[٦٢]
نعمة جزيلة ومنّة
جميلة ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) (١)
( البحار ) من ( العيّاشيّ ) (٢) عن عمر بن [ يزيد (٣) : ] قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام : عن قول الله تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (٤) ، فقال : « كذبوا ما هكذا هي ، إذا كان ينسخها ويأتي بمثلها لِمَ ينسخها؟ » قلت : هكذا [ قال الله (٥) ] قال : « ليس هكذا قال الله تعالى ». قلت فكيف؟ قال : « ليس فيها ألف ولا واو قال : مَا ننسخ من آية أو ننسها نأت بخيرٍ منها مثلها ، يقول : ما نمت من إمام أو ننسِ ذكره نأتِ بخير منه من صلبه مثله » (٦).
قال في ( البحار ) : ( لعلّ المراد : أنه خير بحسب المصلحة لا بحسب الفضائل ) (٧) ، انتهى.
قلت : هذا تمحّل بعيد ضعيف ، مع أنه يستلزم أن يكون لآخرهم من الفضل ما ليس لأوّلهم ، وقد جاءت الأخبار (٨) عنهم أنه لا يكون لآخرهم من الفضل ما ليس لأوّلهم. والظاهر أن ( من ) متعلّقة بـ ( نأت ) ، ويحتمل أن تكون بيانيّة ، فلا إشكال ولا تكلّف ، والله العالم.
__________________
(١) مرّت بمعناها وأكثر ألفاظها في العنوان : ٤٤.
(٢) تفسير العياشي ١ : ٧٤ / ٧٨.
(٣) من المصدر ، وفي المخطوط : ( بريد ).
(٤) البقرة : ١٠٦.
(٥) من المصدر.
(٦) بحار الأنوار ٢٣ : ٢٠٨ / ١٠.
(٧) بحار الأنوار ٢٣ : ٢٠٨.
(٨) بحار الأنوار ٢٥ : ٣٥٢ ـ ٣٦٣.
[٦٣]
جوهرة ثمينة وحجّة
أمينة : لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن
في ( الفقيه ) عن أبي عبد الله عليه سلام الله ـ : أنه قال : « ليلة القدر لو رفعت لرفع القرآن » (١).
قال محمّد تقي : إن ليلة القدر لا ترفع حتّى يُستشهد الحجّة عليهالسلام : فإذا استشهد رفع القرآن ورفعت ليلة القدر ؛ لأنّ في ليلة القدر تنزل الملائكة على الإمام كلّ سنة فإذا فقد الإمام رفع القرآن وليلة القدر (٢). انتهى.
قلت : اعلم أن القرآن فيه تبيان كلّ شيء ؛ لأنه خلق محمّد (٣) قال تعالى : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (٤) فهو منطبق على التكوين والزمان ، وحوادثه [ تدريجيّة (٥) الوقوع ، وكلّ مكوّن زماني يختصّ بجزء منه ، فالقرآن لا يبرز أحكامه الزمانيّة إلّا تدريجاً بالضرورة طبق بروز حوادث الزمان ، فإنّه اشتمل على أحكام الخلق منذ بُعث محمَّد صلىاللهعليهوآله : في الذرّ الأوّل إلى أن تقوم الساعة. فكلّ رتبة ونشأة يطابقها القرآن بمقتضى حقيقتها ، فالزمان لمّا لم يبرز إلّا تدريجاً لم يبرز أحكامه القرآنية إلّا كذلك.
__________________
(١) الفقيه ٢ : ١٠١ / ٤٥٤.
(٢) روضة المتّقين ٣ : ٤٣٩ ، بالمعنى.
(٣) كذا في المخطوط.
(٤) الأنعام : ٣٨.
(٥) في المخطوط : ( تدريجي ).
فكلّ نجم برز من الزمان برز قسطه من الكتاب ، وأُمر بها إمام العصر ليلة القدر.
فنزوله كلّه ليلة القدر ، وكذا بروزه الجزئيّ لا يكون إلّا ليلة القدر.
