وضوء عبد الله بن عباس

السيد علي الشهرستاني

وضوء عبد الله بن عباس

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-7635-78-8
الصفحات: ١٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٤ ـ دية الأصابع

عن مروان أنّه أرسل إلى ابن عبّاس ، فقال : أتفتي في الأصابع عشر عشر و قد بلغك عن عمر أنّه يفتي في الإبهام بخمسة عشر أو ثلاثة عشر ، و في التي تليها اثنتي عشر ـ و في آخر : عشر ـ و في الوسطى بعشرة ، و في التي تليها بتسع ، و في الخنصر بست.

فقال ابن عبّاس : رحم الله عمر ، قولُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحقّ أن يتّبع من قول عمر رضي‌الله‌عنه (١).

و قد أخرج عبدالرزاق ، عن معمر و الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي قال : و في الأصابع عشر عشر (٢).

و جاء عن الصادق أنّ دية الإصبع عشرة ، و في آخر : هنّ سواء في الدية (٣).

و قد خفي على مروان حين اعتراضه على ابن عبّاس رجوع عمر عن حكمه الأوّل ؛ لما أخرجه عبدالرزاق عن معمر عن عبدالله بن عبدالرحمن

_______________________________

نيل الاوطار ٢ : ٢٦٦ عن سعيد بن المسيب أنّه قال : أوّل من نقض التكبير معاوية ! و عن الزهري : أول من قرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم سراً بالمدينة عمرو بن سعيد بن العاص ( انظر السنن الكبرى للبيهقي ٢ : ٥٠ ).

(١) الرسالة : ١١٣ ، السنن الكبرى للبيهقي ٨ : ٩٣ ، المجموع للنووي ١٩ : ١٠٨ ، مسند أحمد ٢ : ١٨٩ / ح ٦٧٧٢ ، سنن أبي داود ٤ : ١٨٧ / ح ٤٥٥٦.

(٢) المصنف لعبدالرزاق ٩ : ٣٨٣ / ح ١٧٦٩٣ ، و السنن الكبرى للبيهقي ٨ : ٩٢.

(٣) التهذيب ١٠ : ٢٥٩ / ١٠٢٣ ، و الاستبصار ٤ : ٢٩١ / ١١٠١ ، الفقيه ٤ : ١٠٢ / ٣٤٠.

٨١

الأنصاري ، عن ابن المسيب ، قال : قضى عمر بن الخطّاب في الأصابع بقضاء ، ثمّ أُخبر بكتابٍ كتبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لآل حزم : في كلّ إصبع ممّا هنالك عشر من الإبل ، فأخذ به وترك أمره الأول (٤) !!

٥ ـ الجمع بين الصلاتين

أخرج مالك في الموطأ عن ابن عبّاس ، قال : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر و العصر جميعاً و المغرب و العشاء جميعاً من غير خوف و لا سفر (٥).

و عن علي و أهل بيته نقلهم نفس الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و بذلك فقد اتّفق فقه الطالبيين ـ حسنيّين كانوا أم حسينيّين ـ على جواز الجمع بين الصلاتين (١).

٦ ـ عدم جواز تطيب المحرم

عن عبدالله بن سنان ، قال : سألت أبا عبدالله الصادق عليه‌السلام عن المحرم يموت كيف يصنع به ، فحدّثنى أنّ عبدالرحمن بن علي مات بالأبواء مع

_______________________________

(١) المصنف لعبدالرزاق ٩ : ٣٨٥ / ح ١٧٧٠٦.

(٢) مسند أحمد ١ : ٢٢١ ، ٢٨٣ / صحيح البخاري ١ : ١٤٣ و ١٤٧ ، صحيح مسلم ١ : ٤٨٩ / ٤٩ و ٤٩٠ / ٥٤ ، شرح معاني الآثار ١ : ١٦٠ / ح ٩٦٦ و ٩٦٧ ، الموطا ١ : ١٤٤ / ٤ ، سنن أبي داود ٢ : ٦ / ١٢١٠.

(٣) و هذا إجماعي عند أهل البيت عليهم‌السلام ، و قد روي عن الصادق عليه‌السلام كما في تهذيب الأحكام ٢ : ٢٤ / ٦٨ ، و الاستبصار ١ : ٢٤٦ / ٨٨١ ، و من لا يحضره الفقيه ١ : ١٣٩ / ٦٤٧ ، كما روي عن زيد بن علي كما في مسنده : ٨٨ ، كما روي عن ابن عباس كما في مسند أحمد ١ : ٢٢١ ، و الموطأ ١ : ١٤٤ / ٤ ، و صحيح مسلم ١ : ٤٨٩ / ٤٩ ، ٤٩٠ / ٥٤ ، ٤٩١ / ٥٧ و ٥٨.

