الرحلة الورثيلانيّة - ج ١

الحسين بن محمّد الورثيلاني

الرحلة الورثيلانيّة - ج ١

المؤلف:

الحسين بن محمّد الورثيلاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-371-3
الصفحات: ٤٥١
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

كلمة للمصحح

الحمد لله الذي جعل الرحلة لبيته الحرام من قواعد الإسلام ، وأمر بالسفر في البرور والبحور ، فقال الله عز وجل (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). وجاء في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال : «سافروا تصحوا وتغنموا». والصلاة والسلام على خير الأنام سيدنا ومولانا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه والذين جابوا البسيطة من المغرب الأقصى إلى بلاد الصين.

أما بعد فالرحلة الورثيلانية الموسومة بنزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار للإمام العلامة والأستاذ الفهامة الشريف النوراني الشيخ الحسين ابن محمد الورثيلاني نسبة إلى بني ورثيلان قبيلة قرب بجاية. أنفس تصنيف رصعت جواهره في وطن الجزائر. وأعلق تأليف اشتهر بين البوادي والحواضر ؛ لاشتماله على عوارف المعارف ، وظرائف الطرائف ، وأوابد العوائد ، وفرائد الفوائد ، ونسق كالأوصاف الكاملة ، وحل المسائل الشاكلة تارة راتعا في رياض الفقه والحديث والتوحيد ، وتارة واردا حياض التفسير والتاريخ والتجويد ، وآونة طامحا إلى التصوف والنصح والوعظ. باذلا في ذلك كله غاية الجهد والنكظ. فاصلا جمانه بمرجان الحكايات الأنيقة ، ومرصعا وشاحه بياقوت الأشعار الرفيقة وغير ذلك مما هناك. ولما كان هذا التأليف الحسن الترصيف مطمح الأنفس ، وغاية التأنس ، أمر سمو الوالي العام بطبعه ، لتعميم نفعه.

وقد اعتمدنا في التصحيح على أربع نسخ :

١ ـ نسخة مخطوطة بخطوط مغربية مختلفة مقابلة على نسخة منقولة من مسودة

٣

المؤلف مجموع صفحاتها ٦٤٢ في كل صفحة من ٢١ إلى ٣٢ سطرا وكل ٣٣ كراسة غير مخيطة متخللة بأوراق مورقة طولها ٢٧١ مليمترا في عرض ٢١٠ مليمترا.

٢ ـ نسخة مخطوطة بخطوط مغربية غالبها جميل مقابلة كالتي قبلها على مسودة المؤلف مجموع أوراقها ٢٥٣ في كل صفحة ٢١ سطرا و ٣١ كراسة غير مخيطة متخللة أيضا بأوراق مورقة طولها ٢٠٧ مليمتر في عرض ١٩٠ مليمترا وهي أصح النسخ وأقل بياضا.

٣ ـ نسخة مخطوطة بخطوط مغربية غالبها غير جيد مؤرخة بيوم الجمعة الفاتح لشهر شعبان عام ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر (١٣١٣) مجموع صفحاتها ٦٤٠ في ٣٧ كراسة غير مخيطة متخللة بأوراق مورقة في كل صفحة ٢٠ سطرا وطولها ٢٦٥ مليمترا في عرض ١٩٥ مليمترا.

٤ ـ نسخة مطبوعة على الحجر في حاضرة تونس سنة ١٣٢١ بتصحيح الشيخ علي الشنوفي والشيخ الأمين الجريدي وهذه النسخة مشتملة على ثلاثة أجزاء في الأول ٢٥٠ صفحة وفي الثاني ٢١٤ صفحة وفي الثالث ٢٦٠ صفحة غير أنه يمكن أن تعتبر نسخة مخطوطة بخط مغربي كاد لا يقرأ في بعض المواضع لانطماس الحروف وتعثر القلم والتمجمج أو تفشي المداد وزيادة على ذلك لم ينبه في غير موضع عن البياض الموجود في الأصل.

هذا وقد بذلنا في التصحيح غاية الجهد مع أننا معترفون بأننا لم نبلغ منزلة تسمو عن النقد. ولا سيما كون الأصول التي راجعناها عند الطبع مختلفة الروايات مضطربة العبارات. وقد تعذر علينا كثيرا إصلاح التصحيف والتحريف بعد مراجعة عدة من التآليف. وما العصمة والكمال إلا لذي القدر والجلال.

