[١٠١]
حكمة عرشيّة
العرش محيط بالكرسي وبالعكس
مسألة : ما الجمع بين ما اتّفق عليه ذوو الرصد العقليّ والنفسيّ والحسيّ وأيّدته الأحاديث المستفيضة المضمون من أن العرش محيط بالكرسي ، كحديث عاصم بن حميد : عن أبي عبد الله عليهالسلام : أنه قال : « الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسيّ ، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور السرّ » (١) الحديث.
وكحديث العطّارة (٢) : وغيره ، فإنّها دلّت على إحاطة العرش بالكرسيّ غيباً وشهادة ، وعلى انغمار الكرسيّ في العرش غيباً وشهادةً.
وبين ما دلّ على أن الكرسيّ أكبر من العرش ، كحديث الفضيل : عن الصادق عليهالسلام : أنه قال : « يا فضيل : كلّ شيء في الكرسيّ السماوات والأرض ، وكلّ شيء في الكرسيّ » (٣).
وحديث زرارة : عن الصادق عليهالسلام : أنه سأله : السماوات والأرض وسع الكرسيّ أم الكرسيّ وسع السماوات والأرض؟ قال عليهالسلام : « بل الكرسي وسع السماوات والأرض
__________________
(١) التوحيد : ١٠٨ / ٣ ، وفيه : ( من نور الستر ).
(٢) التوحيد : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ، وهو حديث زينب العطّارة التي كانت تأتي نساء النبيّ صلىاللهعليهوآله وتبيع منهن العطر ، وطلبت من رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يحدثها عن عظمة الله فكان أنه حدّثها بهذا من بعض ما حدّثها به.
(٣) التوحيد : ٣٢٧ / ٣ ، وفيه : « يا فضيل ، السماوات والأرض وكل شيء في الكرسي ».
والعرش وكلَّ شيء وسع (١) الكرسيُّ » (٢). وأمثال هذا.
أقول وبالله اعتصم ـ : قال الكاشاني : ( المراد من الكرسيّ في مثل [ هذين ] الحديثين : العلم ، فإنّه يطلق ويراد به : العلم كما رواه في ( التوحيد ) عن حفص بن غياث : عن الصادق عليهالسلام : قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام : عن قول الله عزوجل ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) (٣) ، قال : « علمه » (٤) الحديث ) (٥) انتهى ، وهو حسن.
وقال الصدر الشيرازي : ( اعلم أن كون العرش في الكرسيّ لا ينافي كون الكرسيّ في العرش ؛ لأنّ كون كلّ منهما بنحو غير الآخر ، فكون الكرسيّ في العرش كون عقليّ إجماليّ على وجه أعلى وأشرف من كونه في نفسه ، وكون العرش في الكرسيّ كون بصورة نفسانيّة تفصيليّة. فلا منافاة في كون كلّ منهما في الآخر ولا في كون جميع الأشياء في كلّ منهما ) (٦) ، انتهى.
وقال شيخنا أيّده الله ـ : ( لمّا كان العرش أعلى الأجسام وأشرفها وأقربها إلى عالم النور والبساطة جعل علمه للكرسي إجمالاً ، والعلم النفساني أقلّ بساطةً فجعله للكرسي.
وقال الكاشي : ( قد يراد بالكرسي : وعاء العرش كما مرّ في الحديث. وكأنه أشار به إلى العلم أو إلى عالمي الملك والجبروت ؛ لاستقرار مجموع العالم الجسمانيّ الذي يعبّر عنه بالعرش عليهما وقيامه بهما. وقد يراد به : العلم الذي لم يطّلع عليه سوى الله.
وربّما يقال : كون العرش في الكرسيّ : كون الكرسيّ في العرش ، إلّا إن أحد الكونين بنحو والآخر بنحو آخر. وقد يجعل الكرسي كناية عن الملك ) (٧) ) ، انتهى.
__________________
(١) في التوحيد : ( في ).
(٢) الكافي ١ : ١٣٢ / ٤ ، التوحيد : ٣٢٧ / ٤.