٨٢

الحسين بن علي [ صاحب فخ ] و هو محرم ، و مع الحسين عليه‌السلام عبدالله بن عبّاس و عبدالله‏ بن جعفر ، فصنع به كما صنع بالميت و غطّى وجهه و لم يمسّه طيباً ، قال : و ذلك في كتاب علي (١).

٧ ـ مسائل في الارث

قال عمر : والله‏ ما أدري أيّكم قدَّم الله وأيّكم أخّر ، و ما أجد شيئاً هو أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص.

فقال ابن عبّاس : وأيم الله لو قدّمتم من قدّم الله و أخرتم من أخّر الله ما عالت الفريضة (٢).

و أخرج الطحاوي ، عن طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : حدثت أنّ عليّ بن أبي طالب كان يُنزل بني الأخوة مع الجدّ منزلة آبائهم ، و لم يكن أحد من الصحابة يفعله غيره (٣).

و عن ابن عبّاس : إنّ عليّاً كتب إليه أن اجعله كأحدهم وامح كتابي (٤).

فالنهج الحاكم ( الخلفاء ) لم يقض بما قضى به علي ؛ لقول الراوي للباقر ـ وفي آخر للصادق ـ إنّ مَنْ عندنا لا يقضون بهذا القضاء ، و لا يجعلون لابن الأخ مع الجدّ شيئاً ، فقال أبو جعفر : أما إنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ

_______________________________

(١) تهذيب الأحكام ٥ : ٣٨٣ كتاب الحج.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي ٦ : ٢٥٣.

(٣) فتح الباري ١٢ : ١٧ ، مصنف عبدالرزاق ١٠ : ٢٦٩ / ح ١٩٠٦٦.

(٤) المصدر السابق.

٨٣

علي مِنْ فِيهِ ليده (١).

وكأنّ عليّاً كان قد أمر ابن عبّاس أن يتّقي من شيوع حكمه في الجدّ فلذلك قال له « وامحُ كتابي ولا تخلّده » !!

٨ ـ الحمل لستة اشهر

روى الأثرم باسناده عن أبي الاسود : أنه رفع إلى عمر أنّ امرأة ولدت لستة أشهر ، فهمَّ عمر برجمها ، فقال له علي : ليس لك ذلك ، قال الله تعالى ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) و قال تعالى ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) فحولان وستة أشهر ثلاثون شهراً ، لا رجم عليها ، فخلى عمر سبيلها (٢).

و عن نافع بن جبير : أنّ ابن عباس أخبره ، قال : إنّي لصاحب المرأة التي أُتي بها عمر وضعت لستة أشهر ، فأنكر الناس ذلك ، فقلت لعمر : لاتظلم ، قال : كيف ؟

قلت : اقرأ ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) ، ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) كم الحول ؟

قال : سنة.

قلت : كم السنة ؟

قال : اثنا عشر شهراً.

_______________________________

(١) الكافي ٧ : ١١٢ / ح ٥ ، التهذيب : ٣٠٨ / ح ١١٠٤ / ٢٥.

(٢) المغني والشرح الكبير ٩ : ١١٦ مسأله ٦٣٣٦.

٨٤

قلت : فأربعة و عشرون حولان كاملان ، و يؤخر الله من الحمل ما شاء و يقدم ، قال : فاستراح عمر إلى قولي (١).

فها هو ابن عباس يوافق عليّاً عليه‌السلام في النهج و الاستدلال و يحذو حذوه ، و يقف بوجه من لم يستطع استنباط هذا الحكم الواضح من كتاب الله عزوجل.

كانت هذه مفردات عابرة عن فقه علي و ابن عبّاس نقلناها كشاهد على وحدة الفقه عند الطالبيين ، و لو شئنا لأفردنا مجلداً في ذلك.

مخالفة النهج الحاكم مع علي و ابن عبّاس

نقلنا سابقاً موقف ابن عبّاس من الخلافة و مخالفته مع بعض رموزها ، و هذا هو الذي دعا الخلفاء لاحقاً لتشديدهم على الناس بمخالفة فقه ابن عبّاس و علي بن أبي طالب ، لأنّ المعروف عند المحققين أنّ النزاع بين بني هاشم و بني أميّة لم يكن وليد يومه ، إذ كان قبل الإسلام ، ثمّ انتقل بعد الإسلام ، و أن معاوية و أضرابه لم يُسْلِموا إلاّ تحت صليل السيوف و قرع الرماح ، و أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا فتح مكة أطلق سراحهم و عفا عنهم بقوله : اذهبوا فأنتم الطلقاء.

