الرحلة الورثيلانيّة - ج ٢

الحسين بن محمّد الورثيلاني

الرحلة الورثيلانيّة - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد الورثيلاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-372-1
الصفحات: ٣٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣

دخولنا مكة المشرفة

زادها الله تشريفا وتعظيما وتكريما

فدخلنا مكة فلم تغادر في النفس ترحة ، وأزالت عن الجفون كل فرحة ، فدخلناها في زحمة عظيمة كادت النفوس أن تزهق غير أن سرورها بالوصول إليها خفف بعض الألم بل قد زال التعب والنصب كأن النفوس في وليمة عظيمة لا يعلمها وما فيها من الفرح إلا من منحه الله بل الأرواح قد تجلى عليها ربها فخرت صعقة مغشية عليها فغيبها عن الأكوان كلها بمشاهدة مكونها ومن جملة من غابت عنه هذا الغيب فلم تكترث بما أصابها من الهم والمشقة فلما هب نسيم جوار الحبيب عليها أيقظها وأشهدها رسوم مكان الوصال ، ودلائل الحضرة وسواطع الانتقال ، فعلمت بيت الرب ، وتعلق به الجبح واللب ، سدل كل حبيبت سوى هذا الحبيب وراءه ، فأقام كاس الجوار وأداره (١) ، وصار شذاؤها انتظاره ، فهبطنا منحدرين إلى أن وصلنا قرب البيت فدخلنا المسجد من باب بني شيبة ، فأفاض الله علينا من جوده كرامة وهيبة (٢) ، فظفرنا بالأمن والأمان والسلام من باب السلام.

ثم أقول كما قال شيخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه فشاهدنا البيت العتيق الذي تزيح أنواره كل ظلام وقد تدلت أستاره ، وأشرقت أنواره ، وقد شمر البرقع عن أسافله ، حتى لا يكاد الطائف يناله بأنامله ، يفعلون به ذلك من أول تقدم الوفود ، ولا يطلقون أستاره حتى تعود.

قال الإمام أبو سالم وقد قلت في هذا المعنى ، وأبديت فيه تشبيها غريب المبنى :

__________________

(١) في نسخة وقضى كل حبيب أوطاره وأقام كأس المحبة وأداره.

(٢) في نسختين بإسقاط كرامة وهيبة وفي أخرى من جوده وفضله وكماله.

٤

فكأنه لما بدا متشمرا

والطائفون به جميعا أحدقوا

ملك همام ناهض للقاء من

قد زاره وله إليه تشوق

فتبادر الغلمان رفع ذيوله

حتى إذا رجعوا أطلقوا

قال ومن رأى أكابر الملوك عند قيامهم ، وتشمير الغلمان لفاضل الذيول عن يمينهم وشمالهم ، علم غرابة هذا التشبيه وحسن موقعه ، وأنه واقع في موضعه ، وعلم ما بينه وبين من شبهه بهند وليلى ، وانه لم يجد وصفا ولم يحسن قولا ، فلما وقعت عليه أبصارنا ، وافتضح ما أكنت من الشوق إليه أسرارنا ، قطعنا التلبية لما رأيناه ، وقلنا من الدعاء ما رويناه ، وتجلت لنا الكعبة الشريفة ، ورأينا جماعة الناس بها مطيفة ، فيا لذلك المنظر الذي ملأ القلوب مهابة ، والعيون جلالة تسكن لها الرياح الهابة ، ولما تطوفنا من الجرد قبل ما تطوفنا به عقدا نظيما ، رفعنا أيدينا وقلنا اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ، بعد أن بسملنا وسلمنا وصلينا وهللنا وطبنا ، وللحجر الأسعد يممنا ، ولم نقدم على تقبيله شيئا ، ولا التحفنا من ظلال غيره فيئا ، وقبلنا يمين الله في أرضه ، والشاهد لمن قبله في يوم عرضه.

إلى سيد الأحجار في الحرم الذي

قضى الخالق الباري بتعظيم شأنه

حثثنا مطايا الشوق والسوق في الفلا

فجاءت بنا إنسان عين زمانه

وطفنا بالبيت سبع طوفات ، للقدوم نوينا هذه الحركات ، فأتممناه ولم نبال بما لنا في تقبيل الأحجار من الازدحام ، والمورد العذب كثير ازدحام ، وبعده أوقعنا ركعتين خلف المقام ، وعدنا للبيت فوقفنا بالملتزم ، وشربنا من ماء زمزم ، ودعونا في ذلك كله بالأدعية المأثورة ، ونظم كلماتها المنثورة ، فعاودنا بالحجر بالاستلام ، ناوين سنة السعي كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام ، فخرجنا لقضاء شعيرة السعي من باب الصفا ، كما روي عن معدن الصفا ، وبدأنا بما الله به بدا ، فارتقينا على الصفا ، ووقفنا ،

٥

وللكعبة الشريفة استقبلنا ، فهللنا وكبرنا ، فوشينا الصحف بالدعوات المأثورة إلى أن قال وسعينا بين الميلين الأخضرين سعيا رفيقا سديدا (١) انتهى.

