تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

في الخمر كذا أي في تحريمها. والقولان متقاربان ، أو هما واحد فإنه لم ينزل سوى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) الآيات. واختيار الجمهور أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين» (١) ثم إنه لا شك أن القرآن قد نزل منجما مفرقا على حسب المصالح والوقائع ، فأوّلت الآية بأن المراد أنه ابتدئ فيه إنزاله وذلك ليلة القدر. ومبادئ الملل والدول هي التي يؤرخ بها لشرفها وانضباطها. وهذا قول محمد بن إسحق. أو أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل إلى الأرض نجوما ، وليس يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم ، وفيه مصلحة للرسول من حيث توقع الوحي عن أقرب الجهات. ولعل فيه مصلحة لجبريل المأمور بالإنزال والتأدية ولا سيما على رأي الفلاسفة الذين جبريل عندهم هو العقل الفعال الأخير الذي يدبر عالم الكون والفساد وخاصة نوع الإنسان. وعلى هذا القول يحتمل أن يقال : إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر ، ثم نزله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجما إلى آخر عمره. ويحتمل أن يقال : إنه سبحانه كان ينزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر كل سنة ما يحتاجون إليه في تلك السنة وكذلك أبدا إلى أن تم إنزاله. وعلى هذا يكون تعين رمضان الذي أنزل فيه القرآن نوعيا لا شخصيا (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ) منصوبان على الحالية أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات من جملة ما يهدى إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل من الكتب السماوية. وذلك أن الهدى قسمان : جلي مكشوف وخفي مشتبه ، فوصفه أولا بجنس الهداية ثم قال : إنه من نوع البين الواضح. ويحتمل أن يقال : القرآن هدى من نفسه ومع ذلك ففيه أيضا بينات من هدى الكتب المتقدمة ، فيكون المراد بالهدى والفرقان والتوراة والإنجيل ، أو يقال : الهدى الأول أصول الدين ، والثاني فروعه ، فيزول التكرار. نقل الواحدي عن الأخفش والمازني أن الفاء في (فَمَنْ شَهِدَ) زائدة إذ لا معنى للعطف والجزاء هاهنا وهذا وهم لظهور كونها للجزاء كأنه قيل : لما علمتم اختصاص هذا الشهر بفضيلة إنزال القرآن فيه فأنتم أيضا خصوه بهذه العبادة ، ومعنى شهد أي حضر. ثم قيل : إن مفعوله محذوف (وَالشَّهْرَ) منصوب على الظرف وكذلك الهاء في (فَلْيَصُمْهُ) ولا يكون مفعولا به كقولك «شهدت الجمعة» لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان الشهر. فالمعنى فمن شهد منكم في الشهر المذكور المعلوم البلد أو المقام فليصم في الشهر.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١٠٧).

٥٠١

وصاحب هذا القول ارتكب الإضمار حذرا من لزوم التخصيص في حق المسافر إلا أنه يلزمه ما فر منه أية سلك لأن الصبي والمجنون والمريض كل منهم شهد البلد مع أنه لا يجب عليه الصوم. أما إذا قيل : إن الشهر مفعول به مثل «شهدت عصر فلان وأدركت زمانه» فلا يلزم منه إلا أحد الأمرين وهو التخصيص بقوله (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فيكون أولى من الأول لأن الإضمار والتخصيص إذا تعارضا فالتخصيص أولى ، فكيف إذا وقع الإضمار والتخصيص في جانب والتخصيص وحده في جانب؟ هذا ما قاله الإمام فخر الدين الرازي معترضا به على صاحب الكشاف وغيره. (قلت) : الإنصاف أن الترجيح مع صاحب الكشاف لأن لزوم الإضمار في الآية ممنوع ، وذلك أن (شَهِدَ) هاهنا متروك المفعول كقولهم «فلان يعطى ويمنع» ومعنى من شهد من كان على حالة الحضر سواء كان في البلد أو في منزل من المنازل ونوى الإقامة. وأما التخصيص فمشترك على القولين إلا أنه على قول صاحب الكشاف أقل لعدم دخول المسافر فيه ، فيكون أولى. فإن قيل : فعلى هذا يكون قوله بعيد ذلك (أَوْ عَلى سَفَرٍ) تكرارا قلنا : إنما أعيد ليترتب عليه حكم القضاء كما للمريض. وأيضا لا يلزم من إيجاب الصوم على الحاضر عدم إيجابه على المسافر ، ولو سلم فبالمفهوم أوّلا وبالمنطوق ثانيا ، فأين التكرار؟ وإنما وضع المظهر وهو الشهر مقام المضمر حيث لم يقل فمن شهده اعتناء بشأنه واعتلاء لمكانه وتمكينا في القلوب وتعظيما في النفوس كقوله :

أن يسأل الحق يعطى الحق سائله.

وهاهنا بحث وهو أن قوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) جملة شرطية ، وما لم يوجد الشرط بتمامه لم يترتب عليه الجزاء ، والشهر عبارة عن زمان مخصوص من أوله إلى آخره ، فظاهر الآية يقتضي أن الصوم لا يجب عليه إلا عند شهود الجزء الأخير وهو محال لأنه يقتضي إيقاع الفعل في الزمان المنقضي. وأجيب بأن المراد من الشهر جزء من أجزائه وهذا مجاز مشهور ، والمعنى من شهد جزءا من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر. ثم إن كان هذا الجزء من أول الشهر كما لو شهد هلال رمضان فهذا موافق لما نقل عن علي كرم الله وجهه : أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر وجب أن يصوم الكل. وأما سائر المجتهدين فيقولون : هذا عام يدخل فيه الحاضر والمسافر إلا أن قوله (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) يخصصه ، وإن كان في أثناء الشهر فيوافق قول أبي حنيفة : إن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لزمه قضاء ما مضى. قلت : لا حاجة إلى ارتكاب التجوز المذكور وهو إطلاق لفظ الشهر على جزء من أجزائه ، ولا يلزم منه المحال المذكور إذ

