الرحلة الورثيلانيّة - ج ٢

الحسين بن محمّد الورثيلاني

الرحلة الورثيلانيّة - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد الورثيلاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-372-1
الصفحات: ٣٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

نحو ثلاثين درجة محكمة البناء متقنة الوصف واسعة المشي منها يستقي أهل المدينة كلهم لشربهم.

قال أبو سالم والذي رأيت منها ثلاثة مواضع أحدها شرقي المسجد بينه وبين باب البقيع في المكان المسمى الآن بالحارة (١) والآخر خارج باب السلام في الناحية الغربية عند سوق المدينة بالبلاط والآخر شامي المسجد بعيدا منه إلى ناحية باب الشامي وأما خارج المدينة فأخرجت في محال متعددة أيضا ثم لم تزل تقرب من وجه الأرض قليلا كما انحدرت في أرض المدينة إلى أن خرجت على وجه الأرض قريبا من الغابة شرقي مسجد رومة بينه وبين أحد وعليها هنالك مزارع وقد رأيت جدولا منها قريبا من مسجد الراية في طرف ذباب يهبط إليه في نحو ثلاث درج وهذه العين المباركة من أغزر العيون وأحلاها ماء وألذه بها جل انتفاع أهل المدينة ومنها كل السبيلات الموقوفة بالمدينة ومنها تملأ الدوارق التي توضع في الحرم الشريف للشرب وهي لا تكاد تحصى كثرة فما أعظم بركتها وأوسع نفعها ولقد شاهدت من يستشفي بمائها فيشفى وقد حملنا بعض مائها للاستشفاء ولله در القائل :

لئن قيل في زرق العيون شئامة

فعندي أن اليمن في عينها الزرقا

وتسميتها بالعين الزرقاء من لحن العامة وصوابه عين الأزرق لأن مروان الذي أجراها لمعاوية كان أزرق العينين فلقب بالأزرق وكان أجراؤها لهذه العين بأمر معاوية لما ولاه المدينة وكان لمعاوية رضي الله عنه اهتمام بذلك فأجرة في المدينة وما حولها عيونا كثيرة قد دثرت كلها ولم يبق إلا هذه العين المباركة وقد اعتني بشأنها من قبل السلطنة فلها أوقاف معلومة وجرايات تأتي من عند السلطان ولها أمير معلوم وله خدام يتفقدون أحوالها على ممر الأزمنة ويصلحون ما وهي منها ولو لا ذلك لدثرت

__________________

(١) في الرحلة العياشية الحرّة.

١٢١

كغيرها من العيون.

قال الواقدي رحمه الله تعالى وكان بالمدينة على زمان معاوية صوافي كثيرة كان يجدّ بالمدينة وأعراضها ألف وسق وخمسين ألف وسق ويحصد مائة ألف وسق حنطة انتهى فهذا الذي كان يجدّه معاوية وحده فما بالك بما كان لغيره من الرعايا ووجوه الناس فقد كان للصحابة رضي الله تعالى عنه وأبنائهم في ذلك الزمان ضياع وقرى ومزارع كثيرة بالمدينة وما حولها وما أظن هذا العدد الذي كان يستغل لمعاوية رضي الله عنه بالمدينة قط يستغل في زماننا هذا من أرض الحجاز كلها مع سعة أقطارها ما عدا نجدا فإن بها مزارع كثيرة وبهذا نعلم نسبة زماننا هذا إلى الأزمنة الماضية في سعة الأرزاق وكثرة الخلق مع ان اهتمامهم في ذلك الوقت بالدين كان أكثر من اهتمامهم بالدنيا فأنت ترى كيف انبساطها عليهم وأما الآن فالاهتمام كله بالدنيا ولم يبق من الاهتمام بالدين إلا ما نسبته إلى الاهتمام بالدنيا نسبة الفلك الأعظم إلى الجزء الذي لا يتجزأ وهذا أعظم دليل على قرب انقراض الدنيا واستبدال عمرانها بالخراب وأنهارها بالسراب فإن عمرانها إنما هو بأسباب الدنيا ووالدين (١) وأنت ترى ما آل إليه أمرهما معا فنسأل الله تعالى الخروج من الدنيا بلا محنة ولا بدعة آمين.

قال السيد ومن الغرائب ما ذكره الميورقي في فضائل الطائف عن شيخ الخدام بدر الشهابي (٢) انه بلغه أن ميضاة وقعت في عين الأزرق بالطائف فخرجت بعين الأزرق بالمدينة انتهى.

قال شيخنا أبو سالم ولعل هذه الحكاية وأمثالها هي السبب في اعتقاد كثير من جهلة الحجاج أن العين الزرقاء أصلها من مكة وأنها هي التي جاءت إلى مكة من

__________________

(١) في الرحلة العياشية والبنين.

(٢) كذا في الرحلة العياشية وفي الرحلة الناصرية الشهاب وفي جميع النسخ التهامي.

١٢٢

ناحية عرفة من جبال وراءه ويقولون أنه لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة تبعته فهي التي ظهرت بمر الظهران ثم بخليص ثم ببدر ثم بالخيوف كلها إلى أن وصلت المدينة ويصممون على ذلك حتى أني رأيت بعض من هو معدود من الفقهاء يعتقد ذلك فقلت له كما قال الإمام أبو بكر بن العربي رضي الله عنه في مسألة الصلاة على النجاشي حيث قال بعضهم رفع له حتى رآه فصلى عليه أن الله تعالى على ذلك لقادر وأن نبينا صلى الله عليه وسلم لأهل لذلك وفيما صح من معجزاته صلى الله عليه وسلم والآيات الظاهرة على يديه غنية عن انتحال ما لا أصل له وبطلان كون هذه العين من مكة أوضح من أن يذكر فانه لم يكن في زمانه صلى الله عليه وسلم بعرفة ولا بمكة ولا بالمدينة عين تذكر على هذا النعت ولا ما يقرب منه وإنما أجريت هذه العيون بعد ذلك بأزمان.