(٣) البقرة : ٢٥٥.
(٤) التوحيد : ٣٢٧ / ١.
(٥) الوافي ١ : ٥٠٤ / ذيل الحديث : ٤٠٠ ، باختلاف.
(٦) شرح أُصول الكافي ١ : ٣٦١.
(٧) الوافي ١ : ٥٠٤ ـ ٥٠٥ / ذيل الحديث ٤٠٠ ، باختلاف.
وقد أزاد على ما قرره الصدر : والكاشاني : إرادة العلم المكنون بالعرش.
وأقول : أنت إذا تأمّلت الأخبار وجدت العرش والكرسي فيها يطلقان على معانٍ متلازمة ولو بحسب العلّيّة والمعلوليّة ، فيمكن أن يراد بالعرش المحيط بالكرسي : الأطلس ، وبالكرسي : المحاط المكوكب. وبالعرش : العقل الكلّيّ ، وبالكرسي : النفس الكلّيّة.
وبالعرش : مستوى الرحمة وينبوع الجود ومنقطع الصفات ، وبالكرسي : مجموع المرحومات.
وبالعرش : العلم المحيط بكل [ الموجودات ] ، وبالكرسي : جملة المعلومات.
وبالعرش : جملة العالم من حيث رتبته الإجمالية ، وبالكرسي : جملة أجزائه من حيث هي أجزاؤه وتفاصيله.
وفي هذا كلّه العرش محيط بالكرسي.
وأن يراد بالكرسي : المحيط بكلّ شيء ، وبالعرش : جسم الكلّ ، أو طبيعة الكلّ ، أو شكل الكلّ ، أو جسم الأطلس بما فيه ، أو جملة ما دونها حتّى الروح.
وأن يراد به أيضاً : مستقرّ الرحمة ، وهو الاسم المشار إليه في بعض الأدعية بقوله عليهالسلام
أسألُكَ بالاسمِ الذي استويتَ به على عرشِكَ ، واستقرَرْت به على كرسيِّك (١).
وهو الاسم الجامع لجميع الأسماء من حيث هو كذلك ، وبالعرش : جملة العالم من العقل الأوّل إلى الثرى.
أو يراد به : أرض الجنّة ، وبالعرش : مجموع ما دونها.
أو : صدور العلماء ، وبالعرش : معلوماته ، ولذا يسمّى العلماء : الكراسي من باب تسمية الشيء باسم بعضه.
وبالجملة ، فمن تدبّر الأخبار ظهر له إطلاق العرش على الجسم المحيط ، وعلى
__________________
(١) مصباح المتهجّد : ٣٨٥ ( حجري ) ، المصباح ( الكفعمي ) : ١٤٤. بحار الأنوار ٨٧ : ١٤٥ ، وفيها : « وباسمك الأكبر الذي سمّيت به نفسك ، واستويت به على عرشك ، واستقررت به على كرسيّك ».
جملة الخلق ، وعلى القلم المحيط بكلّ شيء وهو المشيئة المطلقة ، وعلى عقل الكلّ ، وعلى القلم. وظهر له إطلاق الكرسيّ على جسم المكوكب ، وعلى المشيئة المطلقة أيضاً ، وعلى [ رتبه (١) ] الإرادة منها ، وعلى : النفس الكليّة ، وعلى اللوح المحفوظ وعلى مبدأ الظهور وهو باطن المشيئة ومستقرّ الرحمة.
وفي الأخبار غير ما مرّ عن زرارة : عن أبي عبد الله عليهالسلام : قال : « الكرسيّ وسع السماوات والأرض ، والعرش ، وكلّ شيء وسع الكرسي » (٢).
وروى عنه أيضاً أنه قال : « إن كلّ شيء في الكرسي » (٣).
وفي ( التوحيد ) (٤) مثله.
وفيه حديث حفص : وقد مرّ ، وفيه عن ابن سنان : عنه عليهالسلام في قوله تعالى : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) قال : « السماوات والأرض وما بينهما في الكرسي ، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره » (٥).
وروى عليّ بن إبراهيم : مثله (٦).
