الرحلة الورثيلانيّة - ج ٢

الحسين بن محمّد الورثيلاني

الرحلة الورثيلانيّة - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد الورثيلاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-372-1
الصفحات: ٣٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

من ناحية المشرق وراء الحرة فيقيمون فيه الأسبوع وأكثر.

وقد ذكر السيد من جملة أودية المدينة وادي رانوناء كعاشوراء ووادي مذينب مصغر مذنب ووادي مهزور بفتح فسكون آخره راء وهذه الأودية كلها ترجع إلى بطحان.

قال الزبير بن بكار ثم يلتقي سيل العقيق ورانوناء واذاخر وذي صلب وذي ريش وبطحان ومعجب ومهزور وقناة بزغابة وسيول العوالي هذه تلتقي بعضها ببعض قبل أن تلتقي بالعقيق ثم تجتمع فيلتقي العقيق بزغابة عند أرض سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وذلك عند أعلى وادي أضم سمي به لانضمام السيول واجتماعها به.

قال الزبير ثم تمضي هذه السيول فتنحدر على عين أبي زياد والصورين في أدنى الغابة ثم يتلقاها وادي نظما ووادي نعمان أسفل عين أبي زياد ثم تنحدر وتلقى وادي ملل بذي خشب وظلم والجنينة ويلقاها من الغرب بواط والخرار ومن المشرق ذراوان ثم الأئمة ثم يلقاها وادي رمة من الشام ووادي برعة من القبلة ثم يلتقي هو ووادي العيص من القبلة ثم يلقاه وادي احجر ووادي الجزل الذي به السقيا والرحبة في نخيل ذي المروة ثم عمود في أسفل ذي المروة ثم يلقاه واد يقال له سفان حين يمضي إلى البحر عند جبل يقال له أزاك ثم يدفع في البحر من ثلاثة أمكنة يقال لها اليعبوب والنبجة وخفيف.

قال السيد وذكرنا في الأصل ما في كلام المطري من المخالفة لما ذكر وأن مصبه في البحر من ناحية اكرى في طريق المصري.

قلت وهو الوادي المسمى اليوم بالاكره على ألسنة الحجاج شرقي الوجه بينه

١٦١

وبين الوجه مرحلة (١).

تتمة فلما لاح لنا لائح الافتراق ، وانقدح زناد الاشتياق ، تحركت الأحشاء ، وذابت الأكباد وانهمرت العيون بالبكاء ، وأصابت النفس العبرة فكادت ان تزهق الروح من شدة ما أصابها من ألم الفراق واضطرم القلب وانحراق من قوة ما وجد من عذاب البين ومفارقة الصديق الأمين صلى الله عليه وسلم فلم يوجد زمان أحلى وأعذب من زمان الوصول إليه ومشاهدة حضرته والتلذذ في محاسن روضته ولا أشهى من الوقوف بين يديه.

نعم ولا أصعب من يوم فراق دائرته وقد انغم القلب حزنا بل أعتل بعلة لا يعلمها إلا من وردت منه وخلقها عند قرب مفارقته فحرارة الجسم كادت أن لا تبرد وقلق القلب قد قوي وضل وهام فعز أن لا يهتدي.

وبالجملة فأمراض البين لا يعلمها إلا من شارك في هذا السبب وهو الذي أصابه ما أصابنا فعند ذلك ينتقي عند اللوم فلا مصيبة أعظم من هذه الآفات فأنا حيران وولهان ، بكثرة الهموم والأحزان ، وضرورة عند مفارقة الأحباب والخلان ، نعم لما دنا وقرب السفر من المدينة المشرقة ظهر لي ترك السفر والرجوع في ذلك إلى الوطن ليزول عن الاشتياق بمجاورته صلى الله عليه وسلم فعزمت على المجاورة وسألت أولاد الفاضل الكامل ذي الحب والود في الله أولاد الشيخ الجملي إذ كان الشيخ صديقا لنا في الحجة الثانية عن المنزل أسكن فيه فقالوا نعم وفرحوا بذلك وسروا سرورا عظيما فذهبت لخيمتنا فأعلمت أهل الدار بذلك أعني النساء وقد أصابهن مرض شديد كاد بعضهن أن تصل إلى السياق وهي الحرة الجليلة الكريمة

__________________

(١) في نسختين ما نصه سقطت هنا ورقة ولم ينبه عن ذلك في غيرهما.

١٦٢

الطيبة النخبة الشريفة المتطلبة فإنها تقرأ نحو الربع وتحفظ بعض الأذكار كوظيفة الشيخ زروق وكانت تحفظ الصغرى للشيخ السنوسي وكذا بعض الرسالة لابن أبي زيد حاصله في غاية الأدب والفهم والفطانة بنت الشيخ الفقيه النزيه الفاضل الكامل صاحب الفضائل والفواضل الشريف تحقيقا سيدي عبد الله بن رحاب من أولاد الشيخ سيدي رحاب المتوطن في أولاد دراج ومحلهم الولجة فوق قمر تحت جبل بو طالب مشهور عند الناس من غير التباس وقد حج معنا فلما أشرفت على الموت وجدت عذار عند الحجاج إذ لا يستطيعون مفارقتي واسمها عويشة وكذا أختها فاطمة زوج ابني والأخرى زوجتي بنت الشيخ الفاضل المحقق المتكلم العالم الصالح خطيب وقته وفريد عصره لا سيما في أصول الكلام سيدي المسعود بن عبد الرحمن جدها من قبل أبيها وهو منسوب للشيخ أبي محمد صالح الدكالي المعلوم في الكتب الذي أخذ عن الشيخ أبي مدين وعن الشيخ سيدي عبد القادر في القرن السادس ومحله بنو عيدل بلد الشيخ القطب سيدي يحيى صاحب الوظيفة المشهورة في وطنه وقد شرحتها والحمد لله وهو شيخ الشيوخ رزوق وقد قيل انه هو الذي ملكه مشارق الأرض ومغاربها نفعنا الله بهم وأفاض علينا من بركاتهم.