محمد ابن أبي شنب

٤

ترجمة المصنف

الحمد لله وجد مكتوبا في آخر صحيفة من رحلة الشيخ البركة سيدي الحسين الورثيلاني ما نصه :

يقول زابر هذه الأسطر الفقير إلى الله القدير ، عبد القادر بن محمد الصغير ، وفقه الله لما يحبه ويرضاه ، اعلم أيها الواقف أن مؤلف هذه الرحلة وجامعها هو مولانا وقدوتنا إلى الله تعالى المحقق الكامل ، العالم العامل ، العارف بالله تعالى أمام المحققين والمريدين ، ذو الرتبة الإلهية والعلوم الربانية ، والمنح الرحمانية ، المقتفي لكتاب الله تعالى والسنة المحمدية ، وهو الولي الصالح ، والعالم الرباني ، سيدي الحسين بن محمد السعيد الشريف الورثيلاني ، رحمه الله تعالى ونفعنا به كان إماما محققا بارعا في العلوم وتقفه حتى وصل الغاية في مذهب المالكية ، ولا سيما قد فتح الله عليه بالافتتاحات الربانية ، وله تصانيف عديدة ، وتآليف مفيدة.

منها شرحه على القدسية للإمام المحقق ، والفهامة المدقق ، سيدي عبد الرحمن الأخضري وهو شرح حسن إذ لم نعلم لها شرحا غيره.

ومنها شرحه على وسطى الإمام السنوسي.

ومنها شرحه أيضا على محصل المقاصد للإمام أبي العباس أحمد بن زكري التلمساني غير انه مات فيه قبل تمامه.

وشرح أيضا خطبة شرح الصغرى للسنوسي.

وله حاشية جليلة على حاشية المحقق السكتاني التي وضعها على شرح السنوسي.

٥

وقد وضع رسالة عجيبة على قول بعض الأولياء وقفت على ساحل وقفت الأنبياء دونه لعله أبو الحسن الشاذلي والله اعلم.

وله رسالة أخرى في بعض قول الأولياء نسجت برنسا من ماء وغطيت به من الأرض إلى السماء الخ.

ورأيت له حاشية على صغير الخرشي مزبورة على هوامش الشرح.

وقد شطر البردة.

والقصيدة التي للبوصيري أولها «يا رب صل على المختار من مضر» تشطيرا عجيبا بحيث لا تفرق بينه وبين الكلام الأصلي وغير ذلك من القصائد والتآليف والتقارير مما يطول تتبعه.

ولد رحمه الله تعالى على ما أخبرني به أبي عام خمسة وعشرين من الثاني عشر (١١٢٥) وتوفي على ما ذكره لي بعض تلاميذه في شهر رمضان عام ثلاثة وتسعين من القرن (١١٩٣) وبعضهم قال عام أربعة وتسعين فعلى هذا عاش المؤلف ثماني وستين أو تسعا وستين سنة انتهى.

هذا وقد ترجمه أيضا العلامة المحقق والفهامة المدقق الشيخ أبو القاسم محمد الحفناوي في القسم الثاني من كتابه الموسوم بتعريف الخلف برجال السلف المطبوع بالجزائر فقال هو الإمام العالم العامل العلامة الكامل الأستاذ الهمام شيخ مشايخ الإسلام الورع الزاهد الصالح العابد المتبع لأثر الرسول الجامع بين المعقول والمنقول بحر الحقائق وكنز الدقائق مفيد الطالبين ومربي السالكين وقدوة العلماء العاملين وبقية السلف الصالحين محيي السنة والطاعن في نحور مخالفيها بالأسنة نادرة الزمان

٦

وبركة المسلمين في كل عصر وأوان الجامع بين العلمين والكامل في النسبتين حامل لواء الشريعة والحقيقة ومعدن السلوك والطريقة ذو التأليف المفيدة والتصانيف العديدة العالم الرباني والقطب الصمداني والشريف النوراني الشيخ سيدي الحسين الورثيلاني نسبة إلى بني ورثيلان قبيلة بالمغرب الأوسط قرب بجاية التابعة للجزائر كان رحمه الله مجاب الدعوة شديد السطوة لا تأخذه في الله لومة لائم ليله قائم ونهاره صائم.