الثانية بئر البصة بضم الباء وتخفيف الصاد المهملة كما هو الدائر على ألسنة أهل البلد وقال صاحب القاموس انه بالتشديد كأنه من بص الماء بصا رشح وأن روي بالتخفيف فمن وبص يبص وبصا وبصة كوعد يعد وعدا وعدة إذا بلغ أو من وبص لي من المال أي أعطاني فقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الشهداء وأبناءهم ويتعاهد عيالهم قال فجاءني يوما فقال هل عندك من سدر أغسل به رأسي فإن اليوم الجمعة قلت نعم فأخرجت له سدرا وخرجت معه إلى البصة فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وصب غسالة رأسه ومراقة شعره في البصة وهذه البئر قريبة من البقيع على طريق قبا في حديقة نخل على طرف بطحان وماؤها أخضر وهناك بئر أخرى صغيرة.

قال المطرزي والناس يختلفون فيهما أيتمها بئر البصة والصغرى هي التي تلي أطم مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ورجح السيد أنها الصغرى حاكيا

١٢٣

عن غيره في الأطم المذكور انه الذي يقال لبئره البصة قال والكبرى لا تنسب لللاطم لبعدها منه وقد ابتني بقرب الصغرى مسجد واتخذ لها درج ينزل فيها إليها وقد شربنا من مائها أي الكبرى وغسلنا رؤوسنا اقتداء به صلى الله عليه وسلم والمنة لله وحده.

الثالثة بئر بضاعة بضم الموحدة على المشهور وحكي كسرها وفتح الضاد المعجمة وأهملها بعضهم وبالعين ثم هاء غربي بئر حا إلى جهة الشمال فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم انه يستقى لك من بئر بضاعة وهي يطرح فيها ما يكره من النتن فقال الماء لا ينجسه شيء وفي رواية إلا ما غلب على ريحه ولونه وطعمه وعن سهل بن سعد بصق النبي صلى الله عليه وسلم في بضاعة وسقيته بيدي منها وعن سهل أيضا بئر بضاعة قد بصق النبي صلى الله عليه وسلم فيها فهي يتنشّر بها ويتيمن قال المجد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بئر بضاعة فتوضأ من الدلو وردها إلى البئر وبصق فيها وكان إذا مرض المريض في أيامه يقول اغسلوني من بئر بضاعة فيغسل مكأنما نشط من عقال.

وقالت أسماء بنت أبي بكر كنا نغسل المرضى من بئر بضاعة ثلاثة أيام فيعافون وهي في حديقة كبيرة ذات نخل أقرب أبواب المدينة إليها باب الشامي عن يمين الخارج منه قليلا وحولها مسجد وبركة ماء.

الرابعة بيرحا بفتح الموحدة وكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد فيهما وبفتحهما والقصر فيعلى من البراح وهي الأرض المنكشفة وقيل بئر أضيف إلى حاء من حروف الهجاء وهو اسم رجل أو امرأة أو مكان وخبرها في الصحيح وأنها كانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب وهي اليوم في حديقة صغيرة قريبة من سور المدينة شماليه بينهما الطريق وأقرب أبواب المدينة إليها باب البقيع وهي بينه وبين الباب الشامي.

١٢٤

قال السيد والظاهر أن بعضها اليوم داخل السور وقد دخلناها والحمد لله وشربنا من مائها وسقيت الحاضرين معنا من أصحابنا رجاء للبركة وأكلنا من خضرها المسقي بمائها.

الخامسة بئر رومة بضم الراء وبالهمز ودونه وفي الحديث نعم القليب قليب المزني فاشتراها عثمان فتصدق بها وورد أيضا نعم الحفيرة حفيرة المزني يعني رومة وعنه صلى الله عليه وسلم من يشتري رومة فله مثلها في الجنة وكان الناس لا يشربون منها إلا بثمن فاشتراها عثمان فجعلها لله وكانت لرجل من غفار أو مزينة أو ليهودي اسمه رومة فنسبت إليه وهي بئر جاهلية روي أنه استقي منها لتبّع لما نزل بقناة وهي بأسفل العقيق قرب مجتمع الأسيال وهي بعيدة من المدينة وإلى الجوف أقرب والطريق إليها على مساجد الفتح ثم يعدل يسارا إلى ناحية مسجد القبلتين ثم يمر تحته أسفل منه قاصدا العقيق فهي هناك وبقربها مزارع فزرناها وشربنا من مائها واستقينا منها ما شربناه مدة.

السادسة بئر اليسيرة من اليسر ضد العسر وتعرف الآن ببئر العين بكسر فسكون وهو لغة الصوف الملون وهي معروفة بالعوالي مليحة جدا منقورة في الجبل وعندها سدرة فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بني أمية بن زيد فوقف على بئر لهم فقال لهم ما اسمها فقالوا عسيرة فقال لا ولكن اسمها اليسيرة وبصق فيها وبرّك فيها وروى ابن سعد في الطبقات عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم سماها اليسيرة وأن أباه أبا سلمة غسل بعد موته بين قرنيها وقد زرتها والحمد لله وشربت من مائها وهي في عوالي المدينة قريبا من مسجد بني قريظة وعلى بابها حديقة كبيرة حسنة (١).

__________________

(١) في الرحلة العياشية السادسة هي بئر غرس والسابعة هي بئر اليسيرة.