ثم اعلم أننا خيمنا بوادي سيدي أبي طالب والمسجد الحرام وذلك الوادي تحت أبي قبيس فذهبنا كما سبق إلى المسجد فدخلنا من الباب المذكور ، وقلنا الدعاء المأثور ، عند رؤية الكعبة حسبما ذكره شيخنا آنفا فلما دخلنا المسجد بالذكر الوارد فيه قصدنا المطاف لطواف القدوم فبدأنا بتقبيل الحجر مع الزحمة العظيمة من الرجال والنساء فاكتفى الكثير منا بالتكبير ومعي جماعة كثيرة تكاد أن لا تحصى أطوف بهم علمتهم كيفية الطواف ومن الحجر البدء إلى السبعة الأشواط وكان البدء من الحجر الأسود غير أن من قبله أمرته بالبدء من مكان يحاذيه ولا يتم الشوط إلا من ذلك المكان الذي به البدء وكذا أمر المقبل للحجر الأسود للرجوع إليه إذ ربما رجع منه مقهقرا فينقض له الشوط حسبما يفعله الجهال فطفت بهم طوافا كاملا بشروطه وانتفاء موانعه مع الدعاء الوارد فيه أعلمهم إياه ولما رأى أهل مكة فعلي ذلك تغيروا وقالوا ألم تعلم أن أهل مكة لا ينتظرون إلا هذا الموسم فقالوا طف لنفسك واترك الناس فقلت أنا أطوف بهم وأعلمهم وانتم خذوا الأجرة منهم فلما كملنا الأشواط السبعة صلينا ركعتين خلف المقام وبعد الفراغ منهما أقمنا بالملتزم لأن الدعاء به مستجاب بعد أن شربنا من ماء زمزم وسألنا الله فيه ما شاء الله ثم مشينا للحجر قمنا من قبله ومنا من كبر عنده لكثرة الزحمة فذهبنا للسعي في حر عظيم وأزدحام قوي فبدأنا بالصفا وصعدنا درجها إلى أن رأينا لكعبة كما هو السنة فدعونا الله بالدعاء الوارد فيها فمررنا كذلك إلى المروة ثم كذلك إلى تمام السبعة فلم نكمل السعي حتى اشتد علي الحال فظننت عدم التمام فكملته راجلا بمنة الله والفضل من السلام لأن محل

__________________

(١) في نسخة المأثورة وسعينا سعيا مشكورا.

٦

السعي محل شوق عظيم وازدحام عميم.

وأقول كما قال شيخنا ما نصه ولو أيقظ الله الأمراء لمنعوا الناس من التسوق فيه أيام الموسم لكان في ذلك نفع كثير وأجر كبير فلما قضينا الوطر من العسي نزلنا بذلك الوادي ثم أننا أكترينا دارا مع أصحابنا معلومة طريقها والله أعلم من المروة غير أن أهلي ما دخلوها إلا بعد الرجوع من عرفة ونحن بتنا في ذلك الوادي أي أهلي وأصحابي وأما أنا فقد بت في الحرم والله أعلم وبعد ذلك اليوم هو يوم الذهاب فيه لمنى ثم إلى عرفة ثم إلى مزدلفة في الرجوع.

نعم حين نزلنا مبكة طفنا نهارا أي الرجال وأما أهلي النساء وكذا نساء من يحجب من الركب أي المخدرات طفن طواف القدوم ليلا فبعد ذلك اليوم عند صلاة العصر ارتحلنا إلى منى اليوم الثامن من ذي الحجة فانفصلنا عن مكة في ازدحام عظيم من كثرة الأركاب.

وفي ذلك اليوم قتل لي جملا طيبا قل نظيره سيدي محمد ابن سيدي خروف تلميذي فنزلنا بمنى قرب مسجد علي أي استندنا لحائطه من جهة اليمين بينه وبين الجبل الذي فوقه وهذا المسجد الدعاء فيه مقبول مستجاب وورد فيه فضل عظيم ، وثواب جسيم ، والصلاة فيه كذلك فصلينا فيه المغرب والعشاء وإن بعض الأركاب من المصري والشامي والعراقي والمغربي لم يرحل إلى نصف الليل أو الثلث الأول ثم ارتحلوا إلى عرفة فترك الكل الفضيلة وهو النزول هناك إلى شروق الشمس على ذلك الجبل فلما تحرك الكل إلى الرحلة وقع الكلام في ركبنا بالرحلة ليلا فتشاورنا على المبيت ثم مرة أخرى تحركوا ظنا منهم أن من رحل ليلا ليدرك المبيت في عرفة لأنها ليلة شكثم أن الجميع ارتحل فارتحلنا. فلما خرجنا من مزدلفة ووصلنا بينها وبين عرفة طلع الفجر أي بين العلمين فوجدنا أكثر الأركاب هناك نائمين أو الكل والله

