنا بالعجائب بركة

مكملة الأوصاف في الطول والعرض

كان الذي يرنو إليها بلحظة

يرى نفسه فوق السماء (١) وهو في الأرض

وقال آخر :

وبركة للعيون تبدو

في غاية الحسن والصفاء

كأنها إذا صفت وراقت

في الأرض جزء من السماء

مسئلة

إن قيل لم كان القائم على الماء يرى أعلاه أسفله وأسفله أعلاه ويرى السماء تحت الماء مع أنها فوقه الجواب إن معرفة ذلك متوقفة على معرفة قاعدة من علم الهندسة (٢) وهي أن الشعاع الخارج من العين إذا اتصل بجسم صقيل كالماء لم يثبت عليه لصقاله وزلق عنه إلى الجهة المقابلة للرائي إن لم يكن الصقيل أمامه بحيث تكون

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب [الهندسية].

١٤٢

زاوية الالتقاء على الصقيل مثل زاوية الانعكاس في المساحة من غير زيادة ولا نقصان فهاتان الزاويتان في السعة واحدة فيتصل طرف الشعاع بالقائم ثم يجري فيه خياله إلى الماء فينقطع فيه وكان القائم وقع على سطح الماء والقائم إذا وقع يصير أسفله أعلاه فلذلك ترى السماء تحته وكل ما هو أعلى من صاحبه يراه أسفله فلو أقيم ألمّا واقفّا كالمرأة رأى على هيئته فالقائم في القائم في منعكس لأن موضوع الانطباع وهو الماء أسفل والقائم وهو شعاع العين آت إليه فكأنه انطبع فيه وهو قائم فأخذه وانبطح والانبطاح في الحقيقة إنما هو وجه الماء لا في عمقه والحس لا يمكنه ضبط ذلك فيغلط فيه الوهم فيراه في جوفه كأنه قد غرق بعد الانبطاح على وجه الماء في الماء ولو غرقت الشجرة كان رأسها أسفل وهو ضرورة وكل ما هو على مثل السماء وغيرها يرى أسفل وما أحسن ما قال :

أرى مستقيم الطرف ما دمت عندكم

وإن مال طرفي عنكم فهو أحول

وقال آخر بلسان أهل التوحيد :

بانعكاس الشعاع في المرآة

وانعطاف الصدى على الأصوات

أيقن القوم إنه ليس في الكس

وف سوى مقتضى سور الذات

مسئلة : والشيء بالشيء يذكر بالاستطراد أو بالمناسبة من غلط الحس أن الشخص الماشي قد يرى القمر تحت السحاب متحركا إلى غير جهته التي يتحرك إليها بالذات وذلك على رأي القائلين بالشعاع وأنه المتحرك وفيه كلام طويل يطلب من بابه وأما رؤية الشمس كبيرة وصغيرة فلأن في جهة المشرق والمغرب رطوبات تتصاعد فتتفقد سفقّا فترى فيها الشمس كبيرة بسبب الرطوبات ورؤية النار البعيدة كبيرة وهي صغيرة والجمال ونحوها في السراب طوالا ونظائر ذلك تطلب من علم المناظرة وفيه لابن الهيثم كتاب في سبع مجلدات ومن أحسن حدائق قبا بل حدائق المدينة بالإجماع القويم مصغر القائم قاله كما قيل :

روض كمخضر العذار وجدول

نقشت عليه يد النسيم مباردّا

والنخل كالهيف الحسان تزينت

فليس من أثمارهن قلائدا

أو كما قال :

رياض إذا ما ذقت كوثر مائها

أهيم كأني قد ثملت باسفنط

ومن يجتهد في أن (١) في الأرض روضة

تماثلها قل (٢) أنت مجتهد ومخطىء

__________________

(١) في ب [بأن].

(٢) في ب [فلا].

١٤٣

امثل شوقّا فأشكلها في ضمائري

فتتبع عيني ذلك الشكل بالنقط

ولله در القائل :

لم لا أهيم إلى الرياض وحسنها

وأظل منها تحت ظل صافي

والزهر؟؟؟ حياني ثغر باسم

والماء وافاني بقلب صافي

وبالجملة فإنها ذات رياض تسلسلت (١) جداول مائها وقصور تزين الأفق بنجوم سمائها بها النخيل التي لا تحصى والأشجار التي لا تستقصى غياضها مشهودة وحياضها مورودة بين مبان (٢) وثيقة ، ومغان أنيقة قد اشتمل على عمارات حسنة وأوضاع بديعة مستحسنة وبئر هي أوسع الأبار دولابا.

ومنارة تزهو محاسن واعجابّا

وفيه ايوان بديع عنده بركة بديعة

ويصلح أن يقال فيها :

انظر إلى البركة الفيحاء التي اكتنفت

بها النواظر كالأهداب للبصر

كأنما هي والأبصار ترمقها

كواكب قد أداروها على القمر

وقال آخر :

قد قلت في البركة الفيحا وقد جمعت

من البدور أصناف الملاح زمر

إن كان في الفلك الأعلى يرى قمرّا

فهذه فلك دارت بألف قمر

والذي انشأ هذه الحديقة الغناء هو السيد الشريف أحمد بن سعد الحسيني نقيب السادة الأشراف بالمدينة المنورة ومن الأبيات المكتوبة باللازورد في سقف ايوانه تغمده الله تعالى برضوانه.