٥٠٢

المراد من شهد الشهر أجمع فليكن بحيث قد وجد منه الصوم في جميع أيامه ، أو المراد من عزم على كونه مقيما في الشهر فليصمه. ويعلم منه أنه إن كان حاضرا في بعضه يتعلق إيجاب الصوم بذلك البعض فقط بدليل قوله (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) فإنه لما علم الوجوب للحاضر في كله والرخصة للمسافر في كله علم الحكمان جميعا للحاضر في بعضه والمسافر في البعض الآخر ، فكل يوم مستقل بنفسه فيما يقتضيه ، والصوم فيه عبادة مستقلة ، وكأن ما نقل عن علي كرم الله وجهه أمر إلزامي رعاية لحرمة الشهر كما لو أدركت الحائض من أول الوقت قدر ما يسع تلك الصلاة ، وفي قول قدر ركعة ، وفي قول قدر تكبيرة ، لزمها قضاؤها إذا طهرت. وأما أن شهر رمضان بم يثبت حتى يعتبر الشهود فيه فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاستكملوا العدة» (١) يعني عدة شعبان ثلاثين يوما. ومهما شهد عند القاضي عدل واحد أنه رأى الهلال ثبت لما روي عن عمر أنه رأى الهلال وحده فشهد عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر الناس بالصوم. ولما روي أن عليا عليه‌السلام شهد عنده رجل على رؤية هلال رمضان فصام وقال : صيام يوم من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوما من رمضان ، وللاحتياط في أمر العبادة. ولا يثبت الهلال في سائر الشهور إلا برؤية عدلين ، وعند أبي حنيفة : يثبت هلال رمضان في الغيم بواحد وفي الصحو تعتبر الاستفاضة. وإذا رؤي في موضع شمل الحكم لمن هو على ما دون مسافة القصر منه ولا يجب الصوم بذلك على من عداهم. (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) معناه في اللغة السهولة ومنه اليسار للغني لأنه يتسهل به الأمور وتتسنى المقاصد واليد اليسرى لبقائها على اليسر ، أو لأن الأمور تسهل بمعاونتها اليمنى والعسر نقيضه. وفي الصحاح : قال عيسى بن عمر : كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وأوسطه ساكن فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه. أوجب الصوم على سبيل السهولة لأنه ما أوجب إلا في مدة قليلة من السنة ، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض والمسافر وهاهنا يتحقق صدق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» (٢). ومن كمال رأفته تعالى أنه نفى الحرج أولا ضمنا بقوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) ثم نفاه صريحا بقوله (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) والظاهر أن الألف واللام في اليسر والعسر يفيد العموم ، فيمكن أن يستدل به على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق. والمعتزلة تمسكوا بالآية أنه قد يقع من العبد ما لا يريد الله تعالى ، فإن

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ١١. الترمذي في كتاب الصوم باب ٣ ، ٥. النسائي في كتاب الصيام باب ٨. ابن ماجه في كتاب الصيام باب ٧. أحمد في مسنده (١ / ٢٢٦) (٢ / ٤١٥).

(٢) رواه أحمد في مسنده (٥ / ٢٦٦) (٦ / ١١٦ ، ٢٣٣).

٥٠٣

المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده فقد ما لم يرد الله منه إذ كان لا يريد العسر. وأجيب بأنا نحمل اللفظ على أنه تعالى لا يأمره بالعسر وإن كان قدير يدمنه العسر فإن الأمر عندنا قد يثبت بدون الإرادة. فكما أنه يجوز أن يأمر ولا يريد جاز أن يريد ولا يأمر. قوله (وَلِتُكْمِلُوا) أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف فيه. فعن الفراء : التقدير ولتكلموا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون. شرع جملة ما ذكره وهو الأمر بصوم العدة وتعليم كيفية القضاء والرخصة في إباحة الفطر. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك. فقوله (لِتُكْمِلُوا) علة الأمر بمراعاة العدة (وَلِتُكَبِّرُوا) علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي إرادة أن تشكروا علة الترخيص والتيسير. وعن الزجاج : أن المحذوف فعل أمر مقدر قبله كأنه قيل : لتعلموا ما تعملون ولتكملوا. والفرق أن حذف النون في الأول للنصب وفي هذا للجزم. ولا يخفى أن قوله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يبقى في هذا الوجه غير مرتبط بما قبله إلا أن يقال : إنه في قوة «ولتشكروا». وفيه أيضا بعد ويحتمل أن يقال (وَلِتُكْمِلُوا) معطوف على اليسر كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ويريد بكم لتكملوا كقوله (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) [الصف : ٨] وإنما قيل (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ولم يقل «ولتكملوا الشهر» ليشمل عدة أيام الشهر وعدة أيام القضاء جميعا. وعدى فعل التكبير بعلى لتضمين معنى الحمد أي ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. والمراد بالتكبير قيل : إنه تعظيم الله تعالى والثناء عليه شكرا على ما وفق لهذه الطاعة. وتمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل. فالقول أن يقر بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزهه عما يليق به من ند وصاحبة وولد وتشبيه بالخلق ، وكل ذلك لا يعتدّ به إلا مع الاعتقاد القلبي. وأما العمل فالتعبد بالأوامر والتبعد عن النواهي. وهذا لا يختص بوقت استكمال عدة رمضان ، ولكنه شامل لجميع الأحيان. وقيل : هو تكبير الفطر وإنه مشروع في العيدين لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعا صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى. وأوّل وقته في العيدين جميعا غروب الشمس ليلة العيد. وعن أحمد ومالك أنه لا تكبير ليلة العيد وإنما يكبر في يومه. لنا قوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) قال الشافعي : سمعت من أرضى به من أهل العلم بالقرآن يقول (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي عدة صوم رمضان (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) عند إكمالها ، وإكمالها بغروب الشمس آخر يوم من رمضان وأما آخر التكبير فأصح الأقوال أنهم يكبرون إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد ، لأن الكلام مباح إلى تلك الغاية والتكبير أولى ما يقع به الاشتغال. والمسنون في صيغته أن يكبر ثلاثا نسقا وبه قال مالك.

٥٠٤

وقال أحمد وأبو حنيفة : يكبر مرتين. لنا الرواية عن جابر وابن عباس. وأيضا فإنه تكبير موضوع شعارا للعيد فكان وترا كتكبير الصلاة. قال الشافعي : وما زاد من ذكر الله فحسن. واستحسن في «الأم» أن تكون زيادته ما نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه قاله على الصفا وهو : «الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده لا إله إلا الله والله أكبر» قال في الشامل : والذي يقوله الناس لا بأس به أيضا وهو : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر والله أكبر ولله الحمد. يرفع الناس أصواتهم بالتكبير ليلتي العيد في المنازل والمساجد والطرق والأسواق سفرا كانوا أو حاضرين في اليومين في طريق المصلي وبالمصلى إلى الغاية المذكورة سواء كان يصلي المكبر مع الإمام أو لا يصلي. ويستثني من ذلك الحاج فلا يكبر ليلة الأضحى. واختلف في أن التكبير في أي العيدين أوكد ، ففي القديم ليلة النحر لإجماع السلف عليها ، وفي الجديد ليلة الفطر لورود النص فيها.