تراه يصلي ليله ونهاره

يظل كثير الذكر لله سائحا

متعلقا برب الأرباب متوكلا على الكريم الوهاب قد استوى عنده الذهب والتراب فهو ممن ترك الجيفة للكلاب ورأى المصطفى في المنام فاحتضنه فأول ذلك بزهده في الدنيا والحطام ظهرت على يده الكرامات وخوارق العادات وشهد له أهل الصدق بالولاية الكبرى والمكاشفات ونصر الله به الدين وقطع به دابر الملحدين ولم يزل متضرعا لله في السر والنجوى يصدع بالحق ويقيم السنة صادق اللهجة واضح المحجة مستقيم الحجة قصد بيت الله مرارا وحجه طاهر الجنان رطب اللسان ناشط الأعضاء في العبادة والأركان.

حلف الزمان ليأتين بمثله

حنثت يمينك يا زمان فكفر

كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومناما رآه أكثر من ثلاثمائة مرة وفي بعضها قال له عند تعلقه به :

تضلع من علم الشريعة بعد ما

تضلع من علم الحقيقة (١) وتدرعا

أخذ العلم عن والده وأشياخ وطنه ثم رحل إلى المشرق فحج واجتمع بالخضر

__________________

(١) هكذا بالأصل.

٧

عليه السلام بمكة المشرفة واجتمع بالشيخ الهماق (١) صاحب الطريقة المشهورة بالمدينة المنورة ودخل مصر القاهرة فوجدها طافحة بالعلم والعلماء نيرة زاهرة فركع واستفاد واخذ العلوم العالية عن أولائك كالأسود والأسياد فممن أخذ عنه الصعيدي والحفناوي والجوهري والنفراوي والعفيفي والسيد البليدي والملوي والصباغ والعمروسي وخليل الأزهري وعمر الطحاوي والزياتي والأشبيلي وأبي القاسم الربيعي والهاشمي وابن شعيب الكردي والفيومي وأجازوه في العلمين ثم رجع من المشرق بعد أن امتلاء وطابه وفاض عبابه بعلم وأفاد وألف وأجاد ودعا إلى الله العباد وقهر الجهلة أهل التعصب والعناد فمن تأليفه الرحلة السنية التي سارت بها الركبان وقد دعا لناسخها ومالكها وناظرها فهي حصن حصين ودرع متين ومنها شرحه على المنظومة القدسية للشيخ عبد الرحمن الأخضري في التصوف وحاشية على الكستاني وكتاب المرادي وقصيدة فيها خمسمائة بيت في مدح النبي صلى الله عليه وسلم كالهمزية لكنها ميمية وشرح على خطبة الصغري ورسالة جوابا على قول بعضهم خضت بحرا وقفت الأنبياء بساحله ورسالة في حل اللغز الذي أرسله سيدي أحمد بن يوسف الملياني إلى علماء فاس فعجزوا عنه وأما وفاته رحمه الله فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه يعيش إلى السنة العاشرة من القرن الثالث عشر فتكون وفاته كما أخبر به الصادق المصدوق لأنه لا ينطق عن الهوى ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق ومن رآه فقد رأى الحق كما في صحيح البخاري اه.

__________________

(١) هكذا بالأصل.

٨

نزهة الأنظار

في

فضل علم التاريخ والأخبار

المشهور بالرحلة الورثيلانية

للشيخ العالم الرباني والشريف النوراني

سيدي الحسين بن محمد الورثيلاني

قدّس سرّه

آمين

٩
١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

قال الشيخ الفقيه العالم الورع الزاهد شيخ الشريعة والحقيقة ، وإمام أهل الطريقة ، العالم الرباني ، والفقيه النوراني ، سيدي الحسين بن محمد السعيد الشريف الورثيلاني (١) رحمه الله تعالى ورضي عنه وأعاد علينا من بركاته وأفاض علينا من بحر أسراره وأنواره بمنه أمين.