يدلّ على هذا بعد صحيح الاعتبار جملة من الأخبار :
ففي العيّاشي : عن الفضل بن يسار : قال : سألت أبا عبد الله عليه سلام الله ـ : عن هذه الرواية : « ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف الّا وله حدّ ، ولكلّ حدّ مطلع » ، ما يعني بقوله : « لها ظهر وبطن »؟ قال : « ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر ، كلّما جاء منه بشيء وقع » (١) الحديث.
وفي بصائر الصفّار : بسند صحيح مثله ، إلّا إنه قال فيه بعد « والقمر » ـ : « كلّما جاء منه تأويل شيء يقع ، يكون على الأموات كما يكون على الأحياء » (٢).
وفي غيبة النعماني : عن الصادق عليه سلام الله ـ : أنه قال : « إنّ للقرآن تأويلاً يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما يجري الشمس والقمر ، فإذا جاء تأويل شيء منه وقع ، فمنه ما قد جاء ، ومنه ما لم يجيء » (٣) الخبر.
ومثل هذا المضمون كثير (٤).
وأيضاً ما برز مضمونه لا يختصّ بجزئيّ ، بل هو أبديّ التجدّد ، جارٍ في أمثال ما وقع ، كلّما جاء منهم قسط وقع قسطه ، فهو أبداً حيّ طريّ يتجدّد بتجدّد الأزمان والأكوان.
كما يدلّ عليه من الاعتبار ما استفاض مضمونه من الأخبار ، ففي العيّاشيّ عنهم عليهمالسلام : « إنّ ظهر القرآن الذي نزل فيهم ، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم ، يجري فيهم
__________________
(١) تفسير العيّاشيّ ١ : ٢٢ / ٥ ، وفيه : « ظهره وبطنه تأويله ».
(٢) بصائر الدرجات ١٩٦ / ٧ ، وفيه بعده : « كما (١) ( جاء تأويل شيء منه ، يكون على الأموات كما يكون على الأحياء » ..
(٢) الغيبة : ١٣٤ / ١٧ ، وفيه « للقرآن تأويل ».
(٤) انظر بحار الأنوار ٨٩ : ٧٨ ـ ١٠٦ / ١ ـ ٨٤.
__________________
١ ـ كذا في المصدر ، والظاهر أنها « كلّما » ، يدل عليه نقل المصنّف عنه في الهامش نفسه.
ما نزل في أُولئك » (١).
وفي تفسير فرات بن إبراهيم : عن خيثمة : عن أبي جعفر عليهالسلام : أنه قال : « لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أُولئك القوم ماتت الآية لَما بقي من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكلّ قوم آية يتلونها هم منها في خير أو شرّ » (٢).
وفي خبر آخر عن أبي بصير : عن الصادق عليهالسلام : قال : « لو كانت إذا نزلت آية في رجل ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية ، مات الكتاب ، ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى » (٣).
وهذا المضمون مستفيض ، وهو صريح في أن ما يعلمه الإمام من أحكام القرآن [ ومقتضياته (٤) ] يؤذن له في إبراز ما يطابق كلّ نجم وكلّ سنة بالإذن الكلّيّ في ليلة القدر ، فيؤمر فيها بأحكام السنة وحوادثها بحسب ما يخصّها من القرآن ، وبكلّ جزئي في آنه.
فإذن لكلّ ليلة قدر في الزمان قسط منه يطابقها جديد ، فإذن ظهر لك تلازم ليلة القدر والقرآن ، وهما مع الإمام ما بقي التكليف ، فلا يرتفع القرآن ولا ليلة القدر إلّا إذا ارتفع الإمام ، وذلك قبل النفخة الاولى بأربعين يوماً ، كما رواه في ( البحار ) من ( كمال الدين ) (٥) بسنده إلى عبد الله بن سليمان العامري : عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « ما زالت الأرض إلّا ولله تعالى ذكره فيها حجّة يعرف الحلال والحرام ، ويدعو إلى سبيل الله ، ولا تنقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوماً ، فإذا رفعت الحجّة أُغلق باب التوبة ، ولا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجّة ، أُولئك شرار خلق الله ، وهم الّذين تقوم عليهم القيامة » (٦).
