تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

إذا نوى مولاه السفر ، ومقيما إذا نوى الإقامة. حجة من قرأ «ملك» أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكا ، والملك لا يكون إلا أعلاهم شأنا. وأيضا (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ) [الناس : ١ ، ٢] لم يقرأ فيه غير «ملك» فتعين. وأيضا الملك أقصر ومالك يلزم منه تطويل الأمل فإنه يمكن أن يدركه الموت قبل تمام التلفظ به. وأجيب بأن العزم يقوم مقام الفعل لو مات قبل الإتمام ، كما لو نوى بعد غروب الشمس صوم يوم يجب صومه بخلاف ما لو نوى في النهار عن الغد. ثم يتفرع على كل من القراءتين أحكام ، أما المتفرعة على الأول فقراءة «مالك» أرجى من قراءة «ملك» لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأسا برأس ، والمالك يطلب العبد منه الكسوة والطعام والتربية والإنعام «يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم» (١) والملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه ، والملك لا يختار من العسكر إلا كل قوي سويّ ويترك من كان مريضا عاجزا ، والمالك إن مرض عبده عالجه ، وإن ضعف أعانه. الملك له هيبة وسياسة ، والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة. وأما المتفرعة على الثانية فإنه في الدنيا ملك الملوك (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦] وفي الآخرة لا ملك إلا هو (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] وملكه لا يشبه ملك المخلوقين لأنهم إذ بذلوا قلّت خزائنهم ونفدت ذخائرهم ، وأنه سبحانه كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكا. فإن أعطاك عشرة أولاد زاد في ملكه عشرة أعبد. ومن لوازم ملكه كمال الرحمة فلهذا قرن بقوله «ملك يوم الدين» قوله «رب العالمين الرحمن الرحيم» ومثله (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [الفرقان : ٢٦] (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ) [الناس : ١ ، ٢] فمن اتصف بهذه الصفة من ملوك الدنيا صدق عليه أنه ظل الله في الأرض. الكفر سبب لخراب العالم (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠] والطاعة تتضمن صلاح المعاش والمعاد (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧] فعلى الناس أن يطيعوا ملوكهم ، وعلى الملوك أن يطيعوا مالك الملك حتى تنتظم أمور معاشهم ومعادهم لما وصف نفسه بأنه «ملك يوم الدين» أظهر للعالمين كمال عدله بنفي الظلم تارة (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩] وبثبوت العدل أخرى (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] فلا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب البر حديث ٥٥. أحمد في مسنده (٥ / ١٦١).

١٠١

خلة للملك أعم نفعا وأتم وقعا من أن يكون عادلا. ومن هنا تظهر البركة في العالم أو ترتفع إن كان السلطان عادلا أو جائرا. يحكى أن أنوشروان خرج يوما إلى الصيد وانقطع عن عسكره واستولى عليه العطش ، فرأى بستانا فيه رمان. فلما دخله قال لصبي فيه : أعطني رمانة ، فأعطاه فعصرها وأخرج منها ماء كثيرا ، فشربه وأعجبه ذلك ، فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه. ثم قال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى ، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصا. فقال : أيها الصبي ، لم صار الرمان هكذا؟ فقال الصبي : فلعل ملك البلد عزم على الظلم فلشؤم ظلمه صار هكذا ، فتاب أنو شروان في قلبه وأناب ، وقال للصبي : أعطني رمانة أخرى فعصرها فوجدها أطيب من الأولى فقال للصبي : لم بدلت هذه الحالة؟ فقال : لعل الملك تاب عن ظلمه. فلما وجد أنو شروان مقالة الصبي مطابقة لأحواله في قلبه تاب بالكلية ، فكان من ميامن عدله أن ورد في حقه قول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولدت في زمن الملك العادل».

الثالثة : كونه مالكا وملكا معناه أنه قادر على ترجيح جانب وجود الممكنات على عدمها ، وأنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة كما يشاء من غير مانع ولا منازع. وعلى قضية الحكمة والعدالة فهو الملك الحق وأنه ملك يوم الدين أيضا ، لأن القدرة على إحياء الخلق بعد إماتتهم والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس لا يختص به أحد غيره ، فإذا كان الحشر والنشور لا يتأتى إلا بعلم يتعلق بجميع المعلومات وقدرة تنفذ في كل الممكنات ، فلا مالك ليوم الدين إلا الله. فإن قيل : لا يكون مالكا إلا إذا كان المملوك موجودا لكن القيامة غير موجودة فينبغي أن يقال «مالك يوم الدين» بالتنوين بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيد كان إقرارا ، ولو قال : أنا قاتل زيدا كان تهديدا. قلنا : لما كان قيام القيامة أمرا حقا لا يجوز الإخلال به في الحكمة ، جعل وجوده كالشيء القائم في الحال. ولو قيل : من مات فقد قامت قيامته زال السؤال.

الرابعة : قالت القدرية : إن كان الكل من الله فثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يفعله ظلم ، فيبطل كونه مالكا ليوم الدين. قلنا : خلق الجنة وخلق أهلا لها ، وخلق النار وخلق أهلا لها ، وذلك أن له صفة لطف وصفة قهر كما ينبغي لكل ملك. فخلق لكل صفة مظهرا ولا يسأل عما يفعل ، لأن كل سؤال ينقلب فهو باطل.

الخامسة : في هذه السورة من أسماء الله تعالى خمسة : الله ، الرب ، الرحمن ، الرحيم ، المالك. كأنه يقول : خلقتك أولا فأنا الله ، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب ، ثم

١٠٢

عصيت فسترت عليك فأنا الرحمن ، ثم تبت فغفرت لك فأنا الرحيم ، ثم أجازيك بما عملت فأنا مالك يوم الدين وذكر الرحمن الرحيم مرة في التسمية ومرة أخرى في السورة دليل على أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأوصاف ، ومع ذلك عقبها بقوله «مالك يوم الدين» كيلا يغتروا بها. ونظيره (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) [غافر : ٣].

السادسة : الحمد والمدح والتعظيم فيما بين الناس إنما يكون لكونه كاملا في ذاته وإن لم يكن له إحسان إليك ، وإما لكونه محسنا إليك ، وإما رجاء وطمعا في المستقبل ، وإما خوفا ورهبة ، فكأنه سبحانه يقول : إن كنتم تعظمون للكمال الذاتي فاحمدوني فإني أنا الله ، وإن كنتم تعظمون للإحسان السالف فأنا رب العالمين ، وإن كنتم تعظمون للإحسان المترقب فأنا الرحمن الرحيم ، وإن كنتم تعظمون رهبة عن العقاب فأنا مالك يوم الدين.