قوله سبحانه (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) وجه اتصاله بما قبله هو أنه لما أمر العباد بالتكبير الذي هو الذكر وبالشكر نبههم على أنه مطلع على ذكرهم وشكرهم فيسمع نداءهم ويجيب دعاءهم ولا يخيب رجاءهم ، أو أنه أمرهم بالثناء ثم رغبهم في الدعاء تعليما للمسألة وتنبيها على حسن الطلب ، وسبب نزوله ما روي أن أعرابيا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ وقيل : كان في غزاة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا. وعن قتادة أن الصحابة قالوا : يا نبي الله كيف ندعو ربنا فنزلت. وعن عطاء أنهم سألوا في أي ساعة ندعو فنزلت. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا : يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت. وعن الحسن : سألت الصحابة فقالوا أين ربنا فنزلت. وقيل : فرض عليهم الصيام كما كتب على الذين من قبلهم أي إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا ربهم في ذلك التكليف ، ثم ندموا وسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن توبتهم فنزلت مبشرة بقبول توبتهم. ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم ، وبهذا الوجه تصير الآية مناسبة لما قبلها ولما بعدها. ثم إن سؤالهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله إما أن يكون عن ذاته بأن يكون السائل ممن يجوّز التشبيه فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات ، وإما أن يكون عن صفاته بأنه هل يسمع دعاءنا ، أو عن أفعاله بأنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا ، أو كيف أذن في الدعاء وهل أذن في أن ندعوه بجميع

٥٠٥

الأسماء ، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة ، وهل أذن أن ندعوه كيف شئنا ، أو ما أذن إلا بأن ندعوه على وجه معين كما قال تعالى (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠] وكل هذه الوجوه محتملة لأن قوله (فَإِنِّي قَرِيبٌ) يدل على أن السؤال كان عن الذات وقوله (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) دليل على أن السؤال عن الصفة لأن الإجابة بعد السماع وإطلاق قوله (إِذا دَعانِ) يرشد إلى الإذن في الدعاء على أي نحو أراد ما لم يتجاوز قانون الأدب عرفا كقوله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠] قال العلماء : ليس القرب هاهنا بالمكان ، لأنه لو كان في المكان كان مشارا إليه بالحس ومنقسما إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد. وكل منقسم مفتقر في تحققه إلى أجزائه. وكل مفتقر ممكن. وأيضا لو كان في المكان ، فإما أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو محال فإن كل بعد متناه ببرهان تناهي الأبعاد أو من جانب واحد فكذلك مع أن كونه بحيث يقتضي جانب منه عدم التناهي ، وجانب منه التناهي يوجب كونه مركبا من أجزاء مختلفة الطبائع ، أو يكون متناهيا من جميع الجوانب وهو باطل بالاتفاق. وأيضا هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب ليس بالجهة لأنه لو كان في المكان لما كان قريبا من الكل بل لو كان قريبا من حملة العرش يكون بعيدا عن غيرهم ، ولو كان قريبا من المشرقي كان بعيدا عن المغربي. قالوا : فثبت أن المراد بالقرب قربه بالتدبير والحفظ والكلاءة. قال في الكشاف : هو تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه. فإذا دعى أسرعت تلبيته ونحوه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو بينكم وبين أعناق رواحلكم» (١) وقد أشار بعض المحققين إلى أن اتصاف ماهيات الممكنات بوجودها لما كان بإيجاد الصانع فهو كالمتوسط بين ماهياتها ووجوداتها ، فيكون أقرب إلى ماهية كل ممكن من وجود تلك الماهية إليها بل ماهية كل شيء إنما صارت هي هي بجعل الصانع حتى ماهية الوجود فبه صار الجوهر جوهرا والسواد سوادا والعقل عقلا والنفس نفسا. فالصانع أقرب إلى كل ماهية من تلك الماهيات إلى نفسها (قلت) استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إلى المكان. ولئن سلم أن كل مفتقر إلى المكان ينقسم ، فانقسام كل مستصحب للمكان ممنوع ، وبراهين تناهي الأبعاد مختلة زيفناها في مواضعها. فلا ذرة من ذرات العالم إلا ونور الأنوار محيط بها قاهر عليها قريب منها ، أقرب من وجودها إليها ،

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٥٧ بلفظ «رؤوس» بدل «أعناق».

٥٠٦

لا بمجرد العلم فقط ولا بمعنى الصنع والإيجاد فقط بل بضرب آخر لا يكشف المقال عنه غير الخيال ، مع أن التعبير عن بعض ذلك يوجب شنعة الجهال. شعر :

رمزت إليه حذار الرقيب

وكتمان سر الحبيب حبيب

إذا ما تلاشيت في نوره

يقول لي ادع فإني قريب

فإن سألوه عليه‌السلام : أين ربنا؟ صح الجواب بأني قريب ، وإن سألوه : هل يسمع ربنا دعاءنا؟ صح الجواب بأني قريب ، وإن سألوه كيف ندعوه أبرفع الصوت أم بإخفائه؟ صح أن يجاب إني قريب ، وإن سألوه : هل يعطينا ربنا مطلوبنا بالدعاء صحّ في الجواب فإني قريب ، وإن سألوه إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا؟ صحّ أن يجاب إني قريب أي بالنظر إليهم والتجاوز عنهم. واعلم أن الدعاء مصدر دعوت أدعو وقد يكون اسما. تقول : سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتا. وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية والاستمداد والمعونة. قال بعض الظاهريين : لا فائدة في الدعاء لأن المطلوب به إن كان معلوم الوقوع عند الله كان واجب الوقوع وإلا فلا. ولأن الأقدار سابقة والأقضية جارية وقد جف القلم بما هو كائن ، فالدعاء لا يزيد فيها شيئا ولا ينقص ، ولأن المقصود إن كان من صالح العبد فالجواد لطق لا يبخل به ، وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه ، ولأن أجل مقامات الصدّيقين الرضا بالقضاء وإهمال حظوظ النفس. والاشتغال بالدعاء ينافي ذلك ، ولأن الدعاء شبيه بالأمر أو النهي وذلك خارج عن الأدب ، ولهذا ورد في الكلام القدسي «من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين» (١) وقال جمهور العقلاء : إن الدعاء من أعظم مقامات العبودية وإنه من شعار الصالحين ودأب الأنبياء والمرسلين. والقرآن ناطق بصحته عن الصديقين ، والأحاديث مشحونة بالأدعية المأثورة بحيث لا مساغ للإنكار ولا مجال للعناد. والسبب العقلي فيه أن كيفية علم الله وقضائه وقدره غائبة عن العقول ، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقا بين الرجاء والخوف اللذين بهما تتم العبودية. وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله وجريان قضائه وقدره في الكل. وما روي عن جابر أنه جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ففيم العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال : بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال : ففيم العمل؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له. وكل عامل بعمله

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ٢٥. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ٦.