__________________
(١) تفسير العيّاشيّ ١ : ٢٢ / ٤.
(٢) تفسير فرات الكوفي : ١٣٨ ـ ١٣٩ / ١٦٦ ، باختلاف.
(٣) الكافي ١ : ١٩٢ / ٣.
(٤) في المخطوط : ( مقتضيا ).
(٥) كمال الدين ٢٢٩ / ٢٤.
(٦) بحار الأنوار ٢٣ : ٤١ / ٧٨.
ومثله من ( المحاسن ) (١).
وفي ( الكافي ) وغيره عن عبد الله بن جعفر الحميريّ : قال : اجتمعتُ أنا والشيخ أبو عمرو رحمهالله عند أحمد بن إسحاق : فغمزني أحمد بن إسحاق : أن أسأله عن الخلف عليهالسلام ، فقلت له : ( يا أبا عمرو : إني أُريد أن أسألك عن شيء ، وما أنا بشاكّ فيما أسألك عنه ، فإن اعتقادي وديني أن الأرض لا تخلو من حجّة ، إلّا إذا كان قبل القيامة بأربعين يوماً ، فإذا كان ذلك رفعت الحجّة وأُغلق باب التوبة ، فلم يك ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ، أُولئك شرار من خلق الله ، وهم الذين تقوم عليهم القيامة ) (٢) الخبر.
وتلك الأربعون اليوم في الآفاق نظيرها في الأنفس بلوغ الروح التراقي في لحظة المعاينة ، وعندها يسقط التكليف ، فيرتفع القرآن من الزمان والإمام وليلة القدر.
وأمّا كلام الفاضل التقيّ (٣) فلا يخفى ضعفه ؛ فإنّه إن أراد بالحجّة المستشهد الذي ترتفع ليلة القدر باستشهاده : القائم عليهالسلام : فهذا لا دليل عليه ، بل الأخبار والاعتبار [ يردّانه (٤) ] ؛ فإن رجعة أهل البيت عليهمالسلام : وأيّامها بعدد أيام القائم عليهالسلام : وبالضرورة التكليف فيها باقٍ ، فالحجّة والقرآن وليلة القدر كذلك.
وأيضاً الحجّة الذي يُرفع لا يُرفع بطريق الشهادة والقتل ، وإنّما يرفع ويقبض. وآخر مَن يُقبض عليّ عليهالسلام : يدلّ عليه ما رواه الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن أبي عبد الله عليه سلام الله ـ : أنه قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لقد أسرى بي ربّي عزوجل ، فأوحى إليّ من وراء حجاب ».
إلى أن قال فيما كلّمه به ربّه أن قال : « يا محمّد : عليّ : أوّل من آخذ ميثاقه من الأئمّة ،
__________________
(١) بحار الأنوار ٢٣ : ٤١ / ذيل الحديث ٧٨ ، المحاسن ١ : ٣٦٨ / ٨٠٢.
(٢) الكافي ١ : ٣٢٩ ـ ٣٣١ / ١.
(٣) انظر الصفحة : ١٨٣.
(٤) في المخطوط : ( يرده ).
يا محمّد : عَلي : آخر من أقبِضُ روحه من الأئمّة » (١).
وإن أراد غير القائم عليهالسلام : فليس يرفع بالقتل ، وإنّما آخر من يرفع منهم بفقد ، فإنّه ليس بعده إمام يلي أمره لو مات ، ولا يلي الإمام إلّا إمام (٢) ، وقد دلّ على هذا جملة من الأخبار. وبالجملة فظاهر عبارته ضعيف ، والله العالم.
__________________
(١) مختصر بصائر الدرجات : ٣٦.
(٢) انظر الكافي ١ : ٣٨٤ ـ ٣٨٥ / باب أن الإمام لا يغسله إلّا الإمام من الأئمّة عليهمالسلام.
[٦٤]
ذكر وترك : انسيَ الطعام المسموم
غيبة الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن إبراهيم بن أبي محمود : عن بعض أصحابنا قال : قلت للرضا عليه سلام الله ـ : الإمام يعلم إذا مات؟ فقال : « نعم ، حتّى يتقدّم في الأمر ».