مجلس السعد عامر بالتهاني

والمسرات والمنا والأمان

جمع الحسن والبها فتسامى

بسناء يزهو على البنيان

وتباهى بمن حوى وتناهى

وعلا فخره مدى الأزمان

فهو عين البنيان حقّا كما قد

حل فيه إنسان عين الزمان

إن يكن مغرد البنا فلا عز

وفمنشيه مغرد في المعاني

قال قد حزت كل معنى وحسبي

من مشيد وسيد قد بناني

جاوز المدح في معانيه حتى

كل كلي عن وصفه بلساني

عند ما تم رونقا وجمالا

وذكرنا به قصور الجنان

__________________

(١) في أ [تسلسلت].

(٢) في ب [بين متان].

١٤٤

انشد الحال في علاه ونادى

يا ابن سعد لقد بلغت الامان

من صروف الزمان لا تخش ضيمّا

أنت جار لسيد الأكوان

ولسان السعود أرخ فيه

عش مقيما بدار سعدك[](١)

ومنها. ولله در قائلها :

يهنيك يا أشرف المجالس

حللت في أطيب المغارس

في طيبة في جوار طه

جوار عز بلا مقايس

يشاهد المصطفى دوامّا

من حل علياك وهو جالس

منشيك من سادة كرام

ليس له في العلا منافس

قد طاب أصلا وطاب فرعا

وحاز من معظم النفائس

وكم من المجد شاد بيتا

حماه بالبيض واللوابس

لا زال في عزه مقيم

يرفل في أجمل الملابس

قالوا فأرخ لنا بناه

فقلت قولا له مجانس

تاريخه أحمد بن سعد

قد حل في أرفع المجالس

وخلف هذه الحديقة من جانب الشمال حديقة من أحسن الحدائق وأبهجها تسمى القائم وهي لآل شاهين قال في زهر الرياض إلا أنه يحسن أن يقال فيهما من حيث التسمية اعكس تصيب لأن القويم أوسع منه دائرة وأكثر نخلا وأنضر كرمّا خلا ما اشتمل عليه من المساكن الطيبة العامرة قلت ولعل التصغير هنا مما اريد به المحبة والتعظيم.

كما قال ثعلب :

بذيالك الوادي أهيم ولم أقل

بذيالك الوادي وذياك من زهدي

ولكن إذا ما حب شيء تعلقت

به أحرف التصغير من شدة الوجد

ومن محاسن حدائق قبا الشدقا والشديقا والبستان وبئر عذق والبويرة فإنها عيون تلك الأماكن ومنارة هاتيك المساكن.

ومن محاسن قبا بئر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال في زهر الرياض وابتنى الشمس بن الزمن بعد عمارة مسجد قبا البركة والسبيل المقابلتين له بحديقة العيني وقد صارا للوزير محمد باشا مع بئر النبي صلى الله تعالى وسلم عليه وحديقتها وحصنها.

__________________

(١) ثبت في أ، ب [هين].

١٤٥

قلت وهي الآن من أحسن أماكن قبا عمارة ونضارة وفيها إيوان كأنه كما يقال ايوان كسرى.

فائدة ايوان كسرى على مرحلتين من بغداد بناه الملك ابرويز في نيف وعشرين سنة طوله مائة ذراع في عرض خمسين في سمك مائة بالأجر الكبار والجص وطول الشرافة خمسة عشر ذراعّا كذا في كتاب تحفة الأصحاب ونزهة الألباب نكتة من لطائف أخبار الملوك عن بعض رسلهم انه دخل على كسرى فرأى في ايوانه اعوجاجا فسأل عن سببه فقيل له أنه كان مكان بيت لعجوز فقيرة فسألها الملك بيعه وأرغبها فامتنعت فتركه وبنى الايوان كما هو عليه الآن فقال هذا الاعوجاج خير من الاستقامة وكان كسرى وضع في ايوانه سلسلة ذات أجراس وجعل طرفها خارجّا عن القبة ونادى من كان مظلوما فليحرك السلسلة ليعلم به الملك فيزيل ظلامته. قال العسكري وهذا هو الأصل في قولهم حرك عليه السلسلة.

ويحكى أن كسرى كان جالسّا في ايوانه فإذا حية قد دنت من عش حمامة في بعض شرف الايوان لتأكل فراخها فرمى الحية بسهم فقتلها وقال هكذا نفعل بعدو من استجار بنا ثم ان الحمامة جاءت بجب في منقارها فألقته بين يديه فأخذه وقال ازرعوه فنبت ريحانا لم يعرف فقال نعم ما كافتنا به الحمامة.

كل الأمور إذا نظرت إعارة

إلا الثناء فإنه لك باقي

لو أنني خيرت كل فضيلة

ما اخترت غير مكارم الأخلاق

واشتهرت بئر النبي صلى الله تعالى وسلم عليه كالشدقاء بالعنب الجيد وبالجملة فإن في قبا من الكروم أنواعا مختلفة منها المدني وهو أنواع منه البرني ويقال له المراودي وهو أجودها لرقته وحلاوته وهو يحاكي الزيني من أعناب الشام ومنه البيض وهو دونه ومنه السكر وهو متوسط ومنها الحجازي وهو أنواع منه البياضي ويختلف في الرقة والغلظ ومنه السوادي وهو أحسن منه ومنه الخمري وهو أجوده ولا عجم لصغاره وفي كتاب البركة في السعي والحركة أن نوحا عليه‌السلام شكى من الغم فأوحى الله تعالى إليه أن كل العنب الأسود انتهى وأحسن العنب ما كان في حدائق قباء ثم العالية ثم جفاف (١) ثم باقي بساتين المدينة وكان بالعقيق كروم كثيرة ويحكى أنه كان لسعد بن أبي وقاص بالعقيق كرم تباع ثمرته بألف دينار فبلغه أن شبان المدينة يصنعون منه الخمر فقطع أصول كرمه تتميم مانون كقانون ورانونا مقصور اسم سيل (٢) من جبل في يماني

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب [جبل].