و أنّ الله و رسوله كانا قد خصّا بني هاشم بخصائص ، و ذلك لصمودهم و دفاعهم عن الدعوة الإسلامية إبّان ظهورها ، فجاء في صحيح البخاري : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع سهم ذي القربى في بني هاشم

_______________________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٤٠.

٨٥

و عبدالمطلب ـ أيام غزوة خيبر ـ فاعترض عثمان وجبير بن مطعم على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لهما صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّا بنو هاشم و بنو عبدالمطلب شيء واحد (١).

و في رواية النسائي : إنّهم لم يفارقوني في جاهليّة و لا إسلام ، و إنّما نحن و هم شيء واحد ، و شبّك بين أصابعه (٢).

فالأمويون لم يذعنوا لِقرار الله و رسوله في ذي القربى ، و اعترضوا على هذا الحكم الإلهي ، و هم يضمرون العداء لبني هاشم و خصوصاً لعلي ؛ لأنّه الرجل الأوّل المنصوب للخلافة ، و هو الذي قتل صناديد قريش !

و هذا النمط منهم هو الذي رفض خلافة علي بن أبي طالب بعد عثمان ، ثمّ حاربه بدعوى المطالبة بدم عثمان ، و لمّا استقرّ الأمر لمعاوية سَنّ لَعْنَ عليّ على المنابر و دُبُرَ كل صلاة (٣) ، حتى قيل بأنّ مجالس الوعّاظ بالشام كانت تختم بشتم علي (٤) ، و أن معاوية كان قد أمر أعوانه بمحو أسماء شيعة علي من الديوان (٥) ، و أصدر مراسيم حكومية بأن لا تقبل شهادة لأحد من شيعة علي و أهل بيته.

_______________________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٧٤. و هذا الخبر و ما يليه في كتاب الأموال لأبي عبيد : ٣٤١ كذلك.

(٢) سنن النسائي ( المجتبى ) ٧ : ١٣١ ، سنن أبي داود ٣ : ١٤٦ / ٢٩٨٠.

(٣) النصائح الكافية : ٨٦ ـ ٨٨.

(٤) النصائح الكافية : ٨٧ و ابن عساكر في تاريخه.

(٥) النصائح الكافية : ٨٨.

٨٦

و كان ابن عبّاس غير مستثنى من هذه القاعدة ، حيث أسقط معاويةُ عطاءَه عند تسلّطه على المسلمين ، و كان يلعنه في القنوت بعد علي بن أبي طالب بعد حادثة الحكمين.

و قد بسطنا القول عن اتجاهي الرأي و التعبد على عهد رسول الله في بحوث متعدّدة لنا ، و قلنا أنّ عامّة القرشيين كانوا من أهل الرأي ، و أنّ ابن عبّاس و عليّاً و من تابعهما كانوا من أهل التعبد.

فجاء عن ابن عبّاس قوله : ليس أحدٌ إلاّ يؤخذُ من قوله و يدع غيرَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وقوله : ألم يقل الله عزّوجلّ ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) ؟ قلت : بلى ، قال : ألم يقل الله ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) ؟ قلت : بلى. قال : أشهد أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن النقير و المزفّت و الدباء و الحنتم (٢).

و قوله في آخر : ألا تنتهوا عما نهاكم عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ (٣)

و قد ثبت عنه رحمه الله أنّه كان يصحح المفاهيم الخاطئة التي وقع فيها الناس ، فعن أبي الطفيل قال : قلت لابن عبّاس : يزعم قومك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رَمَل بالبيت ، و أنّ ذلك سنة ؟

_______________________________

(١) رواه الطبراني في المعجم الكبير ١١ : ٣٣٩ (١١٩٤١). و قال الهيثمي ١ : ١٧٩ « رجاله موثقون ». انظر جامع المسانيد و السنن ٣٢ : ٢٦.

(٢) رواه النسائي في الأشربة ( باب ذكر الدلالة على النهي للموصوف من الأوعية ).

(٣) اخرجه الإمام أحمد في مسنده ١ : ٣٠٤. و اسناده صحيح كما في هامش جامع المسانيد ٣٠ : ٢٢٣.

٨٧

فقال : صدقوا و كذبوا !

قلت : و ما صدقوا وكذبوا ؟!

قال : صدقوا ، رَمَل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبيت ، و كذبوا ليس بسنّة ، إنّ قريشاً قالت زمن الحديبية ، دعوا محمداً و أصحابه حتّى يموتوا موتَ النغف (١) ، فلما صالحوه على أن يقدموا من العام المقبل و يقيموا بمكة ثلاثة أيام ، فقدم رسول الله ، و المشركون من قبل قعيقعان ، فقال رسول الله لأصحابه : ارملوا بالبيت ثلاثاً ، وليس بسنّة.