قلت : علم أبو الحسن عليه سلام الله ـ : بالرطب والريحان المسمومين اللذين بعث بهما إليه يحيى بن خالد :؟ فقال : « نعم ».
فقلت : فأكله وهو يعلم؟ فقال : « إنسية لينفذ فيه الحكم » (١).
وبسند آخر عنه مثله ، إلى أن قال : فأكله وهو يعلم فيكون معيناً على نفسه؟ فقال عليهالسلام : « لا ، إنّه يعلم قبل ذلك ليتقدّم فيما يحتاج إليه ، فإذا جاء الوقت ألقى الله على قلبه النسيان » (٢).
قلت : يمكن أن يراد بالنسيان رفع التفاته إلى الدنيا ، ورفع قلبه منها ؛ لعلمه بانتهاء أجله ، فيترك الدنيا وأسباب العيش فيها. والنسيان بمعنى الترك أو الرفع قد يقع لطفاً من الله بعبده ، فليس من الشيطان ؛ لأنّ هذا من قبيل البداء والنسخ ، والله العالم.
__________________
(١) مختصر بصائر الدرجات : ٦.
(٢) مختصر بصائر الدرجات : ٧.
[٦٥]
طلب كنز وبيان عِزّ
« لا يحتمل حديثهم ملك » إلى آخره (١)
روى الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن أبي الصامت : قال : قال أبو عبد الله سلام الله عليه ـ « حديثنا صعب مستصعب ، شريف كريم ، ذكوان [ ذكي (٢) ] وعِر ، لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا مؤمن ممتحن ».
قلت : فمن يحتمله جعلت فداك؟ قال : « من شئنا يا أبا الصامت » (٣).
قلت : لعلّه عليه سلام الله أراد : أنه لا يحتمله ملك مقرّب حتّى يلقيه إلى من دونه ، ولا نبيّ مرسل حتّى يلقيه إلى من دونه ، ولا مؤمن ممتحن حتّى يلقيه إلى من دونه ، فإنّه قد روي عنهم ذلك. وفي الرخصة لهم بذلك رحمة وتخفيف لثقل حمل ما حملوا ، فإنّ حمل أسرارهم لا أشقّ منه في التكليف.
وأيضاً أُخذ على العلماء أن يعلّموا من دونهم كما أُخذ على أتباعهم أن يتعلّموا (٤) ، أي لعلّه عليهالسلام أراد أن أمرهم عليهمالسلام لا يحتمله إلّا من تأهّل للعون منهم على احتماله ، فلا يحمّلونه إلّا من شاؤوا وعلموا منه الإطاقة لذلك.
ووجه آخر لا يحتمله ، يراد به تكليفهم الخاصّ بهم ، ومن شاؤوا تحميله ما دون ذلك.
__________________
(١) مرّ بمضمونه في العنوان : ٥٩.
(٢) من المصدر ، وفي المخطوط : ( ذكر ).
(٣) مختصر بصائر الدرجات : ١٢٥.
(٤) انظر الكافي ١ : ٤١ / ١.
وقال الشيخ حسن بن سليمان : ( لعلّه عليهالسلام أراد بـ « من شئنا » : هم صلوات الله عليهم لأنّ علمهم الذي استودعهم الله سبحانه منه ما لا يصل إلى غيرهم ، بل خصّهم به ).
ثمّ استدلّ رحمهالله على ذلك الاختصاص بحديث تقسيم الاسم الأعظم ، وحديث « يا عليّ ، ما عرف الله إلّا أنا وأنت ، وما عرفني إلّا الله وأنت ، وما عرفك إلّا الله وأنا ». وغيرهما من الأخبار.
ثمّ قال : ( وصاحب الدرجة العليا يطيق حمل الدنيا ، وصاحب الدنيا لا يطيق حمل العليا كما في حديث أبي ذرّ : وسلمان : ؛ إذ كان أبو ذرّ : في التاسعة وسلمان : في العاشرة من درجات الإيمان ) (١). انتهى ملخّصاً.