٥٠٧

منبه على ما قلنا ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم علقهم بين الأمرين ، رهبهم بسابق القدر ثم رغبهم في العمل ولم يترك أحد الأمرين للآخر فقال : كل ميسر لما خلق له. يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق به القدر قبل وجوده إلا أنك تحب أن تعرف الفرق بين الميسر والمسخر كيلا تغرق في لجة القضاء والقدر ، وكذا القول في باب الرزق والكسب. والحاصل أن الأسباب والوسائط والروابط معتبرة في جميع أمور هذا العالم. ومن جملة الوسائل في قضاء الأوطار الدعاء والالتماس كما في الشاهد. فلعل الله تعالى قد جعل دعاء العبد سببا لبعض مناجحه. فإذا كان كذلك فلابد أن يدعو حتى يصل إلى مطلوبه ، ولم يكن شيء من ذلك خارجا عن قانون القضاء السابق وناسخا للكتاب المسطور. ومن فوائد الدعاء إظهار شعار الذل والانكسار ، والإقرار بسمة العجز والافتقار ، وتصحيح نسبة العبودية ، والانغماس في غمرات النقصان الإمكاني ، والإفلاس عن ذروة الترفع ، والاستغناء إلى حضيض الاستكانة ، والحاجة والفاقة ، ولهذا ورد «من لم يسأل الله يغضب عليه» (١) فإذا كان الداعي عارفا بالله تعالى وعالما بأنه لا يفعل إلا ما وافق مشيئته وسبق به قضاؤه وقدره ، ودعا على النمط المذكور من غير أن يكون في دعائه حظ من حظوظ النفس الأمارة ، راجيا فيما عند الله من الخير ، خائفا من الإقدام على موقف المسألة والمناجاة ، وأن تكون استجابته صورة الاستدراج ، كان دعاؤه خليقا بالإجابة وجديرا بالقبول وأن تعود بركته عليه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استجيب له. فإذا أن يعجل له في الدنيا ، وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل» قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل؟ قال : «يقول دعوت ربي فما استجاب لي» (٢) وأما هيئة الداعي فعن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (٣) وعن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» (٤) وأما شرائط الدعاء فمنها بعد ما مر من الإخلاص وغيره

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٤٤٣ ، ٤٧٧). ابن ماجه في كتاب الدعاء باب ١. بلفظ «من لم يدع .. ...».

(٢) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ١١٤. الموطأ في كتاب القرآن حديث ٣٦. أحمد في مسنده (٢ / ٤٤٨).

(٣) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٦٥. أحمد في مسنده (٢ / ١٧).

(٤) رواه أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٣.

٥٠٨

تزكية البدن وإصلاحه بلقمة الحلال. وذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء أشعث أغبر يقول : يا رب يا رب. ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟ وذكر المحققون أن الدعاء مفتاح باب السماء ، وأسنانه لقمة الحلال. وأما وقت الدعاء ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له» (١) وعن أبي أمامة قال : يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع؟ قال : جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات. وعن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد» (٢) وزاد في رواية قال : فماذا نقول يا رسول الله؟ قال : سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أقرب ما يكون العبد من ربه عزوجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء» (٣) وعنه أنه قال «من سره أن يستجيب الله له دعاءه عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء» وعنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حين يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» (٤) وأما كيفية الدعاء فعن فضالة بن عبيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته فلم يصلّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ليدع بعد ما شاء». وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلى عليّ فلا تجعلوني كغمر الراكب صلوا عليّ أول الدعاء وأوسطه وآخره». ومن لطائف الآية أنه تعالى قال (فَإِنِّي قَرِيبٌ) دون أن يقول «فقل إني قريب» كما قال في سائر الأسئلة والأجوبة. وذلك في مواضع من كتابه (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٢١) (٤ / ١٦).

(٢) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب ٣٥. الترمذي في كتاب الصلاة باب ٤٤. أحمد في مسنده (٣ / ١١٩ ، ١٥٥).

(٣) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث ٢١٥. النسائي في كتاب المواقيت باب ٣٥. الترمذي في كتاب الدعوات باب ١١٨. أحمد في مسنده ٢ / ٤٢١.

(٤) رواه الترمذي في كتاب الجنة باب ٢ ، كتاب الدعوات باب ١٣٠.

٥٠٩

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه : ١٠٥] (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) [الأعراف : ١٨٧] وهذه الأسئلة أصولية. (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ٢١٥] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) [البقرة : ٢٢٠] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) [البقرة : ٢٢٢] (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) [النساء : ١٢٧] (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١] (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي) [يونس : ٥٣] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) [الكهف : ٨٣] فكأنه سبحانه يقول : عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء ، أما في الدعاء فلا واسطة بيني وبينك. وأيضا في مقام السؤال قال : (عِبادِي) وهذا يدل على أن العبد له ، وفي مقام الإجابة قال (فَإِنِّي قَرِيبٌ) وهذا يدل على أنه للعبد. وأيضا لم يقل «العبد مني قريب» بل قال (فَإِنِّي قَرِيبٌ) منه إشارة إلى أنه ما للتراب ورب الأرباب وإنما يصل من حضيض الإمكان الذاتي إلى ذروة الوجود والبقاء بفضل الواجب وفيضه (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أجاب واستجاب بمعنى يقال : أجاب واستجاب له أي فليمتثلوا أمري إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) وليستقيموا وليعزموا على الاستجابة ، وليؤمنوا كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم إرادة أن يكونوا من الراشدين المهتدين إلى مصالح دينهم ودنياهم ، فإن طاعة الله تعالى هي المستتبعة للخيرات عاجلا وآجلا (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧] وفي ضده (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) [طه : ١٢٤] وحاصل الكلام : أنا أجيب دعاءكم مع أني غني عنكم على الإطلاق فكونوا أنتم مجيبين دعوتي مع افتقاركم إليّ من جميع الوجوه. وفيه نكتة وهي أنه تعالى لم يقل أجب دعائي حتى أجيب دعاءك لئلا يصير المذنب محروما عن هذا الإكرام بل قال : أنا أجيب دعاءك على جميع أحوالك فكن أنت مجيبا لدعائي وهذا يدل على أن نعمه تعالى شاملة ورحمته كاملة تعم المطيعين والمذنبين والكاملين والناقصين. وقيل : الدعاء في الآية هو العبادة لما روي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الدعاء هو العبادة» (١) وقرأ (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠]

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة البقرة باب ١٦. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب ١. أحمد في مسنده (٤ / ٢٦٧ ، ٢٧١)

٥١٠

وعلى هذا فالإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كقوله تعالى (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الشورى : ٢٦] وقيل : المراد من الدعاء التوبة. وذلك أن التائب يدعو الله عند التوبة ، فإجابة الدعوة على هذا التفسير عبارة عن قبول التوبة.