قلت : و يزعم قومك أنّه طاف بين الصفا و المروة على بعير ، و أنّ ذلك سنة ؟

فقال : صدقوا و كذبوا !

فقلت : و ما صدقوا و كذبوا ؟!

فقال : صدقوا ، قد طاف بين الصفا و المروة على بعير ، و كذبوا ليست بسنّة ، كان الناس لا يُدْفَعون عن رسول الله ولا يُصْدَفُون عنه فطاف على بعير ، ليسمعوا كلامه و لا تناله أيديهم ... (٢)

و جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال : إنّ مولاك إذا سجد وضع جبهته و ذراعيه و صدره بالأرض ، فقال له ابن عبّاس : ما حملك على ما تصنع ؟

قال : التواضع.

_______________________________

(١) النَّغَفُ : دود يسقط من أُنوف الدوابٌ ، و العرب تقول لكلّ ذليل حقير : ما هو إلاّ نَغَفَة ؛ تُشبِّه بهذه الدودة. انظر عون المعبود ٥ : ٢٣٧ ، و لسان العرب ٩ : ٣٣٨.

(٢) مسند أحمد ( ٢٧٠٧ ، ٢٧٠٨ ، ٣٥٣٤ ، ٢٠٢٩ ، ٢٨٤٣ ، ٢٢٢٠ ، ٢٠٧٧ ، ٣٤٩٢ ) كما في جامع المسانيد و السنن ٣١ : ٢٨.

٨٨

قال : هكذا ربضة الكلب ، رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سجد رُؤي بياض إبطيه (١).

فنهج الخلفاء كان يخالف ابن عبّاس ، لتعبده و لمواقفه السياسية المؤيدة للإمام علي.

نعم ، إنّ مدرسة الخلافة ـ و خصوصاً الأمويين ـ أرادوا إبعاد الإمام علي عن الخلافة و الفقه ، ثمّ تحكيم خلافتهم و إعطاءها الشرعية ، و بما أنّ نهج عليّ و تلاميذه ـ و منهم ابن عباس ـ كان لا يروقهم ، لذلك نراهم راحوا يلقون عليه ظلالاً دكناء.

و كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخبر علياً بما تصنع الأمّة به و بالأحكام الشرعية من بعده (٢).

فعن أبي عثمان النهدي قوله : أخذ عليّ يحدّثنا ، إلى أن قال : جذبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله و بكى فقلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدور قوم لن يبدوها لك إلاّ بعدي ، فقلت : بسلامة من ديني ؟ قال : نعم بسلامة من دينك (٣).

و من هذا المنطلق أخذ أجلّة الصحابة يعترضون على معاوية و الخلفاء من بعده لتلاعبهم بالدين و اتّخاذهم الشريعة سلّماً لأهدافهم ، باكين على الإسلام و أمور المسلمين.

_______________________________

(١) مسند الإمام أحمد (٢٩٣٥) كما في جامع المسانيد والسنن ٣٠ : ٤٧٤.

(٢) انظر شرح البلاغة ، للتستري ٤ : ٥١٩.

(٣) تاريخ بغداد للخطيب ١٣ : ٣٩٨.

٨٩

فقد صح عن أبي سعيد الخدري قوله : خرجت مع مروان و هو أمير المدينة في أضحى أو فطر ، فلما أتينا المصلّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ؛ فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلّي ، فجذبت بثوبه فجذبني فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيّرتم و الله. فقال : أبا سعيد قد ذهب ما تعلم ، فقلت : ما أعلم و الله‏ خير مما لا أعلم. فقال مروان : إنّ النّاس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصّلاة فجعلتها قبل الصّلاة (١).

و روى الزهري أنّه قال : دخلت على أنس بن مالك بدمشق و هو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ قال : لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلاّ هذه الصلاة ، و هذه الصلاة قد ضُيّعت (٢).

و أخرج البخاري عن غيلان أنّه قال : قال أنس : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. قيل : الصلاة !

قال : أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها ؟! (٣)

و أخرج البخاري ، عن الأعمش ، قال : سمعت سالماً ، قال : سمعت أُمّ الدرداء تقول : دخل عليّ أبو الدرداء و هو مغضب ، قلت : ما أغضبك ؟ فقال : و الله‏ ما أعرف من أمّة محمّد إلاّ أنّهم يصلّون جميعاً (٤).

_______________________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ٢٢ باب الخروج إلى المصلى بغير منبر من كتاب العيدين.

(٢) البداية والنهاية ٩ : ٩٤.

(٣) صحيح البخاري ١ : ١٤٠.

(٤) صحيح البخاري ١ : ١٦٦ باب فضل صلاة الفجر في جماعة ، فتح الباري ٢ : ١٠٩.