ولا يخفى ما فيه من التكلّف والمنافرة لقوله عليهالسلام : « من شئنا يا أبا الصامت ».
__________________
(١) مختصر بصائر الدرجات : ١٢٥
[٦٦]
دفع إشكال لداء عضال
« لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء »
الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن مشايخه إلى زرارة : عن أبي جعفر عليهالسلام : قال : « لو علم الناس كيف كان ابتداء الخلق ما اختلف اثنان ، إن الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق قال : كن ماءً عذباً أخلق منك جنّتي وأهل طاعتي ، وكن ملحاً أُجاجاً أخلق منك ناري وأهلَ معصيتي ، ثمّ أمرهما فامتزجا ؛ فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر ، والكافر المؤمن. ثمّ أخذ طيناً من أديم الأرض وعركه عركاً شديداً ، فإذا هم كالدبر (١) يدبّون ، فقال لأصحاب اليمين : إلى الجنّة بسلام ، وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا أُبالي. ثمّ أمر ناراً فاسعرت ، فقال لأصحاب الشمال : ادخلوها ، فأبوها ، فقال لأصحاب اليمين : ادخلوها ، فدخلوها ، فقال : كوني برداً وسلاماً. فكانت برداً وسلاماً. فقال أصحاب الشمال : يا ربّ أقلنا قال : قد أقلتكم فأدخلوها. فذهبوا أن يدخلوها (٢) فهابوها ، فثمّ ثبتت الطاعة والمعصية ؛ فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء » (٣).
قلت : أجاب الشيخ حسن : عن قوله سلام الله عليه ـ : « فلا يستطيع هؤلاء .. » إلى آخره ، بثلاثة أوجه :
حاصل الأوّل أن هذا إخبار عمّا علم الله منهم من اختيار الحقّ أو الباطل وإقامتهم
__________________
(١) في المصدر « الذر ».
(٢) قوله : « أن يدخلوها » ليس في المصدر.
(٣) مختصر بصائر الدرجات : ١٥٠.
وإصرارهم عليه ، وهذا لا ينافي التكليف والاختيار ، وأن بدْأه من عالم الذرّ. ومثّل لذلك بأمثلة كثيرة منها إخبار الرسول صلىاللهعليهوآله : عمّن قتل يوم بدر من أهل مكّة أنهم لا يُسلِمون ، أي علم الله منهم أنهم لا يختارون الإسلام ، بل يصرّون على الكفر.
وحاصل الثاني أن المراد بنفي الاستطاعة : صعوبة الانتقال من خلقه المتّصف به من الإيمان والكفر ، لا التعذّر. ومثّل له أيضاً بأمثلة كثيرة منها قوله صلىاللهعليهوآله : « يا عليّ : ثلاث لا يطيقها أحد من هذه الأُمّة : المواساة للأخ في ماله ، وإنصاف الناس من نفسه ، وذكْر الله على كلّ حال ».
ومنها قول أمير المؤمنين سلام الله عليه ـ : « ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ».
وحاصل الثالث أن أحاديث أهل البيت سلام الله عليهم ـ : تحذو حذو القرآن ، ففيها المحكم والمتشابه ، والخاصّ والعامّ ، والناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمفصّل ، وغير ذلك. ولا يحلّ لأحد أن يكذّب الحديث ويردّه إذا لم يستبن له معناه ، بل يسلمه ويردّه إلى أهله (١).
قلت : وهناك جواب آخر هو أن كلّا منهما بعد ذلك بكونه نفسه بل حقيقته من مادّة اختياره هناك باختياره ؛ فالمؤمن من مادّة العقل والنور والإيمان ، والكافر من أضدادها ، فكلّ منهما اختار تكوينه من مادّة ، فليس في حكم الله جبر ، حتّى في الخلق ، فلا يخلق شيئاً إلّا بعد طلبه الخلق وقبوله له باختياره.