قوله عزوجل : (أُحِلَّ لَكُمْ) الآية جمهور المفسرين على أنها ناسخة لما عليه الناس في أول الإسلام. روي عن ابن عباس أنه لما نزلت (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) كانوا إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب وصاموا إلى القابلة ، فاختان رجل فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر ، فأراد الله أن يجعل ذلك تيسيرا لمن بقي ورخصة ومنفعة. وعن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ويومه حتى يمسي. وقال : إن قيس بن صرمة الأنصاري ، أو صرمة بن قيس ، أو قيس بن عمرو ـ على اختلاف الروايات ـ كان صائما. فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : أعندك طعام؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك ، فلما انتصف النهار غشي عليه. فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (أُحِلَّ لَكُمْ) ففرحوا بها فرحا شديدا ، وأبو مسلم خالف الجمهور بناء على مذهبه من أنه لم يقع في القرآن نسخ البتة. احتج الجمهور بوجوه منها. أنه تعالى شبه إيجاب الصوم على هذه الأمة بإيجابه على من قبلهم ، فيلزم منه حرمة الأكل والشرب والوقاع بعد النوم في شرعنا كما كانت في شرعهم. وإذا كانت الحرمة ثابتة فهذه الآية رافعة لها ناسخة لحكمها. ومنع أبو مسلم من أن مقتضى التشبيه حصول المشابهة في كل الأمور ، فلعلهم إنما كانوا يمتنعون من الأكل والشرب والوقاع اعتقادا منهم ببقاء تلك الحرمة في شرعنا كما هي في شرع من قبلنا مع جواز كونها مباحة في نفس الأمر. ومع قيام هذا الاحتمال فلا جزم بالنسخ ومنها قوله تعالى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ولو كان ذلك حلالا لم ينسبوا إلى الخيانة ، قيل : إن عمر رضي‌الله‌عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه. فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة وأخبره بما فعل. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما كنت جديرا بذلك يا عمر. فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء فنزلت. قال أبو مسلم : أصل الخيانة النقص. وخان واختان وتخوّن بمعنى واحد مثل كسب واكتسب وتكسب. والمعنى علم الله أنكم كنتم تنقصون أنفسكم حظها من اللذات لا من الثواب والخير. ومنها قوله (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ)

٥١١

والتوبة والعفو يكونان بعد المعصية وارتكاب ما هو محرم. قال أبو مسلم : التوبة من العباد الرجوع إلى الله بالعبادة ، ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان. والعفو التسهيل والتوسعة والتخفيف. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم» وقال «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» والمراد التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت. ويقال : أتاني هذا المال عفوا أي سهلا. فالمعنى عاد عليكم بالرحمة وسع عليكم بإباحة هذه الأشياء المحرمة على الذين من قبلكم. وأما الروايات فأخبار آحاد لا يوجب شيء منها حمل القرآن عل النسخ. ولنشتغل بتفسير الألفاظ فنقول : ليلة الصيام قال الواحدي : أراد ليالي الصوم ، فوضع الواحد موضع الجمع. ويمكن أن يقال : أضاف الليلة إلى هذه الحقيقة فتتناول الكل من غير تكلف. والرفث الجماع. والرفث أيضا الفحش من القول وكلام النساء في الجماع. وقيل لابن عباس. حين أنشد :

وهن يمشين بنا هميسا

إن تصدق الطير ننك لميسا

أترفث وأنت محرم؟ فقال : إنما الرفث ما واجه به النساء. هميسا أي مشيا لينا ، ولميس اسم امرأة أي أن يصدق الفأل ننكها. وقال أبو علي : معناه الفرج. ويقال : جامع الرجل أو ناك. فإذا أردت الكناية عن هذه العبارة قلت : رفث الرجل. وإنما كني عنه هاهنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يعبر عنه بالإفضاء أو الغشيان أو المس ونحوها كما في مواضع آخر (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١] (فَلَمَّا تَغَشَّاها) [الأعراف : ١٨٩] (بَاشِرُوهُنَ) [البقرة : ١٨٧] (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٧] (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء : ٤٣] وفي قوله : (دَخَلْتُمْ بِهِنَ) [النساء : ٢٣] (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) [البقرة : ٢٢٣] (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) [النساء : ٢٤] (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) [البقرة : ٢٢٢] حتى استهجان لما وجد منهم قبل الإباحة ، أو البيان كما سماه اختيانا لأنفسهم. قال الأخفش إنما عدي الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١] (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) وجه التشبيه أنهما يعتنقان فينضم جسد أحدهما إلى جسد صاحبه ويشتمل عليه كالثوب. قال الربيع : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن. وقال ابن زيد : كل منهما يستر صاحبه عن الأبصار عند الجماع. قال الجعدي :

إذا ما الضجيع ثنى عطفها

تثنت فكانت عليه لباسا

أو سميا لباسا لستر كل منهما صاحبه عما لا يحل كما في الخبر «من تزوّج فقد أحرز

٥١٢

ثلثي دينه» أو المراد تستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت لو لم تكن المرأة حاضرة كما يتستر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار. وعن الأصم : أن كل واحد منهما كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي كانوا يفعلونه ، وزيف بأن هذه القرينة واردة في معرض الإنعام لا في مقام الذم. ووحد اللباس إما لأنه جنس وإما لأنه مصدر «لابس» وضع موضع الصفة. وموقع قوله (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) استئناف لأنه كالبيان لسبب الإحلال ، فإن مثل هذه المخالطة والملابسة توجب قلة الصبر عنهن. ومعنى (عَلِمَ اللهُ) ظهر معلومه أو هو عالم ، ولم يذكر في الآية أن الخيانة فيما ذا إلا أن الذي تقدم هو ذكر الجماع والذي تأخر هو مثله بدليل (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) فتعين أن يكون المراد به الخيانة في الجماع. ومن المعلوم أن كل واحد منهم لم يختن فالخطاب لبعضهم ، وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه لأنه جلب إليها العقاب ونقص حظها من الثواب. وقيل : إن الآية لا تدل على وقوع الخيانة منهم ، وإنما المراد علم الله أنكم بحيث لو دام هذا التكليف تختانون أنفسكم لضعفكم وقلة صبركم ، فوسع الأمر عليكم حتى لا تقعوا في الخيانة. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) من الفاء الفصيحة أي فتبتم فقبل توبتكم. وعلى قول أبي مسلم لا إضمار. (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) تأكيد لقوله (أُحِلَّ لَكُمْ) وفيه ضرب من البيان لأن حل الرفث في ليلة الصيام لا يوجب حله في جميع أجزائها حتى الصباح. والجمهور على أن المراد بالمباشرة هاهنا الجماع ، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين فيه. ومنه ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يباشر الرجل الرجل والمرأة المرأة» (١) وإنما قلنا إن المراد بها الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ، ولأن الرفث أريد به ذلك إلا أن إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه فصح ما نقل عن الأصم أن المراد بها الجماع وغيره ورجع النزاع لفظيا. وأما المباشرة في قوله (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) فلا يعود النزاع فيها إلى اللفظ ، لأن المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه من الاستمتاعات. (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) جعل أو قضى أو كتب في اللوح من الولد أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن للغرض الأصلي من النكاح وهو التناسل. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تناكحوا تكثروا» (٢) وقيل : هو نهي عن العزل فقد وردت الأخبار في كراهية ذلك. وعن الشافعي : لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ، ولا بأس أن يعزل عن الأمة. وعن علي كرم الله وجهه : أنه كان يكره العزل. وقيل : اطلبوا المحل الذي حلله الله لكم كقوله تعالى

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (١ / ٣٠٤ ، ٣٨٠) (٢ / ٣٢٦).

