كتاب الجواهر الثمينة في محاسن المدينة

المؤلف:

محمّد كبريت الحسيني المدني


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل الشافعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

في هذه الداهية الدهيا قد [ارتبك](١) وكقوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] الدالة على شرف لا تبلغ غايته الأفهام وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كل سبب ونسب وحسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وحسبي (٢).

وكقوله «إن لكل نبي أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وعصبتهم وهي عترتي خلقوا من طينتي ويل للمكذبين بفضلهم. من أحبهم أحبه الله ، ومن بغضهم (٣) بغضه الله» (٤).

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. شهادة أنتظم بها في سلك محبتهم. وأحشر بها معهم في زمرتهم. لا من أحب قوما فهو معهم وان لم يعمل بعملهم كما قاله الصادق مشيرّا إلى تعاظمهم وتعاليهم وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وحبيبه وصفيه وخليله. الذي فضله الله على سائر مخلوقاته صلّى الله وسلم عليه ـ وعلى آله الذين حباهم بقربه الأعظم ـ ونسبه الأشرف الأكرم ـ وأتحفهم بما من تجبر جهته لا بعلم. وهو ما فيهم من البضعة الكريمة ـ والدرة الجوهرة اليتيمة (٥) وعلى أصحابه الذين نقلوا إلينا سنته. وعلى التابعين وتابعيهم من يذكرهم ينزل الله تعالى رحمته. إلى أن قال : ولا يظهر حكم هذا الشرف لأهل البيت إلا في الدار الآخرة فإنهم يحشرون مطهرين. مغفورا لهم.

وأنشد للقيراطي :

شرف الله طيبة بنبي

منه طابت عناصر الشرفاء

حاز فضلا آباؤه وبنوه

فهو فخر الآباء والأبناء

ثم قال : وللوسائل حكم المقاصد. ومن هنا قالوا : الوسائل في المعنى هي الوسائط للوصول إلى المطالب وهي الشفاعة.

__________________

(١) في ب [ارتكب].

(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٤ / ٤٠٥ الحديث ١٨٩٥٤. والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢٠٦ وعزاه للطبراني وقال : فيه أم بكر بنت المسور ولم يجرحها أحد ولو يوثقها ، وبقية رجاله وثقوا.

(٣) في ب [أبغضهم].

(٤) في ب [الثمينة].

(٥) رواه ابن ماجه في المقدمة ١ / ٥١ الحديث ١٤٣ مختصرا. والطبراني في الكبير ٣ / ٤٨ الحديث ٢٦٤٧ ـ والحاكم في المستدرك ٣ / ١٥٢ وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

١٠١

كما قال :

على الله في كل الأمور توكلي

وبالخمس أصحاب العبا توسلي

محمد المبعوث وابنيه بعده

وفاطمة الزهراء والمرتضى علي

وقال العلامة ابن حجر : من خطبة (١) عقد نكاح : ابنته على الإمام عبد الله بن عبد المعطي الطبري. بعد ذكر الأئمة الطبرية. وكيف لا وهم من خلاصة (٢) الجرثومة الهاشمية. وعصابة التنزلات المصطفوية والعشرة الطاهرة من كل دنس تطهيرّا أي تطهير.

والمفروض محبتهم ومودتهم على كل جليل وحقير.

يا آل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

يكفيكم من عظيم الفخر (٣) أنكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له

والمقرونين بالقرآن الكريم (٤) في أمن العالم بهما ما داما باقيين من كل خطب جسيم ومدلهم بهيم والمخصوصين (٥) لما فيهم من البضعة الكريمة والدرة اليتيمة التي لا يوازي شرفها شرف ولا يلحق رفيع شأوهما سلف ولا خلف بأنهم الأعزة في كل زمن والمقروع لهم عند ترادف الفتن وتكاثف المحن.

[وما ألطف ما قال](٦) :

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

شم الأنوف (٧) من الطراز الأول

حقق الله تعالى لنا بآل نبيه وصلة المحبة التي طبعنا عليها وأعرضنا عن كل فخامة تقطع عنها نظرّا إليها إذ لا فخامة إلا منهم ولا زعامة إلا عنهم ومن ثم قال عمر للحسن رضي الله تعالى عنهما اعتذارا إليه واعترافا بالحق الواجب عليه والله ما أنبت الشعر على رؤوسنا بعد الله إلا أنتم وقال للحسين وقد قال له وهو صغير انزل عن منبر أبي والله إنه لمنبر أبيك وما أنبت الشعر على رؤوسنا إلا أبوك فرضي الله تعالى عنه إذ أقر المجد في نصابه ورده إلى إهابه وجعلنا ممن أعطى كل ذي حق ما تستحقه مرتبته وتستدعيه منقبته إلى أن قال صلّى الله تعالى وسلم عليه وعلى آله المطهرين به [من](٨) من كل دنس وعيب الآمنين بباهر جاهه من كل ريب الوارد فيهم ان فاطمة أحصنت فرجها فحرمها الله

__________________

(١) في أ [خطبته].

(٢) في ب [خلوصه].

(٣) في ب [قدركم].

(٤) في ب [العظيم].

(٥) في ب [المخصوص].

(*) سقط من أ.

(٦) في ب [اللفوف].

(٧) سقط من ب.

١٠٢

وذريتها على النار (١) لكن لا ينبغي للشريف أن يقع منه بذلك اغترار فقد قال محمد الجواد وأبوه علي الرضي وجد جده زين العابدين وهؤلاء من أكابر أهل البيت الطاهرين المطهرين إن ذلك الحديث خاص بأولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها من غير واسطة وكأنهم نظروا لما في حديث آخر مع عدم النظر لتلك الرابطة وهو «يا فاطمة بنت محمد ويا صفية بنت عبد المطلب ويا عباس عم رسول الله صلّى الله وسلم عليه يا بني هاشم يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله ، قوا أنفسكم من [النار](٢) لا أغني عنكم من الله شيئا» (٣) [وفيه ما فيه](٤) إذ فاطمة رضي الله تعالى عنها مذكورة في الحديثين فتعين أن الأول فيه النظر لمظهر الفضل والجمال والثاني فيه النظر لمظهر العدل والجلال وقال [في الفتاوى](٥) المتفرقة ولا يغض عن ذات الشريف بل عن الوصف المذموم مع اعتقاد تطهيره ولا يقع في حقه فقد قيل مثل الشريف إذا أقيم عليه الحد الشرعي مثل ابن أمير تلوثت قدماه بقذر فغسله عن أجل خدم أبيه وما على من رأى سمّا أن يطرحه ولا يتحساه وقال الشيخ الأكبر في الباب التاسع والعشرين من الفتوحات ما معناه. وترى ما يقع من بعضهم من المظالم كأخذ المال والقتل ونحو ذلك من الأمور السماوية كالموت والغرق ولا تقع في حق أحد منهم تنبيه كثيرا ما تسول للإنسان نفسه محبة أهل البيت النبوي فيعتقد صدق الدعوى ومن ناقش نفسه في ذلك تجلت شموسه وانجلت عروسه