٧

اعلم وبطل ظننا الذي أنهم ارتحلوا ليدركوا الوقوف ليلا في عرفة فوصلنا ضحى مسجد نمرة الذي ينبغي الجمع بين الظهرين فيه بالقصر ولو لأهل مكة أي لغير أهله فنزلنا ثم كذلك إلى قرب الزوال فاغتسلنا أيضا الوقوف بين ذلك المسجد ومسجد عرفة فامتلأ المسجد ناسا وكذا مراحه واشتد فيه الحر بحيث لا يقدر أحد أن يضع رجله على الأرض عند الضحى وورد علي رجل ضرير فقيه عظيم يحفظ أكثر الشراح وهو مالكي من جزيرة العرب أعني البحرين فلما سألته عن أكثر أهلها فقال مالكيون نعم مسائل الفقه كلها أوجلها على طرف لسانه ليس يبغي إلا رضاء الله تعالى فجدير على أنه من أهل الفضل والكمال ووعدني بالملاقاة بالمسجد الحرام ثانيا فلما حان وقت الظهر صلينا في زحمة عظيمة يكاد الإنسان أن يموت من شدة الحر وأن العرق علينا يسيل فلا تجد أحدا إلا كاد أن تزهق روحه فصلينا خلف واحد من الأئمة ونوينا القصر وصلى هو بالإتمام من علم منا لما فرغ أعاد جميع أهل بلدنا وهو أننا نوينا القصر ونوى هو الإتمام فلما اختلفنا في النية بطلت صلاتنا ثم أعدناها جماعة جمعا وقصرا ثم حثثنا مطايانا للوقوف بعرفة إلخ.

فلنرجع إلى ما ذكره شيخنا ونصه والله اعلم بما نال وفد الله من الطرب والفرح ، ونسيان العناء والترح ، لما عاينوا تلك المشاهد ، وشاهدوا تلك المراسم والمعاهد ، فلا ترى إلا ضاجا بالذكر ، وصارخا بالدعاء بالسر والجهر ، كما قال قائلهم ولله دره :

وما زال وفد الله يقصد (١) مكة

إلى أن بدا البيت العتيق وركناه

فضجت وفود الله بالذكر والدعا

وكبّرت الحجاج حين رأيناه

وقد كادت الأرواح تزهق فرحة

لما نحن من عظم السرور شهدناه

تصاحفه الأملاك من كان راكبا

وتعتنق الماشي إذا تتلقاه

__________________

(١) في الرحلة الناصرية يطلب.

٨

وطفنا به سبعا رملنا ثلاثة

وأربعة مشيا كما قد وعدناه

كذلك طاف الهاشمي محمد

طواف قدوم مثل ما طاف طفناه

وسالت دموع من مآقي (١) جفوننا

على ما مضى من أثم ذنب كسبناه

ونحن ضيوف الله جئنا لبيته

نريد القرى نبغي من الله حسناه

ينادي (٢) بنا أهلا ضيوفي تباشروا

وقروا عيونا بالحجيج أضفناه

غدا تنظرون في جنان خلودكم

وذاك قراكم مع نعيم ذخرناه

فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا

وأي ثواب فوق ما قد أثبناه

وأبدانكم قد طهرت من ذنوبكم

وما كان من رين القلوب غسلناه

وكل مسيء قد أقلنا عثاره

ولا وزر إلا عنكم قد وضعناه

ولا نصب إلا وعندي جزاؤه

وكل الذي انفقتموه حسبناه

سأعطيكم أضعاف أضعاف ضعفه

فطيبوا نفوسا فضلنا قد أفضناه

رفعت لكم ما لم تر العين مثله

ولا علمت نفس ما قد رفعناه

فيا مرحبا بالقادمين لبيتنا

إليّ حججتم لا لبيت بنيناه

علي الجزآ مني المثوبة والرضى

ثوابكم يوم الجزآ نتولاه

وجاهي وأجلالي وعزي ورفعتي

وجودي ومن قد أمّنا ما رددناه

فطيبوا وسروا وأفرحوا وتباشروا

وتيهوا وهيموا بابنا قد فتحناه

ولا ذنب إلا قد غفرناه عنكم

وما كان من عيب عليكم سترناه

فهذا الذي نلناه يوم قدومنا

وأول ضيق للصدور شرحناه

ولما كان اليوم الثامن هو يوم التروية وزالت الشمس طفنا فخرجنا لمنى إذ السنة

__________________

(١) كذا في الرحلة الناصرية وفي جميع النسخ عموم.

(٢) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية ونادى.

٩

الخروج وقتئذ بقدر ما يدرك به الظهر كل على قدر حاله فإن المراد بقولهم يدركون بمنى الظهر أي يدركون أواخر الوقت المختار ويكره التراخي عن ذلك إلا لعذر كما يكره التقدم قبل ذلك ومن خاف خروج وقت الظهر قبل أن يصل إلى منى صلاها في الطريق وتردد مالك في قصره وإتمامه واستحسن سند القصر.