وجواب آخر هو أن المؤمن لا يستطيع أي لا يختار ولا يطلب أن يكون على غير ما ظهر له بالبرهان الحقّ المحكم المطابق لأصل فطرة الوجود ، فإنّه قد قام عنده البرهان بالسبل الثلاثة على ما اختاره. فعدم استطاعته تشبه عدم إمكان صدور المعصية من المعصوم عليهالسلام ؛ لما علمه من حقائق الخلق على اليقين ، مع أنه قادر على فعلها البتّة ؛ لأنه أكمل المكلّفين بالاختيار ، واختياره أكمل الاختيار ، كما
__________________
(١) مختصر بصائر الدرجات : ١٥١ ـ ١٥٤ ، باختلاف.
أنه أكمل المختارين. فعدم استطاعة المؤمن أن ينتقل عن الإيمان شعاع من نور احتجاب المعصوم عمّا ينافي زينة العصمة ، والكافر لا يستطيع ترك كفره للطبع على قلبه وانتكاسه من أجل اختياره هناك ، فهو في ظلمة لا يبصر ، [ أصمّ أبكم أعمى (١) ] ، قد استدبر الحقّ باختياره ، واستحبّ العمى على الهدى باختياره ، فكان أيضاً مألوفاً. وطبعاً لا يستطيع الانتقال عنه على حدّ عدم استطاعة مفارقة الطبائع والمألوف ، أي يعسر ذلك ويشقّ جدّاً. وهذا وجه آخر.
ووجه آخر هو أن المراد بالاستطاعة المنفيّة هي الاستطاعة التي يكون مع الفعل حال الفعل لأصل القدرة أي إنه لا تتحقّق منه تلك الاستطاعة ؛ لأنّها مع الفعل حال الفعل ، وهو لا يختار ضدّ ما هو عليه ولا يقصده باختياره فلا تتحقّق منه تلك الاستطاعة ، والله العالم.
__________________
(١) في المخطوط : ( صم بكم عمي ).
[٦٧]
إغاثة لهفان وتعريف عرفان : « أراهم نفسه »
الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن زرارة : عن أبي جعفر عليه سلام الله ـ : قال : سألته عن قول الله عزوجل ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (١) ، الآية قال : « أخرج من ظهر آدم عليهالسلام ذرّيّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ ، فعرّفهم ، فأراهم نفسه ، ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه عزوجل »(٢).
قلت : ظاهر لفظ الحديث أن فاعل أراهم والمضاف إليه في « نفسه » يعود لـ آدم عليه سلام الله بقرينة قوله : « عرّفهم فأراهم » ؛ فإنّ الظاهر أن « عرّفهم » يعود لـ « آدم عليهالسلام ». وتفريع « فعرّفهم .. نفسه » عليه قرينة أُخرى على ذلك. فإذن « أراهم نفسه » أي عرّفهم إيّاها ، فقد عرّفهم نفوسهم لمقام المناوعة والرحمة العامّة ، بل نفوسهم حينئذٍ مندرجة في قوّة نفسه كالجزئيّات للكلّيّ.
والحاصل أن تعريفهم نفسه هو تعريفهم نفوسهم ، و « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (٣).
فظهر وجه تعقيبه بقوله سلام الله عليه ـ : « ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه ».
وحمله الشيخ حسن (٤) : على أن المعنى أراهم نفسه أي عرّفهم إيّاه بالدليل الحازم الرافع للشكّ الموصل إلى اليقين.
وهو حسن إن حملناه على أن ربّهم سبحانه وتعالى أراهم نفسهم ، وهو أحد الوجهين.
__________________
(١) الأعراف : ١٧٢.
(٢) مختصر بصائر الدرجات : ١٥٨.
(٣) مصباح الشريعة : ١٣.
(٤) مختصر بصائر الدرجات : ١٥٨.
و (١) هناك وجه آخر هو أن نفسه يراد به : نائبه العامّ ورسوله إلى كافّة الخلق ، وباب الجود والوجود. فلا ريب أن الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق منهم بأنه ربّهم ومحمّداً رسول الله : وعليّاً أمير المؤمنين : والمعنى على حدّ ما قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « أنا عين الله ، وأنا قلب الله ، وأنا يد الله » (٢).