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٥٢. وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وأورده الهيثمي في المجمع ٩ / ٢٠٥ وعزاه للطبراني والبزار بنحوه ، وقال وفيه عمرو بن عتاب وقيل ابن غياث وهو ضعيف.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه البخاري في التفسير ٨ / ٣٦٠ الحديث (٤٧٧١). وأخرجه مسلم في الإيمان ١ / ١٩٢ الحديث ٣٥٠ (٢٠٥). وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ٦ / ٢٠٩ الحديث ٢٥٥٩٠. والبيهقي في الكبرى ٦ / ٤٥٩ الحديث ١٢٦٤٩. والبغوي في شرح السنة ١٣ / ٣٢٨ الحديث ٣٧٤٣.

والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولا أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع وأن لا يأخذه القريب للقريب من العطف والرأفة فيما بينهم في الدعوة والتخويف ، فلذلك نص له على إنذارهم. وفي الحديث فوائد منها : جواز تكفية الكافر وفيه خلاف بين العلماء قال الحافظ : كذا قيل وفي إطلاقه نظر ، لأن الذي منع من ذلك : إنما منع منه حيث يكون السياق يشعر بتعظيمه بخلاف ما إذا كان ذلك لشهرته بما دون غيرها كما في هذا أو للإشارة إلى ما يؤول أمره إليه من ذهب جهنم. ويحتمل أن يكون ترك ذكره باسمه لقبح اسمه لأن اسمه كان عبد العزي. قال الحافظ : ويمكن جواب آخر وهو أن التكنية لا تدل بمجردها على التعظيم بل قد يكون الاسم أشرف من الكنية ولهذا ذكر الله الأنبياء بأسمائهم دون كناهم. انظر فتح الباري (٨ / ٣٦٢).

(٤) سقط من ب.

(٥) غير مقروء في أ.

١٠٣

وإذا طلع الصباح فلا حاجة إلى المصباح قال بعضهم إذا رأيت المبتلي من أهل البيت ورأيت في نفسك الرحمة له والرأفة به وعزمت على مساعدته على الزمان من غير استنكاف أحواله الغير المحتملة فذلك دليل المحبة وأما مراعاة الشريف إذا كانت له حاجة تقضيها وملاحة ترتضيها فالحكم يومئذ بدور العلة.

وكل يرى طرق الضلالة والهدى

ولكن طبع النفس للنفس قائدا

ومن محاسن المدينة تعدد [الحكام](١) بها وفيه لطف إلهي بالرعية وذلك لأنه إذا حدث بها أمر لا يقوم له ساق إلا باتفاق آرائهم وفيه سر الإجماع البعيد من الخطا في طريق الاجتهاد.

وما أوقع ما [قال](٢) «تخالفت الأهواء (٣) والحق واحد» «وكل إلى رأي من القول راجع وهذا اختلاف جر للناس راحة» كما اختلفت في الراحتين الأصابع ومن محاسنها بل من محاسن الدهر التفرقة السلطانية وهي الحنطة (٤) الواصلة من أوقاف مصر المحروسة فإنها تجمع في الوكالة السلطانية وتجتمع لها الكتبة مع القاضي وشيخ الحرم النبوي وتفرق على أكثر أهل المدينة والمجاورين وغيرهم بمقتضى [الدفاتر](٥) وكانت تفرق قبل هذه السنين على رأس كل شهر لكل شخص حصة ومقدارها ثلاثة أمداد مدنية وهي مقدار القوت الكافي للإنسان في الشهر ثم آل الأمر إلى أن صار يكتب للرجل الواحد المنفرد نحو الستين حصة بالوجاهة وغيرها ومن ولد له من ضعفاء المدينة لا سبيل إلى كتابة اسمه ولا إلى اثبات رسمه وبموجب هذه الحركة تغيرت هاتيك البركة ، وكان يقال :

فلا تطلبن من عند يوم وليلة

خلاف الذي مرت به السنوات

وها نحن نطلب ما مرت به تلك السنون ، فتجده منظومّا في سلك ما لا يكون وكانت جملة الأسماء أولا تناهز ستة آلاف فتجاوزت وإن خلا أكثرها عن المسميات عشرين ألفّا ، والله يضاعف لمن يشاء وساعد [ذلك](٦) عدم الوصول الحبوب من مصر المحروسة بحيث كانت التفرقة في جميع سنة سبع وأربعين وألف نصف حصة وانقطع الخير.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) غير مقروء من أ.

(٣) في ب [الآراء].

(٤) ثبت في أ [الحنطة السلطانية] والصواب حذف السلطانية.

(٥) في ب [تطاترت].

(٦) سقط من ب.

١٠٤

ولله در القائل :

نحن قسمنا الرزق بين الورى

فأدب النفس ولا تعترض

وسلم الأمر لأحكامنا

فكل عبد رزقه قد فرض

ومن محاسن المدينة :

منهل السوق ، وهو المقابل للمدرسة الزمنية في الرحبة التي عند باب السلام فإنه يستقي منه أكثر أهل المدينة السنية والذي ساقها إلى ذلك الموضع الحسين بن أبي الهيجاء في حدود الستين وخمسمائة وجعل لها درجّا متسعّا وقيل أسامة من أمر الشام ولعله جددها وتعرف بالعين الزرقا لأن مروان الأزرق بن الحكم هو الذي أجراها وهو وال على المدينة المنورة ، وأصلها من غربي قباء من ثلاثة آبار بئر النبي صلّى الله تعالى وسلم عليه وبئر الرباط والتي في بئر عدن وهي تجري إلى المصلى وعليها فيه قبة يخرج منها الماء في وجهين شرقي وشمالي ، وعلى ذكر الزرقا قال في الوفا وتسميه به لأن مروان الذي أجراها كان أزرق العين وكان القياس أن يقال عين الأزرق ، وقال القيراطي شعر :

ما لعين سودا مني نصت

بعد حبي لعينها الزرقا

أي زرقا بان لي من سقاها

ما اختفى نوره عن الزرقا

فما أحلى ما قال :