الثامن : في فوائد قوله «إياك نعبد».

الأولى : لا شك أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص أي لا نعبد أحدا سواك والحاكم فيه الذوق السليم. واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر ، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهو الله تعالى. وذلك أن للعبد أحوالا ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي فقد كان معدوما فأوجده (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩] (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] وكان جاهلا فعلمه (أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٨] ثم أسمعه وأبصره وأعقله (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [الملك : ٢٣] فهو إله بهذه المعاني. وأما الحاضر فحاجاته كثيرة ، ووجوه افتقاره غير محصورة من أول عمره إلى آخره مع انفتاح أبواب المعصية وانخلاع ربقة الطاعة ، فهو رب رحمن رحيم من هذه الوجوه. وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت وأنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية ، فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه ، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو. وأيضا ثبت بالدلائل القاطعة وجوب كونه تعالى عالما قادرا جوادا غنيا حكيما إلى غير ذلك من الصفات الكمالية ، وأما كون غيره من الفلكيات والطبائع والنفوس كذلك فمشكوك فيه وإن كنا نجزم بأنه لا تأثير لها فوجب طرح المشكوك والأخذ باليقين ، فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه ، وأيضا العبودية ذلة ومهانة ، فكلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية أهنأ وأمرأ. ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها وأولاها بالصفات العلى ، فعبوديته أولى ، وأيضا كل ما سوى الواجب الغني ممكن فقير ، والفقير مشغول بحاجة نفسه

١٠٣

فلا يمكنه إفادة غيره. فدافع الحاجات هو الله فلا يستحق العبادة إلا هو (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣].

الثانية : تقديم ذكر الله تعالى يورث الخشية والمهابة حتى لا يلتفت في العبادة يمينا وشمالا بخلاف العكس. (يحكى) أن واحدا من المصارعين الأستاذين صارع بعض من هو دونه ولا يعرفه ، فصرع الأستاذ مرارا فقيل له : فلان الأستاذ فانصرع في الحال وما ذاك إلا لاحتشامه بعد عرفانه. وأيضا ذكره تعالى أوّلا مما يورث العبد قوة يسهل بها عليه ثقل العبودية فوجب تقديمه ، كما أن من أراد حمل ثقيل يقدم عليه دواء أو غذاء بعينه على ذلك ، كما أن العاشق يسهل عليه جميع الآلام عند حضور معشوقه. وأيضا (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] فالنفس إذا مسها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع لها جلال الله من مشرق «إياك نعبد» فتصير مبصرة مستعدة لأداء حق العبودية. وأيضا إن بدأ بالعبادة فض إبليس قلبه أن المعبود من هو فيلقي في نفسه وساوس ، أما إذا غير هذا الترتيب وقال : «إياك نعبد» كان بعيدا عن احتمال الشرك. وأيضا الواجب لذاته متقدم في الوجود فيناسب أن يكون مقدما في الذكر. وأيضا المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة ، وعلى المنعم لا على النعمة ، ولهذا قيل لبني إسرائيل (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) [البقرة : ٤٠] ولأمة محمد (فَاذْكُرُونِي) [البقرة : ١٥٢] فذكر المعبود عندهم أولى من ذكر العبادة.

الثالثة : النون في قوله «نعبد» فيه وجوه من الحكمة منها : أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظا ينبىء عن التعظيم والتكريم كقوله حكاية عن نفسه (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٢] كأنه قال : لما أظهرت عبوديتي ولم تستنكف أن تكون عبدا ليّ جعلناك أمة (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠] ومنها أنه لو قال : إياك أعبد كان إخبارا عن كونه عبدا فقط ، ولما قال : «إياك نعبد» صار معناه إني واحد من عبيدك ، ولا ريب أن الثاني أدخل في الأدب والتواضع. ومنها أن يكون تنبيها على أن الصلاة بالجماعة أولى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها» وهاهنا نكتة وهي أن الإنسان إذا أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة كيلا يتأذى منه جاره ، وإذا كان ثواب الجماعة لا يفي بهذا القدر من الإيذاء فكيف يفي بما هو أكثر من ذلك إيذاء للمسلمين من الغيبة والتهمة والنميمة والسعاية وسائر أنواع الظلم؟ ومنها أن يكون المراد أعبدك والملائكة معي والحاضرون بل جميع عبادك الصالحين. ومنها أن المؤمنين إخوة فكأن الله تعالى قال : لما أثنيت عليّ بقولك «الحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين»

١٠٤

ارتفعت منزلتك عندنا ، فلا تقتصر على إصلاح حالك بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل : «إياك نعبد وإياك نستعين». ومنها أن العبد يقول : إلهي عبادتي مخلوطة بالتقصير وإني أخلطها بعبادة جميع العابدين ، فلا يليق بكرمك أن تميز بين العبادات ، ولا أن ترد الكل وفيها عبادة الأنبياء والأولياء بل الملائكة المقربين. وهذا كما أن الرجل إذا باع من غيره عشرة أعبد ، فالمشتري إما أن يقبل الكل أو يرد الكل وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة.

الرابعة : من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها لأن الكمال محبوب لذاته وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بخدمة مولاه ، فإنه يستنير قلبه بنوره ويشرق عليه من جماله ولهذا قد ورد «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» وأيضا التكاليف أمانة (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [الأحزاب : ٧٢] وأداء الأمانة واجب عقلا وشرعا (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] وأداء الأمانات من أحد الجانبين سبب لأدائها من الجانب الآخر. قال بعض الصحابة : أتى أعرابي باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا ، فلما خرج لم يجد الناقة فقال : إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي؟ قال الراوي : فزدنا تعجبا ، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس : «يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات». وأيضا الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى دار السرور ، وركون من الخلق إلى حضرة الحق ، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة. (يحكى) عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وهو في الصلاة فلم يشعر به. ووقعت الأكلة في بعض أعضاء عبد الله بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فقطع وهو في الصلاة ولم يشعر به. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزا كأزيز المرجل. ومن استبعد فليقرأ قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) [يوسف : ٣١] فإذا كان لجمال البشر مثل هذا التأثير فكيف جلال الله وعظمته إذا تجلى على قلب الموحد العابد؟! وقد تحدث الحيرة والدهش عن رؤية بعض السلاطين فكيف إذا كان الوقوف بين يدي رب العالمين؟! واعلم أن العبادة لها ثلاث درجات ، لأنه إما أن يعبد الله رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ، ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متاع الدنيا وطيباتها طمعا فيما هو أشرف منها وأدوم ، وهذه مرتية نازلة عند المحققين. وإما أن يعبد الله تشرفا بعبادته أو بقبول تكاليفه أو بالانتساب إليه ، وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية. وإما أن