(٢) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٨. بلفظ «انكحوا فإني مكاثر بكم».

٥١٣

(فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٢٢] وقيل : وابتغوا هذه المباشرة التي كتب الله لكم بعد أن كانت محرمة عليكم ، وعن أبي مسلم : وابتغوا المباشرة التي كان الله كتبها لكم ، وإن كنتم تظنون أنها محرّمة عليكم. وقيل : يعني لا تباشروهن إلا في الأوقات والأحوال التي أذن الله لكم في مباشرتهن دون أوقات الحيض والنفاس والعدّة والردة. وقيل : أي لا تبتغوا المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة وهو الذي كتب في القرآن من قوله (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦] وعن معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء : اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها. واستبعده بعضهم وليس ببعيد ، فإن توزع الفكر بسبب الشهوة المشوّشة قد يمنع عن الإخلاص في العبودية ولا يتفرغ المكلف حينئذ لطلب ليلة القدر التي هي حاصل صوم رمضان فقال سبحانه (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) لتفرغوا لطلب الغاية من صيامكم والله أعلم بمراده ، عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، وجعلت أنظر إليهما من الليل ولا يستبين لي ، فإذا تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت. فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فضحك وقال : إنك لعريض القفا إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل. وكنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك عن بلاهة عديّ وقلة فطنته ، وفي الصحيحين أيضا عن سهل بن سعد : نزلت ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله عزوجل بعد (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار.

واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق ، وأما تأخيره عن وقت الخطاب فجائز عند الأكثرين. ولما كان من مستعملات العرب إطلاق الخيط الأبيض على أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود ، والخيط الأسود على ما يمتد معه من غبس الليل قال أبو داود :

فلما أضاءت لنا سدفة

ولاح من الصبح خيط أنارا

والسدفة الضياء المخلوط بالظلام ، اقتصر على الاستعارة أوّلا ، ثم لما اشتبه الأمر على بعض من لا دراية له باللغة العربية نزل من الفجر بيانا للخيط الأبيض واستغنى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما يستتبع بيان الآخر. وخرج الكلام من الاستعارة إلى التشبيه البليغ كما أن قولك «رأيت أسدا» مجاز ، فإذا زدت «من فلان» رجع تشبها. فالاستعارة وإن كانت أبلغ من التشبيه وأدخل في

٥١٤

الفصاحة من حيث إنها استعارة كما بين في موضعه إلا أن رفع الاشتباه عن المكلفين أهم وأولى. فالفصاحة في هذا المقام ترك الاستعارة ، وليس هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة على الإطلاق ، لأن المحتاجين هاهنا إلى البيان ساقطون عن درجة الاعتبار لأن فهم المعنى من اللفظ إنما يعتبر بالنسبة إلى العارف بقوانين العرب واستعمالاتهم لا بالإضافة إلى الأغبياء منهم. نعم التفهيم يعم البليد والذكي والله المستعان. ولا يسبقنّ إلى الوهم أن المشبه بالخيط الأبيض هو الصبح الكاذب المستطيل لأنه يناقض ما ورد في الخبر «لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير» (١) وإنما المشبه هو الفجر الصادق ، وهو أيضا يبدو دقيقا ولكن يرتفع مستطيرا أي منتشرا في الأفق لا مستطيلا. ويمكن أن يقال : الفصل المشترك بين ما انفجر من الضياء. أي انشق وبين ما هو مظلم بعد يشبه خيطين اتصلا عرضا. فالذي انتهى إليه الضياء خيط أبيض ، والذي ابتدأ منه الظلام خيط أسود. وقد سبق تقرير الصبح في تفسير قوله تعالى (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [البقرة : ١٦٤] فليتذكر. قيل : ويجوز أن تكون «من» في قوله تعالى (مِنَ الْفَجْرِ) للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوّله : ولا شك أن «حتى» لانتهاء الغاية فدلت الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح. فاستدل بهذا على جواز صوم من يصبح جنبا. وبقوله (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) على أن الصوم ينتهي عند غروب الشمس ، لأن ما بعد «إلى» لا يدخل فيما قبلها وخاصة إذا لم يكن من جنسه ، بل على حرمة الوصال. ويؤيده ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد غربت الشمس وأفطر الصائم (٢) فيجب على المكلف أن يتناول في هذا الوقت شيئا. وكيف لا وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن الوصال فقيل : يا رسول الله إنك تواصل. فقال : إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني. أي من طعام الجنة ، أو إني على ثقة بأني لو احتجت أطعمني من الجنة ، أو إني أعطيت قوة من طعم وشرب. والتحقيق أن استغراقه في مطالعة جلال الله يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فإذا تناول شيئا قليلا ولو قطرة من الماء فبعد ذلك كان بالخيار في الاستيفاء إلا أن يخاف التقصير في الصوم المستأنف أو في سائر العبادات فيلزم حينئذ أن يتناول بمقدار الحاجة ، وقد يتشبث الحنفي بالآية على جواز النية في نهار صوم رمضان لأن مدة الإمساك هو

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الصيام حديث ٥١. الترمذي في كتاب الصوم باب ١٢ أحمد في مسنده (١ / ٢٥ ، ٤٨).

(٢) رواه مسلم في كتاب الصيام حديث ٤٠ بلفظ «الفجر هو المعترض وليس بالمستطيل».

٥١٥

النهار فقط فيجب قصد الإمساك فيه فقط ، ومقتضى هذا الدليل صحة الفرض بنيته بعد الزوال إلا أنا نقول : الأقل ملحق بالأغلب ، فأبطلنا الصوم بنيته بعد الزوال وصححناه بنيته قبله. حجة الشافعي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له» ويروى «من لم ينو» وإنما جوز في النفل أن ينوي قبل الزوال لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول : هل من غداء؟ فإن قالوا لا قال : إني صائم ، وأيضا الحنفي : يجب إتمام الصوم النفل لقوله (ثُمَّ أَتِمُّوا) والأمر للوجوب. وقال الشافعي : قد ورد هذا عقيب الفرض فيتخصص به وأعلم أنه سبحانه خصص بالذكر من المفطرات الرفث والأكل والشرب لأن النفس تميل إليها. وهاهنا مفطرات أخر استنبطت من الآية أو استفيدت من السنة فمنها الاستمناء لأن الإيلاج من غير إنزال مبطل. فالإنزال بنوع شهوة أولى ، وكذا الإنزال باللمس أو القبلة دون الفكر أو النظر بشهوة لأن هذا يشبه الاحتلام ، وعند مالك الإنزال بالنظر مفطر ، وعند أحمد إن كرر النظر حتى أنزل أفطر. ومنها الاستقاء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه ومن استقاء فليقض» (١) ومنها دخول الشيء جوفه من منفذ مفتوح سواء كان فيه قوة محيلة تحيل الواصل إليه من غذاء أو دواء أولا ، فالحلق جوف وكذا باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة لما روي عن ابن عباس أن الفطر مما دخل والوضوء مما خرج ، فالحقنة مبطلة للصوم وكذا السعوط إذا وصل إلى الدماغ. ولا بأس بالاكتحال ، وليست العين من الأجواف فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم. وعن مالك وأحمد إنه إذا وجد في الحلق طعما أفطر. والتقطير في الأذن إذا وصل إلى الباطن كالسعوط وكذا في الإحليل وإن لم يصل عليه إلى المثانة. ولا بأس بالفصد والحجامة لكن يكره خيفة الضعف. احتجم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو صائم محرم في حجة الوداع. وقال أحمد : يفسد الصوم بالحجامة. ولو دهن رأسه أو بطنه فوصل إلى جوفه بتشرب المسام لم يضر كالاغتسال والانغماس عند الشافعي ، ولا بد أن يكون الواصل عن قصد منه فلو طارت ذبابة إلى حلقه أو وصل غبار الطريق أو غربلة الدقيق إلى جوفه لم يفطر. ولو فتح فاه عمدا لما في الحفظ من العسر. ولو ضبطت المرأة ووطئت أو وجيء بالسكين أو أوجر بغير اختياره فلا إفطار. وكذا لو كان مغمى عليه فأوجر معالجة ولو أكره حتى أكل بنفسه أفطر لأنه أتى بضد الصوم ، ولا أثر لدفع الضرر كما لو أكل أو شرب لدفع