١٤٦

عير يمر بالعصب ويعترض قباء يمينّا فيدخل الشدقاء والبستان ثم يخرج إلى العليقة ثم يمر بصرارة شاهين ثم يشارك سيل وادي بطحان المعروف بأبي (١) جيده من غربي القصيبة في قبلي المصلى وسيل بطحان يأتي من (٢) على سبعة أميال من المدينة يمر بالصيحاني المعروف بأم عشرة ثم بجفاف ثم بالقصاة بالفاء وهو موضع في غربي الماجشونية ثم بالمصلى ومساجد الفتح ثم بالغابة وينتهي مع السيول إلى البحر ومن محاسن حدائق قباء العليقة بضم العين المهملة وفتح اللام تصغير علقة بالضم وهو منتزه بديع في حدة حسن وبمحاسنه يذهب عن القلب الحزن عليه من بهاء البدر نور وضوء الشمس يكسوه الشعاعا وماؤه العذب في أقصى درجات الحلى وهواؤه الرطب من أطيب ما تشتهيه الملاء وبالجملة فكل هاتيك الحدائق ذات رياض وحياض وأشجار وأزهار.

ومن رام لي بها اللوى حينا

وصفا لي فيها الهوى والهواء

وثنت نحوها الثنية قلبا

قلبا تستخفه الأهواء

وما أحسن ما قال

ولكل مقام مقال

ليس النزاهة في المنازل كلها

من سائر الأقطار والأمصار

إلا (٣) إذا ما كنت وسط حديقة

إن الحدائق نزهة الأبصار

ولله در القائل :

يا من يلوم على الهوى

دعني فشأنك غير سأني

لا يشغلك (٤) غير ما

تهوى فكل العيش فاني

وقال آخر :

يعنفني أهل البلاغة حيثما

تغزلت في الغزلان عن أبلغ القال (٥)

وينهون مثلي عن عكوفي على الهوى

أليس هوى أهل الهوى مقتضى الحال

وقال :

لا تلمني على الوقوف بدار

أهلها طير والغرام ضجيعي

جعلوا لي إلى (٦) هواهم سبيلا

ثم سدوا علي باب الرجوع

وخلف هذه الحديقة من جانب الشمال حديقة مورقة الأشجار مونقة الثمار

__________________

(١) في ب [بابن].

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب [لا يشغلنك].

(٥) في ب [الغال].

(٦) سقط من ب.

١٤٧

خفيفة (١) الماء العذب لطيفة الهواء الرطب وتعرف بالسرارة بفتح السين المهملة وتشديد الراء قال في زهر الرياض ولا يعرف اليوم بالسرارة غير هذه الحديقة وما حولها وبها نخلة مثنية يقال إنها انثنت للنبي صلى الله تعالى وسلم عليه حتى تناول منها (٢). وهذا على المشهور (٣) لا على ما هو المسطور والناس يتبركون بها لذلك ويشترون ثمرها بأعلى ثمن وليست من حر النخل بل من أوسطه ويسمى جنسها الوحشي بصيغة مقابل (٤) الإنسي والحديقة المذكورة بيد آل شاهين من الأشراف الوحاحدة الحسينيين انتهى.

قلت وإذا صح خبر النخلة فينبغي أن تكون من حر النخل بل يجب أن تكون من أعلاه كما قال :

وأكرم إحداق الحدائق منشدا

لعين تجازي ألف عين وتكرم

وما زال الناس يهدون تمر المدينة المنورة إلى الآفاق ويتبارك به كل محب ومشتاق وأنشدوا :

أفضل تهدية أمثالنا

من طيبة مدفن خير الأنام

بعض تميرات إذا أمكنت

تبرّكا ثم الدعا والسلام

وقال آخر :

خير الهدية من مدينة أحمد

دعوات صدق عند قبر المصطفى

بركاتها ترجى ويرجى نفعها

وبها الشفاء لمن يكون على شفا

وقد أدركت جزوعّا بالية مجموعة في هذه الحديقة يتبرك الناس بها ويزعمون أنها بقايا تلك النخلة وأولادها وقد وضع عليها مسجد لطيف وذلك في حدود نيف وعشرين ألف وخلف هذه الحديقة من جهة الشمال حديقة معطرة بالأزهار مشتملة على أعناب ونخيل وأشجار تعرف بجزع العرصات (٥) ولعلها المعنية بقوله :

إلى الله أشكو بالمدينة حاجة

وبالجزع أخرى كيف يلتقيان

وبالجملة فإنها بقعة تأرجت بطيب تربها وأشرقت أرضها بنور ربها وطلعت أهلة بدورها من آفاق السعود وتواصلت نفحات الهوى المقصور بها ولا تواصل نسمات الهوى المحدود.

__________________

(١) في ب [خفيه].

(٢) لم أجده.

(٣) في ب [هو].

(٤) في أ [مفانيل].

(٥) في أ [الفرمات].

١٤٨

فهي الروضة المورقة الأشجار

والغيضة المونقة الأزهار

فلو أنني في جنة الخلد بعدها

ذكرت ولا أنسى للذاتها أنسا

فيا لها من رياض تعطرت بأرجها (١) الأنفاس ، وقال لسان التصديق في جواب الاستفهام عنها لا بأس رياض أشجارها باهية باهرة ، وحياض أزهارها زاهية زاهرة.