مدينة خير الخلق تحلو لناظري

فلا تعذروني إن فتنت بها عشقا

يقولون من زرق العيون شامة

وعندي أن اليمن في عينها الزرقا

والمناهل اليوم بالمدينة المنورة منهلان بالمصلى ومنهلان بالذكي ومنهلان بالقلعة ومنهلان بالساحة ومنهل بالحارة ومنهل بالثنية والمنهل المذكور وكلها تعرف بالعيون وكلها من عين الأزرق والعين التي أجراها محمد باشا وقد أحسن عمارتها آل عثمان وجعلوا لها خدامّا وجعلوا لهم أرزاقا على ذلك فهي في الحقيقة من حسنات آل عثمان خلد الله تعالى دولتهم إذ لولاهم لاندرست آثارها. فائدة قال الواقدي كان بالمدينة على زمن معاوية صوافي كثيرة وكان يجد بالمدينة المنورة وأعراضها آيه وخمسون ألف وسق ويحصد مائة ألف وسق من الحنطة كذا في الخلاصة (١) ومن محاسن ما اشتمل عليه السنور حمام الوزير محمد باشا فإن فيها نفعا عاما ورحمة من الله تعالى وأنعامّا وهي حسنة الوضع والبناء المحكم مشيدة الأروقة القائمة على النمط الأقوم.

__________________

(١) غير مقروء في أ.

١٠٥

قد حسنت من جميع نواحيها

ولا قا إن يلاق فيها (١)

يا حسن حماننا وبهجتها

مراى من السحر كله حسن

ماء ونار حواهما كنف

كالقلب فيه السرور والحزن

أو [كما قال] :

إن حمامنا التي نحن فيها

أي ماء لها وأية نار

قد نزلنا بها على ابن معين

وروينا عنه صحيح البخارى

أنشد لنفسه بن رشيق :

ولم أدخل الحمام بعد فراقهم

لأجل نعيم قد رضيت بيوس

ولكن لتجري [عبرتي](٢) مطمئنة

فأبكي ولا يدري بذاك جليس

وأنشد في تعجيل الخروج :

خذ من الحمام واخرج

قبل أن يأخذ منكا

حدثن عنه وإلا

حدث الحمام عنكا

يروى عن الإمام جعفر الصادق ، رضي الله تعالى عنه أنه قال ، إذا دخلت الحمام فقل عند نزع الثياب اللهم انزع عني ربقة النفاق وثبتني على الإيمان إذا دخلت البيت الأول فقل اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وأذاه اللهم اذهب عني الرجس وطهر جسدي وقلبي ثم ضع من الماء الحار على هامتك ورجليك وخذ منه جرعة إن أمكنك [فإنه](٣) ينقي المثانة ولا يشرب فيه الماء البارد ولا الفقاع فإنه [](٤) [المعدة ولا تغسل بالماء البارد](٥) ولكن صبه على قدميك وإذا جرحت فإنه يذهب الشقيقة ولا تدخلها على الريق ولا تسلق فيها فإنه يذيب شحم الكلا وتعمم عند خروجك شتاء وصيفا وعنه رضي‌الله‌عنه يوم الحمام يوم الأربعاء وعن علي كرم الله وجهه يوم الحمام يوم الخميس ويوم الجمعة يوم الطيب. لطيفة. خرج الحسن بن علي رضي الله [تعالى](٦) عنهما من الحمام فقال له رجل ، طاب استحمامك ، فقال له يا لكع وما تصنع بالاست هاهنا قال فطاب حمامك قال إذا طاب الحمام فما راحة البدن قال فطاب حميمك قال ويحك أما علمت أن الحميم العرق قال فكيف أقول ، قال قل طاب ما طهر

__________________

(١) في ب [ولاق أن يقال].

(٢) في أ [عبري].

(٣) في أ [سخانه].

(٤) غير ظاهرة في أوب.

(٥) سقط من ب.

(٦) سقط من ب.

١٠٦

منك ، وطهر ما طاب منك وعن الصادق إذا قيل لك طاب حمامك فقل أنعم الله بالك كذا في مكارم الأخلاق.

ومن محاسن المدينة أنه لا يتمرد فيها أحد ويتجاوز الحد إلا عجل الله الانتقام منه وأخذ من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر وكان يقال إن من أسماء المدينة ، الفضاحة وذلك منه لا يكون بها شيء إلا وتحدث به الألسنة وكان يقال ما أضمرته الليالي أظهرته الأيام وما [أسترته](١) السريرة [أبدته](٢) [الأسرة](٣) للآنام وكيف يفوت هذا الناس شيء وما في القلب يبديه (٤) العيون وكان يقال :

اصنع جميلا ما استطعت فإنه

لا بد أن يتحدث السمار

تنبيه :

قال بعضهم : ينبغي لكل عاقل أن لا يقع في حق أخيه المؤمن ، ولو وقف له على فاحشة إلا بحق الشرع ولا يعيره بها فإنه لا يدري ما يفعل به وقد قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور : ١٩] وقال عليه‌السلام من عير مؤمنّا بفاحشة كان على الله أن يوقعه في مثلها (٥) أو كما قال :

هي المقادير فلمني أو فذر

إن كنت اخطأت فما اخطأ القدر

قال الإمام [الغزالي](٦) في فضل بيان علاج الغضب من كتاب الاحياء (٧) روى أبا ذر قال لرجل في خصومة بينهما يا ابن الحمرا فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله تعالى وسلم عليه فقال يا أبا ذر بلغني أنك اليوم عيرت رجلا (٨) بأمه (٩) فقال نعم قال فانطلق

__________________

(١) في ب [أسرّته].

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب [ألسنة].

(٤) في ب [تبديه].

(٥) أخرجه الترمذي في صفة القيامة ٤ / ٦٦١ الحديث ٢٥٠٥. قال أبو عيسى : هذا حديث غريب.

وذكره البغوي في شرح السنة ١٣ / ١٤٠ ما بعد الحديث ٣٥٦٢.

(٦) سقط من ب.

(*) انظر الأحياء (٣ / ١٧٠ ـ ١٧١).

(٧) قال الحافظ : وقيل إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن مولى أبي بكر. أنظر فتح الباري (١٨١١).

(٨) قال الحافظ : في السياق ، دلالة على جواز تعديه [عيرته] بالباء وقد أنكره ابن قتيبة وتبعه بعضهم وأثبت آخرون انها لغة. انظر فتح الباري (١ / ١٠٩).