تنبيه الطواف يوم التروية ذكره أبو الحسن قال أبو الحسن في مناسكه وإذا كان اليوم الثامن ويسمى يوم التروية طاف سبعا بعد الزوال ثم يتوجه إلى منى ملبيا والسنة أن يخرجوا بقدر ما يدركون بمنى الظهر وكذلك ذكره خليل في مناسكه ونصه ثم إذا كان اليوم الثامن ويسمى يوم التروية فإذا زالت الشمس منه طاف بالبيت سبعا ثم يخرج من مكة إلى منى ملبيا وفي مناسك ابن هلال ابن حبيب وغيره إذا مالت الشمس يوم التروية فطف بالبيت سبعا ثم أركع ثم أخرج إلى منى وكذا في مناسك ابن فرحون.

وإنما ذكرت هذا لأنا لما أردنا الخروج إلى منى وأنكر بعض أن يكون الطواف وقتئذ عن أهل المذهب ولعله اغتر بما حكاه ابن المنير والدماميني وابن حجر عن مالك من أن الحاج لا يتنفل بطواف بعد طواف القدوم حتى يتم حجه فإن ذلك غريب ذكره الخطاب (١) في مناسكه ومررنا بمسجد العقبة ودخلناه وصلينا فيه ودعونا الله تعالى وكان نزولنا بمنى شرقي مسجد الخيف قريبا من بابه الشرقي وصلينا بمسجد الخيف الظهر وكذلك العصر خارج القبة التي التواتر أنها موضع خيمة مولانا علي كرم الله وجهه.

واجتمعت هناك بالشيخ محمد أكرم بن الشيخ عبد الرحمن مفتي الهند وهو

__________________

(١) في رواية الجلاب.

١٠

رجل عالم له تآليف على رجال البخاري واختصر البخاري في مجلد خدف الأسانيد والمكرر وهو ضرير كبير السن به مرض ملازم بيته ويوم النحر قدمناه من منى للإفاضة ولما رجعنا إلى منى التقينا محفة وبها رجل كبير مستلقى ولما لحق بنا الأخ الشقيق الصالح سيدي محمد الأخصاصي أخبرني أنه هو وأخبرني ولده الشيخ محمد انه شرح نخبة ابن حجر عشرين كراسة وله تأليف في الرد على الروافض وهو رجل صالح محقق فيما ذكروا وسألناه عن المسافة بيننا وبين الهند فقال أربعون يوما في البحر وأربعة أشهر أو ستة في البر وأن بلده هو السند وبينه وبين الهند ثلاثون يوما انتهى.

ولما صلينا العصر وجلسنا في مناخنا هنيئة إذ أخبرني بعض أصحابنا أن أهل تونس زعموا أنهم رأوا الهلال ليلة الثلاثين والراؤن له سبعة أحدهم من طلبة العلم وسألنا عنهم لنستخبر رؤيتهم فنكون على يقين من أمرهم فوجدناهم ذهبوا مع الذاهبين لعرفة لأن الأركاب كلها ذهبت كما هي للجبل ولم ينزل أحد بمنى سوانا وجماعتنا وهذه السنة عياذا بالله أميتت منذ أزمان.

وقد ذكر ذلك الكثير من المرتحلين كالعبدري وابن رشيد ومن بعدهما وذكروا أن الخوف يمنع من المبيت هناك بعد ذهاب الاركاب وقد من الله علينا بإحياء هذه السنة ولم تفتنا في حدة من الحجات ولله المنة والحمد ولما طرق أسماعنا ما ذكر من الخبر عن التونسيين اجتمع رأينا على الذهاب وقتئذ لعرفات فنستيقن الخبر فرحلنا وقتئذ وبلغنا نمرة وقد غاب الشفق وبتنا بإزائها فإذا بخبر الرائين خبر سجاح ، ثم اضمحل مدارج الرياح ، ولا هدي علينا في ذلك على ما شهر في المذهب ونقل التادلي والجزولي عن ابن العربي انه يلزمه الهدي ولم يحك غيره في سقوط الدم خلافا ومن تورع فليهد ولا حرج عليه فيه ونزل بإزائنا الشيخ عبد القادر بن أبي بكر مفتي