١٠٥

يعبد الله لكونه إلها ولكونه عبدا له ، والإلهية توجب العزة والهيبة ، والعبودية تقتضي الخضوع والذلة ، وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودية وإليها الإشارة بقول المصلي : أصلي لله فإنه لو قال : أصلي لثواب الله أو هربا من عقابه فسدت صلاته. (يحكى) أن عابدا في بني إسرائيل اعتزل وعبد الله تعالى سبعين سنة ، فأرسل الله تعالى إليه ملكا فقال : إن عبادتك غير مقبولة فلا تشق على نفسك ولا تجاهد ، فأجاب العابد بأن الذي عليّ هو العبودية وإني لا أزال أفعل ما عليّ ، فأما القبول وعدم القبول فموكول إلى المعبود. فرجع الملك فقال الله : بم أجاب العابد؟ فقال : أنت أعلم يا رب ، إنه قال كذا وكذا. فقال الله تعالى : ارجع إليه وقل له : قبلنا طاعتك بسبب ثبات نيتك. والتحقيق أن إثبات نسبة الإمكان هو قصارى مجهود العابدين ونهاية مطامح أبصار العارفين. وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين وإنها عاقبة حال المتقين. قال عز من قائل (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٧ ـ ٩٩] ولأن العبودية أشرف المقامات. مدح الله تعالى نبيه في قوله (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء : ١] وافتخر عيسى بذلك أول ما نطق فقال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] وكان عليّ يقول : كفاني فخرا أن أكون لك عبدا وكفاني شرفا أن تكون لي ربا. اللهم إني وجدتك إلها كما أردت ، فاجعلني عبدا كما أردت. ومنهم من قال : العبودية أشرف من الرسالة ، فبالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق ، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق ، وبالعبودية ينعزل عن التصرفات ، وبالرسالة يقبل على التصرفات ، ولهذا نال شرف التقدم في قول الموحد «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧٢].

التاسع : في فوائد قوله «وإياك نستعين».

الأولى : لا شك أن للعبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك ، وإنما يحصل الرجحان بمرجح. ولو كان ذلك المرجح من عند العبد عاد التقسيم ، فلا بد أن ينتهي إلى الله تعالى. وأيضا كل الخلائق يطلبون طريق الحق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ، ولا يفوز به إلا بعضهم ، فليس ذلك إلا بإعانة الحق. وأيضا قد يطلب الإنسان حاجة من غيره ويدافعه مدة مديدة ثم يقضي حاجته ، فإلقاء تلك الداعية في القلب ليس إلا من الله ، فثبت أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. وتظهر فائدة الاستعانة في أنه ربما جعل الله تعالى ذلك واسطة إلى نيل المطلوب كالشبع الحاصل عقيب أكل الطعام ونحوه ، فيسقط اعتراض الجبري والقدري فافهم.

١٠٦

الثانية : لقائل أن يقول : الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع فيه لا بعده ، فهلا قدّمت الاستعانة على ذكر العبادة؟ والجواب كأنه يقول : شرعت في العبادة فأستعين بك على إتمامها حتى لا يمنعني مانع ولا يعارضني صارف ، فإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن. وأيضا إن قيل : الاستعانة مطلقة تتناول كل مستعان فيه فذكر العبادة كالوسيلة إلى طلب الإعانة على الحوائج وتقديم الوسيلة مناسب.

الثالثة : لا أريد بالإعانة غيرك اقتداء بالخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قيد نمروذ يديه ورجليه ورماه إلى النار فجاءه جبرائيل وقال : هل لك حاجة؟ فقال له : أما إليك فلا. قال : فاسأل الله. قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي. وهاهنا نكتة وهي أن المؤمن في الصلاة مقيدة رجلاه عن المشي ، ويداه عن البطش ، ولسانه إلا عن القراءة والذكر ، فكما أن الله قال (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩] فكذلك تقول له نار جهنم : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.

الرابعة : لا أستعين غيرك لأن الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته ، فأنا أقطع الواسطة ولا أنظر إلا إلى إعانتك.

الخامسة : «إياك نعبد» تورث العجب بالعبادة فأردفه بقوله «وإياك نستعين» لإزالة ذلك.

السادسة : هاهنا مقامان : معرفة الربوبية ومعرفة العبودية ، وعند اجتماعهما يحصل الربط المذكور في قوله (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠] أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله «الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين» فانتقال العبد من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلها ، وحصول الفوائد للعبد حال وجوده يدل على كونه ربا رحمانا رحيما ، وأحوال معاده تدل على أنه مالك يوم الدين ، وأما معرفة العبودية فمبدؤها «إياك نعبد» وكمالها «إياك نستعين» في جميع المطالب ، وإذا تم الوفاء بالعهدين ترتبت عليه الثمرة وهو قوله : «اهدنا» إلى آخره. وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه.

السابعة : في الالتفات الوارد في السورة وجوه : منها أن المصلي كان أجنبيا عند الشروع في الصلاة ، فلا جرم أثنى على الله بالألفاظ الغائبة إلى قوله : «مالك يوم الدين». ثم الله تعالى كأنه يقول : حمدتني وأقررت بأني إله ، رب العالمين ، رحمن رحيم ، مالك يوم الدين ، فنعم العبد أنت يا عبد. رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل «إياك نعبد». ومنها أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من كونه

١٠٧

ربا لا يخرج شيء من ملكوته منعما على الخلق بأنواع النعم ـ جلائلها ودقائقها ـ مالكا للأمر كله في العاقبة ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بغاية الخضوع والاستعانة في المهام ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل «إياك» يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به. ومنها أن الدعاء بالحضور أولى كما أن الثناء في الغيبة أوقع وأحرى ، وهكذا فعل الأنبياء عليهم‌السلام (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) [الشعراء : ٨٣] (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] (رَبِّ أَرِنِي) [الأعراف : ١٤٣] (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) [الأنبياء : ٨٩] ومنها أنه إذا شرع في الصلاة نوى القربة فأثنى على الله بما هو أهله ، فاستجاب الله دعاءه في تحصيل تلك القربة ونقله إلى مقام الحضور من مقام الغيبة.