نعم لما ظهر ذلك عند الركب اجتمعوا ونادوا بالويل فقالوا والله أن أقام أقام جميعنا فلما رأيت شدة اتصالهم بنا وكثرة عويلهم علينا وقالوا إن خصه ما يوصله جمعنا له ما يبلغه إلى وطنه بل ما يغنيه علما منهم بأن الذي حملني على الإقامة قلة الزاد لا سيما وان الشيالة أعني أصحاب الإبل هربوا لي فقلت والله لا أقبل درهما من أحد إذ لا أحمل المنة وغاية أمري أقبل السلف لأني ملي في بلدي وعند ذلك ذهب سيدي عبد الله بن رحاب وسيدي أحمد بن حمود وكاتب الحاج ابن فانة شيخ العرب الذي هو محبنا سي عيسى فاشتروا لي ثلاثة جمال لحمل الأهل وعند ذلك ظعن الركب المصري والمغربي فتأخرنا عنهم لشراء حوائج الإبل وعلفهم لأن أبني محمد ذهب لذلك مع

١٦٣

ابن عمنا سيدي عيسى الشريف فلم يبق إلا خيمتنا فرفعناها وركب الأهل لأنهم ودعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلا فلما انفصلوا في آخر الركب خفنا عليهم غير أن الله حفظهم وأنا بعض الأصحاب منتظرون ولدي وحين وصوله إلينا ذهبت لأودعه صلى الله عليه وسلم مع من كان معي من الحجاج فدخلت مسجده صلى الله عليه وسلم وقصدت قبره الشريف وعلتي قد زادت فلم أجد لها درياقا سوى الصبر.

نعم لم يبق مودع إلا المعظم المكرم الشريف الفلالي أمير الركب منها فوقفت بعض وقوف عند قبره ثم أني دخلت إلى الشيخ الصفي الودود النقي ذي الأحوال الصادقة والأنفاس الطيبة والأعمال الزكية والمواجد الإلهية والمعارف الربانية والعلوم اللدينة صاحب الأوراد والمريدين الشيخ السمان القرشي المدني إذ داره عند باب البقيع فوجدت الود الصدوق والخل الفاروق سيدي محمد الشريف الطرابلسي مع بعض أصحابه فأطعمنا خبزا ولحما وما أحسنه من طعام فلم أذق طعاما مثله ثم ودعناه عند ذلك توديعا تاما قويا إذ نظر إلينا نظر رحمة علمنا منه أنه سقانا بتلك النظرة إذ وجدت أثارها في الحين ثم أوصاني بشرح الصلاة المنسوبة إليه وهي صلاة عظيمة (١) تكاد أن تكون كصلاة الشيخ عبد السلام بن مشيش فعلمت أن الشيخ لا حظني بخاطره وإن كنت لست أهلا لشرحها ففتح الله بعلوم لا تكاد توجد في عصرنا ولا غرابة في ذلك وعند انفصالنا من داره رجعنا إلى توديعه صلى الله عليه وسلم وعظم علي أمر التوديع حتى علا صوتي وارتفع وكاد أمري إلى العويل بل أنوح عليه نياح الثكلى العديمة لولدها وكيف لا وهو أن فراقه أعظم المصائب ولم انفصل عنه إلا بصبر عظيم وهول جسيم وحزن شديد فلم أملك نفسي عند ذلك فعظمت المصيبة وعز الصبر غير أن تسليت بانتقاله من دار الدنيا وفراق أصحابه ثم خرجنا منه على أصلح حال ومنة

__________________

(١) في ثلاث نسخ غميضة.

١٦٤

عظيمة مع ما كان في القلب من مرض البين وحرقه واضطرام الفؤاد بسببه مسرعين في أزقة المدينة إلى أن خرجنا من الباب الذي يخرج منه الحجاج وإذا بالناس منها يقولون أن العرب يضرونكم ويؤذونكم لا سيما أني تخلفت منتظرا لحمل القول على الجمل فركب ولدي وكذا سيدي عيسى المذكور ثم لحقت بالأخ في الله سيدي محمد المحفوظي يريد المجاورة والإقامة بها فألجحت عليه بالذهاب فامتنع فزجرته وقلت له تترك زوجتك خالية عن الزوج فأجابني بأني بعثت لها ما تنفقه حتى أرجع وان اختارت التزويج فلها ذلك وكذا البقاء ثم قهرته على المشي معنا فقال أعاهدك أني أقدم بعدكم من الينبع إلى الصعيد وإلى مصر فلم أقبل منه بل ذهب معي إلى أبيار علي ثم فر من هناك إلى الآن والحالة خرجنا منها مع الخوف والحرامية يتبعون وراءنا إلى أن وصلنا إلى الركب.

وبالجملة فأنا أقول في ذلك كقول شيخنا المذكور وأتمثل به ما نصه ولقد أحسن القائل :

ما اشتفت علتي وهذا فراقي

قد تحققته بسير رفاق ي

هذه مهجتي تذوب دموعا

فانظروها تسيل من آماق ي

كبدي تلظي وعيني تهمي

هكذا فليكن بديع الطباق

يا رسولا لنا أتى بكتاب

لم تعارض آياته باتفاق

والكريم المعراج والبرق خلاني

طريحا إذ سار فوق البراق

والذي اقتص من قلوب غلاظ

أبت الحق بالسيوف الرفاق

يا مزيل الغماء أن جل خطب

يا شفيع العصاة يوم التلاق ي

آن عن قبرك الشريف انصرافي

وانصرامي وما شفيت اشتياق ي

ولئن كنت قد بللت غرامي

بالتثام الثرى فعندي بواق

١٦٥

وقفة بي تجاه حجرتك الغمراء

سارت ممالك الآفاق

اتمنى أني بها أتملّى

في محل خلاه لي خلّاق ي

موقف لذّلي خضوعيّ فيه

حين أطرا تأدّبي أطواق ي

وتلذذت فيه حين تذللت

ونلت الأفراد بالأرفاق

معدن الخير مهبط الوحي مثوى

خير هادي الورى على الإطلاق

كيف أسري من طيبة لسواها

وهي عندي حديقة الأحداق

آه وا لوعتي أفارق منها

مثل هاذي الأنوار والأشراق

أنا عبد قد اثقلتني ذنوبي

لم يلق بي إلا إليها أباق ي

أترى يسمح الزمان بعودي

فالأماني علالة المشتاق

لا يكن ذا الوقوف آخر عهدي

بك يا منبع الهدى الدفّاق

فالكريم الوهاب ذو الفضل حي

والذي عنده من الجود باق

ثم أني سرت مع بعض الأصحاب ، والدموع في الأماق أي انسكاب ، ومشينا وزاد التصبر ينهب ، والقلق قد أطنب ، في توقده أسهب ، إلى أن قال وينشد :