١١

الحنفية وأتاني ضحى مع ولدين صغيرين له وسألته عن البناء القائم الآن بمسجد الخيف ونمرة وأخبر انه بناء قايت باي ولما زالت الشمس أفضنا علينا الماء للإحرام واغتسلنا غسلا خفيفا وتلك سنة هذا الغسل وجمعنا بين الظهرين مع أصحابنا ومن انحاز إلينا من أهل الافاق باذانين وبأقامتين وتقدمنا إلى المنوقف ووقفنا تحت الجبل الذي عليه القبة المنسوبة لآدم عليه السلام والخطيب لم نر له شخصا ولا سمعنا له صوتا وإن لم يكن بالبعد منا لكثرة الازدحام واختلاط الأصوات ، مع اختلاف اللغات ، وتباين الرغبات بأصوات التلبية لاشتراك الكل فيها ولا سبيل لأحد إلى تغييرها ووقفنا على إبلنا وأرحنا بغالنا اغتناما لبركة سنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولم نزل في موضعنا ذلك واقفين مستغفرين مكبرين مهللين داعين إلى أن غربت الشمس تحققنا أنا أخذنا جزءا من الليل فإذا الإمام نفر ونفر الناس ونفرنا معهم في زحمة محفوفة بالألطاف ، مصحوبة من الله بالمواهب والإتحاف ، ولم نر أحدا نفر قبل ذلك في سنتنا هذه وإن كانت الجمالون والأعراب تنفر قبل ذلك في غير هذه السنة والحمد لله على ذلك فانصرفنا بين المأزمين بلا كلفة ولا تعب ولما وصلت إلى الشعب ملت إليه ففعلت كما به فعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم سرنى آمّين المصلى بالمزدلفة فبلغناها بعد مغيب الشفق فجمعنا بين العشاءين ونزلنا فبتنا فيها فتفرق للقط الجمار هناك من أراده من الناس قلو شاهدت يا هذا تلك الحال وما عليه الناس في جبل عرفات ، ووقوفهم بتلك العرصات ، لهالك ذلك المشهد الذي هال أمره ، وعجز عن وصفه زيد البيان وعمره ، إذ ترى الملوك في مقام الافتقار والذلة ، والفقراء في محل الاضطرار والقلة ، والجميع يرغبون في المغفرة من الرحمان ، ويطلبون الرحمة والعفو من العفو الرحيم الحنان المنان :

جاؤا بأحمال أوزار تؤدهم

منها جبال وحسن الظن وطاها

فسأل لما رأى الرحمان ذلتهم

طوفان عفو وغفران فغطاها

١٢

فكم دموع تدفقت ، وكم ضلوع تحرقت ، وكم نسمات هبت ، وكم سحائب رحمة صبت.

فكم حامدكم ذاكركم مسبح

وكم مذنب يشكو لمولاه بلواه

وكم خاضع كم خاشع متذلل

وكم سائل مدّت إلى الله كفاه

وساوى عزيز في الوقوف ذليلنا

فكم ثوب ذل في الوقوف لبسانه

ورب دعانا ناظر لخضوعنا

خبير عليه بالذي قد أردناه

ولما رأى تلك الدموع التي جرت

وطول خشوع مع خضوع خضعناه

تجلى علينا بالمتاب وبالرضى

وباهى بنا الأملاك حين وقفناه

وقال انظروا شعثا وغبرا نراهم

اغثنا أجرنا يا إلاها عبدناه

وقد هجروا أموالهم وديارهم

وأولادهم والكل يرفع شكواه

إلي فأني ربهم ومليكهم

لمن يشتكي المملوك إلا لمولاه

ألا فاشهدوا أني غفرت ذنوبهم

ألا فانسخوا ما كان عنهم نسخناه

فقد بدلت تلك المساوي محاسنا

وذلك وعد من لدنا فعلناه

فيا صاحبي من مثلنا في مقامنا

ومن ذا الذي قد نال ما نحن نلناه

على عرفات قد وقفنا بموقف

به الذنب مغفور وفيه محوناه

وقد أقبل الباري علينا بوجهه

وقال ابشروا فالعفو فيكم نشرناه

وعنكم سمحنا كل تابعة جرت

عليكم وأما حقنا قد وهبناه

أقلناكم من كل قد جنيتم

ومن كان ذا عذر إلينا عذرناه

فيا من عصى من يا أسالو رأيتنا

وأوزارنا ترمى ويرحمنا الله

وددت بان لو كنت حول رحابنا

وترجو رحيما كلنا قد رجوناه

وقمنا إليه تائبين من الخطا

وغفراننا من ربنا قد طلبناه

١٣

أمرنا بذاك الظن والله حسبنا

عليه وهذا في الحديث نقلناه

عليه اتكلنا واطمأنت قلوبنا

لما عنده من وسع عفو عرفناه

فطوبى لمن ذاك المقام مقامه

وبشراه في يوم التغابن بشراه

يرى موقفا فيه الخزائن فتحت

ووالى علينا الله منها عطاياه

وصالح مهجوار وقربت مبعدا

فذاك مقام الصلح فيه أقمناه

ودارت علينا الكأس بالوصل والرضى

سقينا شرابا مثله ما سقيناه

فإن شئت تسقى ما سقينا على الحما

فخلّ الونى واحلل محلا حللناه

وفيه بسطنا للرحيم اكفنا

وقال كفيتم عفونا قد بسطناه

واعتقنا كلا واهدر ما مضى

وقال لنا كل العتاب طويناه

وإبليس مغموم لكثرة ما يرى

من العتق محقور ذليل خزيناه

على رأسه يحثو التراب مناديا

بأعوانه ويلاه ذا اليوم ويلاه

وأظهر منه حسرة وندامة

وكل بناء قد بناه هدمناه

تركناه يبكي بعد ما كان ضاحكا

فكم مذنب من كفه قد سلبناه

وكم من منى نلنا بيوم وقوفنا

وكم من أسير للمعاصي فككناه

وكم ذا رفعنا للإله مسائلا

ولا أحدا ممن نحب نسيناه

وخصصت الأباء والأهل بالدعا

وكم صاحب نودي به ودعوناه

كذا فعل الحجاج هاتيك عادة

وما فعل الحجاج نحن تبعناه

فظل حجيج الله لليل واقفا

فقيل انفروا فالكل منكم قبلناه

فلما سقط قرص الشمس نفروا

وكشفوا عن وجوه الاستبشار واسفروا

الهنا الهنا

وعدتنا منك الهنا

فإن تجد برحمة

فكم مضى عنا العنا

١٤

ولما أصبحنا بالمزدلفة ، وصارت القلوب على حصول الرحمة والمغفرة مؤتلفة ، غير مختلفة ، وأسفر الفجر عن وجه الغرض ، وأدينا من صلاة الصبح الحق المفترض ، غلسنا الرحلة ، ونادى منادي النقلة.