وروى ابن بابويه : عن المفضّل : عن أبي عبد الله عليهالسلام : أنه قال : « العرش في وجه هو جملة الخلق ، والكرسي وعاؤه. وفي وجه آخر العرش هُوَ العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله ، والكرسي هو العلم الذي لم يطلع الله عليه أحداً من أنبيائه ورسله وحججه عليهمالسلام »(٧).
وفي ( العياشي ) عن زرارة : قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « إن السماوات والأرض وما فيهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي ، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله تعالى » (٨).
وفي ( الاحتجاج ) عن الصادق عليهالسلام : أنه قال : « كلّ شيء خلقه الله في جوف الكرسيّ خلا عرشه فإنّه أعظم من أن يحيط به الكرسيّ ».
__________________
(١) في المخطوط : ( رتبته ). (٢) الكافي ١ : ١٣٢ / ٤.
(٣) الكافي ١ : ١٣٢ / ٥. (٤) التوحيد : ٣٢٧ / ٤.
(٥) التوحيد : ٣٢٧ / ٢.
(٦) تفسير القمّيّ ١ : ١١٢.
(٧) معاني الأخبار : ٢٩ / ١ ، باختلاف.
(٨) تفسير العيّاشيّ ١ : ١٥٧ / ٤٥٩.
ثمّ قال عليهالسلام : « خلق النهار قبل الليل ، والشمس قبل القمر ، والأرض قبل السماء ، فوضع الأرض قبل الحوت في الماء ، والماء في صخرة مجوّفة ، والصخرة على عاتق ملك ، والملك على الثرى ، والثرى على الريح العقيم ، والريح على [ الهوء (١) ] ، و [ الهواء (٢) ] تمسكه القدرة ، وليس تحت الريح العقيم إلّا [ الهواء (٣) ] والظلمات ، وليست وراء ذلك سعة ولا ضيق ولا شيء يتوهّم. ثمّ خلق الكرسيّ فحشاه السماوات والأرض ، والكرسيّ أكبر من كلّ شيء خلق ، ثمّ خلق العرش ، فجعله أكبر من الكرسيّ »(٤).
وأنت إذا تأمّلت هذه الأخبار وجدتها غير متنافية إذا وضعتَ كلّ شيء موضعه ، وفهمت المراد منه ، والله العالم بمقاصد أوليائه.
__________________
(١) في المخطوط : ( الهوى ).
(٢) في المخطوط : ( الهوى ).
(٣) في المخطوط : ( الهوى ).
(٤) الاحتجاج ٢ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ / ٢٢٣.
[١٠٢]
تنزيه تقديسي
( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ. قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ
كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها ) (١)
يمكن أن يريد شعيب عليهالسلام : بالعود المنفي في كلامه عليهالسلام : مقابل البدء [ الإيجادي (٢) ] ؛ فيكون معنى العود المطلوب من الملأ غير ما نفاه شعيب : عليهالسلام ، وإن كان العود في ملّتهم بما أرادوه من الدخول فيها بعد إظهاره مفارقتها يستلزم ما أراده. وفي المعاريض مندوحة عن الكذب ، والله العالم بالحقائق.
__________________
(١) الأعراف : ٨٨ ـ ٨٩.
(٢) في المخطوط : ( لايجادي ).
[١٠٣]
سرّ عرشي : من زار
الحسين عليهالسلام « كمن زار الله في عرشه »
مسألة : ما معنى ما رواه أبو القاسم بن قولويه : بسنده عن زيد الشحّام : قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما لمن زار الحسين عليهالسلام :؟ قال : « كمن زار الله في عرشه » (١).
وعنه بإسناده عن جابر : عن بشير الدهّان : عن أبي عبد الله عليهالسلام : أنه قال : « يا بشير : من زار قبر الحسين بن علي صلّى الله عليهما : عارفاً بحقّه كان كمن زار الله في عرشه » (٢).
وعنه بإسناده عن جابر : عن أبي عبد الله عليهالسلام : مثله (٣).