وقال آخر :

رياض بها الحصباء در وتربها

عبير وأنفاس الشمال شمول

تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق

وصح نسيم الروض وهو عليل

رياض أثمارها باسقة وغياض أطيارها ناطقة فلو تأملت في أغصان رياضها الأنيقة لرأيت كلا بمفرده حديقة فمدعى نضارتها عند أهل النظر مسلم وعلي محاسنها سالم من أن يوصف إلا بأنه موثق معلم قد فجرت على أرضها ينابيع البديع عيونا وانشأت على رياضها من أغصان التفريع فنونا فطفقت تخطر بأكمام ثمرها وجعلت ترمق بأحداق زهرها ولقد أغدقت سحابها وتنمقت رحابها وهب نسيمها واهتز وسيمها وطالما أوقع القلب في شرك الهوى تغريد هزارها وضاعف للصب غرامه طيب أزهارها هوى روضة قد طبق الأفق طيبها.

هوى تذوق العينان منه وإنما

هوى كل نفس حيث حل حبيبها

فيا حسنها من رياض غدا

جنوني فنونا (٢) بأفنائها

جرى الماء فيها على رأسه

لتقبيل أذيال أغصانها

أو هي كما قال :

روض كأن ترابها

أبدّا بماء الورد يسقى

وكأن تربة أرضها

جدبت من الكافور عرفا (٣)

أو كما قال :

رياض بكاها المزن وهي بواسم

فناحت بغير الحزن فيها الحمائم

وأودعت الأنواء فيهن سرها

فنمت عليهن الرياح النواسم

يبيت الندى في أفقها وهو ناثر (٤)

ويضحى على أجيادها وهو ناظم

كأن الأقاصي والعقيق تقابلا

خدود جلاهن الصبا ومباسم

__________________

(١) في ب [بأرحها].

(٢) في ب [جنوني جنونا].

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب [ناشر].

١٤٩

كأن بها للنرجس الغض أعيننا

ننبه منها البعض والبعض نائم

كأن ظلال القصب فوق غديرها

إذا أطربت (١) تحت الرياح أراقم

كأن غناء (٢) الورق الحان معبد

إذا رقصت تلك القدود النواعم

كأن نثار (٣) الشمس تحت غصونها

دنانير في وقت ووقت دراهم

كأن بها الغدران تحت جداول

منوع دروع أقرعت (٤) وصوارم

كأن ثمارا في غصون نوسوست

لعارض خفاق النسيم تمائم

كأن القطوف الدانيات مواهب

وفي كل غصن ماس في الدوح حائم

كأن بنان المصطفى قد لمسنه

فاعداه منهن الندى والمكارم

نبي انى غيثا وغوثا ورحمة

عليه صلاة الله ما أفتر باسم

أما بئرها فقد اشتملت على بناء بديع محكم حتى كأن أحجارها فيها عقد منظم يعجز أبناء الصناعة عن تصور شكلها فضلا عن الاتيان بمثلها يغض لها حسن مائها الغزير العذب بأن تكون من أحلى ما يشتهي القلب ويشهد لها بالشراحة ما اشتملت عليه من الملاحة وما تناهيت في وصفي محاسنها ألا وأكثر مما قلت ما أدع.

ولقد أحسن التحليل من قال :

الماء قد عشق الغصون (٥) فلم يزل

أبدّا بمثل شخصها في قلبه

حتى إذا فطن النسيم إني له

من غيرة فأزالها عن قربه

فإذا أتاه مهيمنّا بعتابه

في الحال قطب وجهه من عتبه

وأما بساتينها في حسن تركيبها وترنم عندليبها فهي للأحزان تنفيس وللأشجان مغناطيس ان جرت محالها بالماء أجرت الدمع كالدماء وإن أسمعت غناءها جددت للنفس عنائها فهي منبع الشجو والغرام ومجمع اللهو والمرام.

أبدا هكذا تأن بشجو

وعلى إلفها تدور وتبكي

أو هي كما قال :

وسانية كانت غصونّا وريقة

تميس فلما فرقتها يد الدهر

غدت في رياض الجزع تبكي وتشتكي

بدمع (٦) على أيام عهد الصبا يجري

وما أحسن ما قال :

__________________

(١) في ب [إذا ما اظهرت].

(٢) في ب [خفاء].

(٣) في ب [نشار].

(٤) في أ [أفرغت].

(٥) في ب [الغيون].

(٦) في ب [بديع].

١٥٠

يا يومنا بالجزع هل من عودة

ليت الليالي للوصال (١) تعيد

فهواك لا يبدو السلو لطيبة

والله يبدي ما يشاء ويعيد

وقال آخر :

وبالجزع حي كلما عن ذكرهم

أمات الهوى مني فؤادي وأحياه

تمنيتهم بالإبرقين (٢) ودارهم

بوادي الفضا يا بعد ما أتمناه

وقال :

وبالجانب القبلي بالجزع شادن

له من فؤادي نائب وشفيع

إذا خطرت في خاطري منه سلوة

تعرض شوق دونها وولوع (٣)

وقال :

عسى بالجانب القبلي يسري نسيمه (٤)

من الروض بالعرف الذي كتب أغرني

فما اعتضت (٥) عن تلك الربى غير حسرة

عليها ودمع يستهل ويذرف

وقال :