١٠٧

فارضي صاحبك فانطلق أبو ذر ليرضي صاحبه فسبقه الرجل فسلم عليه فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله تعالى وسلم عليه فقال يا أبا ذر ارفع رأسك فانظر ثم اعلم بأنك لست بأفضل من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بعمل ثم قال إذا غضبت فإن كنت قائما فاقعد وإن كنت قاعدّا فاتكئ وإن كنت متكئّا فاضطجع (١).

وعنه عليه‌السلام العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحرى الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه. إذا تلتمس للناس عيبّا تجد لهم عيوبّا ولكن الذي فيك أكثر يحكى عن بعض السلف ، أنه [راى] بمكة ما لا يرتضي من سنائها ، فأنكره ، واضطرب فيه فكره فلما كان الليل ، راى قائلا (ينشد هذه الأبيات) :

إذا نحن شيئّا لا يدبر ملكنا

سوانا ولم نحتج مشيرا مدبرا

فقل للذي قد رام ما لا نريده

وأتعبت نفسا بالذي يتعذر

لعمرك ما التصريف إلا لواحد

ولو شاء لم يظهر بمكة منكر

وفي كتاب المقاصد الحسنة ، للحافظ السخاوي «بسفهاء مكة حشو الجنة» حديث تنازع فيه عالمان في الحرم فأصبح الطاعن فيه وقد اعوج أنفه (٢).

ورأى قائلا يقول له سفهاء مكة من أهل الجنة ثلاثّا فاعترف بالكلام فيما لا يعنيه ويقال : إنه ابن أبي الصيف اليمني وأنه كان يقول إن ثبت فإنما هو إسفاء مكة. تصحف على الراوي ومعناه المحزون على [تقصيرهم](٣) انتهى بمعناه والكلام في مثل ذلك كثير وفي الجامع الصغير المدينة خير من مكة وفي المواهب بسنده المدينة أفضل من مكة وعن مالك رحمه‌الله تعالى ما على وجه الأرض قوم خير من أهل المدينة ، وإذا كانت المدينة الشريفة بهذا المكان من الفضيلة والشرف فلا غرو [أن](٤) يطيب بها من حلها فمن أهلته الحضرة الشريفة للحلول بها والتشرف بتربها فكيف بأشرافها وأبناءها الذين هم غراسها ولله در القائل.

كفى شرفّا أني مضاف إليكم

وإني بكم أدعى وأرعى وأعرف

إذا بملوك الأرض قوم تشرفوا

على نسبه منكم من الطيب أعرف

وقال آخر :

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان ١ / ١٠٦ الحديث ٣٠. وأخرجه مسلم في الإيمان ٣ / ١٢٨٣ الحديث ٤٠ (١٦٦١).

(٢) انظر / المقاصد الحسنة للسخاوي (ص / ٢٥١). الحديث ٥٦٤.

(٣) في ب [المحزونون].

(٤) سقط من ب.

١٠٨

إذا لم تطب في طيبة عند طيب

به طيبة طابت فأين أتطيب

وإذا لم يجب منها ربنا (١) الدعاء

ففي أي حي للدعاء يجيب

من محاسن المدينة :

أنها عون بغريبها ، حتى على أهلها وفيه سر لا يثار وأنه لا يرد إليها أحد من الآفاق ويتأملها إلا ويختارها حتى على وطنه بل وينشد بلسان الحال في هذا المجال :

رأيت بها ما يملأ العين قرة

ويسلي عن الأوطان كل غريب

رأيت مكتوبّا على اسطوانة في المسجد الأقصى سنة اثنين وأربعين وألف.

إذا كنت في القدس الشريف تشوقت

إلى مكة نفسي بحج وعمرة

ولو كنت فيها قالت النفس طيبة

أعيش بها في كل روح النبوة

ولو كنت فيها زاد للأهل شوقها

فمن لي بأهلي والبلاد الشريفة

وقال آخر :

تطالبني نفسي مقامّا بطيبة

فأذكر معفي أهلها فاقصره

حياء من التقصير في حق بعضهم

وإرضاء كل منهم متعذر

ويغلبني شوقي إليها فأنثني

أقدم رجلي تارة وأؤخر

أنشد لنفسه قاضي القضاة تاج الدين السبكي :

إذا كنت جار المصطفى ونزيله

فيقبح بي شوقي لأهلي وأوطاني

أأرحل عن دار به (٢) الخير كله

وفيها هوى القاصي وأمنية الداني

حلفت يمينّا إنها خير منزل

لأكرم نزال وأشرف جيران

ولست بناس أهل ودي وإنما

إذا فزت بالباقي فمالي والفاني (٣)

فيا رب بلغ من أحب وصولها

ليزداد إيمانّا كما زاد إيماني

وأنشد لنفسه ابن جابر الأندلسي :

هناؤكم يا أهل طيبة قد حفا

بالقرب من خير الورى حزتم السبقا

فلا يتحرك ساكن منكم إلى

سواها وإن جار الزمان وإن شقا

فكم ملك رام الوصول لمثل ما

وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلفا (٤)

فبشراكم نلتم عناية ربكم

فها أنتم في بحر نعمه غرقا

__________________

(١) في ب [من جهاد].

(٢) في ب [بها].

(٣) في ب [بالفاني].

(٤) في ب [الخفقا].

١٠٩

ترون رسول الله في كل ساعة

ومن يره فهو السعيد به حقا

متى جئتم لا يغلق الباب دونكم

وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا

فيسمع شكواكم ويكشف ضركم

ولا يمنع (١) الإحسان حرّا ولا رقا

[بطيبة مثواكم وأكرم مرسل

يلاحظكم فالدهر يجري لكم وفقا](٢)

وكم نعمة لله فيها عليكم

فشكرا وفضل الله بالشكر يستبقا

أمنتم من الدجال فيها فحولكم

ملائكة يحمون من دونها الطرقا

وكذاك من الطاعون أنتم بمأمن

فوجه الليالي لا يزال لكم طلقا

فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم

وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا

حياة وموتّا تحت رحماه أنتم

وحشرّا فستر الجاه فوقكم ملقا

فيا راحلا عنها لدنيا يريدها

أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى

وتخرج عن حوز النبي وحرزه

إلى غيره تسفيه (٣) مثلك قد حقا

لئن سرت (٤) تبغي من كريم إعانة

فأكرم من خير البرية ما تلقا

هو الرزق مقسوم وليس بزائد

ولو سرت حتى كدت أن تخرق الأفقا

فكم قاعد قد وسع الله رزقه

ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا

فعش في حمى خير الأنام ومت به

إذا كنت في الدارين تطلب أن ترقا

لقد أسعد الرحمن جار محمد

ومن جار في ترحاله فهو الأشقا

قصيدة غزلية نبوية :

سقى منازل علوي (٥) كل غيداق

من السحاب ملت الودق (٦) دفاق

وزارها كل يوم لا يبارحه

من النسيم سحيرّا (٧) كل خفاق (٨)

فكم وصلت بها الغيد الحسان وقد

حسن الرحى وصل مشتاق لمشتاق

غيدا يشابهن غزلان الصريم إذا

خطرت يومّا بإلحاظ وإحداق

من كل سحارة الالحاظ فاتنة الأل

فاظ ممشوقة كالغصن معناق (٩)

ورب كحلاء (١٠) تعمى (١١) كلما رشقت

قلبي بسهم من الإلحاظ رشاق

__________________

(١) في ب [يسمع].