الحمد لله الذي خلق الإنسان (٢) أطوارا ، وجعل الشمس والقمر والنجوم أنوارا ، وسيرها من كون إلى كون بحيث تقطع أبراجا ليلا ونهارا ، فيا عجبا من رحلتها بسوق الأملاك إياها فهي أية النهار حقا مشهورا. خلق الإنسان (٣) من نطفة أمشاج ليبتلي وجعل سمعيا بصيرا ، فبهدي إلى السبيل أما شاكرا وأما كفورا ، ثم كالأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، عينا يشرب بها المقربون أعني زمزم وذات المحبوب يفجرونها بالشوق (٤) تفجيرا ، نعم يوفون بما به كلفوا من المناسك وما به عرفوا من الحقائق تذكرا وتذكيرا ، يسمى (٥) العهد القديم والنذورا ، ويخافون يوما كان شره مستطيرا ، ويطعمون الطعام في البر والبحر على حبه والرغبة فيه لقلته وغلائه جائعا وضريرا ، بحب وشوق وعشق في الله ونبيه ورضاهما لا يريدون جزاء ولا شكورا ، فوقاهم الله شر ذلك اليوم بسعيهم سعيا مقبولا مشكورا ، وتجارة لن تبورا ، ليوفيهم الله تعالى أجورهم ويزيدهم من فضله النظر إلى وجهه وقد حجوا

__________________

(١) في جميع النسخ الورتلاني.

(٢) في نسختين للإنسان.

(٣) في نسختين بإسقاط الإنسان.

(٤) في نسخة بإسقاط بالشوق.

(٥) في ثلاث نسخ سيما.

١١

حجا مبرورا ، ولقاهم أيضا نظرة ورحمة وعزا ورفعة ومعرفة وزهدا وبصيرة وسرورا ، وجزاهم أيضا بما صبروا لتعب السفر ومشقته حرا وبردا وسقما (١) جنة وحريرا ، فلا يرون في ظل العرش عذابا أصلا ولا شمسا أيضا ولا زمهريرا ، فما أحسنها من رحلة وظعن من الخلق إلى الخلق وان إلى ربك المنتهى وسواه لم يكن شيئا مذكورا ، فسبحان من وفق (٢) وخذل آخرين مع استوائهم في البشريات ألا له الخلق والأمر تبارك الله يقول للشيء أخسا فيكون مذموما مدحورا ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرمدا دائما بكرة وأصيلا ليلا ونهارا ، وعلى آله وأصحابه أجمعين صلاة نحوز بها غدا حجابا عظيما من شر كل ذي شر مع لواء الحمد في حضرة القدس منشورا ، وذلك مع الأباء والأمهات والأزواج والذرية والأحبة وفي جنة الفردوس تكون قصورا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نشأت من صميم القلب وخلوص الاعتقاد خالية من الأمتراء تكون لنا يوم القيامة فوزا ونورا ، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله ونبيه وقريبه صلى الله عليه وسلم إذ كان مؤيدا منصورا.

وبعد فأني لما تعلق قلبي بتلك الرسوم والآثار ، والرباع (٣) والقفار والديار ، والمعاطن والمياه والبساتين والأرياق والقرى والمزارع والأمصار ، والعلماء والفضلاء والنجباء والأدباء من كل مكان من الفقهاء والمحدثين والمفسرين الأخيار ، والأشياخ العارفين والأخوان والمحبين المحبوبين من المجاذيب المقربين والأبرار ، من المشرق إلى المغرب سيما أهل الصحو والمحو إذ ليس لهم من غير الله فرار ، أنشأت رحلة عظيمة يستعظمها البادي ، ويستحسنها الشادي ، فإنها تزهو

__________________

(١) في نسخة بإسقاط وسقما.

(٢) في نسخة وفي.

(٣) في نسختين والربع.

١٢

بمحاسنها عن كثير من كتب الأخبار مبينا فيها بعض الأحكام الغريبة والحكايات المستحسنة والغرائب العجيبة وبعض الأحكام الشرعية مع ما فيها من التصوف مما فتح به علي أو منقولا من الكتب المعتبرة سيما وان اعتمادي في ذلك على رحلة شيخنا وقدوتنا ومن على الله ثم عليه اعتمادنا سيدي أحمد بن [محمد بن] ناصر [الدرعي الجعفري (١)] هذا وأني أنقل أيضا من بعض كتب التاريخ كنبذة (٢) المحتاجة في ذكر ملوك صنهاجة ومختصر الجمان في أخبار أهل الزمان (٣) وكذا حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة وغيرهما (٤) مما يناسب المحل جعله الله خالصا لوجهه وعملا متقبلا بين يديه وحصنا حصينا من كل بلاء دينا ودنيا لمؤلفه وناسخه ومالكه وناظره أمين يا رب العالمين وكذا قلت وعلى الله اعتمدت.