وعنه (٤) ، وعن الصدوق (٥) : عن الحسين بن محمّد القمّيّ : عن الرضا عليهالسلام : قال : قال لي « من زار قبر أبي عبد الله عليهالسلام : بشطّ الفرات كان كمن زار الله فوق عرشه ».
وعنه بسنده عن الحسين بن محمّد القمّيّ : عن الرضا عليهالسلام : قال : قال لي
من زار قبر الحسين : بشطّ الفرات كان كمن زار الله فوق كرسيّه؟ (٦).
قلت وبالله الاعتصام ـ : لعلّ معنى زيارة الله تعالى تكون على وجهين :
أحدهما : طلب القرب منه ورضاه والزلفى لديه ، فإن حقيقة الزيارة لغةً هو طلب القرب المكاني مع رضا المزور وسروره وقضاء حقّه ، لكن الله تعالى وتقدّس عن
__________________
(١) كامل الزيارات : ٢٧٨ / ٤٣٧.
(٢) كامل الزيارات : ٢٨١ ـ ٢٨٢ / ٤٤٧.
(٣) كامل الزيارات : ٢٨٢ / ٤٤٨.
(٤) كامل الزيارات : ٢٨٠ / ٤٤٣.
(٥) ثواب الأعمال : ١١٠ / ١.
(٦) كامل الزيارات : ٢٨٠ / ٤٢٤.
المكان ، فبقي حقيقة في طلب قربه العقليّ والنفسيّ والسرّيّ ورضاه كذلك.
الثاني : أن يراد بزيارة الله عزّ اسمه زيارة وليّه ونائبه العامّ الخاصّ وخليفته في عباده ، فإنّ رضا حامل ولاية الله العظمى رضا الله ، وقربه قربه ، وغضبه غضبه ، وأسفه أسفه ، وطاعته طاعته ، ومعصيته معصيته ، حقيقة لا غير ، فكذا زيارته زيارته ، والقرب منه القرب منه لا غير حقيقة بكلّ معنى.
إذا عرفت هذا ، فظاهر الخبر أن الضمير المتّصل الغائب المضاف له العرش يعود إلى لفظ ( الله ) ، فيكون معناه على هذا الوجه : أن المتقرّب إلى الله تعالى بزيارة قبر الحسين عليهالسلام : وهو في الأرض كمن يتقرّب إلى الله بزيارة الحسين عليهالسلام : وهو كائن ؛ فإنّ الأعمال تتفاضل بتفاضل أمكنتها وأزمنتها ، والعرش أفضل مكان في العالم بأسره. ولذلك خصّ الله حبيبه محمَّداً صلىاللهعليهوآله : بالمناجاة والوحي إليه بجسمه فيه ؛ لأنه سيّد الخلق ، وأشرف الكلّ في الكلّ ، فناجاه وأوحى إليه ما أوحى بجسمه في أشرف مكان في العالم وأعلاه.
ففضل من زار الحسين عليهالسلام : بشطّ الفرات مخلصاً عارفاً بحقّه ، وتقرّب إلى الله بزيارته في أرض كربلاء ، كمن تقرّب إلى الله بزيارته وهو فوق عرشه ، أو في عرشه ، أو فوق كرسيّه على حسب اختلاف درجات العارفين بحقّه في معرفتهم.
هذا على الوجه الأوّل. وعلى الثاني يكون معناه : من زار الحسين عليهالسلام : بشطّ الفرات كمن زار الحسين عليهالسلام : والحسين عليهالسلام : فوق عرش الله تعالى ، وهذا بحمد الله واضح.
ويحتمل وجه آخر على هذا الوجه ، هو أن معناه أن من زار الحسين عليهالسلام : زار الله ، والله فوق عرشه أي متعالٍ عن معاناة الخلق منزّه عن لوازم الإمكان وصفاته ونسبه اللازمة للزائر والمزور.
وحاصله أن المتقرّب إلى الله بزيارة الحسين عليهالسلام : كمن يتقرّب إلى الله ، ويطلب رضاه منزّهاً له كمال التنزيه والتقديس. وهذا لا يكون إلّا لمن له نور المعرفة ، كما
يشير إليه قوله عليهالسلام « عارفاً بحقه » وإن تفاضل العارفون في درجة المعرفة. وعلى تفاضلهم يبنى اختلاف ألفاظ [ هذه (١) ] الأخبار.