أفيضوا وأنتم حامدون إلهكم

إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه

وسيروا إليه واذكروا الله عنده

ذكرنا كما رب العباد هداناه

ووقفنا به إلى الأسفار ، وما تركنا من الدعاء وحميد الأذكار ، فسرنا حتى جئنا بطن وادي محسر وهو وادي النار فأسرعنا وحركنا دوابنا وهو أول ما تحاذي البركة الخربة التي على يسارك أن مررت بطريق الأركاب وأنت ذاهب إلى منى حتى تأخذ في الطلوع إلى منى وترتفع بك الأرض وبهذا عرفه أعلم أهل عصره بالمناسك خليل المكي المالكي حسبما نقله عنه البلوي في رحلته إذ سأله عن حده والإسراع فيه مشروع ذهابا وإيابا فمضينا كما نحن على الطريق الكبرى التي تشقّ منى إلى أن أنينا جمرة العقبة حين الطلوع بعيده ورميناها بسبع حصيات من أسفلها مكبرين مع كل حصاة كما كنا راكبين غير راجلين كما هو السنة عن سيد الأولين والآخرين ، عليه أفضل صلاة المصلين ، وأزكة سلام المسلمين ، فعدنا لرحالنا ومناخنا ، ونحرنا هدايانا ، ودعونا لحلاقنا ، أخينا ووديدنا الحاج عبد القادر فحلفنا فسرنا إلى مكة فاتيناها على هيئتنا ، من ثياب إحرامنا ، فطفنا للإفاضة ووجدنا البيت مفتوحا والناس على ظهره يكسونه ولما قضينا فريضة الطواف ، عرض لي وفي المطاف ، الأخ الحاج أبو عزة المراكشي وحث علي في الدخول للبيت فامتنعت تأدبا وتعللت له بالزحمة وقال لا زحمة بداخله وهو فارغ منبسط وما ترى من الزحمة لا يتعدى بابه ولا يتجاوزه الآن وإذا بأمير الحاج المصري إبراهيم أبو شنب واقف بالباب وخاطبه قائلا أن فلانا ذا واقف بالباب يبتغي الدخول للبيت وأشار إلي وفرح بي ورحب ، وهش واطرب ، وتقدمت وأخذ بيدي وأطلعني من غير كلفة ولا زحمة فدخلت

١٥

البيت وعلاني من الهيبة ما الله به عالم فركعت به ركعتين لناحية الباب مواجهه غافلا عن السنة بأن اجعله خلف ظهري لما علاني من الخجل ، والدهش والوجل ، ودعوت بما أمكنني وحضر لي من الدعوات ، معمما ومخصصا أهل المحبة والقرابات ، ولم تطل مدة فتحه وإنما يفتحونه هذا اليوم لتعليق الكسوة الجديدة وإزالة العتيقة وليس بيوم دخول عام وإنما يدخل القيم وأمير الحاج المصري وأتباعهما المعينين في ذلك ولا ينصب سلم للدخول وإنما يدخل من تكلف الصعود بمعين أو بخفة أعضاء وعلى الباب أحد خدام الأمير يمنع الناس من الدخول إلا أن الناس يكاثرونه فإن منعوا من جانب دخلوا من جانب وربما يتعامى عن البعض ويحصل لكثير من الناس في ذلك المكان سوء أدب من ضرب وشتم بألفاظ ينزه المكان عنها فألاولى عدم الدخول إلا لمن تيسر له ذلك عفوا وصفحا من غير إيلام ولما دخلت إليه المرة الثانية في حجتنا هذه إلى أن قال ركعت فيه إلى الجهات وجعلت الباب أولا خلف ظهري وكبرت في نواحيه وأجلت النظر في نواحيه وطوله وعرضه وسمائه وأرضه طلبا للتحقيق وإن كان الأولى خلاف ذلك إلا أن الأمر سهل إن كان لطلب العلم والوقوف على حقيقة الشيء ولم تزايلنا في ذلك السكينة والوقار ، والإعظام والإكبار ، والإجلال ، والابتهال ، والله يغفر لنا ويتقبل.