اعلم أيها الأخ لما أراد الله المشي منا إلى الحج وقد سبق في علم الله أن يكون حجنا في عام تسعة وتسعين ومائة وألف (١١٧٩) مع إجابة وتلبية للخليل عليه السلام حين قال له الله تعالى وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق الآية حدث لنا العزم بإذن الله تعالى.

وسببه أن الفاضل العالم الكامل الصالح أخانا في الله والمحب من أجله سيدي أحمد الطيب الزواوي نجل الولي الصالح سيدي محمد السعدي من بني العزيز من وطن بني منجلات قدم إلينا زائرا وواقفا علينا وطالع أحوالنا لعل الله يفرج ما بنا من الفتنة مع بعض المخذولين الخارجين عن طاعة الله ورسوله في الأحكام الشرعية بعد إعطاء البيعة والأذعان في جميع الأحكام الشرعية ونبذ العوائد الردية والبدع

__________________

(١) طبعت هذه الرحلة في فاس بغير ذكر السنة.

(٢) كذا في جميع النسخ.

(٣) لعله كتاب الجمان في مختصر أخبار الزمان.

(٤) كذا في جميع النسخ.

١٣

الشنيعة كقطع الميراث وأكل أموال الناس بالباطل وأموال اليتامى ولين الجانب كالأرامل فلما وصل إلينا فرج الله عنا ذلك بعد أن وقع النصر من الله العزيز لقوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) ولقوله تعالى : (تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ) فيوقع الصلح بين الفريقين وأظهروا التوبة والذل والمسكنة والندم بعد أن كانوا ممتنعين منها ظاهرا وباطنا الفضل لله تعالى والشكر له جل جلاله.

فلما كان ذات ليلة من الليالي إذ (١) اجتمع سيدي أحمد الطيب مع أخينا في الله سيدي أحمد بن حمود (٢) وسيدي مهنّا وكلهم ذوو الفضل والعلم والصلاح في دارنا فأخذوا في حديث الانتقال من الوطن فتوقى بهم الكلام إلى التحدث على الحج سنة إذ مع أننا سمعنا أن الشيخ الفاضل الكامل شيخ الركب سيدي محمد المسعود نجل الشيخ البركة سيدي الموهوب نجل الشيخ الولي الصالح والبدر الواضع سيدي محمد الحاج قد ضرب طنبله (٣) في المدينة المحروسة الجزائر على عادة الأمراء في ذلك نعم كنا تواعدنا معه قبل على السفر جميعا وفق الله الكل إلى صالح القول والعمل وذلك عام مشينا لزيارة النبي سيدي خالد عليه السلام على القول بنبوته وقد شهر غير واحد من المتأخرين رسالته بجبل الرس (٤) الملقب الآن أوراس وكانت معجزته نارا (٥) وكانت رسالته قبل رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمدة قريبة إلا أن رسالته صلى الله عليه وسلم نسخت جميع الرسائل والشرائع إلا ما بقي (٦) عن كونه لم ينسخ والذي شهر رسالته صاحب التآليف المشهورة والتصانيف المذكورة المنتفع

__________________

(١) إذا.

(٢) في نسخة حمودي.

(٣) في نسخة طنبه.

(٤) في نسختين الرص.

(٥) في نسختين نار.

(٦) في نسخة بإسقاط عن.