٩٠

و عن ابن مسعود قوله : صلِّ مع القوم و اجعلها سبحة (١) ، إلى غير ذلك من أقوال الصحابة.

و مع كلّ هذه الاعتراضات الداعية إلى إحياء كتاب الله و سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نرى أنّ البعض من الصحابة قد أيّد موقف الأمويين تصريحاً أو تلويحاً و أكّد على لزوم متابعة أمرائهم قولاً و فعلاً حتّى لو خالف القرآن و السّنّة ؛ لأنّ ذلك بزعمهم هو الدين.

ففي طبقات الفقهاء : عن سعيد بن جبير ، قال : سألت عبدالله بن عمر عن الإيلاء ؟ قال : أتريد أن تقول : قال ابن عمر ، قال ابن عمر ؟ قال : نعم ، و نرضى بقولك. فقال ابن عمر : يقول في ذلك أُولو الأمر ، بل يقول في ذلك الله و رسوله (٢).

و عن ابن المسيب ، قال : كان إذا جاء الشيء في القضاء و ليس في الكتاب و لا في السّنّة فيدفع إلى الأمراء فيجمع أهل العلم ، فإذا اجتمع عليه رأيهم فهو الحق (٣).

و عن ابن عمر قوله لما سئل : من نسأل بعدكم ؟ قال : إنّ لمروان ابناً فقيهاً فسلوه (٤).

و عن جرير بن حازم قال : سمعت نافعاً يقول : لقد رأيت المدينة و ما

_______________________________

(١) مسند أحمد.

(٢) طبقات الفقهاء.

(٣) اعلام الموقعين ١ : ٨٤.

(٤) تهذيب التهذيب ٦ : ٤٢٢ ، تهذيب الكمال ١٨ : ٤١٠ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٣٨٩ ، المنتظم ٦ : ٣٩.

٩١

بها أشد تشميراً ولا أفقه و لا أقرا لكتاب الله من عبدالملك (١).

فترى ابن عمر يرشد النّاس إلى الأخذ بقول عبدالملك بن مروان ، الذي بني القبّة فوق الصخرة و الجامع الأقصى و جعلها بمثابة الكعبة يطوفون حولها و ينحرون يوم العيد و يحلّقون رؤوسهم ـ و ذلك بعد أن صاح الناس به ، حينما منع من حجّ بيت الله الحرام ، لأنّ ابن الزبير كان يأخذ البيعة لنفسه منهم ـ (٢).

و هو القائل : من قال برأسه هكذا ، قلنا بسيفنا هكذا (٣).

و الداعي إلى الأخذ بفقه عثمان بن عفّان بقوله : « ... فالزموا ما في مصحفكم الذي حملكم عليه الإمام المظلوم ، و عليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم رحمه الله ؛ فإنّه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت ، ونِعْمَ المشيرُ كان للإسلام رحمه الله ، فأحكِما ما أحكما واستقصيا ما شذّ عنهما » (٤).

و من هذا المنطلق كان عمر بن عبدالعزيز يركّز على الأخذ بأقوال الشيخين و ترك أقوال علي و ابن عبّاس و غيرهما ممن ينتهج نهج التّعبد ، حيث خطب فقال : « ألا و أن ما سنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله و صاحباه فهو دين نأخذ به و ننتهي إليه ، و ما سنّ سواهما فإنّا نرجئه » (٥).

_______________________________

(١) المصدر السابق.

(٢) البداية والنهاية ٨ : ٢٨٣.

(٣) البداية والنهاية ٩ : ٦٨.

(٤) المصدر السابق.

(٥) تاريخ الخلفاء : ٢٤١ ، كنز العمال ١ : ٣٣٢.

٩٢

هذا ، ولم يكن العباسيون أقلّ وطأة على فقه علي و ابن عبّاس من الأمويين ، فعن المنصور العباسي أنّه طلب من الإمام مالك أن يكتب له الموطأ بقوله : يا أبا عبدالله ضع هذا العلم و دوّنه و تجنّب فيه شواذّ عبدالله بن مسعود ، ورُخَص ابن عبّاس ، وشدائد ابن عمر ، واقصد إلى أوسط الأمور ، و ما اجتمع عليه الأئمّة و الأصحاب ، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك و كتبك و نبثّها في الأمصار ، و نعهد إليهم ألاّ يخالفوها ولا يقضوا بسواها (١).

و في آخر قول مالك للمنصور : إنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تفرّقوا في البلاد ، فأفتى كلٌّ في مصره بما رأى ، و أن لأهل البلد ـ يعني مكة ـ قولاً ، و لأهل المدينة قولاً ، و لأهل العراق قولاً تعدّوا فيه طورهم.