لما ترحل ركبنا عن طيبة

ووجدت عندي للرحيل محركا

أودعت في الحرم الشريف حشاشتي

ورجعت لا أدري الطريق من البكا

قلت وأما نحن فقد انفصلنا بين الظهر والعصر وفقد كل واحد منا الأصطبار ، وزال منا أيضا الاختيار ، لأن العبد مجبور في قالب مختار ، وإلا فكيف يفارق الخيار.

نعم الأرواح باقية في عوالم الأسرار ، فلو لا ذلك لانتقلت من الجسوم بالدثار ، ولما نزلنا أبيار علي إذ هي أول منزلة بعد فراق المدينة الشريفة ، وفارقنا تلك المعاهد التي على الكواكب منيفة ، رأيت مكانه على الركب وأهله خمول خمود ، وعلى مطيهم

١٦٦

وجمالهم حمول جمود ، ذاقه هذا من ذاقه ، وتحققه من لقلبه بعد الإيمان أدنى علاقة.

يا ليلى ما جئتكم زائرا

إلا وجدت الأرض تطوى لي

ولا انثنى عزمي عن بابكم

الا تعثرت باذيالي

ثم بتنا تلك الليلة وافترقنا عند المغرب لإتيان ما تتعشى به الإبل فصلينا المغرب في تلك البساتين إلى العشاء فرجعنا إلى الأخبية وبتنا خير مبيت إلى طلوع الفجر ظعنا وأعقل الركب المطايا ، واستخرج خبايا شوقه لأهله من حنايا الزوايا ، فسرنا مع العافية والسلامة من كل مكروه والحالة أني راكب على بغلتي مع من ركب على البغال من أصحابنا في شوق ووجد وحرق ونحن كذلك إلى أن وصلنا والله أعلم قبور الشهداء بين الظهر والعصر والركب المصري نازل هناك إذ سبق من المدينة ونحن ركب الجزائر وراءه وإن كان عادة المغربي السبق في الإياب وإنما سبقناه عند الينبع ثم خلفنا تلك المنزلة وسبقنا وتركنا الركب المصري هناك إلى أن تجاوزنا العشاء الأخيرة فنزلا في الوادي ثم أن الركب المصري سبقنا في الليل وأصبح في الصفراء وقد بتنا هناك في عافية ثم بكرنا قبل طلوع الفجر ووصلنا الصفراء عند الزوال ونزلنا وراء المصري لتعذر المرور في وسطه من شدة الضيق فبتنا هناك خير مبيت واستقينا من العين الكبيرة ورجعنا إلى خيامنا وبين هذه المنزلة وقبور الشهداء مسجد الغزالة وقد زرناه مرارا والحمد لله.

ثم أقام الركب المصري فيها إلى قرب الظهر ثم ارتحل المصري وارتحلنا بعده بعد الظهر وما ذكرناه من النزول وراء الركب بل نزلنا تحت القرية في القيلولة ثم ان الشيال الذي اكترينا عليه من مكة الذي هرب لنا ببعض الجمال وترك البعض في يدينا ولم يعتبره لشدة غلاء الفول وحصلت لنا مشقة عظيمة وكربة قوية إذ طلبناه في بدر عند الأمير فلم يتفق لنا الاستواء معه لكثرة فجوره وتحيله فاختفى في المصري فرارا مما

١٦٧

يلزمهم منا شرعا ثم اشتكيت لأمير مصر حاله حين نزلنا الصفراء فوعدني بالاستخلاص منه عند المدينة ولما وصلنا المدينة ذهبت إليه فأمرنا إلى كيخة الصوان (١) إذ هو الذي يحكم بين العرب وغيرهم فأمرني بترك الثلث من الكراء فلم أرض إلا بالربع فاختفى عند ذلك أيضا فلما شكوت له المرة بعد المرة أمرني بالذهاب إلى آغة عسكر المغربي فأمرني بترك الثلث أيضا وظننت فيه وفيمن سبق عدم نصحي فلم يكن الأمر كذلك بل نصحاني جازاهما الله خيرا ولما امتنعت هرب واختفى ولم أجد له خبرا إلا عند الصفراء فوجدته مارا ومسكته عند الظهر فضاقت حيلته ولم يجد سبيلا وأتى أهله لتسريحه فامتنعت من أطلاقه حتى آخذ ما أعطيت له وهو تسعون ريالا بوطاقة ولما حان وقت الظهر ذهبت للصلاة وخفت أن يهرب وتركته في خيمة الفاضل الكامل سيدي عبد الرحمن بن قري وأصحابه الحاج محمود والحاج بلقاسم بن دحمان اليعلاوي مسكوه فلما قاموا إلى الصلاة تركوه في يد شيال آخر فهرب منه فتبعه فاختفى فلم يلق له أثر واختفى في الركب المصري فأدرت أن أغرم الذي تفلت من يده ظنا مني انه هو الذي أفلته فأصابتني شفقة عليه حين رأيته يبكي ويحلف أنه ما تفلت منه اختيارا ثم لما ارتحل الركب المصري ولم يبق منه أحد وتبعه المغربي ولم يبق منه شخص وبقي العبد وابنه وتخلفنا لكثرة الدبش وقلة الأصحاب إذ منهم مريض ومن لا يستطيع الخدمة مع ضعف النساء ومرضهن فاحتجنا لكثرة اليد غير أن الله تبارك وتعالى عصمنا من تكشيط العرب وسبلهم لنا إذ كل من مر منهم يقول لنا شيلوا بسرعة واحفظوا أنفسكم.