١٤

بها غربا وشرقا وجوفا وقبلة سيما بمحروسة مصر في الجامع الأزهر إذ قد اقبلوا على تلك التآليف إقبالا كليا تدريسا وبحثا وشرحا وتعليقا بالحواشي وتطريرا سيدي عبد الرحمن الأخضري نفعنا الله ببركاته وأفاض علينا من بحر أنواره رضي الله عنه وأنا سمعنا أنه هو الذي أظهر قبره بعلم التربيع وهو مقام عظيم والوفود تأتيه من المشرق والمغرب للزيارة وأما على قول بولايته فواضح لأن قبور الأولياء لا تكاد أن تخفى وكذا نص على رسالته الخفاجي على الشفاء فما أحسنها من زيارة وقد اجتمع فيها أكابر الفضلاء وأعظم الصلحاء وتلاقينا في تلك الزيارة مع أفاضل الزاب ونجبائه ولا شك أن أكثرهم مجاب الدعوة كالشيخ الفاضل الفقيه المدرس في مسائل المختصر للشيخ خليل بشرح القدوة صاحب الأنوار الشيخ التنائي مع حاشية الشيخ مصطفى سيدي محمد الشريف من بني جلّال وأهله من الأشراف والسيد عبد الباقي والفضلاء من الطلبة والفقيه الأديب سيدي عبد الباري واجتمعنا أيضا بالزاهد في الدنيا المتخلي عنها رأسا سيدي المبروك وسيدي المبروك هو تلميذ الولي الصالح الورع الزاهد سيدي أحمد بن باباس (١) ونجليه سيدي المحفوظ وسيدي الطيب وسيدي المحفوظ كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم ويرى الله تعالى أيضا حسبما تراه في مرائيه وكان أخا لنا (٢) نفعنا الله ببركاته أمين.

وقد كان سيدي المبروك رضي الله عنه حينئذ متبتلا منقطعا للعبادة وقد رأيته رضي الله تعالى عنه كأنه خارج من قبره تعلوه صفرة وقد ظهر أثر التراب على وجهه فبتنا عنده في قريته وتكرم علينا غاية ودعا لنا ولإخواننا ومن تعلق بنا فلما أردنا الانفصال صبيحة تلك الليلة ذهب عائدا لزيارته سيدي أحمد الطيب وكثير من الناس فلم أذهب أنا معهم قصدا مني أن لا أمنعه من العبادة في تلك العودة وما

__________________

(١) بباس.

(٢) خالنا.

١٥

حصل لنا قبل كأبي وذلك شأني مع كل مشتغل بالله تعالى فأن كنت بطاه فلا أعوق الغير عما يعنيه.

وقد دخلنا طولقة فاجتمعنا بها أيضا مع أهل الفضل والعلم وزرنا أيضا الشيخ المذكور والولي المشهور سيدي عبد الرحمن الأخضري في قريته المشهورة فلما وصلته وجدته كأنه حي في قبره وذقت (١) منه أمرا عظيما يكاد الجاهل أن يحيله وقد زرت والحمد لله النبي سيدي خالدا مرة أخرى قبلها مع الجم الغفير والجمع الكثير نحو الألف وفيه من الأفاضل ما لا يحصى كالسيد الفاضل الشيخ سيدي علي بن المبارك نجل سيدي علي الطيار وفي ذلك السفر زرت الشيخ الغوث أبا جملين في المسيلة أفاض الله علينا من بركاتهم وأعاد علينا من أنوارهم.

هذا وأن العهد مع سيدي محمد المسعود موثوق (٢) فعقد الجميع النية وعزموا على الحج جزما وكان عزمي بعزمهم غير أن عزمي لم يتفّو (٣) ذلك العام إلا إذا ذهبوا فاذهب معهم قطعا إن شاء الله تعالى وبعد ذلك أظهر الجميع عزمه إلى الحج وأنا أقول عزمي على عزمهم فأعان الله الكل فحجوا وقضوا مناسكهم حال الحياة تقبل الله من الجميع.

نعم علامة القبول موجودة ودلائل الخير حاصلة إن شاء الله تعالى وكيف لا إذ لم يسافروا إلا حبا في الله ولله ومن الله (٤) وشوقا في رسوله صلى الله عليه وسلم

__________________

(١) تقت.

(٢) بإسقاط موثوق.

(٣) لم يتفق.

(٤) بإسقاط ولله ومن الله.

١٦

ودلائل الخير (١) لا يمكن فشوها كان ذلك في الكعبة وعند المواجهة علمها بعض الفضلاء وقد شاهدنا (٢) ما لا يصح تخلفه بفضل الله تعالى وناهيك بزيارتهم وحبهم والأخذ منهم وإلا فالمحروم شقي ومن لم يحسن الظن غبي.