ويمكن أنه أراد على هذا : عرش الاستواء ، أي من زار الحسين عليهالسلام : عارفاً بحقّه كان عارفاً بأنّ الله مستولٍ على ما دقّ وجلّ ، قاهر فوق عباده. فإذن الزائر في تلك الحال في كمال الذلّ والانكسار والخضوع المناسب لحال شهادة الحسين عليهالسلام : وهو في غاية القرب من الله حينئذٍ وتحت قبّة الإجابة.
ويحتمل إرجاع الضمير المذكور المضاف إليه العرش إلى الحسين سلام الله عليه ـ : والمعنى : من زار الحسين عليهالسلام : بشطّ الفرات كان كمن زار الله ، على الأوّل ، أو الحسين عليهالسلام : على الثاني ، وهو أو الحسين عليهالسلام : في عرش الحسين عليهالسلام : وأراد بعرش الحسين عليهالسلام : قبة الإجابة أو منزله في الجنة ، فقد ورد أن زائره كذلك في جواره ، أو في درجته في الجنّة (٢) ، أو منزله في العرش عن يمين العرش (٣) ، أي فوقه.
واحتمل بعضهم إرجاع ذلك الضمير إلى الزائر ، فإن أراد أن المعنى : من تقرّب إلى الله بزيارته في كربلاء كان له من الأجر كأجر من عرف الله حقّ معرفته بنور المعرفة الذي يكون العلم شعاعها في رتبة يقين الفؤاد فوق طور العقل ، كان وجهاً ، لكنه بعيد عن ألفاظ الأخبار المذكورة كما لا يخفى ، وإن أراد غير هذا طالبناه ببيانه حتّى نعرف قوّته أو ضعفه.
__________________
(١) في المخطوط : ( هذا ) ، ويحتمل أنه يريد : ( هذا الإخبار ).
(٢) كامل الزيارات : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ / ٤١٨ ، وانظر في ثواب زيارة الإمام الحسين وكراهة تركها كامل الزيارات : ٢٥٢ ـ ٣٥٧ / ب ٤٩ ـ ٧٨.
(٣) قريب منه في بحار الأنوار ٩٨ : ٧٥ / ٢٥ ، وفيه : « في ظل العرش ».
[١٠٤]
صمت عقلي ونطق
برهاني : محمّد الناطق وعليّ الصامت
مسألة : ما معنى ما رواه في ( البحار ) من جملة حديث طويل من قول أمير المؤمنين سلام الله عليه ـ « يا سلمان : ويا جندب : فأنا ورسول الله صلىاللهعليهوآله : كنّا نوراً واحداً ، صار رسول الله صلىاللهعليهوآله : محمّد المصطفى : وصرت أنا وصيّه المرتضى : وصارم محمّد : الناطق وصرت أنا الصامت ، وإنّه لا بدّ في كلّ عصر من الأعصار أن يكون فيه ناطق وصامت » (١).
وروى هذه البرسيّ (٢) : بإبدال « صار » بـ « كان » ، وعصر بـ « زمان ».
وكيف يأتي هذا والصاحب عجّل الله فرجه ـ : ليس معه في زمن غيبَتِه معصوم لا صامت ولا ناطق؟ وأيضاً ، فبعض آبائه قد مضى له زمن بعد وفاة أبيه ، قبل مولد الحجة عليهالسلام : بعده ، وهو كذلك ، مثل : الصادق : والرضا : وأبو محمّد : عليهمالسلام؟
والجواب من وجهين :
أحدهما : أن يراد بالناطق : الرسول المبلّغ لأحكام الشريعة في مقام الرسالة ، وبالصامت : خليفته ؛ إذ لا بدّ لكلّ رسول من خليفة. فالمعنى : أنه لا بدّ لكلّ زمن أو عصر من أعصار التكليف من رسول ناطق بأحكام الشريعة الظاهرة (٣) ، بالرسالة لجميع من بعث لتبليغه ، ومن خليفة له هو مظهر ولايته ومستودع سرّه الذي لا يطيق
__________________
(١) بحار الأنوار ٢٦ : ٤ / ١.