١٢٥

السابعة بئر غرس بضم فسكون وقال المجد بفتح فسكون وضبطه بعضهم بالتحريك كشجر وهي بئر شرقي قبا على نصف ميل من مسجدها إلى جهة الشمال وقد ورد أن رباحا غلاما للنبي صلى الله عليه وسلم كان يستقي من بئر غرس مرة ومن بئر السقيا مرة ولابن حبان في الثقات عن أنس انه قال ايتوني بماء من بئر غرس فأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب منها ويتوضأ. ولابن ماجة بسند جيد عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنا مت فاغسلوني بسبع قرب من بئر غرسر وكانت بقبا وكان يشرب منها وفي رواية لم تحلل أوكيتهن وكانت البئر لسعد بن خيثمة وروي انه عليه الصلاة والسلام توضأ وأهرق بقية وضوئه فيها وروي أيضا أنه قال رأيت الليلة أني أصبحت على بئر من الجنة فأصبح على بئر غرس فتوضأ منها وبزق فيها وأهدى له عسل فصبه فيها وقد جعل لها درج ينزل إليها منها وحولها حديقة وبجانبها مسجد وقد زرتها والحمد لله فهذه الآبار السبعة هي المشهورة اليوم عند أهل المدينة وقد نظمها الزين المراغي فيما أنشد عنه السيد في بيتين وهما :

إذا رمت آبار النبي بطيبة

فعدتها سبع مقالا بلا وهن

اريس وغرس رومة وبضاعة

كذا بصة قل بير حاء مع العهن

قلت وبقي بئر ان أخريان يتبرك بهما ، إحداهما بئر السقيا فقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام كان يستعذب له لماء من بئر السقيا والسقيا هذه هي آخر منزلة النقا على يسار السالك على بئر على وهي بالحرة الغربية وحولها بركة عظيمة لورود الحاج أيام نزولهم هنالك والثانية بئر زمزم وهي قريبة من السقيا على يمين الطريق حتى زعم بعضهم أنها بئر السقيا وهي بئر مليحة في حديقة نخل حولها بركة وبناء وسميت زمزم تشبيها لها بزمزم في التبرك بها ونقل مائها للآفاق ولم أقف على هاتين البئرين أما زمزم فوعدنا الأخ سيدي أحمد الاخصاصي أنه يقدم معنا إليها يوم خروجنا ولم يقدر لنا لك فتأسفنا

١٢٦

أسفا عظيما أنا لله وإنا إليه راجعون وأما السقيا فلم يكن لي بها علم إذ ذاك والسقيا هذه غير السقيا المذكورة في الحديث في قول الراوي لقيته بتعهن وهو قائل السقيا بل تلك مكان قريب قرب شرف الروحاء.

وقد عدّ السيد رحمه الله آبارا متعددة سوى هذه ثم قال فمن ذكر أنها سبعة فقط قصور منه وإنما اقتصرنا على ذكر ما شاهدناه وزرناه منها وشربنا من مائها.

ومن المواضع التي يتبرك بها بالمدينة تربة صعيب فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالحارث فإذا هم روبى فقال ما لكم يا بني الحارث روبى فقالوا أصباتنا يا رسول الله هذه الحمى فقال فأين أنتم عن صعيب قالوا يا رسول الله ما نصنع به قال تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء يتفل عليه أحدكم ويقول باسم الله تراب أرضنا بريق بعضنا شفاء لمريضنا بأذن ربنا. ففعلوا فتركتهم الحمى قال طاهر بن يحيى العلوي عقب رواية ذلك عن أبيه صعيب وادي بطحان دون الماجشونية وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه وهو اليوم إذا وبي إنسان أخذ منه قال ابن النجار وقد رأيت أنا هذه الحفرة والناس يأخذون منها وذكروا أنهم قد جربوه فوجدوه صحيحا قال وأنا سقيته غلاما لي مريضا من نحو سنة تواظبه الحمى فانقطعت عنه من يومه وذكر هو كالمطري ان ترابه يجعل في الماء ويغتسل به من الحمى.

قال السيد فينبغي أن يفعل أولا ما ورد ثم يجمع بين الشراب والغسل. قلت وقد وصلت إلى وادي صعيب إلى موضع هذه الحفرة وأخذنا من ترابها واستصحبناه معنا لبلادنا بقصد التداوي.

قال أبو سالم وقد نص غير واحد على جواز نقله للتداوي كماء زمزم للتبرك ولم يزل على ذلك عمل الناس قديما وحديثا. قلت والخلاف في نقل تراب الحرم وأحجاره

١٢٧

والكيزان المصنوعة من ترابه معلوم مشهور والورع ترك نقله لاحتمال خصوصية الاستشفاء به لأهل الحرم وإمكان حمل الحديث عليهم والعلم عند الله وقد ذكر أيضا الاستشفاء من الحمى بتراب مشهد حمزة انتهى.

ومما زرناه موقف وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ومشربة أم إبراهيم ونخيل سلمان الفارسي وقصة النخيل مشورة في الصحيح وغيره وفيه آيات باهرة ، ومعجزات ظاهرة ، والله تعالى يوفقنا ويعننا بمنه ويمنه آمين وهو المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم انتهى كلام شيخنا المذكور فانه حسن لأنه مشتمل على فوائد ونكت مستحسنة لا يملها ذو الذوق السليم والطبع المستقيم.

انعطاف إلى ما كنا بصدده فأني قد زرت المدينة المشرفة ثلاث مرات وشاهدنا تلك المشاهد المذكورة على الجملة لضيق مدة الإقامة فيها وإنما يحصل كمال التفتيش والبحث على المواضع المنورة والأماكن المشرفة بمجاورة المدينة المنورة واستيطانها على الدوام فلا يزول الاشتياق إلا بطول المكث فيها لما علمت أن المسافر لا تقر عينه بالبلدان حال كونه مشتغلا بالسفر وشئونه فإن القلب واحد لا يمكن تعلقه بأمور مختلفة لا سيما أضداد المعتني به يعلم ذلك من شد أزاره لتحقيق المراتب ونعوت المقامات لأن الضد لا يجتمع مع ضده نعم قوة الفضل من الكريم الوهاب وشفاعة أفضل الخلق على الإطلاق ، ومنة الغني الخلاق ، أمطرت سحائب الفتح فإن لم يصبنا منه وابل فطل.