الثامنة : اعلم أن المشركين طوائف ، منهم من اتخذ إلهه من الأجسام المعدنية كالحجر والذهب والفضة والنحاس ، ومنهم من اتخذه من النبات كالشجر المعين ، ومنهم من اتخذه من الإنسان كعبدة المسيح وعزير ، ومنهم من اتخذه من الأجسام البسيطة ، إما السفلية كعبدة النار وهم المجوس ، أو العلوية كعبدة الشمس والقمر وسائر الكواكب. ومنهم من قال : مدبر العالم نور وظلمة وهم الثنوية ، ومنهم من قال : الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح من الأرواح الفلكية يدبره وكذا لكل نوع من أنواع هذا العالم ، فيتخذون لتلك الأرواح صورا وتماثيل ويعبدونها وهم عبدة الملائكة. ومنهم من قال : للعالم إلهان ، أحدهما خير وهو الله ، والآخر شرير وهو إبليس. إذا عرفت ذلك فنقول : قد مر أن «الحمد لله» يتضمن التسبيح له وسائر الصفات منبئة عن سبب إثبات جميع أنواع «الحمد لله» «وإياك نعبد» يدل على التوحيد المحض والبراءة من كل ما يعبد من دون الله ، وأن الله أكبر من جميع المعبودين ، فيقوم مقام قوله «لا إله إلا الله والله أكبر» «وإياك نستعين» يدل على قوله «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» فثبت أن سورة الفاتحة مشتملة إلى هنا على الذكر المشهور «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

العاشر في فوائد قوله «اهدنا الصراط المستقيم».

الأولى : سئل أن طلب الهداية من المؤمن وهو مهدي تحصيل للحاصل. وأجيب بأن المراد منه صراط الأولين في تحمل ما يشق ، وكان تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى. يحكى أن نوحا عليه‌السلام كان يضرب في كل يوم مرات بحيث يغشى عليه وكان

١٠٨

يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. وأيضا إن في كل خلق من الأخلاق طرفي إفراط وتفريط هما مذمومان ، والحق هو الوسط والصواب. فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مهتديا ، لكنه لا بد مع ذلك من حصول الملكات والأخلاق الفاضلة التي هي وسط بين الطرفين ومستقيم بين المنحرفين. ففي القوة الشهوية طرف الإفراط فجور وطرف التفريط خمود وهما مذمومان ، والوسط وهو استعمالها في مواضعها على قضية العدالة والشريعة محمود وهو العفة ، وكذا في القوة الغضبية طرفا التهور والجبن مذمومان والوسط وهو الشجاعة محمود ، وفي القوة النفسانية الجربزة والبله مذمومان والوسط وهو الحكمة محمود. وبالجملة فإنه يحصل من توسيط استعمال القوة الشهوية الحياء والرفق والصبر والقناعة والورع والحرية والسخاء ، ومن توابع السخاء الكرم والإيثار والعفو والمروءة والمسامحة ، ويلزم من توسط استعمال القوة الغضبية كبر النفس وعلو الهمة والثبات والحلم والسكون والتحمل والتواضع والحمية والرقة ، ومن توسط استعمال القوة النطقية الذكاء وسرعة الفهم وصفاء الذهن وسهولة التعلم وحسن التعقل والتحفظ والتذكر ، ويحصل من كمال التوسط في القوى الثلاث كمال العدالة ويتبعها الصداقة والألفة والوفاء والشفقة وصلة الرحم والمكافأة وحسن الشركة والتسليم والتوكل وتعظيم المعبود الحق وملائكته وأنبيائه وأولي الأمر والانقياد لأوامرهم ونواهيهم. والتقوى تكمل هذه المعاني وتتممها ، ولأن القوة النطقية ذاتية للإنسان ، والشهوية والغضبية حصلتا له بواسطة التعلق البدني ، فكمال التوسط في النطقية أن يستعملها بحيث لا يمكن أزيد منها. وكمال التوسط في الأخريين أن يستعملهما بحيث لا يمكن أقل من ذلك ليفضي إلى تحصيل سعادة الدارين. وأيضا العلم النظري يقبل الزيادة بمعنى تواصل أوقاته وقلة الفترات ، وبمعنى زيادة الأدلة فليس من علم بدليل كمن علم بأدلة ، فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلالة على وجود الله وعلمه وقدرته ، وجوده ورحمته وحكمته. وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلا عن سائر الدلائل فكأنه يقول : عرفنا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وعلمك وقدرتك. وأيضا قد يراد بالصراط المستقيم الاقتداء بالأنبياء ، وهو أن يكون الإنسان معرضا عما سوى الله مقبلا بكلية قلبه وفكره وذكره على الله ، حتى لو أمر بذبح ولده لأطاع كالخليل ، ولو أمر أن يذبح لانقاد كإسماعيل ، ولو أمر بإلقاء نفسه في البحر امتثل كيونس ، ولو أمر بتلمذة من هو أعلم منه بعد بلوغه أعلى منصب ائتمر كموسى مع الخضر. وعن خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ويجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون

١٠٩

لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه. وأيضا كأن العبد يقول : الأحباب يدعونني إلى طريق ، والأعداء إلى طريق ثان ، والشيطان إلى ثالث. وكذا القول في الشهوة والغضب والاعتقادات والآراء ، والعقل ضعيف ، والعمر قصير ، والقضاء عسير ، فاهدني هذا الطريق السوي الذي لا أزيغ به. حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله ، فإذا أعرابي على ناقة له. فقال : يا شيخ إلى أين؟ فقال : إلى بيت الله. قال : كأنك مجنون ، لا أرى لك مركبا ولا زادا والسفر طويل! فقال إبراهيم : إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها. قال : وما هي؟ قال : إذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر ، وإذا أسديت إليّ نعمة ركبت مركب الشكر ، وإذا ألم بي القضاء ركبت مركب الرضا ، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى. فقال الأعرابي : سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل. وقيل : الصراط القرآن أو الإسلام وليس بشيء ، إذ يصير المعنى اهدنا صراط المتقدمين ، مع أنه لم يكن لهم قرآن ولا إسلام ، اللهم إلا أن يراد أصول هذه الشريعة وقوانينها كما قال (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠]. وعن علي كرم الله وجهه : ثبتنا على الهداية كقوله (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران : ٨] فكم من عالم يزل ومهتد يضل. وفي اختيار لفظ الصراط دون الطريق أو السبيل ، تذكير للصراط الذي هو الجسر الممدود بين طرفي جهنم ، سهل الله تعالى علينا عبوره ووروده.