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب [لتسفيه].

(٤) في ب [لئن نثرت].

(٥) في ب [علوا].

(٦) في ب [الورق].

(٧) في ب [سحرا].

(٨) في ب [حقاق].

(٩) في ب [مضاق].

(١٠) في ب [كحلا].

(*) صمى الصيد يصمى مات مكانه والأمر فلانا حل به. انظر القاموس المحيط ٤ / ٣٥٣.

١١٠

هيفاء نطق منها (١) الحلى إن خطرت

يومّا يصمت منها الحجل في الساق

قد شغفني سقم من سقم مقلتها

وفي مجاجتها (٢) بريئ وترياق

خود وهبت لها قلبي (٣) وما سمحت

منها بطيف لذي الظلماء طراق

ولم ترق لصب شفة (٤) سقم

في حبها موثق من غير اطلاق

قد خانت العهد مني وهي عالمة

أني على عهدها ما خنت ميثاقي

وأعرضت مذ رأت شيبي ولاح لها

خفوق (٥) رأيه إقتاري واملاقي

ورب قائلة كم أنت ذو غصن

ذاو بلا ثمر فيه وأوراق

فقلت خلي (٦) ملامي واقصري عذلي

فلست متهما (٧) في الرزق خلاق

ومن سقى الناس كأس البغى مسرعة (٨)

فسوف يترعها المسقى للساق

إن القناعة ثوب من تجليه (٩)

لم يخش ما عاش من فقر وإملاق

ومن ألم بطه وهو معتمد

على نداه سما من فوق آفاق

ذاك الذي عجزت عن مدحه فكري

وحبه لم يزل في مهجتي باقي

عليه صلّى إله العرش ما طلعت

شموس إقباله من أفق اشراق

ومن نبويات الشيخ عبد الرحمن البرعي :

عاهدوا الربع ولوعا (١٠) وغراما

فوفوا للربع بالعهد ذماما

كلما مروا على إطلاله

سفحوا الدمع بذي سفح سجاما

نزلوا بالشعب من شرقيه

مستظلين أراكا وبشاما (١١)

ينشر الطل عليهم لؤلؤا

يفخر اللؤلؤ حسنّا وانتظاما

إذا هبت صبا نجد لهم

أفهمتهم عن ربا نجد كلاما

يا رفيقي بنواحي رامة

غنيني بالابرق لفردق راما

والإيثلات المظلة (١٢) بها

أيها الإيل سقين الغماما

كم بدور في حدور المنحنى

يستعير البدر منهن التماما

__________________

(١) في ب [ينطق عنها].

(٢) في ب [محاجنها].

(٣) سقط من أ.

(٤) في أ [سنة].

(٥) في ب [حقوق].

(٦) في ب [قلى].

(٧) في ب [منها].

(٨) في ب [مترعة].

(٩) في ب [تجلبينه].

(١٠) في ب [ولو علو].

(١١) في ب [وبستاما].

(١٢) في ب [ولإيلاف المطلاني].

١١١

حبهم حل سويد مهجتي

وفادى بعد ما فت (١) العظاما

أيها اللائم أذني لا (٢) تعي

زخرف القول فدع عنك الملاما

أولع الحب بلحمي ودمي

فعلام اللوم في الحب علاما

والفتى (٣) العذري (٤) لا ينفك عن

عهد الحب ولو ذاق الحماما

ليت شعري هل أرى شعبهم

بعد بعدي وترى عيني الخياما

ما عليكم سادتي من حرج

لو تدرون لبالينا القداما

إن تناءت دارنا عن داركم

فاذكروا العهد وزورونا مناما

هيجتني نسمة نجدية

تركت قلبي عميدّا مستهاما

كلما ناحت حمامات الحمى

في أراك الشعب ناوحت الحماما

وأحبابي (٥) الأولى عاهدتهم

علقوا عقلي بمن أهوى هياما

عرضوا السكر علينا مرة

فانتهى الكأس وما فضوا الختاما

تملت أرواحنا من ذكرهم

لم نر الراح ولا ذقنا المداما

يا ندامي فؤادي عندكم

ما فعلتم بفؤادي يا نداما

همت فاستعذبت (٦) تعذيبي بعدكم

فاجرحوا قلبي ولا تخشوا آثاما

أنتم من دمي المسفوح في

أوسع الحل فلو كان حراما

فاصرموا حبلي وإن شئتم صلوا

ما ألذ الحب وصلا وانصراما

أنا راض بالذي ترضونه

لكم المنة عفوّا وانتقاما

كنت بالشعب وكنتم جيرتي

لو صفا لي ذلك العيش وداما

قسمّا بالبيت والركن الذي

طاب تقبيلا ومسحّا واستلاما

إن في طيبة قوم جارهم

في محل النجم يعلو أن يساما

روضة الجنة في أوطانهم

وترى آثارهم يبرئ الجذاما

كل من لم ير فرضّا حبهم

فهو في النار وإن صلى وصاما

هم نجوم أشرقت (٧) الكون بهم

بعد ما كانت نواحيه ظلاما

فتحوا الأرض بعليا بأسهم

واستباحوا يمنا منها وشاما

__________________

(*) الانفثاث الانكسار. انظر القاموس المحيط ١ / ١٧١.

(١) في ب [وإني].

(٢) في أ [الفيء].

(٣) في ب [المعزر].

(٤) في ب [احيبابي].

(٥) في ب [فاستعديت].

(٦) في ب [وأشرق].