فقال المنصور : أمّا أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ، و أمّا العلم عند أهل المدينة ، فضع للناس العلم (٢).

و في نص آخر قال المنصور لمالك : يا مالك ، أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال : يا أميرالمؤمنين إنّه آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاحتاج الناس إليه ، فسألوه و تمسّكوا بقوله.

فقال : يا مالك ، عليك بما تعرف إنّه الحق عندك ، ولا تقلّدنَّ عليّاً

_______________________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٥٠.

(٢) انظر الإمام مالك للدكتور مصطفى الشكعة : ١٣٣ عن ترتيب المدارك : ٣٠ ـ ٣٣.

٩٣

وابن عبّاس (١).

وفي آخر قال له المنصور : هل أخذت بأحاديث ابن عمر ؟ قال : نعم. قال المنصور : خذ بقوله و أن خالف علياً و ابن عبّاس (٢).

فترجيح رأي ابن عمر مع وجود كثير من الصحابة كان من سياسة الدولة العبّاسية ، ومثله الحال بالنسبة إلى الأخذ بموطّأ مالك.

إنّ السياسة هي الّتي سمحت للنّاس بالاعتراض على ابن عبّاس وعدم الأخذ بقوله ، فجاء في جامع المسانيد و السنن : إنّ أهل المدينة سألوا ابن عبّاس عن امرأة طافت ثمّ حاضت ؟ فقال لهم : تنفر ، قالوا : لا نأخذ بقولك و ندع قول زيد ، قال : إذا قدمتم المدينة فاسألوا ، فقدموا المدينة فسألوا ، فكان فيمن سألوا أمَّ سليم ، فذكرت حديث صفية (٣).

و كان زيد قد سال ابن عبّاس عن ذلك ، إذ أخرج أحمد في مسنده عن طاووس قوله : كنت مع ابن عبّاس إذ قال له زيد بن ثابت : أنت تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها البيت ؟ قال : نعم. قال : فلا تُفْتِ بذلك ! فقال له ابن عبّاس : إما لا فسل فلانة الأنصارية : هل أمرها بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع إليه زيد بن ثابت يضحك و يقول : ما أراك إلاّ قد صدقت (٤).

_______________________________

(١) راجع الإمام الصادق عليه‌السلام والمذاهب الأربعة ١ : ٥٠٤.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ٤ : ١٤٧.

(٣) رواه البخاري في الحج ٢ : ٢٢٠ باب ( اذا حاضت المرأة بعد ما افاضت ) والطبراني (١١٨٦٧) ، انظر جامع المسانيد ٣١ : ٣٢١.

(٤) مسند الإمام أحمد ١ : ٣٤٨ / ٣٢٥٦ ، (١٩٩٠) جامع المسانيد والسنن ٣٠ : ٥٢١.

٩٤

وقد كتب زيد إلى ابن عباس في ذلك ، و فيه قوله : إنّي وجدتُ الذي قُلتَ كما قُلتَ. فقال ابن عباس : إنّي لأَعلمُ قولَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للنساء ، ولكنّي أحببت أن أقول بما في كتاب الله ، ثمّ تلا هذه الآية ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (١) ، فقد قضت الثَّفَث ، ووفَّت النَّذر ، وطافت بالبيتِ ، فما بَقِيَ ؟! (٢)

فابن عباس استدل لهم بالقرآن المجيد ، مع أنّه كان يعلم هذا الحكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و مع ذلك ظلّوا يماطلون في الأخذ عنه ، ولم ينصاعوا له إلاّ بعد اللُّتَيّا و الّتي.

و ليت من خالف ابن عبّاس من الصّحابة لا يدّعي أنّ ما عنده من قول أو فعل هو الصواب ، مشعراً بأنّ ذلك عن الله و رسوله ، و ملّوحاً إلى أنّ ما عند ابن عبّاس و أمثاله ـ ممن لا يحكي إلاّ عن الله و الرّسول و القرآن ـ خطأ ، فإنّهم لو لم يفعلوا ذلك لَمَا ضاع ما ضاع من السّنّة.

فقد صح عن طاووس ـ تلميذ ابن عبّاس ـ عن ابن عبّاس ، قال : رُخِّص للحائض أن تنفر إذا أفاضت ، قال : و سمعت ابن عمر يقول أنّها لا تنفر. ثمّ سمعتهُ يقول بَعْدُ : إنّ رخَّص لهنّ (٣).

فلماذا وصل الأمر بالناس إلى هذا ؛ و إنّي أترك القارئ ليحكم فيما ادعيناه !!

_______________________________

(١) الحج : ٢٩.

(٢) سنن البيهقي ٥ : ١٦٣ / ح ٩٥٤٣.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ٢٢٠ باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت.