الثانية : إنما قبل «اهدنا» بلفظ الجمع لأن الدعاء متى كان أعم كان إلى الإجابة أقرب ، ولهذا قال بعض العلماء لتلميذه : إذا قلت قبل القراءة «رضي الله عنك ، وعن جماعة المسلمين» فإياك وأن تنساني في قولك «وعن جماعة المسلمين» فإن ذلك أوقع عندي من قولك «رضي الله عنك» ، لأن هذا تخصيص بالدعاء ويجوز أن لا يقبل ، وأما قولك «وعن المسلمين» فإنه أرجى لأنه لا بد أن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة ، وإذا أجاب الله دعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي. ومن هنا ورد في السنة أن يصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل كل دعاء وبعده ، لأن الدعاء في الطرفين مستجاب البتة لأنه في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيستجاب الوسط بتبعية ذلك لا محالة. وأيضا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها». قالوا : يا رسول الله ، ومن لنا بتلك الألسنة؟ قال : يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك» وأيضا «الحمد لله» شامل لحمد جميع الحامدين ، و «إياك نعبد» لعبادة الجميع ، «وإياك نستعين» لاستعانة الكل ، فلا جرم لما طلب الهداية طلبها للكل كما طلب الاقتداء بالصالحين جميعا في قوله : «صراط الذين أنعمت عليهم» والفرار من الطالحين جميعا في قوله : «غير المغضوب عليهم ولا الضالين». وإذا كان كذلك في الدنيا

١١٠

يرجى أن يكون كذلك في الآخرة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩].

الثالثة : الخط المستقيم أقرب خط يصل بين النقطتين ، والعبد عاجز فلا يليق بضعفه إلا الطريق المستقيم. وأيضا المستقيم واحد وما سواه معوجة يشبه بعضها بعضا في الاعوجاج ، فكان أبعد من الخوف وأقرب إلى الخلاص. وأيضا ميل الطباع إلى الاستقامة أكثري فلهذه الأسباب سئل الصراط المستقيم.

الحادي عشر في فوائد قوله «صراط الذين أنعمت عليهم».

الأولى : حد النعمة بأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، لأنه لو قصد الفاعل منفعة نفسه أولا على جهة الإحسان لم يكن نعمة فلا يستحق الشكر. ثم نقول : كل ما يصل إلى الخلق من نفع أو دفع ضر فهو من الله تعالى لقوله (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] ولأن الواصل من جهة غير الله ينتهي إليه أيضا لأنه الخالق لتلك النعمة ، وكذلك للمنعم ولداعية ذلك الإنعام فيه. والنعم الواصلة إلينا بطاعاتنا هي أيضا من الله تعالى لأنها بتوفيقه وإعانته بأن أتاح الأسباب وأزاح الأعذار. وأول نعمة من الله تعالى على عبيده نعمة الحياة التي بها يمكن الانتفاع بالمنافع والاحتراز عن المضارّ قال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] ثم عقب ذلك بقوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩].

الثانية : هل لله تعالى على الكافر نعمة أم لا؟ أنكر ذلك بعض أصحابنا لوجوه منها : قوله «صراط الذين أنعمت عليهم» فإنه لو كان له على الكفار نعمة لزم طلب صراط الكفار لأن المبدل منه وهو الصراط المستقيم في حكم المنحى. والجواب أن قوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» يدفع ذلك ، ومنها قوله (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] والجواب أنه لا يلزم من أن لا يكون الإملاء خيرا ونعمة لهم أن لا يكون أصل الحياة وسائر أسباب الانتفاع نعمة ، فإن الإملاء تأخير النقمة بعد ثبوت استحقاقها ، فما قبل هذه الحالة لا يكون كذلك. على أن نفس الإملاء أيضا تمتيع حالي (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) [البقرة : ١٢٦] وليس هذا كمن جعل السم في الحلواء على ما ظن ، وإنما هو كمن ناول شخصا حلواء لذيذة غير مسمومة ولكن ذلك الشخص لفساد مزاجه أو لاستعماله الحلواء لا كما ينبغي أفسد مزاج الحلواء أيضا وصيره كالسم القاتل بالنسبة إليه ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم

١١١

المال الصالح للرجل الصالح» (١) وكيف لا تعم نعم الله تعالى وقد قال على العموم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [البقرة : ٢١ ، ٢٢] وقال : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] كل ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم. وقال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٧] والشكر لا يكون إلا بعد النعمة.

الثالثة : ما المراد بالنعمة المذكورة في قوله «أنعمت عليهم»؟ قلنا : يتناول كل من كان لله عليه نعمة دينية ودنيوية. ثم إنه يخرج بقوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» كل من عليه نعمة دنيوية فقط ويبقى الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وكما أن أصل النعم الدنيوية هي الحياة المستتبعة لكل المنافع ، فكذلك أصل النعم الدينية هو الإيمان المستلزم لجميع الخيرات والسعادات. وكما أن كمال البدن بالحياة فكمال النفس بالإيمان وموتها بفقده (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل : ٨٠] (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر : ٢٢] وكما أن حياة البدن من الله فكذا الإيمان منه وبتوفيقه. وإضافة الإيمان إلى العبد إضافة الأثر إلى القابل وبذلك القبول يستأهل الثواب. والمؤمن لا يبقى مخلدا في النار ، فإن من شرفه الله تعالى بأعظم الأنعام لن يعاقبه بأشد الآلام ، فما الإنعام إلا بالإتمام. قيل : لو كان رعاية الأصلح على الله واجبا لم يكن ذلك إنعاما لأن أداء الواجب لا يسمى إنعاما. قلت : النزاع لفظي لأن الأصلح لا بد أن يصدر عنه ، ولا يليق بحكمته وكماله خلاف ذلك ثم ما شئت فسمه.

الثاني عشر في فوائد قوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين».