(٢) مشارق أنوار اليقين : ١٦١ ، باختلاف فيه.
(٣) في المخطوط بعدها : ( هي ).
حمله غيره ، وهو منه كنفسه ؛ فإنّ الولاية من الرسالة كالنفس بالنسبة إلى سائر القوى الإنسانيّة ، فالنفس صامتة بالنسبة إلى مرتبة اللسان مثلاً ؛ لأنّ نطقها غيب ونطقه شهادة ، و [ هي (١) ] ظاهر الرسالة ، وهي حكم ما يعمّ الجسد صامتة (٢).
فحينئذٍ يراد بال ـ عصر : [ زمن (٣) ] حكم الشريعة العامّة ، حتّى يأتي شرع ينسخها ، فيكون زمان آخر. فالزمان زمان محمَّد صلىاللهعليهوآله : منذ بعث حتّى الساعة ، فهو الناطق بذاته أبداً ، وعلي عليهالسلام : الصامت بذاته أبداً وإن جرى لخلفائه ما جرى له من ذلك ، فإنّه من اللوازم الذاتية للولاية في مقام الرسالة. ويشير إلى ذلك قوله في الحديث إنهما كانا نوراً واحداً انقسم إلى ناطق وصامت فإنّه قال « صار » ، و « صرت » ، أو « كان » و « كنت » أي بالانقسام ، فهو بحسب كونه وصيرورته كذلك.
أما نطق الوصيّ بعد الرسول صلىاللهعليهوآله : فإنّما هو حكاية نطق الرسول ، وبيان لما نطق به لا نطق الولاية في مقام الرسالة ، فإنّه مؤدٍّ عن الرسول ما أُرسل به ، ومبيّن له لمن يأتي بعده ، فلا ناطق في عصر رسالة محمَّد صلىاللهعليهوآله : وزمانها إلّا محمَّد صلىاللهعليهوآله : ولا صامت فيه إلّا وصيّه علي : وإن ورث خلفاؤه صمته فنطقهم ببيان الشريعة بعد محمّد : إنّما هو تأدية عنه لأُمّته ، ونطق محمَّد صلىاللهعليهوآله : بالرسالة حقيقةً لا بحسب مقام ولايتهم.
الثاني : أن يراد بالناطق : الإمام والحجّة بما يعمّ الرسول الناطق بروح القدس بالذات ، وبالصامت : خليفته ما دام ناطقاً ، فإذا كان في آخر عمر الأوّل انتقل روح القدس لخليفته بلا واسطة ، فكان ناطقاً وكان له خليفة صامت ، وحينئذٍ يراد بالعصر أو الزمان : زمن إمامة الأوّل بأسره. ولا بدّ أن يوجد فيه صامت يقوم مقام الناطق بعده بحجج الله ، وإلّا لصحّ أنه يموت قبل أن يوجد من يقوم بحجج الله عزّ اسمه بعده ، وهذا جارٍ حتّى في الصاحب عجّل الله فرجه ـ : فإنّه يغسّله الحسين عليهالسلام : ويقوم بعده بحجج الله ؛ إذ لا يمكن خلوّ زمن من حجّة لله.
__________________
(١) في المخطوط : ( في ).
(٢) كذا في المخطوط.
(٣) في المخطوط : ( مرّة ).
[١٠٥]
نور نفسي وبيان قدسي
( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ )
قوله تعالى : ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) (١) العيّاشيّ : في تفسيرها عن الباقر عليه سلام الله ـ : « إن الاسم الأكبر ثلاثة وسبعون حرفاً ، فاحتجب الربّ تبارك وتعالى بحرف ، فمن ثمّ لا يعلم أحد ما في نفسه عزوجل ، أعطى آدم : اثنين وسبعين حرفاً فتوارثها الأنبياء ، حتّى صارت إلى عيسى عليهالسلام : فذلك قول عيسى عليهالسلام : ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ) يعني اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأكبر ، يعني : أنت علّمتنيها فأنت تعلمها ، ( وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) يقول : لأنك احتجبتَ من خلقك بذلك الحرف فلا يعلم أحد ما في نفسك » (٢).