فلما استقر بنا القرار في مدينة الرسول وشاهدنا تلك المشاهد النبوية الفردانية الصمدانية القدسية الروحانية المحمدية الأحمدية ظهرت لنا معالم الأنوار ، ونتائج النبي المختار ، وثمرة الود وكشف الأستار ، وحضرة القهار ، فانعكس في قلوبنا

١٢٨

روحانيته عليه الصلاة والسلام فامتزجت بقوالبنا وظهر نوره صلى الله عليه وسلم على الأجباح ، فناط متمكنا منا بعلم الأرواح ، فغاب منا عالم الصفات في محو صفاته صلى الله عليه وسلم فاستعقب ذلك سريان آثار اللهوت ، فتمكن في المحل الذي هو الناسوت ، فلم يبق لوجود الخلق أثار لأن سطوة الحق لا يبقى معها غيره إذ كل شيء ما خلا الله باطل.

ولذلك طبقات الطبقة الأولى مشاهدة الأفعال والثانية مشاهدة الصفات والثالثة مشاهدة الذات فمن شاهد من الحق تجلي الأفعال اضمحلت أفعاله لأفعاله وكذا من تجلي الحق [عليه بأوصافه اضمحلت أوصافه لأوصافه ومثله تجلى الذات فمن تجلى الحق عليه](١) أيضا بذاته اضمحلت ذاته فلم يبق لسواه أثر فهذا مقام المحو والفناء لأن الكون كله ظلمة فمن لم يشاهد الحق فيه أو معه أو قبله فقد أعوزه وجود الأنوار ، وغابت عليه شمس المعارف في كنه الكون من غير قرار ، فالحق سبحانه لا يثبت معه شيء فالوجود وجود واحد بل جميع الموجودات متحدة فلا أصل لها بل هي مستمدة من عين الوجود وبالجملة صاحب المحو يغيب فعله في فعله ووصفه في وصفه وذاته في ذاته تبارك وتعالى فإذا قوي عليه حال الشهود نسبت إليه شطحات حتى ينطق عن حاله ، وعن قوة شهوده وإثبات اتصاله ، ومحو انفصاله ، برعود الهيبة والجلال فيقول في حضرة الحق والكمال وعالم الأمر وهو قوله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فتتجرد الروح عن مادة الاستعداد فيقول صاحب الشطحات أنا الحق لكونه مغلوبا في حاله ، ومضطرا في مقاله ، فتكون الشريعة قائمة عليه وعلى منواله ، فإن العارف بالله تعالى يقول رامزا لهذا المقام أعني ابن مالك ما نصه :

وذو ارتفاع وانفصال أنا هو

وأنت والفروع لا تشتبه

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط في نسخة.

١٢٩

أي الضمير المرتفع أي الغائب عن الأكوان بوصوله إلى المكون وانفصاله عن الخلق واتصاله بالحق أنا هو إذ هو محو محض وفناء صرف وأن صاحب الصحو رجع إلى ظاهر الشريعة فيقول في حال صحوة وأنت والفروع أي الصديقون لا تشتبه أي لا تلتبس لأن الصديق لا يلتبس بالزنديق ، فإن ما خامر القلوب فعلى الوجه يلوح آثاره ، الأسرة تدل على السريرة ، وأن الناس أيضا حوانيت مغلقة فإذا تكلم الرجلان تبين العطار من البيطار ، ما كان فيك ظهر على فيك ، كل إناء بما فيه يرشح ، ولأن الكلام صفة المتكلم ، ويعرف صدق الرجل بثلاث عند مغاضبته أن لازم الحق واتصف بالصدق فلهو ذاك وإلا فليس هناك انتهى.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه المرء مخبو تحت لسانه فإن تكلم فمن حينه وإن سكت فمن يومهم انتهى.

هذا وإن شطحات العارف تقوي ما ذكرناه وتؤيد ما أصلناه نعم شطحه على قدر غيبته عن الأكوان وقوة اتصاله بالمكون لأن عالم الأرواح بقدر تمكنه وسريانه في عالم الملك والملكوت وكذا ما دونه من عالم الجبروت تتقوى بصيرته وتتجلى أنواره فتتدلى له العلوم الإلهية ، والمواهب الربانية ، والواردات الجسمانية ، فتضمحل نفسه وتتلاشى أحواله فيغلب عليه الشهود وتتراكم عليه الرعود والصواعق من زواجر الخوف وسرادق الهيبة ولوائح الجلال فيكون كله بكله فلا يرى في حضرته سوى محبوبه فإن التفت عنه زل قدمه وسقط حضه فيترامى جذبا ويملتئ عشقا ويكتسي معرفة فيتغذى بتجريد التوحيد وتجريد التفريد فينادي بلسان الحقيقة إلا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وحينئذ تكون عنده مفاتيح الغيب فيعرف مسالك البر أعني الشريعة وطرق البحر أعني الحقيقة ثم يثمر بثمرات التجلي بأوصافه ويتخلق بمعاني أسمائه ليكون طاهر القلب بالتعريف ، وجميل الظاهر ، بالتكليف ، فتنطبق عليه الصفة