١١٢

فيهم الشمس الذي أنواره

لم يطق من بعده الحق انكتاما

الأعز المنتقى من هاشم

طيب العنصر يسمو أن يساما

المداني قاب قوسين الذي

كان للأملاك والرسل إماما

ارتضاه الله نورّا للهدى

وانتقاه لدم (١) الأعداء حساما

خصه منه بدين قسيم

نسخ الأديان ندبا والتزاما

وكتاب أحكمت آياته

عصمه الله لمن رام اعتصاما

[يهتدي كل من استهدى به](٢)

سبل الرشد ويعمى من تعاما

فرض العمرة [والجج لنا](٣)

وصلاة وزكاة وصياما

يا رسول الله يا ذا الفضل يا

رحمة عم بها الله الأناما

يا أبا القاسم يا أحمد يا

بهجة المحشر جاها ومقاما

يا وجيه الوجه في الدارين يا

شافع الخلق إذا البداوا خصاما

جد على عبد الرحيم المتلجئ

لحمى عزك يا غوث اليتامى

وأقلني من (٤) عترتي يا سيدي

واكتساب الذنب من خمسين عاما

ورفاقي الكل قم بي وبهم

في الملمات إذا احتجنا القياما

نحن في روض ثناكم نجتني

ثمرات المدح نثرّا ونظاما

لو سما المجد لأقصى غايته

كنت للمجد سناء وسناما

يدك العليا على كل يد

زادك الله علوّا واحتراما

وكسى روحك منه رحمة

وصلاة ترتضيها وسلاما

تقتضي حقك مني دائما

وتعم الآل والصحب الكراما

لطيفة :

قال القاضي أبو المحاسن يوسف نجم الدين الزرندي الأنصاري الحاكم بالمدينة الشريفة والناظر في أمر الحسبة خادم السنة والحديث وذلك في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة : من طريق المحاضرة وطريق المذاكرة إن الحرمين الشريفين اجتمعا في ميدان الفخر ومن دونهما حجازه وليس معهما لغيرهما في هذا المقام على الحقيقة مجاز فتسنم حرم المدينة شرفّا من الشرف عال ثم قال الحمد لله الذي فضلني على سائر البلاد وجمع لي بين ظريف الفضل والتلاد وشرفني بحلول خير العباد وأشرف كل حاضر وباد

__________________

(١) في ب [وانتضاه بدم].

(٢) غير مقروء في أ.

(٣) غير ظاهر في أ.

(٤) سقط من أ.

١١٣

وألبسني مفاخر الفاخرة وأعلى مقامي في الدنيا والآخرة وجعل تربتي شفاء من السقام وغباري دواء من الجذام فلي الشرف على كل اقليم ، والفضل في الحديث والقديم وبإسمي ينوه على كل خطيب وعرف تربي أطيب من كل طيب فالمقام بي في المكاره جنة وفي روضة من رياض الجنة وحسبي فخرّا بالمنبر الذي علت مراقيه وحاز جميع الشرف براقيه فإلى مسجده تشد الرحال من كل قرية وخلاه والصلاة فيه كما قد علم بألف صلاة فلي السناء الباذخ والشرف الذي هو بأرض المسجد راسخ فلا غرو إن سبقت في هذا المضمار فلحق الخيل بالركض المغار واقسم من غاباتي بالأسود ومن لاباتي بالحرار السود ومن أزهار رياضي برش البرود ومن أغصان نخيلي وأشجاري بكل أملود ، ومن رماح بساتيني بالعالية ومن سواقي جناني بكل ساقية جارية وجارية ساقية لكمالي (١) فوق كل كمال وجمالي أبهى من كل جمال وحسبي من الشرف الذي لا يجد بالطول والعرض إن ما ضم أعضاءه الشريفة بالإجماع أفضل الأرض والفرق ما بين الدرهم والدينار في الصرف كالناس ألف منهم بواحد وواحد كألف.

سقى الله يثرب من بلدة

وطاف بها مستفيض السحاب

بلاد تسامت بمن حلها

وطابت وفيها الدعاء يستجاب

وقال آخر :

رعن الله طيبة من بلدة

وساق السحاب لأعتابها

فقد جمعت كل فضل جز

يل ولا يدخل الفضل بابها

وقال :

إذا اهتزت مناكب ذي افتخار

بقرب مليكه وعلو داره

فإني لا أزال أهز عطفي

بجيرة أحمد حامي جواره

وبالجملة فإن المدينة المنورة وإن كانت كثيرة اللآواء (٢) فإن تحت ذلك فوائد يطول شرحها ومتاجر يتضاعف ربحها وكيف لا يحتمل المشتقات من أحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسموات وينال ما وعد من جزيل المثوبات وجليل الهبات وانجاز وعده الصادق له بشفاعته وشهادته وبلوغ قصده في المحيا والممات وكم عسى تكون شدة المدينة ولأواها وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها لو تأملت يا هذا لوجدت في البلاد ما هو في الشدة وشظف العيش مثلها بل أشق وأهلها لا يختارون عليها وهم على ذلك الحال بل وينشدون في ذلك قول من قال :

__________________

(١) في ب [كلمالي].

(٢) في ب [اللاداء].

١١٤

بلاد ألفناها على كل حالة

وقد يؤلف الذي ليس بالحسن

وتستحسن الأرض التي لا هواها

ولا ماؤها عذب ولكنها وطن

ورب امرئ ألقى هواه على أمر

فلم ير منه غير ما يورث الحزن

وربما يوجد فيهم القادر على الانتقال فلا ينتقل والقوي على (١) الرحلة فلا يرتحل بل يؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على التحول والانتقال.

فيا وطني إن فاتني بك سابق

من الدهر فلينعم بساكنك البال

فإن أستطع في الحشر إنك زائر

وهيهات لي يوم القيامة إشغال

على أن المدينة مع شظف العيش بها في غالب الأحيان قد وسع الله تعالى فيها على بعض السكان وكثيرّا من استوطنها حسن فيها حاله وتنعم بها باله وكان من قبل في زوايا الخمول كثير الفاقة قليل المحصول فإن منّ الله تعالى على المرء يمثل ذلك هنالك وهو عنوان السعادة وترجمان الشهادة وإلا فمن وفقه الله تعالى صبره فيها ولو على أحر من الجمر وأمر من القهر فيستجلي مرارة غصتها ليستجلي عروس منصتها وإن كان يلقى يسير من لآوائها ليوقى كثيرا من مصائب الدنيا وبلوائها فإن غاية المضرة المسرة والمبرة وقد روى عنه عليه‌السلام أنه قال من قضى نهمته في الدنيا حيل بينه وبين شهوته في الآخرة (٢). وقال ينادى منادي دعوا الدنيا لأهلها من أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر (٣) ، وقال من أصبح وهمه الدنيا فليس من الله في شيء ومن لم [يهتم](٤) بأمر المسلمين فليس منهم (٥). وعنه عليه‌السلام اللهم من أحبني فأقل ماله وأمت ولده (٦) وعن جعفر الصادق انا أهل البيت من أحبنا فليتعد للبلاء جلبابا وما أحسن ما قال :

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) رواه الطبراني في الأوسط ٨ / ٤٥ الحديث ٧٩١٢. وأورده الهيثمي في المجمع ١٠ / ٢٥١ وقال : فيه إسماعيل بن عمرو البجلي وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور وبقية رجاله رجال الصحيح. وأورده المنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ٩٧ برقم ١٤.