٩٥

و عن ابن عبّاس ، قال : جاء رجل من الأسبذيين من أهل البحرين ـ و هم مجوس أهل هجر ـ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمكث عنده ثمّ خرج ، فسألته : ما قضى الله و رسوله فيكم ؟ قال : شر ، قلت : مه ؟ قال : الإسلام أو القتل ، قال : و قال عبدالرحمن : قبل منهم الجزية.

قال ابن عبّاس : فأخذ النّاس بقول عبدالرحمن بن عوف و تركوا ما سمعتُ أنا من الأسبذي (١).

هذا و قد يمكننا عزو سبب إرجاع العباسيين النّاس إلى الأخذ بقول مالك ، هو اعتقاد مالك بكون الشيخين ـ و من بعدهما عثمان ـ أفضل الخلفاء الرّاشدين ، و أن عليّاً ليس رابعاً لهم ، إذ جاء في البداية و النهاية لابن كثير أنّ مالك بن أنس دخل على المنصور العبّاسي ، فسأله المنصور : من أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال مالك : أبو بكر.

قال : ثمّ من ؟

قال : عمر.

قال : ثمّ من ؟

قال : عثمان.

و قال صاحب كتاب ( موقف الخلفاء العباسيين من أئمّة المذاهب الأربعة ) : « ... فإذا تأمّلنا آراء مالك فيما يتعلّق بقضية التفضيل بين الخلفاء الرّاشدين ، نجد الإمام ينفرد عن غيره ، فهو يرى أنّهم ثلاثة لا أربعة ، وهو

_______________________________

(١) رواه ابو داود في الخراج في باب ( اخذ الجزية من المجوس ) / ح (٣٠٤٤).

٩٦

يجعل خلافة الراشدين في أبي بكر و عمر و عثمان ، و يجعلهم في مرتبة دونها سائر الناس ، و أمّا عليٌّ فإنه في نظره واحد من جملة الصحابة ، لا يزيد عنهم بشيء » (١).

و هذا يعرفنا أنّ الخلفاء ـ أمويّين كانوا أم عباسيين ـ يشتركون في نقطة واحدة و هي حمايتهم لفقه الشيخين ، و ترك فقه عليّ بن أبي طالب و ابن عبّاس ، أي أخذهم بسيرة الشيخين و أن خالفت السنة النبوية ، و بمعنى آخر أخذهم باجتهاداتهم المقابلة للنص بجنب مرويّاتهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

و إذا اتضحت لك آفاق السياسة الحاكمة في لزوم الأخذ بفقه ابن عمر و أن خالف علياً و ابن عبّاس نقول :

إنّ ابن عمر و أن خالف أباه في مفردات فقهية كثيرة ، و دعا إلى سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله و ترك كلام أبيه المخالف لسنة رسول الله ، لكنّه في الوقت نفسه كان قد دافع عن خلافة معاوية و يزيد و بقية الخلفاء الأمويّين ، و سَنَّ أصولاً كان لهم الاستفادة منها كقاعدة « من غلب » و لزوم اتّباع الحاكم و أن ضرب ظهرك و أَخَذَ مَالَكَ و ...

فالنهج الحاكم كما كان يريد تشريع ما سنّه الشيخان و إبعاد من عارضهم في اجتهاداتهم ، كان يتخوّف ممن لا يتّفق معهم في أصول الخلافة و الإمامة أيضاً ، و أمّا الذين يذهبون إلى ما يذهب إليه الخلفاء فلا مانع من نقل كلامه ـ الذي يخدمهم في الغالب ـ و خصوصاً لما رأوا في ابن عمر

_______________________________

(١) موقف الخلفاء العباسيين : ١٧٠.

٩٧

من مؤهلات يمكن الاستفادة منها.

و هكذا الحال بالنسبة إلى خصوص الخلافة العباسية ، فقد دعت إلى الأخذ بفقه ابن عمر مع أنّه كان مدافعاً عن الأمويّين في السابق ، و ذلك لوحدة النهج و الفكر بينهم ، و أن كان إثبات هذا المدعى يحتاج إلى مزيد بيان ليس هنا محل بحثه.

كانت هذه مؤشرات صريحة وضّحت لنا بأنّ التشريع قد امتزج بالسياسة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و أخذ طابعاً خاصّاً ، و أن الملك و السلطان كان له أعظم التأثير في ترسيخ بعض المفاهيم و الأفكار الشائعة اليوم ، ثمّ اشتداد هذا الأمر في العصور اللاحقة.