١٣٠

المشبهة فيحسن (١) فاعلها بأدبار المحن ، وإقبال المنن ، فيظهر فيه اللهوت ، ويضمحل منه الناسوت ، فإذا تنوب أوصافه عن أوصافه وأفعاله عن أفعاله وذاته عن ذاته ووجوده عن وجوده فليس له ثبوت في عالم الحق فإن استولى عليه ذلك بالمدد ارتقى في المراتب ، وتعالى في الدرجات والمواهب ، وبحسب ذلك تكون مراتب الأولياء وذلك من بحر المعارف وعليها تبنى الشطحات والأمور الربانية الروحانية والأوصاف الملكية وأهل الديوان لا تخلوا أحوالهم ومددهم ومواردهم ومعارفهم ومواجدهم من هذا البسط لأن بسطها إنما يكون من الحقيقة الأحمدية والدائرة المحمدية والنقط النبوية فإن الحروف قد جاءت لمعنى وهي الأعضاء المكسوة بالتكاليف وكلها في جمع الجمع أعني الحقائق ثم إن الأفعال المتصرفة والمنصرفة إنما تكون في مساجد الرفع وهي الشريعة فمن لا شريعة له لا حقيقة له ومن لا حقيقة له فشريعته رسم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وعند ذلك تناديه حقائق الأكوان إنما نحن فتنة فلا تكفر فإن ترقى نادته هواتف الحق الذي تطلبه أمامك وإن إلى ربك المنتهى.

نعم والله يقول (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) وباب كل شيء بين فأبوابها الحقائق السلوك والترقي (٢) وأخذ العهود وإلا فتنعكس شمسه وينكسف نوره لأن ثدي المعارف لا يثبت ولا يتقوى إلا بغذاء الأرواح فالرضاع عندهم حولين كاملين فإن تصفية النفس وتنوير القلب إنما يكون بالفطام من الهوى ومن الغيبة عن السواء غير أن صاحب التربية لا بد وأن يكون خاليا عن التلوين (٣) منعوتا بنعوت التمكين (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ

__________________

(١) هنا بياض في نسختين وفي نسختين لم ينبه عنه وفيهما فيحس ولعله الأصوب.

(٢) كذا في نسخة وفي ثلاث التربي.

(٣) كذا في جميع النسخ.

١٣١

الْمُنْكَرِ) الآية بيد أن المطمئن يداوي المتحرك.

وقد قال أبو علي الثقفي لو أن رجلا بلغ العلوم كلها وصاحب طوائف الناس لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بشيخ عارف أو أخ ناصح أو مفت محقق وإلا فلا تعبأنّ به فليس من الله في شيء انظر القشيري ولذا قال بعضهم من لم يكن له شيخ كان الشيطان شيخه لأن النفس كثيرة التلبس عظيمة الخدع والمكر توهم الإنسان أنه صادق وهو كاذب وانه موف بعزمه وهو ناكث إلى غير ذلك من أوصافه الذميمة وهذه العلوم من خزائن الغيب تنبع في القلوب وتظهر في الفهوم من غير مفتاح بل هي لدنية وهيبة صمدانية فردانية إلهية ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا رأي حكمة أعظم من هذه فتكون على حسب الفضل قل بفضل الله وبرحمته وأهل هذا الشأن يسرعون بالجواب ، لزوال الحجاب ، لفتح (١) رب الأرباب.

تتمة إنما ذكرت هذا الكلام ، من فتح الرحيم العلام ، إذ هو فيض إلهي من خزائن الغيب ، وعطاء الغيب ، فأعرضت عن ذكر التحفة التي ذكرها شيخنا المذكور لما فيها من التشابه ووشحت هذه النبذة بما يقرب للإفهام ، ولا تزل فيه الأوهام ، وقد علمت أن عجائب القرآن لا تنقضي وقد قال شيخنا المذكور ما نصه.

قال الإمام أبو سالم.

لطيفة أخبرنا الشيخ شهاب الدين رئيس الموقتين بالمدينة المشرفة أن والده لما كان في الأسر تكلم مع راهب من رهبانهم فقال له الراهب أنكم معشر المسلمين تزعمون أن كتابكم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فقال له الشيخ تاج الدين نعم نقول بذلك فقال له أين تجد في كتابكم أسمي فقال له ما اسمك فقال له كبك فأخرج له تاج

__________________

(١) في نسخة بفتح.

١٣٢

الدين المصحف فأراه ما بعد الراء من قوله ما شاء ركبك فتعجب الراهب من ذلك وصدق بأن في الكتاب كل شيء قال وهذه فراسة قوية وهداية سنية من الشيخ رضي الله عنه ولا شك أن في الذكر كل شيء ولكن لا يهتدي إلى ذلك إلا من خصه الله تعالى بالفهم الرباني والعلم الإلهي.

قال وقد ذكر لي بعض الناس أنه رأى منصوصا وقوع هذه الحكاية لغيره قلت ويحتمل أن يكون هذا الراهب أخذ هذه الحكاية ممن سبقه إليها ممن تقدم وثبتت في ذهنه وأبرزها في معرض الاختبار للشيخ أو أقترحها من غير ثبوت سلف فيها ويكون من وقع الحافر على الحافر والله تعالى اعلم.

قال من نظير ما تقدم من اشتمال القرآن الكريم على أخبار كل شيء حتى علم الحدثان والوقائع ما أخبرني به شهاب الدين أحمد بن التاج أن ملك بلاد الروم السلطان سليم أحد ملوك الترك وهو أول داخل منهم لمصر وتملكها من يد السلطان الغوري سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة كان سبب تملكه لها انه لما تملكت بلاد الشام حدثته نفسه بالتملك على بلاد العراق إذ هي أصل منشأهم ومساكن أسلافهم التركمان فخرج من بلد اصطنبول التي هي قاعدة ملكهم فلما وصل إلى الشام بعساكره تعذرت عليه العلوفة لغلاء حصل في تلك الناحية فاحتاج إلى الميرة والتزود من مصر فكتب بذلك إلى الغوري يستأذنه في الامتيار من بلده وكان الشاه ملك عراق العجم في ذلك الوقت لما سمع بتحرك السلطان سليم كاتب الغوري وكانت بينهما صداقة يطلب منه أن يشغله عنه وأن يثبطه ما استطاع وصادف ذلك من الغوري غيرة من السلطان سليم وأنفة من تملكه بلاد الشام وخشي أن اتسع ملكه أن يستولي على مصر ومصر إذ ذاك هي أم البلاد الإسلامية وملكها أعظم الملوك لانتقال الخلافة العباسية من العراق بعد واقعة التتار إلى مصر وعند ما طلب السلطان سليم من الغوري الميرة