وشبه ذلك من الإضافات التي خصّهم الله بها إظهاراً لعظيم شأنهم ، فيكون المعنى : أراهم نائبه العامّ ووجهه ودليله الأعظم ، وعرّفهم إيّاه ، وأنه هو في كلّ مقام حتّى في رتبة الحسّ الظاهريّ والمشعر البصريّ ، ولله الحجّة البالغة ، فهو الدليل [ إلى (٣) ] الله في كلّ مقام.
وهذا قانون ينفع الناظر في موارد كثيرة ، ويظهر به معنى كثير من أخبار أهل العصمة عليهمالسلام مثل : « ما رواه الشيخ حسن بن سليمان : بسنده عن زُرارة : قال : قلت لأبي جعفر عليهما سلام الله ـ : أصلحك الله ، قول الله عزوجل ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها ) (٤)؟ قال : « فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفة أنّه ربّهم ». قلت : عاينوه؟ فطأطأ رأسه ثمّ قال : « لولا ذلك لم يعلموا مَن ربّهم ، ولا مَن رازقهم؟ » (٥).
فهذه المعاينة على سبيل ما قال أمير المؤمنين ـ سلام الله عليه ـ : لمّا سئل : أرأيت ربّك يا أمير المؤمنين :؟ قال : « لم أكن لأعبد ربّاً لم أرَه ». قال : وكيف رأيته؟ قال لم ترَه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان (٦).
أي إنهم عرّفهم نفسه ، فعرفوه في مجالي صفاته وأسمائه الحسنى وآياته ومقاماته التي لا تعطيل لها. فهو سبحانه الشاهد بأنه لا إله إلّا هو ، لا معبود سواه ، ولا ربّ غيره ، الظاهر لعباده بأسمائه وصفاته. قال الحسين سلام الله عليه ـ :
__________________
(١) في المخطوط بعده : ( عليك ).
(٢) التوحيد : ١٦٤ / ١ ، وفيه : « أنا علم الله ، وأنا قلب الله الواعي ، ولسانه الله الناطق ، وعين الله ، وجنب الله ، وأنا يد الله ».
(٣) في المخطوط : ( على ).
(٤) الروم : ٣٠.
(٥) مختصر بصائر الدرجات : ١٦٠.
(٦) المصدر نفسه.
« تعرّفتَ لكلّ شيء في كلّ شيء حتّى لا يجهلك شيء » (١).
وقال : « أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟ عميتْ عين لا تراك عليها رقيباً » (٢).
فالمراد : معاينة الدليل الجامع ، والاسم الأعظم ورؤيته ، والله العالم.
__________________
(١) الإقبال بالأعمال الحسنة ( حجريّ ) : ٣٥٠ ، وفيه : « تعرّفت لكل شيء فما جهلك شيء ».
(٢) الإقبال بالأعمال الحسنة ( حجريّ ) : ٣٥٠.
فائدة : قال العلامة المجلسيّ في ( بحار الأنوار ) : ( قد أورد الكفعميّ رحمهالله هذا الدعاء ( دعاء الإمام الحسين عليهالسلام يوم عرفة ) في ( البلد الأمين ) ، وابن طاوس رحمهالله في ( مصباح الزائر ) كما سبق ذكرهما ، ولكن ليس في آخره فيهما بقدر ورق تقريباً ، وهو من قوله : « إلهي أنا الفقير في غناي » ، إلى آخر هذا الدعاء ، وكذا لم يوجد هذه الورقة في بعض النسخ من ( الإقبال ) أيضاً. وعبارات هذه الورقة لا تلائم سياق أدعية السادة المعصومين عليهمالسلام أيضاً ، وإنّما هي على وفق مذاهب الصوفيّة.
ولذلك قد مال بعض الأفاضل إلى كون هذه الورقة من مزيدات بعض مشايخ الصوفيّة ). بحار الأنوار ٩٥ : ٢٢٧ / ٤.
وهاتان العبارتان الواردتان في هذا الكتاب واقعتان في هذه الورقة الّتي نقل المجلسي رحمهالله احتمال بعضهم أنها من زيادات بعض مشايخ الصوفيّة ، ونسخة ( الإقبال ) المطبوعة حديثاً تخلو من هذه الزيادة.