ولما انفصل المرحول من مدشر الصفراء تخلفت مع بعض الناس من الركب الفلاللي وقع بهم ما وقع بنا من التخلف غير أن المراحل شبقت ووصلت إلى الركب

__________________

(١) في ثلاث نسخ السيوان وفي نسخة الصيوان.

١٦٨

وتخلفت مع هذه الرفقة فبعضهم يمشي على الرجل وبعضهم على البغال وقد صحبوا السلاح والبنادق فلم يصبنا خوف ولا روع ونحن في جماعة من العرب في أطراف القرية فلم تقع لهم عين سوء علينا بل فرحوا بنا فرحا شديدا فمنهم من يطلب الدعاء ومنهم من يقول لا تخافوا فلا بأس عليكم ولا ضرر لديكم وشيعونا إلى أن برزنا عن بساتين العمارة وأرونا الطريق التي نسبق فيها الركب أحسن الله إليهم وأجزل لهم الثواب فمشينا سويعة من الزمان وإذا الركب قد سبقنا الأكثر منه فافترقنا لما دخلنا وسطه إذ كل ذهب إلى رحله فكنت أنا أطلب رحلنا فلم يتبين لي غير أني وجدت رحل الفاضل الأديب الود الصدوق الخل الفاروق سيدي محمد بن القاضي الملقب أبا وغثوش (١) أمير زواوة راكبا في محفة مريضا مرض الإسهال فلما وقع بصره علي فرح بي ورحب وضحك وسألته عن مرضه وحاله فأخبرني بأنه أشتد مرضه في المدينة وبعد خروجه منها ثم كذلك استمر عليه الحال بعد أن عزم أن يقيم بالمدينة المشرفة لظنه الموت فضيق عليه بعض الأصحاب بأن أمره بالعزم على السفر لعل الشفاء يحصل فخرج راجيا ذلك ومنتظرا ما هنالك فقلت له لا يكون معك إلا الخير والعافية إن شاء الله فقال متأسفا لا أظن السلامة أو كلاما يقرب منه فعاودته الدعاء بالبرء.

ثم قال احكي لك رؤيا أني رأيتها فقلت له وما هي (٢) فقال أني رأيته صلى الله عليه وسلم وكنت أسأله الشفاعة أو كلاما هذا معناه وأعيد له ذلك المرة بعد المرة حتى قال لي أني شفعت فيك أو (٣) أنك مغفور لك أو (٤) لا تخف مما هو حاصل هذا المعنى فسرني

__________________

(١) في نسخة وعشوش وفي أخرى وعثوش.

(٢) في ثلاث نسخ وما هذه.

(٣) في نسخة و.

(٤) في نسخة و.

١٦٩

ما رأى وطمعت في البرء له بيد أني لما أخبرني بأنه صلى الله عليه وسلم بشره (١) بالمغفرة خلت موته ثم أني صحبته كذلك راكبا على بغلتي وهو راكب على جمله إلى بعيد المغرب وأتى علي (٢) وقته فارقته ثم نحن كذلك نسير إلى العشاء بعدها بسويعات وزمان نزلنا قرب الاستشراف على المضيق قرب الجبل إذ لا يمكن سيره لصعوبة الطريق وكثرة الأحجار وضيقه بين الجبال فليشكر الله من خرج منه على عافية وسلامة وطيب وقت في نفسه ومع ذلك تكثر فيه فساق الغرب ومحاربوهم قل أن يخرج الركب سالمين منهم فبتنا فيه خير مبيت فلما قرب الصباح ظعنا منه ووصلنا المضيق الوعر والركب المصري قرب وصوله موضع النزول فسرنا في ذلك الوعر رويدا رويدا وخرجنا منه على سلامة وعافية ومع ذلك دارت العرب ببنادقها مع ضرب البارود في أطراف الركب فعلي النداء والصياح فانحجم أول أول الركب وربضوا (٣) إلى أن وصل سلطان فزان في تخته مع أصحابه فسلم الحجاج وركبنا والحمد لله نعم كل من مر على هذا المضيق قل أن يسلم من المحاربين.

فلما اجتمع الركب سرنا على بركة الله وحسن عونه إلى أن بلغنا المنزلة التي بعد نقب علي وهي مشهورة ولما أن استقر بنا القرار في يوم حلا لا قر وفي تلك المنزلة شجر كثير وفيها بئر عظيمة بعث لنا الفاضل سيدي محمد السابق ذكره وهو ابن القاضي أنا والمحب في الله سيدي أحمد بن حمود وسيدي احمد الطيب لكونه أشرف على الموت فأوصى الجميع على حوائجه وحسبنا ماله وعلمنا به أين كان والحافظ له سيدي احمد بن حمود اد بيّنه (٤) هو وقد وصيناه أيضا لأنه هو الذي يصون أموالنا وعند الظهر

__________________

(١) في ثلاث نسخ بشرني.

(٢) في ثلاث نسخ وتاغل.

(٣) في ثلاث نسخ ريضوا.

(٤) كذا في ثلاث نسخ وفي واحدة نوبه.