١٣٣

تعلل له بان ذلك لا يمكن في هذا الوقت لغلاء الأسعار واعتذر له بأعذار ضعيفة ففطن سليم لما قصد وعلم انه إنما أراد تعويقه عن المسير إلى العراق فحدثته نفسه بالركوب إليه وصرف العنان عن غزو العراق إلى غزو مصر فاستشار في ذلك من كان بحضرته من العلماء وذكر لهم عذره وأن الغوري منعه من التزود من بلده وهو محتاج إلى الزاد فكلهم قال إن ذلك لا يبيح لك قتاله لأنه ملك بلاده ولم يخلع لك يدا من طاعة ولا بادأك بحرب فكيف يحل لك الهجوم عليه في بلاده ومحاربته بلا سبب وكان من جملة العلماء الحاضرين المحقق ابن الكمال باشا وأصغرهم فقال له أيها الأمير أنه يباح لك غزوه في كتاب الله أنك تدخل مصر في هذه السنة فقال له وكيف ذلك فقال له لا أفتي بين يدي هؤلاء الأئمة وهم مشائخ الإسلام حتى تؤجلهم سبعا لينظروا ويتدبروا فإن الله تعالى يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فكيف لا تكون هذه النازلة في كتاب الله تعالى الذي فيه تبيان كل شيء فقال لهم سليم أني أجلتكم سبعا عسى أن تجدوا أو يتبين لكم ما قال. فقالوا كلهم أيها الأمير ما كان جوابنا الآن هو جوابنا بعد سبعة فقال ابن الكمال لا بد من التأجيل وقصده والله اعلم إظهار مزيته عند الملك وأنه اهتدى لما عجزوا عنه بعد التدبر والتلوم إذ لو أبدى ما عنده في المجلس لربما أدعى أن ذلك يمكن الاهتداء إليه بالتأمل والتدبر فأجلهم الأمير سبعا فلما انقضت جمعهم فسألهم فقالوا له جوابنا فيما مضى جوابنا الآن فقال له ابن الكمال أيها الأمير أنهم ليقرءون في كتاب الله العظيم إنك لتدخل أنت وجنودك هؤلاء مصر في هذه السنة إلا أنهم لا يهتدون لفهمه فقالوا أين هو فقال قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) فضحكوا وقالوا أين هذا مما نحن فيه فقال لهم أن قوله تعالى ولقد في قوة لفظ سليم بحساب الجمل فإن كل واحد من اللفظين مائة وأربعون عدده فتكون إشارة الكلام سليم كتبنا في الزبور من بعد عشرين وتسعمائة أن الأرض يرثها لأن الذكر عدده بدون أداة التعريف ما تقدم

١٣٤

قال والأرض في الآية الكريمة على قول كثير من المفسرين هي أرض مصر والعباد الصالحون في هذا الوقت هم جنودك إذ لا أصلح منهم في عساكر المسلمين بأقطار الأرض لإقامتهم سنة الجهاد وفتحهم أكثر البلاد النصرانية وهم على مذهب أهل السنة والجماعة وغيرهم من عساكر البلاد أما ممن فسدت عقائدهم كأهل العراق وأكثر اليمن والهند وأما ممن ضعفت عزائمهم عن إقامة شعائر الإسلام كالمغرب وأما ممن استولت عليهم الدنيا كمصر وبالغ في تقرير هذا المعنى وسر السلطان سليم بقوله وسلم له الفقهاء حسن الاستنباط ولطف الإشارة إلا أنهم قالوا له إن هذا لا يكفي في إباحة قتال من لم يخلع يدا من طاعة ولا حارب أحدا من المسلمين وإن كانت الإشارة القرآنية تدل على أن هذا سيكون فلا بد من إظهار وجه تعتمده الفتوى الفقهية فقال ابن الكمال أيها الأمير أما هذا فهو أيضا متيسر وذلك بأن تبعث إلى السلطان الغوري وتقول له أني لما قدمت إلى هذه الأوطان ولم يتيسر الغرض الذي قدمنا لأجله عزمنا على التوجه للحجاز لأداء فريضة الحج وليس لنا طريق ولا تزود إلا من بلادكم فأردنا أن تأذن لنا في المرور ببلادكم والتزود منها فانه لا محالة مانعك وصادّك عن المرور ببلده فإذا صدك عن حج البيت جاز لك قتاله وصار محاربا فاستحسن الفقهاء رأيه في ذلك لأن الحيل في مذهبهم سائغة ، وانتهاج طريقها عندهم شريعة شائعة ، فكتب السلطان سليم إلى الغوري في ذلك فراجعه الغوري بجواب سيء وصرح بمنعه وصده وانه لا يشرب من نيل مصر جرعة ماء إلا أن مشى على ظهور الموتى إلى غير ذلك من التهديد فتقوى حينئذ عزم السلطان سليم على غزو مصر وتهيأ لذلك فكان ما كان من استيلائه عليها ومحو الدعوة الغورية من مصر وإنحائه وقتله أكثر العلماء والصلحاء والخليفة العباسي وكثير من أرباب المناصب وكان أمر الله قدرا مقدرا فعظمت بذلك مكانة ابن الكمال عنده وخيره فيما شاء من الولايات فاختار الفتوى فتولاها وحسنت سيرته فيها وتصدى لنشر العلم وتعظيم أهله والله يتقبل منه

١٣٥

آمين.