أهيل (٦) الحمى والجزع يهنيكم المغنى

وصوت القماري والهزار إذا غنى

بعدتم فأبعدتم عن النفس أنسها

كأن الهنا لفظ وأنتم له معنى

ومن غراميات الشاب الظريف :

عفى الله عن قوم عفا الصبر عنهم

فلو رمت ذكري غيرهم خانني الفم (٧)

وبالجزع أحباب إذا ما ذكرتهم

شرفت بدمع في أواخره دم

تجنوا كأن لا ود بيني وبينهم

قديمّا وحتى ما كأنهم هم

ومشبوب ناري وجنة وجناية

تعلمه إعطافه كيف يظلم

ألم وما في الركب منا متيم

وعاد وما في الركب إلا متيم

وليس الهوى إلا التفاتة طامح

يروق لعينيه الجمال المنعم

خليلي ما القلب هاجت شجونه

وغادره (٨) داء من الشوق مؤلم

أظن ديار الحي منا قريبة

وإلا فمنها نسمة تتنسم

__________________

(١) في ب [للوصل].

(٢) في ب [بالابرق منى].

(٣) في ب [ووداع].

(٤) في ب [بنسيمه].

(٥) في ب [اعتنقت].

(٦) في ب [أصيل].

(٧) في ب [الدهر].

(٨) في ب [وغامره].

١٥١

ولله در القائل :

لا تلتفت بالله يا ناظري

لأهيف كالغصن الناضر

ما السرب ما البان وما لعلع

ما الخيف ما ظبي بني عامر

يا قلب فاصرف عنك وهم النقا

وخل عن سرب حمى حاجر

[جمال من سميئة دائر

ما حاجة العاقل في الداثر](١)

وإنما مطلبه في الذي

هام الورى في حسنه الباهر

أصبحت فيه مغرما حائرا

لله در المغرم الحائر

أنشد لنفسه أبو البركات السعدي :

وكم رمت كتم الحب عمن أحبه

وكيف يكتم الحب عن ساكن القلب

إذا اختلج النبر المصون بخاطري

تقلب مني القلب جنبّا إلى جنب

فتبدو ولا تبدو سرائر لوعتي

وتخفى ولا تخفى وفي الحال ما ينبي

وقال الشيخ حسن البوريني :

تعشقت منه حالة لست قادرا

على وصفها إذا لم يذقها سوى قلبي

تيقنت أني فيه أصبحت مغرما

ولكني لم أدر ما سبب الحب

ومن أشعار كتاب مصارع العشاق :

ولقد أقول لمن تعشق أغيدا

أو غادة وغدا أسير وثاق

ما مذهبى عشق الجمال مقيدا

بل عشقه ديني على الاطلاق

وفي المعنى للصيفي الحلى :

ولقد تعرض للمحبة معشر

عدموا من اللذات ما أنا واجد

قالوا أتعشق رب كلا ملاحة

فأجبتهم أن المحرك (٢) واحد

الحسن حيث وجدته في حيز

هولي بإسباب الصبابة قائد

وقال الشيخ الشتستري :

أيا ساهيّا دع عنك رملة عالج

ونجدّا ولا تندب اراكا ولا خطّا

وكن قاصدا للحق تحظ بنيله

فما ثم إلا الحق لكنه غطا

فائدة : الجزع بالكسر.

__________________

(١) في ب هذا البيت مؤخر عن الذي يليه.

(٢) في ب [المحرف].

١٥٢

وقال أبو عبيدة : اللائق به أن يكون مفتوحا منعصف الوادي ووسطه أو منقطعه أو منحناه ، أو لا يسمى جزعا حتى تكون له سعة تنبت الشجر أو هو مكان بالوادي لا شجر فيه ، وربما كان رملا ، ومحلة القوم ، والمشرف من الأرض إلى جنبه طمأنينة جزع الأرض والوادي ، كمنع قطعة أو عرضا ، والجزع ويكسر الخرز اليماني الصيني ، فيه بياض وسواد ، تشبه به العين ، والتختم به يورث الهم والحزن والأحلام المفزعة ومخاصمة الناس كذا في القاموس (١).

وما أحسن ما قال :

ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه

من اللمس كافورّا وأعواده ندا

وما ذاك إلا أن (٢) عليا عشية

تمشت وجرت في جوانبه بردا

ويطلق الجزع بالكسر اليوم على مواضع بالمدينة المنورة أشهرها جزع قباء وما في غربي قباء ، وقبلتها من الآبار فماؤه أعذب أمواء المدينة المنورة فائدة الماء همزية عن الهاء وهو جوهر لطيف سيال يتلون بلون آنائه ، وفي شرح الهمزية لابن حجر قيل لا لون له وإنما يتكيف بلون مقابلة والحق خلافه فقيل أبيض وقيل أسود والأسودان التمر والماء.

وما أحسن ما قال :

في خده عرق بدا

ذا حمرة لصفائه

هذا يحقق قولهم

الماء لون إنائه

قال البصير في التذكرة ، الماء اجل (٣) العناصر البدنية بعد الهواء على الأصح لبقاء البدن بدونه أكثر من بقائه بدون الهواء وتختلف باختلاف الأصل والسن والمزاج والزمان ، أجوده الخالص من ماء المطر القاطر وقت صفاء الجو ولم يخالطه مكدر فالجاري مكشوفا من البعد في أرض حرة أو حجر إلى الشرق أو الشمال النقي الأحجار المهري لما طبخ فيه بسرعة الخفيف الوزن ونيل مصر أجمع لهذه الصفات ثم دجلة ثم جيحون فالمطر فالمطبوخ فماء العين المستعمل فالبئر وكل ما تحرك أو جرى فجيد ، والصحيح عدم اختصاصه بدرجة في البرودة ، يبلغ القداء أقصى الأعماق لأنه غذاء على الصحيح لعدم انعقاده ، حافظ للرطوبات الإفراط منه يرخى ويعد ويهزل ، كما أن تركه يجفف ويورث السدد. والجاري منه مغمورا أو في رصاص ، وطويل المكث والمكبرت

__________________

(*) انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي ٣ / ١٢ ـ ١٣).