وفي ( الكافي ) بسنده عن أبي عبد الله عليهالسلام : أنه قال : « إنّ عيسى بن مريم : عليهالسلام اعطي حرفين كان يعمل بهما ، وأُعطي موسى : عليهالسلام أربعة أحرف ، وأُعطي إبراهيم : عليهالسلام ثمانية أحرف وأُعطي نوح : عليهالسلام خمسة عشر حرفاً ، وأُعطي آدم : عليهالسلام خمسة وعشرين حرفاً ، [ وإن (٣) ] الله جمع ذلك كلّه لمحمد صلىاللهعليهوآله : وإنّ اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً ، اعطي محمَّد صلىاللهعليهوآله : اثنين وسبعين حرفاً ، وحُجب عنه حرف واحد » (٤).
فإن قلت : ما الجمع بينهما؟
فالجواب من ثلاثة أوجه :
__________________
(١) المائدة : ١١٦.
(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٣٠ / ٢.
(٣) من المصدر ، وفي المخطوط : ( فإن ).
(٤) الكافي ١ : ٢٣٠ / ٢.
أحدها : أن في حديث العياشي : ذكر الاسم الأكبر ، وفي حديث ( الكافي ) ذكر الاسم الأعظم. ولعلّ بينهما [ فرقاً ] ، فآدم : والأنبياء بعده أُعطوا اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأكبر ، ولم يعطوا من الاسم الأعظم إلّا العدد المعيّن في حديث ( الكافي ) أمّا محمَّد صلىاللهعليهوآله : فإنّه أُعطي جميع الاثنين : الأكبر والأعظم (١).
الثاني : لعلّ آدم عليهالسلام : اعطي معرفة الاثنين والسبعين الحرف [ التي (٢) ] توارثها أصحاب الشرائع العامّة من الرسل ، لكنه لا يعمل إلّا بخمسة وعشرين منها ؛ لاشتمالها على جميع ما كلّف بتبليغه وما يحتاج إليه رعيّته ، وفي تأسيس الشرائع ، ولا يعمل بالباقي من أحرف الاسم في ذلك لخروجها عن مقتضى تكليف رسالته وعدم أطاقه رعيّته بالعمل بها ، و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (٣) كما يشير إليه قيد « يعمل بها » في الحديث الثاني.
وكذا نوح عليهالسلام : عليه اذن له في العمل بخمسة عشر حرفاً ممّا اذن لآدم عليهالسلام : في العمل به ؛ لأنّ آدم : مؤسّس الشرائع فاحتاج إلى العمل بأكثر من غيره أو بالأصالة مع ما اذن لآدم عليهالسلام : فيه ، لكنّه بالوراثة ظاهر ، أو الجميع بالأصالة. وعلى هذا يجري الكلام في شأن إبراهيم : وموسى : وعيسى : سلام الله عليهم وإن كانوا كلّهم ورثوا الاثنين والسبعين الحرف ، لكن كلّ واحد منهم اذن له في العمل بأحرف مخصوصة منها ؛ لأنّ ذلك مبلغ وسع رعيّته من التكليف وتمام حاجتهم فيما يحتاجون إليه في عمارة الدارين ، وكمال الحجّة عليهم.
الثالث : أنّ مجموع الاثنين والسبعين عند كلّ واحد من الخمسة أوّلهم آدم : لكن المعيّن في الحديث الآخر تفصيلاً ، وما سواه إجمال مع إرث اللاحق ما فضل للسابق ، مع الإذن له بالعمل به كلّه أو ببعضه.
ويحتمل أيضاً أن يجمل اللاحق بعض ما فُصّل لسابقه إلّا نوحاً عليهالسلام بالنسبة إلى
__________________
(١) على تقدير اتحاد الاسم الأكبر والأعظم. (١١٢). هامش المخطوط.