وأما لطلب التفرج والتنزه فلا بل يستشعر الداخل عظمته وحرمته وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت عجبا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل السقف ليدع ذلك إجلالا لله تعالى وإعظاما ما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فما خالف نظره موضع سجوده حتى خرج منها صلى الله عليه وسلم والبيت الآن على ثلاثة أعمدة من العود ونقضوا منها من جهة الحجر مقدار السلم ولما فرغنا من الطواف ركعنا خلف المقام وأكثرنا من شرب ماء زمزم ولم نسع لأنا سعينا أثر طواف القدوم كما هو السنة.

١٦

تنبيه قال الإمام أبو سالم وكثير من العوام يظن أنه يلزمه سعير آخر أثر الإفاضة وبعض المتفقهة أفتى من لم ينو فرضية القدوم بإعادة السعي اغترارا بظاهر قول المختصر ونوى فرضيته وإلا فدم والتحقيق أن من شروط السعي وقوعه أثر طواف أي طواف كان وكونه فرضا إنام هو واجب يجبر بالدم ولا يلزم منه بطلان السعي ومعنى الفرضية كونه يتوقف عليه صحة السعي لا كونه فرضا في نفسه وهذا القدر يعلمه كل من له أدنى معرفة بالمناسك وإذا كان كذلك فلا إعادة على من سعى أثر طواف القدوم ولو لم يستحضر نية فرضيته إذ كان عالما بذلك فإن نية الإحرام كافية في الحج لأنه عبادة واحدة ولا يشترط فيه إفراد نية لكل جزء منه كالصلاة وتمييز الفرائض من غيرها أمر مختلف فيه في كونه شرطا في صحة الصلاة أم لا والحج أوسع من الصلاة ولا إعادة عليه أيضا لو جهل فرضية طواف القدوم لأن الشرط كما تقدم هو وقوعه أثر طواف وهذا واقع أثر طواف فإن كان عالما بالتلازم بينهما فلا دم أيضا إذ ذلك القدر هو المعبر عنه بالفرضية وإلا فدم وهذا ما حققه بعض المشائخ وأدلة ذلك يطول سردها وكثير من المتفقهة لا يحقق المسألة هذا التحقيق ويشغب على الناس بإلزامهم الإعادة ويقول لا بد من إفراد نية لطواف القدوم أنه فرض وإلا بطل السعي والعجب كيف يجعلون نية الفريضة شرطا في صحة السعي ولا يجعلونها شرطا في صحة الطواف ذي النية فتكون نية الفرض في ركن شرطا لركن آخر لا له والشرط إذا لم يؤثر عدمه في محله فكيف يؤثر في محل آخر فشد يدك على ما ذكرنا من التحقيق ولا تلتفت إلى من طريقه التقيد بظواهر ألفاظ المختصر والله تعالى اعلم انتهى كلامه.

قلت وفي مناسك الشيخ يحيى الحطاب أما تقديم طواف صحيح على السعي فقال ابن عبد السلام انه متفق عليه فلو سعى من غير طواف لم يجزه ذلك السعي بلا خلاف ولا يشترط كون ذلك الطواف الذي يتقدمه واجبا بل ذلك من الواجبات

١٧

التي تجبر بالدم فيجب عليه أن يوقعه إن كان في حج أثر طواف القدوم أو أثر طواف الإفاضة وإن كان في عمرة أثر طواف عمرة فإن أوقعه بعد طواف الوداع أو بعد طواف التطوع إعادة ما دام بمكة فإن لم يعاوده حتى بعد عن مكة لزمه الهدي باتفاق انتهى.

وقال والده في شرح المختصر بعد نقول فعلم مما تقدم أن معنى قول المصنف ونوى فرضيته إلخ أن الطواف الذي يقع بعده السعي يجب أن ينوي فرضيته بأن يكون طواف الإفاضة أو طواف القدوم في الحج أو طواف العمرة فإن أوقعه بعد طواف لا ينوي فرضيته كطواف الوداع أو طواف تطوع كمن أحرم بالحج من مكة وطاف وسعى فإنه يؤمر بإعادته بعد طواف واجب فإن لم يفعل حتى تباعد فعليه دم وقول المصنف وإلا فدم فيه مسامحة لأن ظاهره أنه لا يؤمر بالإعادة وليس كذلك.

ولما فرغنا من الطواف وتوابعه جلسنا للاستراحة في أخريات المسجد واشترينا خبزا وسمنا وعسلا فأكلنا ورجعنا لمنازلنا بمنى وصلينا بها الظهر كما فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم وقيل إنما صلى الظهر صلى الله عليه وسلم بمكة على قول الأكثر وكان نزولنا إزاء ثبير قرب الغار الذي أنزلت فيه والمرسلات على النبي صلى الله عليه وسلم وخبره مذكور في الصحيح وقد بني عليه بابه محوط شبه مسجد صغير والناس يقصدونه للصلاة فيه والدعاء وهو في أصل جبل ثبير بينه وبين مسجد الخيف رمية حجر وكان نزولنا بهذا المحل إيثارا للقرب من هذا المكان وقرب المسجد مع كونه أنظف وأوسع واستر وأمكن للإنسان في حاجته والناس يتحامون من القرب من الجبل تقية من أذى السراق فيستجير بعضهم ببعض ويفرون إلى الدخول في غمار الناس ولا يبالون بما نالهم في ذلك من وطء الأقدام وتقطيع الحبال وتعفن الأرجاء واستنشاق الروائح الكريهة ونحن استسهلنا أمر السرقة في جانب