(١) سقط من ب.

(٢) في ب [أجن].

١٥٣

والمجاور للرمل والتراب وأصول الشجر والحشائش ردى يعفن الأخلاط ، وغدير المطر إذ صفته الرياح جيد جدا ينفع المجرور والمكدود ، والكبريتي يعقب الحكة والجرب شربا ويمنع منهما غسلا كمالح وزاجي ، وماء الشب يقبض ويمنع تولد القمل غسلا وماء الحديد سواء أخذ من معدنه أو طفى فيه يقوى الأعضاء ويحبس الاسهال والدم ويمنع الخفقان والزحير ، وأما ماء الذهب والفضة أعظم فيما ذكر خصوصا بالطفى ، وماء النحاس مضر وأخبث منه ماء الرصاص ولا بأس بماء القصدير. وللماء الصحيح لذة ودخل في تدبير الصحة إذا استعمل بشروطه فهو لا يؤخذ قبل هضم فإنه مفسد للأغذية مبرد للمعدة ، مصعد للأبخرة ، وأن لا يستعمل الفاسد منه بلا مصلح ، كأكل البصل قبله وبعده ومزجه بالخل وأن يكون بداعية صادقة فما شرب قبل خمس عشر درجة تمضى من الأكل الصفراوي وضعفها لدموي ، وخمسة وأربعين لسوداوي وستين لبلغمي كاذب لاعتداد به ، شديد النكاية ولا بعد فاكهة فإنه يفسد الدم ولا بعد حمام وجماع فإنه يورث الرعشة والخدر ولا نوم لمن نام ولم يأخذ كفايته منه (١) ، ولا قائما ولا متكئا والحار يفسد ولا يروي بل يغير اللون ، والثلج والبرد أقل رطوبة من باقي المياه ويأخذه العطشان قبل الأكل وفي خلاله جائز بقدر الداعي ، ولا يجوز على الريق إلا صيفا أو زمن الطاعون انتهى.

ويروى انه عليه الصلاة والسلام أكل طعامّا وشرب ماء باردا في الصيف وقال يا بردها على الكبد (٢) ، حكاه في كتاب البركة. وعنه عليه الصلاة والسلام إذا شرب أحدكم الماء فليشرب أبرد ما يقدر عليه لأنه أطفى (٣) للمرة وأنفع للغلة (٤). وكان يأكل البرد ويقول يقتل الدود في الإنسان ، وعنه عليه الصلاة والسلام الشرب في اثر الدسم داء في البطن (٥). ويقال ان وجع الكبد من العب وهو جرع الماء من غير مص. وشرب عليه الصلاة في نفسين. وروى عنه عليه الصلاة والسلام من شرب الماء على الريق انتقضت قوته (٦). وعن الإمام جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه من شرب الماء بالليل وقال

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أحب شراب عنده الحلو البارد الفرقدي (١٨٩٥) ـ للإمام أحمد ٢٤١٨٤

(٣) في ب [طغى].

(٤) لم أجده.

(٥) لم أجده.

(٦) أخرجه الطبراني في الأوسط ٥ / ٥١ ـ ٥٢ الحديث ٤٦٤٦. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ٨٩ ، ٩٠ وقال فيه محمد بن مخلد الرعيني وهو ضعيف.

١٥٤

ثلاثا عليك السلام من ماء زمزم وماء الفرات ؛ لم يضره وعن الباقر رضي الله تعالى عنه شرب الماء من قيام بالنهار أمرى وأصح (١) وبالليل يورث الماء الأصفر. كذا في مكارم الأخلاق.

وأنشد الحافظ ابن حجر العسقلاني :

إذا رمت شربا فاقعد تفز

بسنة صفوة أهل الحجاز

وقد صححوا شربه قائما

ولكنه لبيان الجواز

تتميم اجتمع عند كسرى من الحكماء عراقي ورومي وهندي وسوادي فقال كسرى ليصف كل منكم الدواء الذي لا داء معه فقال العراقي هو ان تشرب كل يوم على الريق ثلث جرع من الماء الساخن ، وقال الرومي هو أن يسف كل يوم قليلا من حب الرشاد وقال الهندي هو أن تأكل كل يوم ثلاث حبات (٢) من الاهليلج الأسود والسوادي ساكت وكان أصغرهم وأحدقهم.