و لو طالع الباحث في سيرة الحجّاج بن يوسف الثقفي مثلاً لعرف اتجاه الحجّاج في ترسيخ فقه الأمويين و مذهب الخليفة ، و هو يؤكّد دور السياسة في الفقه ، إذ جاء عنه أنّه أرسل إلى الشعبي ليسأله عن الفريضة في الأخت و أمّ الجد ؟

فأجابه الشعبي باختلاف خمسة من أصحاب الرسول فيها : عثمان ، زيد ، ابن مسعود ، علي ، ابن عبّاس ، ثمّ بدأ يشرح كلام ابن عبّاس ، فقال له الحجّاج : فما قال فيها أمير المؤمنين ـ يعني عثمان ـ ؟ فذكر له رأي عثمان.

فقال الحجّاج : مُرِ القاضي فليمضها على ما أمضاها عليه أميرالمؤمنين عثمان (١).

و مثل هذا الموقف جاء عن الحجّاج في الوضوء ، فقد خطب في

_______________________________

(١) حلية الأولياء ٤ : ٣٢٥.

٩٨

الأهواز و أمر الناس بغسل الرجلين (١) ، و لمّا سمع بذلك أنس بن مالك اعترض عليه قائلاً : صدق الله و كذب الحجّاج قال الله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (٢).

و بعد هذا يحق لنا أن نقول : إنّ بكاء أنس بن مالك جاء لتلاعب أمثال الحجّاج بالصلاة و الوضوء و ...

هذا ، و يمكننا الإشارة إلى حقيقة أخرى قد تكون خافية على البعض ، و هي : إنّ نهج الخلفاء ـ و كما عرفت ـ كان لا يرتضي الأخذ بفقه علي و ابن عبّاس ، فنتساءل : لو صح هذا و كان فقه علي بن أبي طالب و ابن عبّاس منهيّاً عنه ، فكيف نقل عنهما مالك في موطَّئه ؟

إنّ اللّب السليم يحكم بأنّ ما نقله مالك صِيغَ ليكونَ موافقاً لفقه الخلفاء ؛ إذ لم ينقل مالك الوجه الحقيقي لما يلتزمه علي و ابن عبّاس من الشرع ، و ذلك يعني أنّ غالب ما نهت عنه الحكومة هو الفقه المستقل ، ( أعني فقه التعبد المحض ) ، لا ما أريد له أن يكون موافقاً للفقه الاجتهادي السلطوي الحاكم !! ، وإلاّ فإنّ مالكاً لم يكن ليجسر على تخطّي أمرَ المنصور بعدم الأخذ عن علي و ابن عبّاس.

و هكذا الحال بالنسبة إلى أمّهات المسانيد و الصحاح الّتي أريد لها أن تكون كما هي عليه اليوم.

إذ لِمَ يُهتَمُّ ويُعتنىٰ بما يُروى عن ابن عبّاس و أمثاله ممّا يؤيّد مدرسة

_______________________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٩٢.

(٢) المصدر السابق.

٩٩

الاجتهاد و الرأي ، و لا يلتفت و يتأمّل في المنقول الثابت عن علي و ابن عبّاس في هذه الأمّهات من المسانيد و الصحاح.

و لماذا لا يذكر مالك القولَ الآخر عن علي و ابن عبّاس و الموافق لمدرسة أهل البيت ؟!

ألا يعني هذا أنّ الخلافة تريد نقل الفقه المنسوب إلى علي و ابن عبّاس الموافق لفقه الشيخين و ما يؤيّد مذهبَ الخلفاء ، و ترك الفقه الصحيح الثابت عنهما المخالف لنهج الخلافة ؟

و كيف يمكنك ترجيح إحدى النسبتين إلى علي و ابن عبّاس ، مع كلّ هذه الملابسات !

و هل حقاً أنّهما نهيا عن المتعة أم سمحا بها ؟

و ما الّذي يصحّ عنهما في المسح على الخفين ؟ هل أنّهما قالا : للمقيم يوم و للمسافر ثلاث ، أم أنّهما نَخَيا عن المسح على الخفين عموماً ؟

و ما هو المحفوظ عن علي و ابن عبّاس في كتب الصحاح و السنن و الفقه و التفسير ؟ ـ هل هو المسح في الوضوء أم الغسل ؟! و هل كان الحجّاج ـ سفّاك الدماء ـ حريصاً لهذا الحدّ على بيان الوضوء للناس ؟! و لماذا يدعو الناس للوضوء العثماني الغسلي بالذات ؟!

بل بم يمكننا ترجيح إحدى النسبتين إلى أمثال هؤلاء الصحابة ـ على فرض التكافؤ الإسنادي ـ بعد أن عرفنا ملابسات الأحكام ؟

و لماذا نرى وجود ما يوافق الخلفاء فقط في الموطّأ و غيره ، و عدم وجود النقل الآخر فيه ـ أو وجوده و طرحه بشتى التقوّلات ـ ؟ و ما يعني هذا ؟

١٠٠