١٧٠

أخذت الناس في الرحيل والتأهب للسفر فصلينا الظهر وعند ذلك ظعنا منه على أتم حال وأبركه فتقدم المصري وتأخر المغربي من حيث هو فانفصل الجميع عن المنزلة نعم تخلفنا آخر الركب حسبما عادتي أنا وسيدي أحمد الطيب وسيدي محمد الشريف الطرابلسي صونا للذي يتأخر من ضعفاء الحجاج ممن ليس له مركوب كالدراوشة فربما يقع لهم الضعف فيكون جميعنا في عونه فسرنا آخر الركب رويدا رويدا إلى أن صلينا المغرب ثم كذلك إلى أن صلينا العشاء ثم كذلك إلى أن سرنا سويعة بعدها فاخبرونا بموت أن القاضي المذكور فاجتمعنا لتجهيزه ليلا وهي مقمرة فنزل الركب ذلك الوقت فحفرنا له وكفناه وصلينا عليه أي جميع من كان من الفضلاء في الركب وعلمنا قبره وهو بين تلك المرحلة ومنزلة الينبع وأصابنا بموته مصيبة عظيمة لم أنسها إلى الآن لأن ظننا أن يرجع إلى بيته سالما ينتفع به العامة والخاصة غير أنه لما تاب وقبلت توبته مات بمرض البطن فهو شهيد وفي طريق الحج وانه غريب فكل واحد من هذه الثلاثة تقتضي الشهادة لأن الشهداء غير شهداء القتل معدودون وقد حصر عدهم الشيخ اليوسي في حاشيته على كبرى السنوسي ولقد أجاد في ذلك وما ظننت أحدا أنه ذكرهم كذلك فأنظره وكذا الشيخ إبراهيم الشبراخيتي في الجنائز في شرحه لمختصر خليل ثم ارتحلنا آخر الليل وظعنا من ذلك المحل وتبعنا المصري وعند صلاة الصبح أشرفنا على الغيضة الملتفة بشجر أم غيلان القريبة من الينبع فإذا أنا في التغليس بعد صلاة الصبح جماعة وما فاتتني ركعة والله اعلم في جماعة منذ خروجنا من بلادنا إلى أن رجعنا إلى بيوتنا وذلك مع الفضلاء في أكثر الأوقات والحمد لله وإذا برجل أتاني على رجليه زي الأعراب غير انه ليس عليه آثار السفر تشم منه رائحة الولاية فلما دنا مني أصابني منه الرعب والفزع ومع ذلك أسير مع أصحابي الفضلاء الذين أسير معهم على العادة المألوفة والحالة أني مشتغل في ذلك الوقت بالوظائف والأذكار الواردة بعد صلاة الصبح نعم أخذتني شبه سنة وأنا راكب على بغلتي متفكر في أمر الجمال التي

١٧١

تركها الشيال في يدي بأن أسلمها أهلها فصعب علي شراء الفول وكذا القيام بها إذ شغلني أمرها أتم شغل بل تشوش خاطري غاية فلم أجد مسلكا من ذلك فكلما أمشي إلى الظلام وأرباب الدولة إلا ظننت انه ذهب ديني بل قال لي العارف بالله سيدي محمد الشريف الأخ المذكور لما ذهب مرة معي في شأن ذلك وأصابه من الجلوس بين يدي الملك ما أصابني فقال لي سلم في هذا الأمر وأتركه لله فأخذ ذلك الكلام بمجامع قلبي فكنت أسأل الله الخلاص منهم ولو بالموت أي موتهم نعم قلبي متعلق بذلك الرجل إلا أنه استولت هيبته وجلالته علي فلم استطع كلامه وأنا أسير وهو يسير معي ملاصقا ركبتي أظنها اليسرى فلما تمكن منه قلبي وملأت عيني من نظره من غير نطق مني إجلالا وتعظيما له علما مني أنه أحد أصحاب الوقت إذ يعلوه نور ونحن كذلك فإذا هو دفع لي مسواقا رقيقا يساق به مثل البغلة لراكبها كأنه عود الأراك أو من الريحان فلم أميزه لما فيه من اليبس فلما وصل إلى يدي شممت منه رائحة المسك بل أقوى رائحة وتلك الرائحة لا نظير لها كافورا أو عنبرا أو زبدا أو مسكا فهو أي ذلك العود يعبق شذاؤه وبلغت تلك الرائحة جميع جسدي فذاقها الجميع مني ذوقا معتبرا وعند مده ذلك العود فارقني بان قال لي خذ هذا ففهمت أن الله فرج عني إذ منذ دخلت مكة وأنا في كرب إلى الوقت الذي لقيني فيه ذلك الرجل الكامل فزال عني كل ذلك ببركته فعلمت أنه ما جاء (١) إلا إغاثة لي ثم أني أخذت ذلك العود في يدي مستحسنا لتلك الرائحة ومتعجبا منها ومنتظرا الخلاص من تلك الجمال فاستصحبته معي إلى أن نزلنا الينبع وأقمنا به ونزلنا قرب العين في عافية وسلامة فوجدنا كل خير في سوقه مع رخاء الأسعار والحمد لله.

وبعد ذلك اليوم بعت تلك الجمال دينا إلى أن وصلنا إلى مصر فسرني بيعها لأنها

__________________

(١) في نسخة فعلمت أن الله ما جاء به.

١٧٢

نعمة عظيمة وكأني بعدها متجرد فلم يشغلني شيء ولا همني أمر سوى ما أحمل عليه شئوننا وحوائجنا فطلبت الكراء فلم أجده فنويت الإقامة في الينبع بأهلي إذ ذهبت إلى شيخ الركب ليلا ليمهل بالرحيل من الينبع إلى طلوع الشمس ولعلنا نجد ما نحمل عليه بالبيع أو الكراء فرضي هو بالإمهال فلما سمع أكثر الركب بانتظاره أيانا تحزبوا أحزابا إليه وحركوه إلى السفر ليلا قاصدين سبق المصري إحياء لعادة الركب المغربي لأنه يتقدم في الرجعة فاجمعوا على ذلك ولو أداهم إلى القتال زعما منهم أنهم يستطيعون محاربته وذلك سخافة عقل وتصرف ببضاعة وهم وإن سلّمنا تأتّي الحرب منهم فلا نسلم دخولهم مصر إذ فيها أربعة وعشرون بابا وفوقهم الباشا الذي يأتي من مدينة أصطنبول كل عام ما استوفى أحد عامه إلا ذهب وأتى غيره مع القاضي وذلك دأبهم فالعسكر المصري الذي يذهب مع الأمير وقوته غير موجودة في عساكر (١) ما رأيناه وإن ركبنا المغربي من إسكندرية إلى أقصى المغرب ركب واحد إلا الركب الفاسي فانه يذهب في وسط المصري يمشي ليلا وأما المغربي فبالنهار نعم ما طلع ركب من المغرب قط أقوى من ركبنا ذلك العام وقد تعجبوا منه في مصر وفي طرابلس وقالوا فيهما أن هذه الإبل التي كانت في ركبكم لم تكن مولدة من النوق وإنما هي مجتمعة من الحطب أو الرمل حتى صارت في مصر كالمعز فلا تجد أحدا يسأل عنها لكثرتها وقد عم بيعها أرياف مصر وأطرافها من العرب وأكثرها بيع بالدين إلى الرجعة ولم يقتضوا من دراهمها إلا القليل.