وبالجملة فلما سمع الناس من عمالة الجزائر بحج هؤلاء الفضلاء ونخبة العلماء حركهم ذلك إلى شد الرحال إلى بيت الله الحرام من كل بلد ووقع الضجيج من عامة المسلمين ومن خاصتهم وذلك من الحاضرة والبادية حتى ذهب جميعهم بنسائهم وأولادهم.

نعم زاد عزمي وقويت (٣) همتي للمشي غير أنه عارضني أمر أوجب السفر مع الأخ في الله سيدي أحمد الطيب إلى ناحية زواوة وقرية تدلس [دلّس] لزيارة الشيخ الولي الصالح سيدي أحمد بن عمر إذ سمعت به في صباي أنه من أهل التصريف وقد أخبرني بذلك البعض من أهل الخير ممن يوثق بهم وكان رضي الله عنه يعرف أهل عصرنا ويطالع أحوالهم ويعلم من كان من أهل التصريف منهم من المشرق والمغرب وأنه اخبرني بأن سيدي احمد الزروق بن مصباح وسيدي الحسين بن أعراب من بني يزدان وسيدي أحمد ابن باباس (٤) الفليسي وسيدي أحمد بن عمر التدلسي أنهم من أهل الوقت وهو غير بعيد بل هو الحق إن شاء الله تعالى.

نعم هؤلاء فقهاء مدرسون متبعون للسنة وقد ظهرت عليهم آثار الفضل

__________________

(١) ودلائل أخر.

(٢) شهد.

(٣) قوت.

(٤) بباس.

١٧

وأنوار الحق مشرقة عليهم وقد صحبتهم وأحببتهم وشهدت (١) من جميعهم ما يدل على ذلك على أن سيدي ابن أعراب كان يحدثني عن رجال الغيب ويقول أنهم قالوا ذا ويكون ذا ولو لا الإطالة لذكرت من كلامه ما فيه العجب العجاب من اطلاعه على بعض المغيبات.

نعم أحوال الكشف فيه ظاهرة وقد روينا من أسراره (٢) رضي الله عنه وكذا من الجميع في محالهم وقد زرتهم مرارا مع اطلاعي على بعض أسرارهم والحمد لله تعالى.

فانفصلنا من مقامنا بنية الزيارة وقضاء الحوائج لبعض المسلمين من إصلاح ذات البين إذ القتال بين المسلمين في وطننا كثير والفتنة بينهم قل أن ترتفع والهرج بينهم قوي أزال الله ذلك بمنه وكرمه وحكم السلطان غير نافذ فيهم إذ لا يقدر عليهم وان كانوا قريبا من الجزائر لكونهم تحصنوا بالجبال فلم يفد فيهم الأهمة الصالحين وأهل الخير فيجب على من يقبل منه أن يذهب إليهم ويصلح حالهم ليرتفع ما فيهم من المعصية وهي قوله صلى الله عليه وسلم القاتل والمتقول في النار الحديث وقد نص علماء بجاية على أنه يجب على أهل الخير والصلاح ممن يقبل منه أن يصلح بين هؤلاء المسلمين وإلا عصى الله تعالى وقد نصّ أيضا على أنه لا يجوز حال قتالهم النظر إليهم ولا النزهة (٣) فيهم لأنها معصية فلا تجوز مشاهدتها وهو شريك بالنظر أنظره في الأسئلة تره بالعيان.

وبالجملة فذهبنا لبعض القرى قد خربت من أجل ذلك وعلها ترجع للعمارة وكان ذلك في يد متولي أمرهم سلطان مجانة بتخفيف الجيم كما سمعته من بعض من

__________________

(١) كذا في جميع النسخ.

(٢) في نسخة من بحره.

(٣) التفّرج.

١٨

يعرف ضبطه من الحذاق ويوثق به في اللغات وهو المعظم الأجل محب الصالحين الشريف المبارك محمد بن أحمد بن القندوز المقراني ثم العباسي متوجهين إلى تلك النواحي.