وكان يقال :

عليكم بآراء الشباب فإنها

فروع ذكاء لم تنل قدم العهد

فقال له الملك ألا تتكلم فقال أيد الله الملك ، الماء الساخن يذيب شحم الكلا ويرخي المعدة وحب الرشاد يهيج الصفرا ، والاهليلج الأسود يحرك السودا ، قال فما الذي تقول أنت فقال الدواء الذي لا داء معه أن لا تأكل حتى تجوع ولا تشرب حتى تظمأ فإذا أكلت أو شربت فارفع يدك عند الشبع واقطع شربك قبل الري (٣) فإنك لا تشكو إلا علة الموت ، فصدقه (٤) كل منهم فيما ادعاه ، وكان يقال الاحتماء في وقت الصحة خير من شرب الأدوية وقت المرض. وكان يقال الطب حفظ صحة موجودة أورد صحة مفقودة ، الأول متيسر والثاني متعسر أو متعذر ومن المجربات درهم مستكا (٥) يطبخ في رخل ماء صاف (٦) في فخار جديد إلى أن يذهب ثلثه للاستسقاء والقيء والغثيان والزحير ويقوي الهضم ، ويجدد الفخار في كل مرة ويذلها الأذخر وتعديله الجوز كذا في التذكرة. وقد طال الكلام وخرج عن سلك النظام ولربما ساق المحدث بعض ما ليس النديم إليه بالمحتاج وهذا وان كان من قبيل الجمل المعترضة

__________________

(١) في أ [أصبح].

(٢) في ب [قليلا].

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب [فصدقه الملك وصدقه].

(٥) في ب [مصطكا].

(٦) سقط من أ.

١٥٥

ينبغي أن يكون من حشو اللوزبنج. فإن الحاجة إليه ماسة وبمراعاة مثل ذلك سلامة الحاسة وذلك من أعز مطالب العقول كما هو مسطور منقول.

تسل عن كل شيء بالحياة فقد

يهون عند بقاء الجوهر العرض

يعوض الله عما أنت متلفه

وليس للنفس إن أتلفتها عوض

ومن محاسن حدائق قباء الصمد ، وحوسان ، والجعفرية وكانت غرة في جبهة هاتيك الأماكن ، إلا إنها قد ذهبت بهجتها وأخلفت ديباجتها ، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة السابقة والعمارة الفائقة.

كفى أسفا بالواله الصب أن يرى

منازل من يهوى على غير ما يهوى

ولو لا غرام لي بطيبة لم أكن

أذل لمن يسوى ومن لم يكن يسوى

وقال آخر :

منزل حقه على قديم

من زمان الصبا وعصر البطالة

أنا أدرى به وإن كنت فيه

سائلا عنه أقتفي أطلاله

ومحال من المحيل جواب

غير أن الوقوف فيه غلاله (١)

ولله در القائل :

قف نسأل الطلل الذي لا يعلم

وقلوبنا في رسمه تتكلم

وأها له طللا برامة بينما

هو بالحياء منهن إذا هو معدم

وعلى البلى فقد يروق كأنما

قطع الغمام عليه برد معلم

ومن أعمال قباء العصب بضم أوله وفتح ثانيه واد في حرتها الغربية ، واد عليه للمحاسن رونق وبه طيور طاب عيش نديمها وقد اشتملت العصب على حدائق ذات بهجة من أحسنها سلطانة ، وهي حديقة حسنة الترتيب ، بديعة الوضع العجيب كثيرة النخل الباسق والشجر المتناسق ذات بناء شديد وإيوان مشيد وبركة وسيعة وأوضاع حسنة بديعة ، وبئر شميلة بضم الشين المعجمة وهي روض فسيح الجنان مخضرة الأرجاء والرحاب بها الأشجار المؤتلفة والأزهار المختلفة والعمارة الحسنة والنضارة المستحسنة ، والماء العذب والهواء الرطب فلا زالت كذلك ، روضة من هاتيك المسالك وقطعة (٢) ريحان السفري وهي حديقة لطيفة وفيها حصن قديم قال في زهر الرياض ، العصب في غربي قباء بها النخيل والبساتين المعتبرة ، ابتكر عمارتها السيد أحمد بن

__________________

(١) سقط من الأصل واستدركت في الهامش.

(٢) في ب [قطيفة].

١٥٦

سعد نقيب السادة الأشراف ، وبعض بني السفر وفيها مسجد التوبة صلى فيه النبي صلى الله تعالى وسلم عليه (١). قلت وقد اندرس هذا المسجد بحيث لم يبق له أثر ، ولم يكن له عند أحد من أهل المدينة خبر ، ولم تزل الآثار تعفو رسومها ، وتحدث من بعد الأمور أمور.

__________________

(١) لم أجده.

١٥٧

باب

في ذكر العالية ، ورياضها الفائق نشرها على العبير والغالبة ، وفيه ذكر جفاف وقربان ومحاسنهما السائرة بهما الركبان ، ان الحقائق في الحدائق قد بدت ، فاجنوا بها الثمرات من أشجارها. قال في الوفاء العالية من المدينة ، ما كان في جهة قبلتها من قباء وغيرها على ميل فأكثر ، وأقصاها عمارة على ثلاثة أميال وأربعة إلى ثمانية أو ستة على الخلاف في ذلك انتهى. ووجه التسمية جلي ، وذلك لأن السيول تنخر (١) من تلك النواحي العالية إلى سوافل المدينة ، فعلى ذلك يقال نزلنا من العوالي إلى المدينة ، وطلعنا من المدينة (٢) إلى العوالي ، ولا عبرة بمن يقول لا يقال نزلنا المدينة لأنها محل الطلوع لأن ذلك من الأدب المولد المستبرد ، فإن الله تعالى يقول (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) وبملاحظة ذلك ساغ لمن كان في السوافل أن يقول نزلت المدينة وعليه عمل أهلها ، وتطلق الحدائق على ما في العالية من البساتين والعوالي على القرية فقط وبالجملة فإن العالية رياض مخضلة (٣) الربا وغياض معتلة الصبا بها النخيل الباسقة والأشجار المتناسقة والأغصان التي تتناوح عليها الأطيار وتتباكى في روضها الأمطار.