(٢) في المخطوط : ( الذي ).
(٣) إشارة إلى الآية : ٢٨٦ من سورة البقرة.
آدم عليهالسلام : فإنّه أفضل الأربعة بعده مع أنّهم أفضل من آدم عليهالسلام : مع أن آدم عليهالسلام : ليس من اولي العزم ، فلا يمكن أن يجمل له ولا للثلاثة بعده بعض ما فصّل لآدم عليهالسلام :
نعم ، يمكن أن يجمل لمن بعد نوح : عليهالسلام من الثلاثة بعض ما فصّل له. هذا بالنسبة لآدم عليهالسلام : ونوح عليهالسلام : وإبراهيم عليهالسلام : وموسى عليهالسلام : وعيسى عليهالسلام.
وأمّا بالنسبة لمحمّد صلىاللهعليهوآله : ولآل محمّد : صلوات الله وسلامه عليه وعليهم فهم أُعطوا الاثنين والسبعين كلّا تفصيلاً ، وأُذن لهم في العمل بها أجمع ؛ لأنّهم حجّة الله على جميع من دونهم ، فليس شيء من الخلق إلّا وهو محجوج بهم. فكل جود ووجود في الخلق فمن فاضلهم ، وكلّ تكليف وكمال في شيء من الخلق فهم مصدره وأئمّته ومعلّموه.
وأما الحرف الذي لا يعلمه إلّا الله تعالى [ فهو (١) ] معنى أسماء الله كلّها ، وهو الدليل الجامع لجميع أسماء الله تعالى وصفاته ، فلا يطيق أحد من الخلق التكليف بمعرفته وحمله ، فهو المكنون عن جميع الخلق ، المخزون عند الله ، فهو خزانة علم الله العظمى ، وغيب غيوب المخلوقات ، لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا عبد امتحن الله قلبه للإيمان.
__________________
(١) في المخطوط : ( فهم ).
[١٠٦]
هداية بعد لبس
وإطلاق من حبس ( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً )
قوله عزّ اسمه في سورة النبإ ( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) (١) العيّاشيّ : عن الباقر عليهالسلام : أنه سئل عن الآية ، فقال : « هذه في الذين يخرجون من النار » (٢).
والقمّيّ : عن الصادق عليهالسلام : قال : « هذه في الذين لا يخرجون من النار »(٣).
والجمع بينهما من وجوه :
أحدها : أن لا حذفت من خبر العيّاشيّ : أو زيدت في خبر القمّيّ : ؛ غلطاً من الناسخ أو سهواً من الراوي ، والأوّل أقرب.
الثاني : أن يراد بخبر العيّاشيّ : ظاهره من أنها « في الذين يخرجون من النار » ، ويكون معنى خبر القمّيّ : بـ « الذين لا يخرجون
: الذين لا ينجون من النار بالكلّية ؛ فإنّه الخروج الحقيقيّ. والمراد : مَن يدخل فيخرج ، دون المخلّد.
الثالث : أن القرآن بطون ، فرواية القمّيّ : بحسب بطن : ( وهم المخلّدون ) ، ورواية العيّاشيّ : بحسب بطن : ( وهم الذين يدخلون فيخرجون ) ، وكلاهما على ظاهره. لكن معنى ( لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) أي أحقاباً متناهية على خبر العيّاشيّ : أو أحقاباً غير
__________________
(١) النبإ : ٢٣.
(٢) المصدر الموجود عندنا غير تامّ ، عنه مجمع البيان ١٠ : ٥٤٠.
(٣) تفسير القمّيّ ٢ : ٤٢٧.
متناهية على خبر القمّيّ : أو في كليهما متناهية ، لكن على الوجه الثاني وحذف النعت.
الرابع : أن كلّاً منهما على ظاهره ، لكن معنى الأحقاب في إحدى الروايتين غير معناه في الأُخرى ، وكلّ منهما بحسب بطن وإن لزم التناهي لأحدهما وعدم التناهي للآخر ، والله العالم.