نعم وافق الشيخ رأيهم فسافر معهم فبقيت أنا وأهل بلادي ممن شغله أمري بان تخلف معي كسيدي أحمد الطيب وجملة زوارة وسيدي أحمد بن حمود وجملة أهل بلادنا وسيدي محمد الشريف الطرابلسي وأصحابه وسلطان فزان وركبه إلى طلوع الشمس

__________________

(١) في نسخة زيادة غيره.

١٧٣

على أن شيخ سيدي محمد المسعود نجل الشيخ البركة سيدي محمد الحاج الدكالي المعلوم بعث لي جملا في الليل أحمل عليه جازاه الله خير ووقاه ضرا وجعل البركة في أولاده أعانني به فلما أصبح الله بخير الصباح وقع بيننا وبين ركب فزان شنآن لأن أهل وطننا فيهم الجفاء والغلظة وسوء الأدب وعدم أذعانهم للحكم وسلطان فزان رجل عدل قائم بالأحكام لا سيما أمور السياسة فثقل عليهم المشي جميعا وربما صرحوا بالقول لما يجدونه مما ذكرناه في أهل وطننا ومع ذلك فيه رغبة لصحبة الفضلاء منا فلم يكترث بما وقع من سوء الأدب من أصحابنا مع أصحابهم.

وأما الركب الجزائري فلا حكم عندهم أصلا ولا يقفون عند الأمر والنهي لا سيما أهل عامر فما فارقهم أحد في هواهم ألا أبغضوه وجعلوه عدوا وقد أصابتني منهم عداوة عظيمة من أجل أني آمرهم بالسنة والقيام بالأحكام الشرعية لا سيما السير بسيري الشيخ والنزول بنزوله وستر نسائهم لأنهن يذهبن مكشوفات العورات فيبدين زينتهن لكل الناس بل يتزين لأجل ذلك ليرعن من فتن بهن فأردت إقامة الحد عليهن وعلى أزواجهن فصارت لي فتنة عظيمة غير أني من عاداني منهم ببركة السنة لم يرجع إلى بيته فأظهر الله أمري فتطيروا وتشاءموا بعد ذلك وتاب من بقي منهم بعد أن هلك من هلك منهم والحمد لله على إظهار السنة النبوية وقد قال تعالى : (تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) الآية وقال أيضا : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) وقد قال تعالى في مثل أهل عامر ممن يريد الوصول إلى الله بالدعاوي الكاذبة والزخارف البينة والأباطيل المزينة (يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ) وقال أيضا في شأن مثلهم : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) وقال أيضا : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وقد سمعنا أن بعض الفاسقات ممن يزعم الأحوال الربانية والمواجد الإلهية ممن استولى الشيطان عليهن وسولت أنفسهن لهن تتعرض بنفسها للرجال وتزعم أن من لم يوافقها في غرضها الفاسد ابتلي بمصيبة بل

١٧٤

قد تقول إن لم توافقني في غرضي أصابك كذا وكذا بان تعينه فيصير ذلك ويظن الجاهل المغرور المخدوع المخذول الشقي والعياذ بالله تعالى إن ذلك أمر رباني وكرامة منه تعالى لها وما هو إلا استدراج وقد قال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي نأخذهم (١) إن كيدي قوي تحقيقا أنه إذا أخذ الظالم لم يفلته طرفة عين وقد سمعنا مثل هذا ممن يوثق به وكثير من الناس يحكيه فمنهم من يؤمن به ومنهم من يكفر به وأما التزين بالملابس الفاخرة والكحل والجوز استياكا والخضب بالحناء ولبس الحلي من الفضة وغيرها مع المشي في الأسواق واجتماع الشبان معهن ومن لا خير فيه والله يقول افعز عليه الصبر ، وأحنى (٢) عليه الكبر ، فعظمت مصيبة فأمر مشهور لا يكاد يخفى على أوباش العامة فضلا عن الخاصة أما الجهال فيعتقدون أن ذلك من الدين معاذ الله ويأبى الله أن يكون ذلك دينا أو يكون الوصول إلى الله بحرام والحمد لله على عدم مسخهم أو يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم كسفا من السماء أي قطعة منها ويدلك على ذلك أنه تتجافى أنفسهم عن مخالطة أهل العلم ومباعدتهم إياهم فجمحت عن الاجتماع بهم فضلا عن الامتثال لأوامرهم واجتناب نواهيهم والله يقول : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية.

وأما العلماء ممن فيه رائحة خير وحسن اعتقاد يقول فيمن هذا شأنه إذا اجتمع معهم ورأى المخالفة منهم أنهم من أهل التخريق والتلبيس عن أنفسهم إظهارا منهم للقبيح وإخفاء للحسن كما يحكى ذلك عن بعض الصديقين ممن سلف من أولياء الله تعالى فحشاهم أن يكونوا كذلك بل همه زنادقة خلته أنهم أباحوا المحرمات فقد تطبعوا بطبائع المرجية لأنهم يعتقدون أن لا آثم مع الإيمان فهذا أمر لا يليق بالعلماء بل

__________________

(١) في ثلاث نسخ نؤخرهم.

(٢) في ثلاث نسخ وحن.

١٧٥

يجب عليهم زجرهم والنكر عليهم ما استطاعوا لقوله صلى الله عليه وسلم إذا رأى العالم بدعة ولم يغيرها فعليه لعنة الله أو كما قال وقد قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الآية والعلماء خيار من خيار وأمته صلى الله عليه وسلم خير الأمم والعلماء هم خيار الأمة ولذا كانوا خيارا من خيار.

وأما السلاطين فيجب عليهم النكير والتغيير باليد إذ وظيفة العالم اللسان ووظيفة السلطان اليد لكن لما سكت العلماء زاد الناس في البدع واتسع الخرق على الرافع.