الأولى : من المغضوب عليهم ومن الضالون؟ قلت : المغضوب عليهم هم المائلون في كل خلق أو اعتقاد إلى طرف التفريط ومنهم اليهود ، والضالون هم المائلون إلى طرف الإفراط ومنهم النصارى. وإنما خص الأولون بالغضب عليهم لأن الغضب يلزمه البعد والطرد ، والمفرّط في شيء هو المعرض عنه غير مجد بطائل فهو بعيد عن ذلك. وأما المفرط فقد أقبل عليه وجاوز حد الاعتدال ، فغاب عن المقصود ومني بالحرمان (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) [الأنعام : ٧١] فاليهود فرطوا في شأن نبي الله ولم يطيعوه وآذوه حتى قالوا بعد أن نجاهم الله من عدوّهم (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] ولهذا قال عز

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١٩٧ ، ٢٠٢).

١١٢

من قائل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) [الأحزاب : ٦٩] والنصارى أفرطوا وقالوا (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «غير المغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى» وتصديق ذلك من كتاب الله حيث قال في اليهود (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ١١٢] وفي النصارى (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧] هذا شأن الفريقين. وأما المؤمنون فطلبوا الوسط بين المنحرفين وذلك من لطف الله تعالى بهم وفضله عليهم (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] وخير الأمور أوسطها.

الثانية : الآية تدل على أن أحدا من الملائكة والأنبياء ما أقدم على عمل أو اعتقاد يخالف الحق وإلا لكان ضالا لقوله تعالى (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢] يصلح للاقتداء به والاهتداء بطريقه.

الثالثة : ما الفائدة في أن عدل من أن يقول اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى ما عدل؟ قلت : الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» فقوله «صراط الذين أنعمت عليهم» يدل على الرجاء ، وباقي الآية يدل على الخوف ، فيكمل الإيمان بطرفيه وركنيه.

الثالث عشر : في تفسير السورة مجموعة وفيه مناهج :

المنهج الأول : نسبة عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ونسبة الأصل إلى الفرع ، والنور إلى الظلمة ، فكل شاهد. فله في الغائب أصل وإلا كان كسراب زائل وخيال باطل ، وكل غائب فله في الشاهد مثال وإلا كان كشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل ، وكل شريف فهو بالنسبة إلى ما دونه مطاع كما قال عز من قائل (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ٢٠ ، ٢١] والمطاع في عالم الروحانيات مطاع في عالم الجسمانيات ، والمطاع في عالم الأرواح هو المصدر ، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر. ولا بد من أن يكون بينهما ملاقاة ومجانسة وبهما تتم سعادة الدارين لأنهما يدعوان إلى الله بالرسالة. وحاصل الدعوة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة ، أربعة منها تتعلق بالمبدأ وهي معرفة الربوبية أعني معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] واثنان منها تتعلق بالوسط أحدهما مبدأ العبودية (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [البقرة :

١١٣

٢٨٥] والثاني كمال العبودية وهو الالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه (غُفْرانَكَ رَبَّنا) [البقرة : ٢٨٥] وواحد يتعلق بالمعاد وهو الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة : ٢٨٥] ويتفرع على هذه المراتب سبع مراتب في الدعاء والتضرع أولها (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] فضد النسيان هو الذكر (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ٢٤] وهذا الذكر إنما يحصل بقوله «بسم الله الرحمن الرحيم». وثانيها (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) [البقرة : ٢٨٦] ودفع الإصر والثقل يوجب «الحمد لله رب العالمين». وثالثها : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) [البقرة : ٢٨٦]. وذلك إشارة إلى كمال رحمته «الرحمن الرحيم» ورابعها (وَاعْفُ عَنَّا) [البقرة : ٢٨٦] لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين «مالك يوم الدين». وخامسها (وَاغْفِرْ لَنا) [البقرة : ٢٨٦] لأنا التجأنا بكليتنا إليك وتوكلنا في جميع الأمور عليك «إياك نعبد وإياك نستعين». وسادسها (وَارْحَمْنا) [البقرة : ٢٨٦] لأنا طلبنا الهداية منك «اهدنا الصراط المستقيم» وسابعها (أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٨٦] «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين». فهذه المراتب ذكرها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج ، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة ، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المصدر إلى المظهر ، فلهذا السبب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلاة معراج المؤمن».

المنهج الثاني : المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة : الشهوة والغضب والهوى. الشهوة بهيمية ، والغضب سبعية ، والهوى شيطانية أرضية ، ولهذا قال : فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منها ، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه. قال تعالى (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) [النحل : ٩] أي الشهوة ، والمنكر الغضب ، والبغي الهوى ، فبالشهوة يصير الإنسان ظالما لنفسه ، وبالغضب ظالما لغيره ، وبالهوى لربه ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه ، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله ، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضا ، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه» ونتيجة الشهوة الحرص والبخل ، ونتيجة الغضب العجب والكبر ، ونتيجة الهوى الكفر والبدعة. ويحصل من اجتماع هذه الست في بني آدم خصلة سابعة هي الحسد وهو نهاية الأخلاق الذميمة ، كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ، ولهذا السبب ختم الله تعالى مجامع الشرور الإنسانية بالحسد في قوله تعالى :

١١٤

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) [الفلق : ٥] كما ختم جوامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة في قوله (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس : ٥ ، ٦] روي أن إبليس أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون : من هذا؟ قال : إبليس ولو كنت إلها ما جهلت. فلما دخل قال فرعون : أتعرف في الأرض شرا مني ومنك؟ قال : نعم ، الحاسد ، وبالحسد وقعت فيما وقعت. ثم نقول : الأسماء الثلاثة في التسمية دافعة للأخلاق الثلاثة الأصلية ، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة ، بيان ذلك من عرف الله تباعد عنه شيطان الهوى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣] يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إلا هواك. ومن عرف أنه رحمن لم يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [الفرقان : ٢٦] ومن عرف أنه رحيم صحح نسبته إليه فلا يظلم نفسه ولا يلطخها بالأفعال البهيمية. وأما الفاتحة فإذا قال «الحمد لله» فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته ، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد ، ومن عرف أنه «مالك يوم الدين» بعد أن عرف إنه «الرحمن الرحيم» زال غضبه ، ومن قال : «إياك نعبد وإياك نستعين» زال كبره بالأول وعجبه بالثاني ، وإذا قال «اهدنا الصراط المستقيم» اندفع عنه شيطان الهوى ، وإذا قال «صراط الذين أنعمت عليهم» زال عنه كفره ، وإذا قال «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» اندفعت بدعته ، وإذا زالت عنه الأخلاق الستة اندفع عنه الحسد ، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة ، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة. وهنا نكتة دقيقة تتعلق بالرب والإله وبسببها ختم القرآن عليها ، كأنه قال : إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس ، وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس ، وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس.