(٣) أورده المنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ٩٦ الحديث ٩ ، وقال رواه البزار وقال لا يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من هذا الوجه.

(٤) سقط من ب.

(٥) عزاه السيوطي في الدر المنثور للحاكم والبيهقي ٣ / ٢٣٨.

(*) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٥١ وعزاه للطبراني وقال فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك.

(٦) لم أجده.

١١٥

إذا كان شيء لا يساوي جميعه

جناح بعوض عند من أنت عبده

واشغل (١) جزء منه كلك والذي

يكون على ذا الجلال قدرك عنده

فطوبى لمن (٢) حل بهذه العالم والديار

وشملته أنوار هذه المعاهد والآثار

وقضى فيها ما بقي من الأنفاس والأعمار فيما بين المسجد المؤسس على التقوى والروضة التي هي من رياض جنة المأوى :

ومن يعش هكذا فقد جعلت

وقفا عليه سوابغ النعم

ومن فاته العين هدى شوقه الأثر

ومن لم يظفر بلذة المشاهدة لم يعدم

لذاذة الخبر (٣) أنشد لنفسه أبو عبد الله محمد (٤) الفيومي :

إني إذا برحت دار المصطفى

وازداد شوقي نحوها وحنيني

طالعت في تاريخها السامي لكي

أمشي على آثاره بعيوني

اللهم اجعل لنا بها قرارّا ورزقّا حسنّا ولا تحرمنا شفاعة ساكنها الذي شمل الكائنات نوافل ومننا وصلى وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين آمين.

أنشد الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض :

تيقنت أن لا منزلا بعد طيبة

يطيب وان لا عزة بعد عزة

وما اختص وقت دون وقت بطيبة

بها كل أوقاتي مواسم لذتي

ولله در القائل :

ما ذكر الطير للأوطان أوطارا

إلا وشاهدت قلبي هام أوطارا

كلا ولا لمعت بالسفح بارقة

إلا وسح سحاب الدمع مدرارا

ولا سرت نسمة من طيبة سحرا

إلا وأصبح نشر الكون معطارا

ولا تذكرت أيامي بروضتها

إلا وأجريت في الخدين أنهارا

يا ساكني طيبة من (٥) بعد بعدكم

لم يألف القلب لا ربعّا ولا دارا

ولا رأت مقلتي من بعد طلعتكم

بدور ثم ولا شمسّا ولا أقمارا

فكلما رمت بالأفكار رؤيتكم

تصورت جارحات (٦) القلب أبصارا

ولست أعجب من غدر الزمان بنا

والدهر ما زال بالإنسان غدارا

__________________

(١) في ب [فاسمك].

(٢) في ب [بمن].

(٣) في ب [الحير].

(٤) سقط من ب.

(٥) سقط من ب.

(٦) في ب [خارجات].

١١٦

لو أن ما بي من الأشواق نحوكم

أضحى على الفلك الدوار ما دارا

كم أرقب القرب والركبان أسألها

لعل أسمع في الأخبار اخبارا

يا سادتي إني من بعد بعدكم

أمسي وأصبح مشتاقّا ومحتارا

وما تغير غير الجسم من سقم

ولا جرى غير دمع قد بكى الجارا

وقال آخر :

يا أهل طيبة (١) لا زالت شمائلكم

كالروض باكره سار من الديم

أنفاسكم والنفوس الغر لا برحت

كالزهر والزهر في لطف وفي كرم

ما أمكم زائر إلا وآب بما

يربوا على فكره من كل مغتتم

فأنتم الطاهرون الطيبون ومن

لا ريب في مجدهم من سالف القدم

لا عيب فيكم سوى أن التنزيل بكم

يسلو عن الأهل والأوطان والحشم (٢)

جميلكم جل أن يخص وفضلكم

في الناس أشهر من نار على علم

كفاكم بجوار المصطفى شرفّا

وجار ذي الجاه أنى كان لم يضم

لو لاكم خير الله الكرام لما

كنتم له جيرة من سالف الأمم

والله جل اسمه بالقرب خولكم

وزادكم بسطة في العلم والهمم

لا زلتم وأمان الله يكلؤكم

فما يحاذر في حرز من اللمم

وكيف أخشى الرزايا إن تلم بكم

وأنتم في حمى المختار في حرم

عليه صلى إله العرش ما سجعت

ورق الحمائم بين الضال والسلم

وإله الطهر أرباب الكمال ومن

وآلاهم وجميع الصحب كلهم

فائدة :

زعم بعضهم أن السر (٣) في ضعف وجدان من في المدينة المنورة وفتور شوقه المطلوب يضاعفه القرب الصوري كما هو شأنه. وإن قيل :

وما أعظم ما يكون الشوق يومّا

إذا دنت الخيام من الخيام

حتى أن من ذهب إلى أطراف المدينة ، من بساتينها وحدائقها وجد من نفسه الوحشة وقلة الأمان ولا تطيب نفسه بغيبته أكثر من ثلاثة أيام وكذلك كره بعض العلماء كثرة الزيارة مخافة الوقوع في السآمة والملل فينبغي أن يغيب أحيانّا ليجدد عهود الأشواق ويرجع رجوع المحب المشتاق.

__________________

(١) في ب [يا ساداتي].

(٢) في ب [والخصم].

(٣) سقط من ب.