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الصوم باب ٣٣. الترمذي في كتاب الصوم باب ٢٤. ابن ماجه في كتاب الصيام في باب ١٦. الدارمي في كتاب الصوم باب ٢٥. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٤٧.

٥١٦

الجوع أو العطش. وعند أحمد لا يفطر. وابتلاع الريق الصرف الطاهر من الفم لا يفطر ، والنخامة إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم لم تضر وإن حصلت فيه بانصبابها من الدماغ إلى الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم ، فإن قدر على مجه ولم يمج حتى جرى بنفسه بطل صومه لتقصيره وإلا فلا ، وإذا تمضمض فسبق الماء إلى جوفه أو استنشق فوصل الماء إلى دماغه لم يفطر على الأصح إن لم يبالغ وبه قال أحمد. وعند أبي حنيفة ومالك يفطر وإن بالغ أفطر وفاقا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقيط بن صبرة : «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» (١) ولو بقي طعام في خلل أسنانه فابتلعه عمدا أفطر خلافا لأبي حنيفة فيما إذا كان يسيرا ، وربما قدره بالحمصة. وإن جرى به الريق من غير قصد منه لم يفطر على الأصح. ولا بد أيضا في وصول العين من ذكر الصوم ، فإذا أكل ناسيا ، فإن قل لم يفطر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» (٢) وخالف مالك. وإن كثر أفطر. ولو جامع ناسيا للصوم فالأصح أنه لا يبطل كما في الأكل. ولو أكل على ظن أن الصبح لم يطلع بعد ، أو أن الشمس قد غربت وكان غالطا لم يجزئه صومه على الأشهر لأنه تحقق خلاف ما ظنه واليقين مقدم على الظن. ثم إن كان الصوم واجبا قضى ، وإن كان تطوعا فلا قضاء. والأحوط في آخر النهار أن لا يأكل إلا بعد تيقن غروب الشمس لأن الأصل بقاء النهار ولو اجتهد وغلب على ظنه دخول الليل بورد أو غيره ، فالأصح جواز الأكل ، وقد أفطر الناس في زمان عمر ثم انكشف السحاب وظهرت الشمس. وأما في أول النهار فيجوز الأكل بالظن والاجتهاد إلى طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل ، فإن قيل : إن أول الفجر كيف يدرك ويحس ومتى عرف المترصد الطلوع كان الطلوع الحقيقي مقدما عليه؟ فيجاب إما بأن المسألة موضوعة على التقدير كدأب الفقهاء في أمثالها وإما بأنا نتعبد بما يطلع عليه. ولا معنى للصبح إلا بظهور الضوء للناظر وما قبله لا حكم له كالزوال عند زيادة الظل ، وإذا كان الشخص عارفا بالأوقات ومنازل القمر ، وكان بحيث لا حائل بينه وبين مطلع الفجر وترصد فمتى أدرك فهو أول الصبح المعتبر ، وحينئذ يحرم المفطرات وعن الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والوقاع إلى طلوع الشمس قياسا لأول النهار على آخره. وجعل الخيط الأبيض وقت الطلوع

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الصوم باب ٦٨. أبو داود في كتاب الطهارة باب ٥٦. النسائي في كتاب الطهارة باب ٧٠. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ٤٤. أحمد في مسنده (٤ / ٣٣).

(٢) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ٢٦. مسلم في كتاب الصيام حديث ١٧. ابن ماجه في كتاب الصيام باب ١٥. الدارمي في كتاب الصوم باب ٢٣. أحمد في مسنده (٢ / ٣٩٥ ، ٤٢٥).

٥١٧

والخيط الأسود ما اتصل به من آخر الليل. ومن الناس من قال : لا يجوز الإفطار إلا عند غروب الحمرة ، كما أنه لا يجوز الأكل إلا إلى طلوع الفجر. وهذه المذاهب قد انقرضت ، والفقهاء أجمعوا على بطلانها. يحكى عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له الأعمش : إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك فكيف إذا زرتني؟ فسكت عنه أبو حنيفة ، فلما خرج قيل له : لم سكت عنه؟ قال : ماذا أقول في رجل ما صام ولا صلى في دهره عنى أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل طلوع الشمس فلا صوم له ، وكان لا يغتسل من الإكسال فلا صلاة له. واعلم أن في الآية ترتيبا عجيبا ونسقا أنيقا وذلك أن الرفث لما كان من أشنع الأمور التي يجب الإمساك عنها في رمضان حتى قال بعض الناس إنه كان حراما في رمضان ليلا ونهارا وفيه قد وقعت الخيانة كما مر في الإخبار. قدم إباحته أولا ثم بين السبب في إباحته ، ثم وبخ المختانون في شأنه وعقب التوبيخ بالعفو وقبول التوبة ، ثم أعيد ذكر إباحته ليترتب عليه الغرض الأصلي من الرفث وهو طلب النسل ، وليعطف عليه إباحة الأكل والشرب جميع ذلك إلى آخر جزء من أجزاء الليل ، ثم لما بين مدة الإفطار وما أبيح فيها بين مدة الصوم الذي هو المقصود الأصلي تلك المدة هي ما بقي من مدة الإفطار إلى تمام أربع وعشرين ساعة هي مجموع اليوم بليلته ، أعني من أول الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، ثم لما كان زمان الاعتكاف مستثنى من ذلك لأنه فهم من الآية أن الإمساك عن الرفث كان مختصا بنهار رمضان لا بليلته ولا بسائر أيام السنة ولياليها عقب إباحة الرفث فيما سوى نهار رمضان بخطره في حال الاعتكاف فقيل (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) قال الشافعي : الاعتكاف حبس المرء نفسه على شيء برا كان أو إثما. قال تعالى (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) [الأعراف : ١٣٨] والاعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله تعالى تقربا إليه. وهو من الشرائع القديمة. قال تعالى (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ) [البقرة : ١٢٥] وللأئمة خلاف في المراد من المباشرة هاهنا. فعن الشافعي : في أصح قوليه ووافقه أبو حنيفة وأحمد : إنها الجماع والمقدمات المفضية إلى الإنزال. لأن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين. فالمنع من هذه الحقيقة ما دام في المعتكف وحين يخرج لحاجة ولم تتم مدة الاعتكاف منع عن القبلة والعناق وكل ما فيه تلاصق البشرتين. خالفنا الدليل فيما إذا لم ينزل من هذه الأمور لتبين عدم الشهوة فيها ، وقد علم أن اللمس بغير شهوة جائزة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدني رأسه من عائشة لترجل رأسه وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتكف ، فيبقى ما فيه الشهوة على أصل المنع. احتج من قال إنها لا تبطل الاعتكاف بأن هذه الأمور لا تبطل الصوم والحج فلا تفسد الاعتكاف ، لأنه ليس أعلى درجة منهما. وأجيب بأن النص مقدم على