المنهج الثالث : في أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يفتقر إليه الإنسان في معرفة المبدأ والوسط والمعاد «الحمد لله» إشارة إلى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم المستحق للحمد والثناء والتعظيم. «رب العالمين» يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه ، ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخلق الخلائق كثيرا (قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ٢٦] (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق : ١ ، ٢] وهذه الحالة كما أنها

١١٥

في نفسها دليل على وجود الرب فكذلك هي في نفسها إنعام عظيم ، وذلك أن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع ، وكل منها مطابق للمطلوب وموافق للغرض كما يشهد به علم تشريح الأبدان. فلا أحق بالحمد والثناء من هذا المنعم المنان الكريم الرحمن الرحيم الذي شمل إحسانه قبل الموت وعند الموت وبعد الموت. «مالك يوم الدين» يدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يقدر بعد هذا اليوم يوما آخر يظهر فيه تمييز المحسن من المسيء والمظلوم من الظالم ، وهاهنا تمت معرفة الربوبية. ثم إن قوله «إياك نعبد» إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي نوعان : الأعمال والآثار المتفرعة على الأعمال أما الأعمال فلها ركنان : أحدهما الإتيان بالعبادة وهو قوله «إياك نعبد» والثاني علمه بأنه لا يمكنه ذلك إلا بإعانة الله وهو قوله «وإياك نستعين». وأما الآثار المتفرعة على الأعمال فهي حصول الهداية والتحلي بالأخلاق الفاضلة المتوسطة بين الطرفين المستقيمة بين المنحرفين «اهدنا الصراط المستقيم» إلى آخره وفي قوله «صراط الذين أنعمت عليهم» دليل على أن الاستضاءة بأنوار أرباب الكمال خلة محمودة وسنة مرضية «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم» (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] وفي قوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» إشارة إلى أن التجنب عن مرافقة أصحاب البدع والأهواء واجب.

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

والجمر يوضع في الرماد فيخمد

المنهج الرابع : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن الله عزوجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد «بسم الله الرحمن الرحيم» يقول الله : ذكرني عبدي. وإذا قال : «الحمد لله رب العالمين» يقول الله : حمدني عبدي وإذا قال : «الرحمن الرحيم» يقول الله : عظمني عبدي. وإذا قال : «مالك يوم الدين» يقول الله : مجدني عبدي ـ وفي رواية فوض إلي عبدي ـ وإذا قال : «إياك نعبد» يقول الله : عبدي عبدي وإذا قال : «وإياك نستعين» يقول الله : توكل عليّ عبدي ـ وفي رواية وإذا قال : «اهدنا الصراط المستقيم» يقول الله : هذا لعبدي ما سأل (١) فقوله «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي» إشارة إلى أن أهم مهمات العبد أن يستنير

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث ٣٨ ، ٤٠. أبو داود في كتاب الصلاة باب ١٣٢. الترمذي في كتاب تفسير سورة الفاتحة باب ١. النسائي في كتاب الافتتاح باب ٢٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤١ ، ٢٨٥).

١١٦

قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية ، لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠] فلا جرم أنزل الله تعالى هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه العبد في الوفاء بذلك العهد وقوله «إذا قال العبد : بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي» مناسب لقوله تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (١) «أنا جليس من ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» والذكر مقام عال شريف ذكره الله تعالى في القرآن كثيرا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) [الأحزاب : ٤١] (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) [الأعراف : ٢٠٥] (تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٩١] ولهذا وقع الابتداء به. وقوله «ذكرني عبدي» دل على أن ذاته المخصوصة صارت مذكورة بقوله «بسم الله الرحمن الرحيم» وهذا يدل على أن الله اسم علم. وقوله «إذا قال : الله رب العالمين يقول الله : حمدني عبدي» يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر لأنه أو كلام في أول خلق العالم حيث قالت الملائكة : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠] وآخر كلام في الجنة (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] ولأن الفكر في ذات الله تعالى غير ممكن «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله» وكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فيحمد الله تعالى أكثر ، فقوله «حمدني عبدي» شهادة من الله تعالى على وقوف العبد بعقله وفكره على وجوه فضله وإنعامه في ترتيب العالم وتربية العالمين ، وأنه أقر بقلبه ولسانه بكرمه وإحسانه. قوله «وإذا قال : الرحمن الرحيم» «يقول الله : عظمني عبدي» يدل ذلك على أن الإله الكامل المكمل المنزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد ، هو في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده. ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام وهو التعظيم لله. وقوله «وإذا قال : مالك يوم الدين يقول الله : مجدني عبدي» أي نزهني وقدسني عن الظلم وعن شبهة الظلم حيث قضيت معادا يحشر إليه العباد ويقضي فيه بين الظالم والمظلوم والقوي والضعيف.

أيحسب الظالم في ظلمه

أهمله القادر أم أمهلا

ما أهملوه بل لهم موعد

لن يجدوا من دونه موئلا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث (٣ ، ١٨). البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥. الترمذي في كتاب الدعوات باب ١٣١. ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥١ ، ٤٠٥).

١١٧

وقوله «وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي» معناه أن «إياك نعبد» يدل على إقدام العبد على الطاعة والعبادة ولا يتم ذلك إلا بإعانة الله بخلق داعية فيه خالصة عن المعارض ، فإن العبد غير مستقل بالإتيان بذلك العمل فهو المراد من قوله «وإياك نستعين» وقوله «وإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم يقول الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» تقريره أن أهل العلم مختلفون بالنفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية أو أكثرها ، وفي المعاد والنبوات وغيرها مع استواء الكل في العقل والنظر. فالاهتداء إلى ما هو الحق في الأمر نفسه ليس إلا بهداية الله تعالى وإرشاده كما قالت الملائكة (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] وقال إبراهيم عليه‌السلام (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [الأنعام : ٧٧] وقال موسى (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) [طه : ٢٥ ، ٢٦]