١١٧

باب في ذكر المصلى والنقا والعقيق المؤذن بطيب اللقا

ورعى الله الأبرق والمصلى

وبان الحي ما شجعت حمامه (١)

فتلك (٢) الصب المعنى

بها الأرواح صارت مستهامه

على عرب بها مني سلام

يكون المسك من قبلي ختامه

المصلى : في الأصل اسم لموضع الصلاة ثم صارت بالغلبة علمّا على مصلى العيد ثم أطلق على سبيل التوسع على ما حوله ، اطلاق اسم الجزء على الكل ومن محاسنه عمارة الأمير علي وهو في غربي المسجد المذكور ، وللمصلى ذكر في الشعر فمن ذلك :

ولي من فقد جيران المصلى

وغرام لا يقر له قرار

فلو خيرت لم أختر سواهم

ومن لي أن يكون الجار

النقا : بالفتح والتخفيف مقصورّا ، ما بين وادي بطحان والمنزلة التي بها السقيا له ذكر في الأشعار العربية والمولدة [فمن ذلك](٣) :

ألا يا سائرّا في قفر عمر

يكابد في السرى وعرّا وسهلا

بلغت نقا المشيب وجرت عنه

وما بعد النقا إلا المصلا

وقالت محاسن الشعراء :

هاتيك يا صاح ربا لسلع

ناشدتك الله تعرج معي

وانزل بنا بين (٤) بيوت النقا

فقد غدت أهله المربع

حين نطيل اليوم وقفّا على

الساكن أو عطفا على الموضع](٥)

وقال الشاب الظريف :

__________________

(١) في ب [ما سجعت حماما].

(٢) في ب [مواطن].

(٣) في ب [في مسلك ذلك].

(٤) سقط من ب.

(٥) سقط من ب.

١١٨

ولقد رأيت برامة بأن النقا

فمنعت طرفي منه أن يتمتعا

ما ذاك من ورع ولكن من رأى

أشباه عطفك حق أن يتورعا

قال البهازير :

ولي فيه قلب بالغرام مقيد

له خبر يرويه طرفي مطلقا

ومن فرط وجدي في الماء وثغره

أعلل قلبي بالعذيب وبالنقا

وقال ابن الحلاوي :

يقولون يحكي البدر في الحسن وجهه

وبدر الدجى عن ذلك الحسن منحط

كما شبهوا غصن النقا بقوامه

وذلك تشبيه عن الحق مشتط

وقال آخر :

قرب الديار يزيد شوق الوآلة

لا سيما إن لاح نور جماله

أو بشر الحادي بأن لاح النقا

وبدت على بعد رؤس جباله

فهناك عليك الصبر من ذي صبوة

وبدى الذي يخفيه من أحواله

وأما بطحان فقال الشرف المناوي في كتاب كشف المناهج هو بضم الباء الموحدة وسكون الطاء المهملة موضع (١) بقرب المدينة كذا (٢) قاله النووي وغيره.

وضبطه ابن الأثير بفتح الباء وقال أكثرهم بضمها ولعله الأصح انتهى وفي القاموس بطحان بالضم أو الصواب الفتح وكسر الطاء موضع بالمدينة.

سقيا لسلع ولساحته

والعيش في أكناف بطحان

أمسيت من شوقي إلى أهلها

أدفع أحزانا (٣) بأحزان

[وأول بطحان الماجشونية وآخره السيح](٤) وعند الحديقة الماجشونية وآخر السيح (٥) حضرة تعرف بتراب الشفاء وقد جربها العلماء وغيرهم للشفاء من الحمى شربا وغسلا لكن الشرب هو الوارد عند البخاري وغيره لما أصابت الحمى بني الحارث قال لهم النبي صلى الله تعالى وسلم عليه «أين أنتم من صهيب قالوا ما نصنع به قال تأخذون

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب [كما].

(٣) في ب [أخرا].

(٤) سقط من ب.

(٥) سقط من أ.

١١٩

من ترابه فتجعلونه في ماء ثم يتفل أحدكم ويقول بسم الله تراب أرضنا بريق بعضنا (١) شفاء لمريضنا بإذن ربنا (٢) [ففعلوا ذلك](٣) فتركتهم الحمى».

تنبيه : السيح بالفتح وسكون المثناة من تحت مصدر ساح يسيح اسم لما حول مساجد الفتح وأما السيح بالضم والنون الساكنة وقيل بضمتين أطم لبني الحارث على ميل من المسجد وهو أدنى العالية سميت به الناحية وبه منزل الصديق رضي الله تعالى عنه بزوجته الأنصارية المنحنى بالضم ثم السكون وفتح الحاء والنون له ذكر في الغزل بأماكن المدينة وهو عند أهلها اليوم يقرب المصلى في القبلة شرقي بطحان وهو الآن منزل عرب الشام عند ذهابهم إلى الحج وأما بعد رجوعهم فمنزلهم شرقي وادي سلع وكان بالمنحنى منازل لأهل الخير حتى قال فيه :

خدور على الخط والمنحنا

بها يغفر الله عمن جنا

__________________

(١) * أخرجه البخاري في الطب ١٠ / ٢١٧ الحديث ٥٧٤٥.* ومسلم في السلام ٤ / ١٧٢٤ الحديث ٥٤ (٢١٩٤).* والبغوي في شرح السّنة ٥ / ٢٤٤ و ٢٢٥ الحديث ١٤١٤.

(٢) * قال الشيخ النووي : معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم وضعها على التراب فعلق به شيء منه ثم مسح به الموضع العليل أو الجريح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح. انظر شرح صحيح مسلم للنووي ١٤ / ١٨٤. قال القرطبي : فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام وأن ذلك كان أمرا فاشيا معلوما بينهم. قال : ووضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية. ثم قال : وزعم بعض علمائنا أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرىء الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها. قال : وقال في الريق : انه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم لا سيما من الصائم الجائع. قال الحافظ : وتعقبه القرطبي أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق. وملازمة ذلك في أوقاته وإلا فالثقة. ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلّق بما ما ليس له بال ولا إثر ، إنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله ، وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك ، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة. وقال البيضاوي : قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ورفع الضرر ، فقد ذكروا انه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها ، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك ، ثم إن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها. وقال التوربشتي : كأن المراد بالتوبة الإشارة إلى قطرة آدم ، والريقة الإشارة إلى النطقة كأنه تضرع بلسان الحال إنك اخترعت الأصل الأول من التراب ثم أبدعته منه من ماء مهين عليك أن تشفى من كانت هذه نشأته.

انظر فتح الباري (١٠ / ٢١٩). قال الشيخ النووي : قيل المراد بأرضنا أرض المدينة خاصة لبركتها وبعضنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشرف ريقه فيكون ذلك مخصوصا ـ وفيه نظر. انظر شرح صحيح مسلم للنووي (١٤ / ١٨٤).

(٣) سقط من ب.

١٢٠