١٨

هذه المضار وكذلك فعلنا في كل ما مضى من الحجات والله يعيدنا إليه الكرات بعد الكرات وقد ذبح بمنى في ذلك اليوم والذي بعده من الغنم ما أكسب الغني والفقير ، وكفى البصير والضرير ، وأغنى الوراد والمستوطن فامتلأت الطرقات وأفنية المنازل باللحم وأما الجلد والساقط والأكارع فلا ترى أحدا يأخذها ضيافة الله الملك الحق الذي لا يقدر أحد على كفاية الخلق سواه فقد ورد من أفاق الأرض أصناف من الخلق لا تحصى أغنياء وفقراء فأكل الكل من ضيافة مالكهم وتزودوا ما قدروا وفضل ما أعجز الطير والوحش والهوام. قال أبو سالم فاقسم لقد مررت بهذا المكان بعد سنة أو قريبا من ذلك في قفولي من الطائف فوجدتا فيه عدة كثيرة من الغنم قد يبست جلودها على لحومهما وعظامها لم تمس إلى أن صارت مثل الخشب من يبسها والمرجو بل المحقق من كرم الملك الوهاب ذي الطول كما عم وفده بالضيافة المحسوسة التي صيرت الفقير كالغني في أيام الضيافة كذلك أو أعظم منه ضيافته المعنوية بالمغفرة وقبول الدعاء وأجزل المثوبة لعباده فوق ما يخطر بالبال ، وما ينال بقياس ومثال ، فما سعدنا به من رب كريم منعم متفضل وهاب ، جواد محسن متطول لا إله إلا هو مالك الملوك ورب الأرباب ، ولا يهلك على الله إلا هالك نسأله سبحانه أن يعمنا بفضله وكرمه ، ويتحفنا برضوانه ، ويعاملنا بإحسانه ، آمين وبتنا بمنى تلك الليلة في نعمة كاملة ، ورحمة من الله شاملة ، وانقضى ذلك النهار وقد عيدنا ، وعلينا مناسك الحج وشيدنا ، وفوق أمانينا أعطينا.

بلغت يا نفسي المنى في منى (١)

وقد أزال الله عنك العنا

فاستنفدي وسعك في حمده

وشيدي منك بناء الثنا (٢)

ثم في الغد عمرت الأسواق ، وكثرت الأنفاق ، وأخرجت البضائع ذوات

__________________

(١) في نسختين بمنى.

(٢) في نسخة واسلكي جميل الثناء وفي الرحلة الناصرية في جهده وبقاء بدل بناء.

١٩

الأثمان وصنوف التجارات وتزاحم الناس على الشراء رجاء بركة ذلك المكان في ذلك الزمان وأكثر التجار يقولون إن من اشترى شيئا من منى وجعله في تجارته وجد بركته ، وظهرت له ثمرته ، ولا يبعد ذلك فانه موسم شريف ، ومحل بركة وتشريف ، يأتيه الناس من كل فج عميق ليشهروا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، وقد عمهم الله فيه من أمر دنياهم وأخراهم بغاية الإنعام ، ولما زالت الشمس توضأنا فخرجنا لرمي الجمار من غير تراخ ولا توان مبتدئين بالأولى التي تلي مسجد الخيف ثم بالوسطى وختمنا بالعقبة فوقفنا أثر الأولين بقدر الإمكان ، مجتهدين في الدعاء لنا ولعامة المسلمين وخاصتهم وسائر الأحبة والإخوان ، وما نسينا أحدا في ذلك المكان.

ولما كانت الليلة الثانية من ليالي منى بالغ أهل مصر وأهل الشام في إيقاد المصابيح وأتخاذ المصانع منها وصور الأشجار والأخبية وإكثار الرمي بالمدافع والبنادق والمحارق المرتفعة في الجو وفي ذلك نزهة للأبصار ، وتسلية للأفكار ، ومجال للاتعاظ والأذكار ، والقبول والإنكار ، فنزل جميع أصناف العباد ، وحشر إليه عمار البلاد ، فهو أجمل الأندية ، ومبانيه أحسن الأبنية ، تشرق في النهار فساطيطه المؤنقة ، وبالليل مصابيحه المشرقة.

قال الإمام أبو سالم وبالجملة فليالي منى غرر في أوجه الزمان ، ومواسم فرح وسرور لأهل الإيمان ، ومناهل رحمة ومغفرة من الله ورضوان ، ومحال بركة وعافية وأمان ، يتجلى فيها الحق لوفده بصفة الجمال ، جزاء على رضاه قبل ذلك بتجلي الجلال ، فهناك يستصغر المرء ما قاسى في طريقه من الشدائد ، في جنب ما حصل له من النعيم والفوائد ، انتهى.

فلما أصبح الناس في اليوم الثالث أخذوا في الرحيل متعجلين ، فمن تعجل في

٢٠