المنهج الخامس : آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة في الصلاة أيضا سبعة : القيام والركوع والانتصاب منه والسجود الأول والانتصاب منه والسجود الثاني والقعدة. فهذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح ، وإنما يحصل الكمال عند اتصال الروح بالجسد ، فقوله «بسم الله الرحمن الرحيم» بإزاء القيام ، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله حصل قائما مرتفعا. وأيضا التسمية لبداية الأمور «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أبتر» والقيام أيضا أول الأعمال. وقوله «الحمد لله رب العالمين» بإزاء الركوع لأن الحمد في مقام التوحيد نظرا إلى الحق وإلى الخلق والمنعم والنعمة ، لأنه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد ، فهو حالة متوسطة بين الإعراض والاستغراق ، كما أن الركوع متوسط بين القيام والسجود ، وأيضا ذكر النعم الكثيرة مما يثقل الظهر فينحني وقوله «الرحمن الرحيم» مناسب للانتصاب ، لأن العبد لما تضرع إلى الله بالركوع فاللائق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قال العبد : سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة» وقوله «مالك يوم الدين» مناسب للسجدة الأولى لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع. وقوله «إياك نعبد وإياك نستعين» مناسب للقعدة بين السجدتين لأن إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت و «إياك نستعين» استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية ، وقوله «اهدنا الصراط المستقيم» سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية ليدل على نهاية الخشوع. وقوله «صراط الذين أنعمت عليهم» إلخ. مناسب للقعود لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابله الله بالإكرام والقعود بين يديه وحينئذ يقرأ «التحيات لله» كما أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها في معراجه فالصلاة معراج المؤمن.

١١٨

المنهج السادس : آيات الفاتحة سبع وأعمال الصلاة المحسوسة سبعة كما تقدم ، ومراتب خلق الإنسان سبع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤] فنور آيات الفاتحة يسري إلى الأعمال السبعة ، ونور الأعمال السبعة يسري إلى هذه المراتب فيحصل في القلب نور على نور ، ثم ينعكس إلى وجه المؤمن «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار».

المنهج السابع : إنه كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معراجان : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من المسجد الأقصى إلى عالم الملكوت. هذا في عالم الحس ، وأما في عالم الأرواح ، فمن الشهادة إلى الغيب ، ثم من الغيب إلى غيب الغيب ، فهذا بمنزلة قوسين متلاصقين ، فتخطاهما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان قاب قوسين. وقوله «أو أدنى» إشارة إلى فنائه في نفسه. والمراد بعالم الشهادة كل ما يتعلق بعالم الجسم والجسمانيات ، وبعالم الأرواح ما فوق ذلك من الأرواح السفلية ، ثم المتعلقة بسماء سماء إلى الملائكة الحافين من حول العرش ، ثم إلى حملة العرش ومن عند الله الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبته وأنسهم بالثناء عليه ولذتهم في خدمته (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ١٩ ، ٢٠] وهكذا يتصاعد إلى أن ينتهي إلى نور الأنوار وروح الأرواح ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه ، والمقصود أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عرج وأراد أن يرجع قال رب العزة : المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين الجسماني بالأفعال والروحاني بالأذكار. فليكن المصلي ثوبه طاهرا وبدنه طاهرا لأنه بالوادي المقدس طوى. وأيضا عنده ملك وشيطان ، ودين ودنيا ، وعقل وهوى ، وخير وشر ، وصدق وكذب ، وحق وباطل ، وحلم وطيش ، وقناعة وحرص ، وسائر الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية ، فلينظر أيها يختار فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ، اختار الصديق صحبة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يفارقه في الدنيا وفي القبر ويكون معه في القيامة وفي الجنة ، وصحب كلب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا والآخرة قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة : ١١٩] ثم إذا تطهر فليرفع يديه إشارة إلى توديع الدنيا والآخرة وليوجه قلبه وروحه وسره إلى الله ثم ليقل «الله أكبر» أي من كل الموجودات بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره بأنه أكبر منه ، ثم ليقل «سبحانك اللهم وبحمدك» وفي هذا المقام ينكشف له نور سبحات الجلال ، ثم ليقل «تبارك اسمك» إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام ليطالع حقيقة الأبد في البقاء ،

١١٩

فيتجلى له نور الأزل والأبد ، ثم ليقل «وتعالى جدك» إشارة إلى أنه أعلى وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ، ثم ليقل «ولا إله غيرك» إشارة إلى أن صفات الجلال وسمات الكمال له تعالى لا لغيره ، فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو ، وهاهنا يكل اللسان وتدهش الألباب ، ثم عد أيها المصلي إلى نفسك وحالك وقل «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض» فقولك «سبحانك اللهم وبحمدك» معراج الملائكة المقربين حيث قالوا (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠] وهو أيضا معراج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن معراجه مفتتح بقوله «سبحانك اللهم وبحمدك» وقولك «وجهت وجهي» معراج الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقولك «إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي» معراج الحبيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقد جمع المصلي بين معراج الملائكة المقربين ومعراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» لتدفع العجب عن نفسك ، وفي هذه المقام يفتح لك أحد أبواب الجنة وهو باب المعرفة ، وبقولك «بسم الله الرحمن الرحيم» يفتح باب الذكر ، وبقولك «الحمد لله رب العالمين» يفتح باب الشكر ، وبقولك «الرحمن الرحيم» يفتح باب الرجاء ، وبقولك «مالك يوم الدين» يفتح باب الخوف ، وبقولك «إياك نعبد وإياك نستعين» بفتح باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وبقولك «اهدنا الصراط المستقيم» يفتح باب الدعاء والتضرع (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] وبقولك : «صراط الذين أنعمت» إلخ. يفتح باب الاقتداء بالأرواح الطيبة والاهتداء بأنوارهم ، فجنات المعارف الربانية انفتحت لك أبوابها الثمانية بهذه المقاليد الروحانية ، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة ، وأما الجسماني فأولى المراتب أن تقوم بين يدي الله كقيام أصحاب الكهف (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الكهف : ١٤] بل قيام أهل القيامة (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦] ثم اقرأ «سبحانك اللهم وبحمدك» ثم «وجهت وجهي» ثم «الفاتحة» وبعدها «ما تيسر لك من القرآن» واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها ، وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله : «إياك نعبد وإياك نستعين» واعلم أن نفسك إلى الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت ، فاجعلها منحنية بالركوع ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى ، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض طاعة الله إلى نفسك «فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بغاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل : «سبحان ربي الأعلى» فإذا سجدت ثانية حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة. ركوع واحد وسجدتان ،

١٢٠