ونظائر هذه الحكايات والاستنباطات كثيرة يتعاطاها أربابها على أن التسلق على مصل هذا وتعاطي فهمه من القرآن مما لا ينبغي إلا لذي بصيرة نورانية يصدق كشفه فتحه وإلا فالهجوم عليه ببضاعة العقل خطر فإن الواقع قد لا يكون كذلك فيؤدي إلى نسبة شبه الكذب لخبر الله تعالى وأن بالفحوى والإشارة والقرآن ينزه عن مثل ذلك فإن الله تعالى ما أنزله على عبده لهذا وإن كان موجودا فيه وإنما أنزله هدى وموعظة وذكرى لأولي الألباب فاستعمال الفكر في معانيه التي حض الله عليها ورسوله أولى من استعماله في أمثال هذه الأمور التي لم يرد عن الشارع ولا عن السلف الصالح اعتبار جنسها في أمثال هذه الأمور وأن اعتبرها بعض السلف لكن في غير هذا الجنس كاستخراج ابن عباس رضي الله عنه تعيين ليلة القدر من بعض آيات سورته وأما المتأخرون فمنهم من اعتبره في هذا الجنس كاستخراج بعضهم فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين ابن أيوب من قوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ) إلى قوله : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) إلا أنه أمر نادر لا ينبغي أن يعتمد وذو الحال الصحيح ، والكشف الصريح ، لا ينبغي أن يقتدي به والله الموفق للصواب اه وإياك وأن تقفو ما ليس لك به علم فتقع في مهواة لا قعر لها من العطب حذرا حذرا.

ومن التقينا به بالمدينة خطيب الحرم الشيخ إسماعيل قرأنا عليه حديث إنما الأعمال بالنيات فأجازني ونص إجازته أحمد الله سبحانه ونسأله أن يصلي ويسلم على نبيه وأشرف خلقه مولانا محمد وآله وصحبه وإتباعه وأحبابه أخذت قراءة القرآن والحديث عن العارف بالله تعالى الشيخ علي الشمولسي (١) عن الشيخ الحلبي صاحب السيرة عن القاضي شمهورش عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أجزت الشيخ

__________________

(١) كذا في ثلاث نسخ وفي نسخة الشبراملسي وفي الرحلة الناصرية الشمولي.

١٣٦

العارف بالله تعالى أحمد بن محمد ابن ناصر أن يروي بهذا السند الشريف العالي المنيف حديث سيد المرسلين وحبيب رب العالمين ككتاب البخاري وغيره من الكتب وقد قرأ علي حديث إنما الأعمال بالنيات نفع الله تعالى به المسلمين وجعلني وأياه في بركة سيد المرسلين آمين. إلى أن قال ومن عادة أهل المدينة أيضا في كل ليلة جمعة أن يجتمع الناس بعد صلاة العشاء في آخر أروقة المسجد النبوي الموالي لصحن المسجد فتأتي جماعة من المنشدين فينشد كل واحد قصيدة أو قصيدتين بصوت رخيم ، وتطريب وتقسيم ، والناس محدقون ولهم إتباع يردون عليهم مثل ما تقدم في ليلة المولد إلا أنهم لا يحتفلون لذلك في ليلة الجمعة كاحتفالهم لليلة المولد ولا قريبا منه.

ومن عادته في يوم الجمعة الخروج للبقيع ووضع الرياحين الكثيرة على القبور خصوصا المشاهد المعلومة فيكون عندها أضغاث من الرياحين ويؤتى به إلى الحجرة الشريفة أيضا ويلقى من طيقان الشبابيك إلى داخلها فلا يزال هنالك حتى يذبل ويذوى ويخرج في كناسة الحجرة ويقتسمها الأغوات بينهم مع باقي الشمع الذي يوقد داخل الحجرة وما يتساقط من الطيب فيجمعون ذلك فيهدون منه لأصحابهم وللأكابر ويبعثون منه إلى من يهاديهم من أهل الآفاق.

ومن عادتهم يوم الجمعة أن يكنس المسجد النبوي كله ويؤتى بأغطية من ديباح أسود مخوص بالذهب فتعلق على أبواب المسجد ويؤتى برايتين سوداوين من ديباج مخوص أيضا فيركزان عن يمين المنبر وشماله وتكسى درج المنبر من أعلاه إلى أسفله ديباجا من ذلك النعت ويعلق أيضا على أبواب الحجرة الشريفة فإذا كان قبل الزوال بقريب من ساعتين طلع المؤذنون على المآذن فيبتدئ مؤذن الرئيسة بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة آيات من القرآن فإذا فرغ تلاه صاحب السليمانية على نحو من ذلك ثم لا يزالون كذلك يتناوبون الذكر والصلاة على النبي

١٣٧

صلى الله عليه وسلم والتلاوة على المآذن كلها إلى أن يخرج الإمام بأثر الزوال يقتسمون الوقت بذلك فإذا قرب دخول الإمام قام احد المؤذنين على سرير المؤذنين فينشد ما شاء الله فإذا دخل الإمام ورقي المنبر أذن المؤذنون دفعة واحدة داخل المسجد على السرير الذي في وسط المسجد وكيفية أذانهم انه يبتدئ رئيسهم فيقول الله أكبر الله أكبر فيقوله الآخرون بعده دفعة واحدة ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله مثنى فيقولونه أيضا بعد فراغه منه دفعة واحدة وهلم جرا إلى آخر كلام المؤذن وأما الخطابة فهي كالإمامة موزعة بين فقهاء المدينة لكل واحد مقدار معلوم من الأيام على قدر حصته التي يأخذها من جامكية الخطباء فمنهم مقل ومكثر وذلك إما بالوراثة من أسلافهم أو بالشراء من الولاة وهو الغالب ومنهم من تدور نوبته في كل شهر مرة ومنهم من لا تصل إليه النوبة إلا مرة في السنة ومنهم بين ذلك على حسب أنصبائهم في المال المأخوذ على ذلك.