نعم فإن من يقتدى به من أهل العصر ممن ينسب إلى العلم بل إلى الصلاح يجلس معهن ويظهر للناس ودهن ويعلم الناس أنهن صالحات قانتات يعني اللاتي ذكرهن في القرآن العظيم بل يزعمون أنهن من أهل الحضرة في اعتقادهم وبعضهن في غاية الجمال والحسن فيخاف على نفسه من زارهن من غير شك ومع ذلك تبقى هذه المزورة مكشوفة البدن بل تظهر محاسنها للشبان ومن لا خير فيه بل قصد أكثر الناس الغرض الفاسد أن وصل إليه حتى صار بعضهن مرصادا للزيارة فلما أتاني بعضهن لام علي من حيث أن أفضل العلماء خالطهن ليلا ونهارا وأظهر صلاحهن في مجالس العامة والخاصة وكيف بك يا قليل النية ويا كثير الحيلة أن لا تأتي إلينا وتكون معنا فقلت لهن لا يحل لكن الاجتماع بالأجانب والاختلاء بهم لقوله صلى الله عليه وسلم ما اختلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما وقال أيضا باعدوا بين أنفاس النساء وأنفاس الرجال وقال أيضا لو كان عرق الرجل في المشرق وعرق المرأة في المغرب أو العكس لتحانّا قلن في الجواب القلوب مع الله فلا علينا من الصور الظاهرة لقوله صلى الله عليه وسلم أن الله لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم فقلت لهن فإن لم يكن

١٧٦

لكن فتنة كانت الفتنة لمن أجتمع معكن فقالوا اللهم أهلكه وهذا كله ليس من السنة فأوصاف من هذا شأنه لا تعد ولا تحصى ولا تضبط ولا تستقصى فيجب أن نثني القلم إلى ما كنا بصدده وهو انه لم أصبح الله بخير الصباح رفع سيدي أحمد الطيب وسيدي أحمد بن حمود وأصحاب الجميع بل ظعن الجميع ممن كان في وطننا وأخذ في السفر والركب الفزاني لم يتحرك من موضعه يريد أن يضحي النهار ليقضي كل واحد حاجته من سوق الينبع فلم يذهبوا مع ركبنا الجزائري [ولا بقينا مع الفزاني ولا مع المصري بل انفردنا وحدنا فظعنا عند طلوع الشمس وانفصلنا وتخلف إخواننا في الله سيدي محمد الشريف وأصحابه مع الفزاني لأنه لا يليق به الجزائري](١) لما فيهم من الغلظة وسوء الأدب فلما غبنا عن الأركاب استقللنا أنفسنا ثم اجتمعنا وتقوى (٢) بعضنا ببعض فسرنا كذلك في يوم حر لاقرو أن رأينا العرب انضم بعضنا إلى بعض فلم يستطيعوا الكرة علينا أبدا إلى أن وصلنا الخضيرة بأمن وعافية وسلامة فوجدنا الجزئري نازلا فيها فتعجبوا منا إذ بلغنا إليه قرب المغرب فظعنا منه بكرة وهذا الموضع لا ماء فيه أصلا فسرنا مع الركب إلى أن وصلنا إلى النبط بعد الزوال في يوم شديد الحر كادت النفوس أن تذهب من شدة العطش بل مات بعض الناس به ولما قربنا منزل النبط تحركت علينا ريح شديدة الحر مع حرارة الشمس بحيث من ذهب إلى رحله كاد أن يموت وأما من تخلف فلا تسأل عنه.

نعم تخلفنا في جماعة من الفضلاء في آخر الركب فأصابنا عطش شديد ونحن كذلك إلى أن أشرفنا على النبط فزاد بنا شدة الحر وقوة العطش وإذا بواحد من العرب لقينا بقربة من الماء فاسقى جميعنا ظنا منا أن هذا الشخص لم ير منا إلا الفلوس فشربنا الماء أحلى من العسل وأبرد من الثلج فلا نعلم انه من ماء المطر أو من العيون التي في

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط في نسخة.

(٢) في نسخة والتقى.

١٧٧

الجبال فلما أتى عن آخرنا ارتقبنا منه أن يتكلم ويسأل الدراهم كما هي عادة عرب الحجاز أعني هبّ الريح فلم يطلب من أحد دعاء ولا سأل شيئا منه بل رفع قربته ولم يلتفت إلى أحد منا فعجب جميعنا منه ووقع في قلوبنا أن هذا الرجل من أهل الله وأنه من عباد الله الصالحة إذ يعلوه جلال وهيبة ونور فندم الكل من حيث أنهم لم يسألوا منه الدعاء ومع ذلك آثر بمائه العلماء من الركب وفضلاءه فزال ما بنا من العطش فنزل الركب قرب الآبار وازدحموا عليها لسقي الإبل وملء السقاية زحمة عظيمة حتى ظننا أنه لا يبقى فيها قطرة ماء بل بفضل الله يتزايد فاستقينا وسقينا وملأنا السقاية فزاد الماء من عنده الوسع لأن ماء الحوراء ليس بطيب وبعده الدركين المسمى الآن بالحنك لا ماء فيه وبعده الإكراه فماؤه أقبح وأقبح مرارة فمن شربه ربما أذاه وأوجب له المرض وعنده تتغير الوجوه وتسود قل أن يسلم الناس منه من الوخم أي المرض ومع ذلك أنه لا يحصل إلا بمشقة عظيمة من الحفر والاستسقاء بالأواني الصغار كالقدح وغيره فلا ينبغي للحاج أن يكثر الأكل في هذه المنازل لأن كثرته تستدعي الشرب الكثير والشرب الكثير من هذه المعاطن يؤذي كثيرا وربما أهلك وذلك مجرب صحيح وقلة الأكل تشد العصب وثاقا وتقوي الأعضاء فلا يظمأ صاحبها أبدا وضدها يرخي الأعضاء ويضعف البدن بل ربما أمرضه وبعده الوجه ماؤه عذب غير أنه قليل جدا فلا يكفي ماؤه عامة الركب أصلا وإنما يفترقون في الوادي الذي فوقه فيحفرون فيه حفائر وماؤه قليل فلا يحصل منه نفع إلا بطول المدة كعامة الليل والنهار بل ربما تشاجروا عليه فضعيف النفس أو الخدام أو الرفقة رجع منه خائبا فيكون ذلك سبب هلاكه وقد شاهدنا ذلك كله ولو لا فضل الله علينا ما ملأنا السقاية ولا استقينا أصلا ولقد أحسن الله إلينا فلله الحمد والمنة.