٥١٨

القياس. واتفقوا على أن شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد لأنه مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بنى لإقامة الطاعات. ثم اختلفوا فعن علي رضي‌الله‌عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام لقوله تعالى (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ) [البقرة : ١٢٥] أي لجميع العاكفين. وعن عطاء فيه وفي مسجد المدينة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» (١) وعن حذيفة فيهما وفي مسجد بيت المقدس لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» (٢) الزهري : لا يصح إلا في الجامع. أبو حنيفة : لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب. الشافعي : يجوز في جميع المساجد لإطلاق قوله (فِي الْمَساجِدِ) إلا أن الجامع أولى حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة. ولا خلاف أن الاعتكاف مع الصوم أفضل وهل يجوز بغير صوم؟ الشافعي : نعم لأنه بغير الصوم عاكف وأنه تعالى منع العاكف من المباشرة ولو كان اعتكافه باطلا لما كان ممنوعا. وأيضا لو كان الاعتكاف موجبا للصوم لم يصح الاعتكاف في رمضان لأن ذمته مشغولة بالصوم الواجب لشهود الشهر فلا يمكنه الاشتغال بالصوم الذي يوجبه الاعتكاف ، لكنهم أجمعوا على صحة الاعتكاف في رمضان. وأيضا لو تلازما لخرج المعتكف عن اعتكافه بالليل كما يخرج عن الصوم لكنه لا يخرج. وأيضا روي أن عمر رضي‌الله‌عنه قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أوف بنذرك. ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليلة. أبو حنيفة : لا يجوز لأنه يجب الصيام في الاعتكاف بالنذر فيجب بغير نذر أيضا كعكسه في الصلاة حال الاعتكاف ، وهو أن الصلاة لما لم تجب في النذر بالإجماع لم تجب في غير النذر ، أيضا وفرق بأن الصوم والاعتكاف متقاربان ، فكل منهما كف وإمساك ، والصلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها وبين الاعتكاف فلا يجعل أحدهما وصفا للآخر ، ولهذا قلنا : إنه لو نذر أن يعتكف صائما أو يصوم معتكاف لزمه كلاهما ، والجمع بينهما. ولو نذر أن يعتكف مصليا أو يصلي معتكفا لزمه كلاهما دون الجمع بينهما. ويتفرع على المذهبين أنه يجوز أن ينذر

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب ١. مسلم في كتاب الحج حديث ٥٠٥ ـ ٥١٠ النسائي في كتاب المناسك باب ١٢٤. الترمذي في كتاب المواقيت باب ١٢٦. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٩٥ ، ١٩٨. الموطأ في كتاب القبلة حديث ٩.

(٢) رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب ١ ، ٦ مسلم في كتاب الحج حديث ٤١٥. أبو داود في كتاب المناسك باب ٤١٥. الترمذي في كتاب الصلاة باب ١٢٦. النسائي في كتاب المساجد باب ١٠. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٩٦. الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٣٢. الموطأ في كتاب الجمعة حديث ١٦. أحمد في مسنده (٢ / ٢٣٤ ، ٢٧٨).

٥١٩

اعتكاف ساعة عند الشافعي ، وأما عند أبي حنيفة فلا يجوز أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس. قال الشافعي : وأحب أن يعتكف يوما وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى جميع ما تقدم من أول آية الصيام إلى هاهنا لا إلى عدم المباشرة في الاعتكاف وحده ، لأنه حد واحد أللهم إلا أن يراد أمثال تلك الجملة. وحد الشيء مقطعه ومنتهاه ، وحد الدار ما يمنع غيرها أن يدخل فيها ، والحد الكلام الجامع لمانع فحدود الله ما منع من مخالفتها بعد أن قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة. وإنما قال هاهنا (فَلا تَقْرَبُوها) وفي موضع آخر (فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩] لأن العامل بشرائع الله أوامر ونواهي منصرف في حيز الحق ، فإذا تعداه وقع في حيز الباطل. فالنهي عن التعدي هو المقصود إلا أن الأحوط أن لا يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل كيلا يذهل فيقع في الباطل. عن النعمان بن بشير : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا ولكل ملك حمى وحمى الله محارمه» (١). وقيل : لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [الإسراء : ٣٤] وقيل : الأحكام المذكورة بعضها أمر وأكثرها نهي ، فغلب جانب التحريم أي لا تقربوا تلك الأشياء التي منعتم عنها. وأما في الأوامر فقال (فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩] أي اثبتوا عليها ولا تتخطوها ، (كَذلِكَ) أي كما بين ما أمركم به وما نهاكم عنه في هذا المقام (يُبَيِّنُ) سائر أدلته على دينه وشرعه إرادة أن يتصف الناس بالتقوى جعلنا الله تعالى من المتقين بفضله ورحمته.

التأويل : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» (٢) الضمير عائد إلى الحق. على كل عضو في الظاهر صوم ، وعلى كل صفة في الباطن صوم. فصوم اللسان عن الكذب والنميمة ، وصوم العين عن محل الريبة ، وصوم السمع عن استماع الملاهي ، وعلى هذا فقس

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب ٣. الترمذي في كتاب البيوع باب ١. النسائي في كتاب البيوع باب ٢. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١٤. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٢٠. أحمد في مسنده (٤ / ٢٦٩ ، ٢٧٥).

(٢) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ١١. الترمذي في كتاب الصوم باب ٣ ، ٥. النسائي في كتاب الصيام باب ٨. ابن ماجه في كتاب الصيام باب ٧. الدارمي في كتاب الصوم باب ١. أحمد في مسنده (١ / ٢٢٦).

٥٢٠