ومررنا على قبر الشيخ الولي الصالح والقطب الواضح رحمة وطننا وغيث بلدنا (١) سيدي يحيى العيدلي نفعنا الله به أمين وقد شهد بقطبانيته الشيخ الولي الصالح ذو التصانيف المفيدة سيدي عبد الرحمن الصباغ شارح الوغليسية وقد شرح البردة أيضا بان اختصر شرح الإمام ابن مرزوق التلمساني عليها بعلوم سبعة ورثاه عند موته بقصيدة عظيمة وشهد له أيضا بالعلم الظاهر والباطن وان له كرامات عظيمة (٢) وشهد له بذلك (٣) أيضا بحر الولاية والعلم سيدي عبد الرحمن الثعالبي رضي الله عنه ومثله في العلم والولاية سيدي التواتي البجائي وكان حكمه وفتواه لا يردان من بجاية إلى تورز [ومثله طود العلم وشمس الحق والعرفان السيد الشيخ زروق وكفى بهم علما وديانة ونصحا للمسلمين (٤)] أما سيدي عبد الرحمن الثعالبي فانه رد (٥) رسالة للشيخ سيدي يحيى بان شاوره على أمور ثلاثة أحدها من أزواج ابنتي والثانية من يكون وصيا على أولادي والثالثة تجعل تأليفا لأصحابي فأجابه الشيخ الثعالبي عنها بان بنتك زوّجها من تلميذك فلان وأما الوصية فأنت الوصي عليهم حيا وميتا وأما التأليف فقد ألفت ما فيه كفاية والآن قد كبر سني ووهن عظمي فلا أقدر على التصنيف وهؤلاء كلهم في القرن التاسع رضي الله عنهم

__________________

(١) رحمة بلدنا وغيث وطننا.

(٢) وان له من الكرمات شيء عظيم (هكذا).

(٣) بإسقاط ذلك.

(٤) ما بين القوسين ساقط في بعض النسخ.

(٥) وردت [عليه].

١٩

وأرضاهم وأما سيدي التواتي فقد عظمة غاية التعظيم بان كتب الشيخ سيدي يحيى بعد السلام والرحمة والبركة أنك ذكرت شيئا من أحوالنا في الصلاة منتقدا أو فادحا فيها فأجابه رضي الله عنه بان قال له بعد تعظيمه بما يستحقه من التعظيم والله ما ذكرنا أحوالك إلا تبركا بها فقط وكيف لا وأنك أحييت أمورا درست وطرفا ذهبت وأنت المحق الفاضل صاحب الوقت أو كلاما يقرب منه وإما الشيخ زروق فقد ذره في كناشه وأنه ألف بعض تآليفه في مسجده المعلوم في ثمقرا (١) رضي الله عنه ونفعنا به حاصله ذكره الشيخ زروق وعظمة غاية التعظيم بحيث أخذ عنه العلم الباطن وقال بعض العلماء هو الذي ملك للشيخ زروق أقطارا من البلدان وإلى ذلك أشار بقوله «وملكنيها بعض من كان مالكا» وقد سمعت ممن يوثق به أيضا أنهما اختلفا في لفظ الجبروت هل هو بهمز أو بغير همز [فقال الشيخ زروق بغير همز إذ لم يوجد في اللغة فعلؤت هكذا بهمز (٢)] وقال الشيخ سيدي يحيى إنما هو بهمز فلما أصاب الشيخ الريب قال له الشيخ سيدي يحيى أنظره في اللوح المحفوظ بان مسح وجه الشيخ زروق فأزال الله الحجاب عه فراه كذلك ومن كرامات سيدي انه لما بنى مسجده المعلوم اختلفوا في القبلة فلما اختلفوا فيها قال الشيخ سيدي يحيى لجبل فوق قريته انخفض فانخفض فتبينت لهم الكعبة ورآها كل من كان هناك وهذا والله أعلم وان لم يرمى الكتب غير انه (٣) تواتر عنه ذلك ومن كراماته رضي الله عنه أن الشيخ سيدي التواتي بعث بعض طلبته لسيدي يحيى ليرسل له شيئا من الزيت لأن بلد الشيخ بلد الزيتون إلى الآن فبعث الشيخ سيدي يحيى للطلبة معزا أي عددا منه وقال لهم سوقوا المعز من غير كلام لأحد حتى تصلوا الشيخ فلما وصلوا أثناء الطريق بان وصلوا

__________________

(١) تمغرا وتموقرا.

(٢) ما بين القوسين ساقط في بعض النسخ.

(٣) عوض قوله غير انه ورد في بعض النسخ فقد.

٢٠