ثم ارتحلنا من النبط ليلا وقد اجتمع فيه الركب الجزائري والفزاني والفلالي فلما ارتحل الكل اختلطت الأركاب فلا يعرف أحد صاحبه من كثرة الخلق ومن عادتي مع

١٧٨

سيدي أحمد الطيب وسيدي محمد الشريف وأصحابه ممن يركب على البغال أو الخيل إذا انفصل الركب نذهب جميعنا لتحصل لنا الصلاة في الجماعة وليستعين بعضنا ببعض حتى الغذاء نجتمع عليه من غير اعتبار الجميع فانتظر بعضنا بعضا فلم يوافق ذلك اليوم إلا سيدي أحمد الطيب فتخلفنا عن الركب فإذا برجل من الفضلاء من ركبنا تخلف رحله وهو مريض في كرمود على جمل والله اعلم أن زوجة ابنه راكبة أيضا في باسور فوقع الجمل في الأرض وأزال عنه الحوائج فلا عرفناه انتظرناه إلى أن استوى رحله وقام على جادة الطريق وإذا بالحجاج فأتونا فلم يقع لنا بصر على أحد ومع ذلك ضل علينا الطريق ثم ذهبنا مع سفح الجبل كذلك إلى أن سمعنا نباح الكلاب فقلت لسيدي أحمد يا حسرتنا قد هلكنا فقال كيف الفعل قلت له ها هي عمارة العرب ثم أني نزلت عن بغلتي وانثنيت إلى الجبل وبتعني سيدي أحمد ومن معه وأنا كذلك أتحسس من الركب فلم اسمع صوتا ولا همسا ثم كذلك إلى قرب انقطاع الجبل فتحسست منه أيضا فسمعت صوت سائقة الإبل وراء الجبل ففرحت غاية الفرح وبينما أنا كذلك إذ رأيت الركب يمشي فكان مشي الحجاج عن يمين الجبل ونحن عن يساره وهو على جمعهم إذا يشاء قدير فرجعت إلى سيدي أحمد الطيب فذكرت له الخبر بعد أن آيس من لحوق الركب فإذا ركبت بغلتي ودخلنا وسط الركب وكل هذا من بركة الصالحين لأن المنقطع عن الركب ما وصل قط سالما أبدا إلا من عصمه الله وصانه وذلك من الغرائب ونحن كذلك إلى أن نزلنا الحوراء بين الظهر والعصر فلما استقربنا القرار وإذا بخبر عال ان الفاضل الكامل الحسيب النسيب شيخ الركب الفلالي سيدي محمدا جرحه العرب في النبط في آخر الركب وقالوا ما ضربوا إلا بندقة واحدة فجاءت فيه وهو رجل جميل شجاع حسن الهيئة راكب على فرس حمراء قال أصحابه لا يخاف أصلا فلم نذهب إليه ليلتنا تلك فسقينا واستقينا ظنا من الرحلة ليلا كما هي عادتهم فلما سمعنا بالشيخ المذكور انه في السياق انتظروه لطلوع الشمس ليدفنوه فلم يمت

١٧٩

صبيحة ذلك اليوم فذهبت إليه فوجدته قوي النفس كثير النهج فعلمت أنه قريب الموت غير انه يموت عن قرب فرجعنا فظعنا عند الضحى فنزلنا الدركين قرب الاصفرار وقد علمت أنه لا ماء فيه فبعد ذلك لحقهم الفزاني وظعنا منه إلى الأكره فنزلنا عند الظهر وإذا بخبر موت الشريف في الدركين ثم انه لما لحق بالركب الفزاني استطال العرب في آخره فسلموا منه وظننت أنهم قتلوا منه ونهبوه فظعنا منه إلى الوجه ووصلنا إليه والله اعلم بين الظهر والعصر فنزلنا تحت البرج وهو خال من العسكر وإنما يحفظه العرب فقط ثم أن الناس افترقوا على المياه في الوادي الذي أعلى البرج وأظنه المسمى بالزعفران فتبعه الناس إلى أعلى الوادي غير أنهم يخافون منهم خوفا شديدا لكن الناس طلعوا إليه بأسلحتهم وطلعت أنا وولدي محمد إلى أن هيأنا موضعا للسقي فرجعت إلى الخيمة قرب العشاء فلما ملئوا أسقيتهم رجعوا إلينا ليلا وان الفقيه الفاضل سيدي عبد الرحمن بن الزيعم العمري كان يسقي بغلته من البئر التي قرب الطريق فإذا بالحراميين أخذوا بغلته وذهبوا فأراد أن يمسك العرب فيها وأنا أريد أعانته فامتنع الشيخ من أعانته وكذا الكثير من الركب إذ خافوا منهم فذلوا وأن الفسقية التي تحت البرج مملوءة ماء فتركناها لأمير مصر بعدنا.

هذا وأنا ظعنا من الوجه صبيحة عند الأسفار فخاف الناس من العرب وأن العرب في بلاد الحجاز من عسفان إلى الينبع بلاد حرب ومن الينبع إلى الأكره بلاد جهينة ومن الأكره إلى ظبة بالظاء المشالة والباء الموحدة والهاء واد دون المويلح بلاد بلي ومنه إلى مصر بلاد الحويطات ومغارة الأعلوين وبني عقبة ثم ظعنا من الوجه وبلغنا اصطبل عنتر وبنتنا فيه واستقت الناس منه ثم ظعنا منه صبيحة وسرنا كذلك إلى أن نزلنا الأزلم والله اعلم ليلا وماؤه حرف أي مر لا يصلح ولو لسقي الدواب ثم منه بكرة في آخر الليل ثم سرنا كذلك وبين هذه المنزلة والتي نصل إليها قبر سيدي مرزوق الكفافي والناس يزورونه وأنا لا أعرف قبره ثم سرنا كذلك إلى أن نزلنا آبار

١٨٠