مهما اتجهت رأيت روضا (٤) ماؤه

متسلسل يعلو عليه ويخفق

الريح يكتب والجداول أسطر

خط له نسج الغمام محقق

والطير يقرأ والنسيم مردد

والغصن يرقص والغدير يصفق

ومعاطف الأغصان هزتها الصبا

طربا فذا عار (٥) وهذا مورق

وهزاره يصبو إلى شحرورة

ويجاوب القمري فيه مطوق

يتلو على الأغصان أخبار الهوى

فيكاد صامت كل شيء ينطق

والورق في الأوراق يشبه شجوها (٦)

شجوي وأين من الخلى (٧) الموثق

__________________

(١) في ب [تنحدر].

(٢) سقط من أ.

(٣) في ب [مخصله].

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب [هذا عار].

(٦) في ب [لشجوها].

(٧) في ب [الحالي].

١٥٨

وقال آخر :

منازل أحبابي ومربى عشيرتي

وأوطان أوطاري ورضى سخطي

لويت عناني في حماها عن اللوى (١)

وهمت بها لا بالمحصب والسقط

ولذ عناق الفقر لي بغنائها

وفي غيرها لم أرض بالملك والرهط

سقى سفحها إن قل دمعي سحابة

مكللة بالقطر منهلة النقط

ويا أسطر النبت التي قد تسلسلت

بصفحتها لا زالت واضحة الخط

ولا زال ذلك الروض بالطل معجما

ومن شكل أنواع المسرة في ضبط

وقال ولله دره :

سقى الله في أرض العوالي منازلها (٢)

قطعت (٣) بها دهر الربذا من العمر

درت أنني قد (٤) حببتها متنزها

فمدت لتلقاني بساطّا من الزهر

وفيها لقد رق النسيم وحيثما

ذهبت وجدت الماء في خدمتي يجري

وقلت أنا في ذلك وإن لم أكن هنالك :

نشأت بفضل الله في ظل دوحة (٥)

سمت بنبي كنت من بعض عترته

فإن شئت في صفح العوالي وإثباتا

بدار الذي طابت وطالت بهجرته

فهاتيك دار الحبيب وهذه

بها منن هي يا صاح من حول حجرته

وقلت في تفضيل العالية وفيه نظر :

فضل العوالي بين ولأهلها

فضل قديم نوره يتهلل

من لم يقل أن الفضيلة طنبت

أرض العوالي وهو حق يقبل

إني قضيت بفضلها وأقول في

وادي قبا الفضل الذي لا يجهل

وقلت في تقسيم الشوق :

إذا كنت في أرض العوالي تشوقت

لأرض قبا نفسي وفيها المؤمل

ولو كنت فيها قالت النفس ليت لي

بأرض العوالي يا خليلي منزل

فيا ليت أني كنت شخصين فيهما

وما ليت في التحقيق إلا تعلل

وقلت بلسان حال الأحوال :

__________________

(١) في أ [الوي].

(٢) في أ [منازها].

(٣) في ب [فطمت].

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب [رومة].

١٥٩

أراك تغالي في العوالي وفي قبا

وأنت على وهم الخيال تعول

إني كم تكن تهوى الذي أنت سائر

إلى غيره إذ أنت عنه تحول

فكن سائرا في لا مقام فإنما

تقلب من شأن لسان وترحل

ومن محاسن حدائق العالية سميحة بضم أوله ، قال في الوفاء ، بئر سميحة بئر بالمدينة عليها نخل لعبيد الله بن موسى.

قال كثير عزة :

كأن دموع العين لما تحللت

محارم بيضا من تمني جمالها

قبلن غروبا من سميحة اترعت

بهن السواني واستدار محالها

(القابل الذي يلتقي الدلو تخرج من البئر فيصبها في الحوض) (١) ، وقد غرس بعض أهل المدينة اليوم على سميحة هذه حديقة ، فصارت من أحسن الحدائق. انتهى.

(وماء هذه البئر من أحسن) (٢) مياه ذلك الجزع وإن لم يكن بالعذب الخالص.

وأنشدوا :

وفي مائها قد قيل بعض ملوحة

ومنها مياه العين أحلى وأملح

فقلت لهم قلبي يراها ملاحة

فلا برحت تحلو لقلبي وتملح

ومن أحسن المياه هنالك بئر النصيري بضم أولها ، وعليها حديقة غناء ، ومن أحسن حدائق العالية الدويمة والشجيرة والفقير بالتصغير ، ومغلة (٣) بصيغة اسم الفاعل ، والبوعي وفي قبلته مسجد بني قريظة بضم القاف ، وهو عشرون ذراعّا في مثلها ، وحوله حدائق وبساتين ومزارع وفي الجهة الشامية منه المشربة روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى في مشربة أم إبراهيم (٤) ، وهي أكمة بين النخيل قد حوط حوله بلبن ، والمشربة البستان ، قيل كان بستانا لمارية القبطية.

وفي الصحاح المشربة بالفتح ، الغرفة ، وكذلك المشربة بضم الراء ، والمشارب العالي قال في الجوهر المنظم ، المشربة ولدت فيها مارية إبراهيم بن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وموضعه اليوم مسجد ، وهو أربعة عشر ذراعا ، في مثلها. انتهى.

وعندها حدائق من أحسنها المرجانية والمالكي وأم غانم.

حدائق أنبتت فيها الغوادي

ضروب النور رائقة البهاء

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب [مقالة].

(٤) لم أجده.

١٦٠