ومن عادة المدرسين بالمدينة أيضا تعطيل القراءة في المكاتب والتدريس يوم الثلاثاء ويوم الجمعة ويقرءون فيما سوى ذلك من الأيام خلاف عادتنا في المغرب من التعطيل يوم الخميس ويوم الجمعة.

قال شيخنا أبو سالم وكنت أيام أقرائي بالحرم الشريف يكلفونني القراءة يوم الخمسي فيشق ذلك علي لكونه خلاف المعتاد لدينا ولخروجنا في ذلك اليوم لزيارة أحد وغيره من المشاهد فطالبتهم كل المطالبة أن نعوض الخميس بالثلاثاء فأبوا كل الإباءة فجريت على عادتهم كما قيل :

إن جئت أرضا أهلها كلهم

عور فغمّض عينك الواحده

قلت ولا أدري ما السبب في تعطيل الثلاثاء والخميس والجمعة فسببها مشهور قلت والسبب في ذلك كما في شراح الرسالة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لما

١٣٨

أطال في بعض أسفاره اشتاقه أهل المدينة فلما سمعوا بأيابه تلقاه الناس رغبة وشوقا فتسابق إليه الصبيان فيأتوا معه ليلة الخميس والجمعة فأجازهم جائزة وأنهم لا يقرءون يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صبيحة يوم السبت وهذا حاصل معناه.

ثم قال شيخنا المذكور ومن عادتهم أيضا في الحرمين الشريفين التهنئة بالشهر أي شهر كان خلاف المعتاد لدينا بالمغرب فإن التهنئة عندنا إنما تكون بالأعياد وما شاكلها ولديهم لا بد من التهنئة في أول يوم من كل شهر فيذهب كل واحد إلى من له عليه حق بولاية أو شيخوخة أو صحبة حتى يهنئه بالشهر في منزله ولله در القائل :

أن الأهلة في السماء مناجل

بطلوعها تتحصّد الاعمار

أبدا يهنيء بعضنا بعضا بها (١)

وطلوعها بأفولنا انذار

ومن عادتهم في إقامة الصلوات الخمس في الحرم الشريف تقديم الصلاة في أول الوقت ما عدا الصبح للحنفي فيؤخره إلى قرب الأسفار فيصلون الظهر أول ما تزول الشمس وما يقبل غالب الناس إلا بعد الصلاة فيذهبون بعد الصلاة إلى منازلهم لنوم القائلة وكان ذلك يشق على الغرباء قبل اعتيادهم لذلك فتكاد صلاة الظهر تفوتهم في المسجد لأنهم لا يتأهبون لها إلا بعد الأذان وليس بين الأذان والصلاة قدر يسع التأهب فمن لم يتأهب للصلاة قبل دخول الوقت فاتته الصلاة في الجماعة غالبا وذلك خلاف السنة في تأخير صلاة الظهر إلى ربع القامة أو أزيد للإبراد في شدة الحر فأنا لله وإنا إليه راجعون على تفويت الفضائل في أماكن قطب الأفاضل وأول من يصلي من الأئمة الشافعي ثم الحنفي إلا في صلاة المغرب فيتقدم الحنفي لضيق الوقت عنده كالمالكي ولا يؤم بالمدينة من الأئمة سواهما من أهل المذاهب إلا في الجمعة فيصلي صاحب النوبة على أي مذهب كان فيتناوب الإمامان الصلاة في المحراب النبوي فإن

__________________

(١) في ثلاث نسخ بمصابها.

١٣٩

صلى أحدهما فيه صلى الأخر في المحراب الذي على يمين المنبر الشريف وأما المحراب العثماني الذي في الصف الأول فلا يصلى فيه إلا في بعض أيام الموسم إن كثر الناس.

ومن عادتهم في الصلاة على الجنائز إدخال الجنازة إلى الحرم الشريف فيصلى عليها بالمسجد ثم يمر بها أمام الوجه الشريف ويوقف بها وقيفة ثم يذهبون بها إلى محلها من البقيع أو غيره إلا جنائز الروافض كالنخاولة فإنها لا يدخل بها المسجد ولا يؤتى بها إلى المواجهة بل يأتي بها أصحابها إلى خارج المسجد من ناحية الروضة ثم يرجعون ولقد أحسن من سن لهم ذلك من الولاة فحق من يبغض ضجيعي الرسول صلى الله عليه وسلم ورفيقيه في المحيا والممات أن يبعد عن حماه حيا وميتا قيض الله من يخليهم منها إلى تيماء واريحاء آمين.

ومن عادتهم في الأملاكات أن يكون عقد النكاح بالمسجد الحرام فيأتي أكابر المدينة من أرباب المراتب والمناصب والخطيب فيجلسون صفين من المنبر إلى الحجرة الشريفة صف مستقبل القبلة وصف مسند ظهره إلى جدار القبلة وبإزاء الخطيب المتعاقدان فيشرع في الخطبة فيثني على الله بما هو أهله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ثم يذكر المتعاقدين ويشير إليهما ويرضيان بذلك ثم يؤتى بأطباق الرياحين وتوضع بين الصفين وأطباق من اللوز والسكر ويفرق ذلك على الحاضرين ويقوم المنشد ينشد قصيدة أو قصيدتين في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فيفترق المجلس ويقوم الحاضرون إلى المتعاقدين ويهنئونهما وهذه صورة أملاك كل ذي وجاهة ورياسة من أمير أو تاجر أو صاحب خطة وأما غيرهم فعلى حسب ما يتفق لهم فإذا كان ليلة الدخول أتي بالرجل ومعه جماعة كبيرة من أصحابه وأقاربه ومعهم الشموع حتى يوقف به على باب المسجد بعد العشاء الأخيرة فيدخل ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو فيخرج ثم يذهب به كذلك يزفونه إلى بيت المرأة في دار أهلها عكس

١٤٠